أبو حيّان التّوحيدي | مسألة في حدّ الظلم

مختارات:
وسمعت فلانًا في وزارته يقول: أنا أتلذّذ بالظلم. فما هو هذا؟ ومن أين منشؤه؟ أعني الظلم. أهو من فعل الإنسان أم هو من آثار الطبيعة؟

أبو حيّان التّوحيدي || مسألة في حدّ الظلم

ما معنى قول الشاعر: والظلم في خلق النفوس فإن تجد - ذا عفه فلعلّة لا يظلم.
وما حدّ الظلم أولًا؟ فإن المتكلمين ينفكون في هذه المواضيع كثيرًا ولا ينصفون شيئًا. وكأنهم في الغضب والخصام.

وسمعت فلانًا في وزارته يقول: أنا أتلذّذ بالظلم. فما هو هذا؟ ومن أين منشؤه؟ أعني الظلم. أهو من فعل الإنسان أم هو من آثار الطبيعة؟

الجواب: قال أبو علي مسكويه، رحمه الله: الظلمُ انحرافُ العدل.
ولما احتيج في فهمه إلى فهم العدل أفردنا له كلامًا ستقف عليه ملخصًا مشروحًا.

وهو في معنى الجور، الذي هو مصدر جار يجور، إلا أن الجور يُستعمل في الطريق وغيره إذا عدل فيه عن السّمْت. والظلم أخصُّ بمقابلة العدل الذي يكون في المعاملات. فالعدل من الاعتدال وهو التقسيط بالسوية. وهذه السوية من المساواة بين الأشياء الكثيرة، والمساواة هي التي توجد الكثرة وتُعطيها الوجود وتحفظ عليها النظام. وبالعدل والمساواة تشيع المحبة بين الناس وتأتلف نيّاتهم، وتعمر مدنهم، وتتم معاملتهم وتقوم سننهم.

ولشرح هذا الكلام وتحقيق ماهية القول في العدل وذكر أقسامه وخصائصه - بسطٌ كثيرٌ، لم آمن طوله عليك وخروجي فيه عن الشريطة التي اشترطتها في أول الرسالة من الإيجاز. ولذلك أفردتُ فيه رسالة ستأتيك مقترنة بهذه المسألة على ما يشفيك بمعونة الله.

ولو أصبنا فيه كلامًا مستوفى لحكيم مشهور أو كتابًا مؤلفًا مشروحًا - لأرشدنا إليه على عادتنا واحلنا عليه كرسمنا ولكنا لم نعرف فيه إلا رسالة لجالينوس مستخرجة من كلام أفلاطون وليست كفاية في هذا المعنى وإنما هي حض على العدل وتبيين لفضله وأنه أمر مؤثر محبوب لنفسه.
وإذا عرفت العدل من تلك الرسالة عرفت منه ما عدل عنه ولم يقصد سمته.
وكما أن إصابة السهم من الغرض إنما هو نقطة منه، فأما الخطأ والعدول عنها فكثير بلا نهاية - فكذلك العدل لما كان كالنقطة بين الأمور تقسمها بالسوية كانت جهات العدول عنها كثيرة بلا نهاية. وعلى حسب القرب والبعد يكون ظهور القبح وشناعة الظلم.

فأما قول الشاعر: والظلم في خلق النفوس فمعنى شعري لا يحتمل من النقد إلا قدر ما يليق بصناعة الشعر. ولو حملنا معاني الشعر على تصحيح الفلسفة وتنقيح المنطق لقل سيمه وانتهك حريمه وكنا مع ذلك ظالمين له بأكثر مما ظلم الشاعر النفوس التي زعم أن الظلم في خلقها.

على أنا لو ذهبنا نحتج له ونخرج تأويله لوجدنا مذهبًا وأصبنا مسلكًا ولكن هذه الأجوبة مبينة على تحقيقات مغالطة الشعراء ومذاهبهم وعاداتهم في صناعتهم.

ثم أقول: إن الظلم الذي ذكرنا حقيقته يجري مجرى غيره من سائر الأفعال فإن صدر عن هيئة نفسانية من غير فكر ولا روية سمى خلقًا وكان صاحبه ظلومًا. وهذه سبيل غيره من الأفعال المنسوبة إلى الخلق لأنها صادرة عن هيئات وملكات من غير روية. فأما إذا ظهر الفعل بعد فكر وروية فليس عن خلق مذمومًا كان أو معلومًا وإذا لم يكن عن خلق فكيف يكون عن خلق. وإنما يستمر الفاعل على فعل ما بروية منه فتحدث من تلك الروية الدائمة هيئة تصدر عنها الأفعال من بعد بلا روية فتسمى تلك الهيئة خلقًا.
فأما الشيء الصادر عن هذه الهيئة فإنه إن كان عملًا باقي الهيئة والأثر سمى صناعة واشتق من ذلك العمل اسم يدل على الملكة التي صدر عنها كالنجار والحداد والصائغ والكاتب فإن هذه الأعمال إذا صدرت من أصحابها بلا روية سموا بهذه الأشياء ووصفوا بهذه الصفات.

فأما إن تكلف إنسان استعمال آلة النجارة والحدادة والكتابة والصياغة فأظهر فعلًا يسيرًا بروية وفكر فعلى سبيل حكاية وتكلف فإن أحدًا لا يسمى هذا نجارًا ولا كاتبًا ولذلك لم (س. ؟) والصناعة كلها تجري هذا المجرى فهذه الأعمال كما نراها والأفعال أيضًا التي لا تبقي آثارها - جارية هذا المجرى. وعلى هذه السبيل جرت أمور الأخلاق والأفعال الصادرة عنها لأن الأخلاق هيئات للنفوس تصدر عنها أفعالها بلا روية ولا فكر.

فأما الوزير الذي سمعته يقول: أنا أتلذذ بالظلم فإن الإختيارات المذمومة كلها إذا صار منها هيئات وملكات صارت شرورًا وسمي أصحابها: أشرارًا. وليس يختص الظلم في استحقاق اسم الشر وخروجه عن الوسائط التي هي فضائل النفس - بشيء دون أمثاله ونظائره. وفقد هذه الوسائط هو شرور ورذائل تلحق النفوس كالشره والبخل والجبن سوى أن الظلم اختص بالمعاملة وترك به طلب الاعتذار والمساواة.

وهذه النسبة العادلة والمساواة في المعاملة - قد بينها أرسططاليس في كتاب الأخلاق وأن المعاملة هي نسبة بين البائع والمشتري والمَبيع والمشترَى وأن نسبة الأول إلى الثاني كنسبة الثالث إلى الرابع على التكافؤ، وفي النسبة والتبديل فيها وعلى ما هو مشروح مبين في غيره من الكتب.

فأمّا قولهم: لا يزال الناسُ بخير ما تفاوَتوا، فإذا تَساوَوا هلكُوا. فإنّهم لم يذهبوا فيه إلى التفاوُت في العَدْل، الذي يساوي بينهم في التعايش. وإنما ذهبوا فيه إلى الأمور التي يتمّ بها التمدّن والاجتماع. والتفاوتُ بالآحاد، ههنا، هو النظام للكلّ. وقيل: إن الإنسان مدنيّ بالطّبع فإذا تَساوَى الناسُ في الاستغناء هلكت المدَنيّةُ وبطلَ الاجتماع.

وقد تبين أن اختلافَ الناس في الأعمال وانفرادَ كلّ واحد منهم بعمل هو الذي يُحدث نظامَ الكلّ، ويُتمّ المدنية. ومثالُ ذلك الكتابةُ التي كُلّيتها تتمّ باختلاف الحُروف في هيئاتها وأشكالها وأوضاع بعضها عند بعض. فإنّ هذا الاختلاف هو الذي يقوم ذاتَ الكتابة التي هي كُلية. ولو استوت الحروفُ لبَطلت الكتابة.
*
عن: أبو حيّان التوحيدي، كتاب الهوامل والشّوامل
***

عربان 48 (كاريكاتير بالكلام)

عربان 48
(كاريكاتير بالكلام)

بركة (رئيس الجبهة الديمقراطية) وزحالقة (رئيس التجمّع الوطني الديمقراطي) - ما شا اللّه، كلّهم ديمقراطيّون وكلّهم وطنيّون - ”يدعوان نتنياهو للتدخّل شخصيًّا في قضيّة العنف المتنامي في المجتمع العربي.“

ليس هذا فحسب، بل ويبرقان خدمة إعلامية لصحافتهما لإشعار القرّاء بأعمالهما الجليلة لصالح الجماهير العربيّة.



أخي أيّها العربيّ... الغبي

أرى الأمس موعدنا لا الغدا

مقالة نُشرت في صحيفة ”الحياة“، بتاريخ 28 يوليو 2002:

هل هنالك بشر في هذه الأصقاع الشاسعة من المحيط إلى الخليج يضعون حدا لكل هذه الكوارث النازلة على الناس "بفضل" الزعامات والحكومات المتوارثة؟...



سلمان مصالحة ||

أخي أيّها العربيّ... الغبي



هل هنالك بشر في هذه الأصقاع الشاسعة من المحيط إلى الخليج يضعون حدا لكل هذه الكوارث النازلة على الناس "بفضل" الزعامات والحكومات المتوارثة؟ هل هناك زعيم عربي يعيد يوما ما حسابات زعامته وبطانته في النجاح والفشل في كل ما صنعته هذه الزعامة والبطانة لبني البشر؟ هل هناك زعيم أو مسؤول عربي يملك ذرة من شجاعة أخلاقية – ولا نقول شجاعات أخرى، لأن هذه هي شأن البلاغة العربية التليدة والبليدة- فيقف أمام الناس ويقول لهم على الملأ وبصراحة: لا أستطيع الاستمرار في هذا المنصب فانتخبوا شخصا آخر مكاني.

وهل هناك لحظة أسعد وأبرد من لحظة كهذه على النفس العربية المنهكة؟ فقط عندما نصل إلى لحظة كهذه نستطيع القول إننا ركبنا طريقا جديدة وسرنا إلى ما هو خير للعباد كل العباد. فقط في لحظة كهذه يستطيع الفرد العربي أن يشعر في قرارة ذاته باقتراب ساعة الفرج.

لكن يبدو أن لحظة كهذه لا تندرج في حسابات الزمن العربي، وأغلب الظن أنها لن تأتي في القريب العاجل. إذاً، لم يتبق للفرد العربي سوى اليأس من كل ما يجري ومن كل ما يشاهد من حوله. يجب أن لا يستهجن أحد من نتائج تقرير التنمية البشرية المنشور أخيرا، حين يقرأ أن نصف الشباب العرب يحلمون بترك الأوطان والهجرة إلى الدول الغربية، أو إلى أي مكان آخر بشرط أن يكون خارج العالم العربي.

ماذا أبقت إذا هذه الأنظمة الأبوية، من دون استثناء، للإنسان العربي؟ لا شيء. فلا يوجد تنقل حر بين البلاد العربية، ولا أدب حر، ولا كتب حرة، ولا علم حر، ولاسينما حرة ولا إذاعة حرة، ولا انتخابات حرة.لا شيء. فقط لا شيء. وما دامت الحال على هذا المنوال، وهي كذلك بلا أدنى شك، فإن الأنظمة العربية بأسرها أنظمة غريبة، وهي أنظمة أجنبية على رغم كونها من ذوي القربى، وما من سبيل وما من وسيلة متاحة أمام الفرد لاستبدالها بأخرى. وإذا كانت هذه عي الحقيقة، وهي كذلك، فإنّ البحث عن العيش في كنف نظام أجنبي، على رغم كونه من ذوي البعدى، يصبح وجيهًا جدًّا وله ما يبرّره. إذا كانت الأنظمة غريبة، فما على المرء إلا أن يختار بين نظام غريب يعيش فيه بحرية، وبين نظام غريب قريب لا يترك له فسحة من حرية باي شكل.

لو كانت هناك ذرة من أخلاق لدى الزعامات العربية، لما بقيت يوما واحدًا في مناصبها. غير أن الحديث عن الأخلاق لم يكن يوما موضوعا مدرجا على أجندة الحكومات العربية، ولا على طاولات النخب العربية المتعاونة مع زمر هذا الاستبداد الذي لا نهاية له. على العكس من ذلك، دأبت هذه النخب دوما على تمجيد الزعيم الذي يمنّ عليها بدوره بفتات مقتطع من أموال الشعب المنهوبة. هذه هي خيانة المثقفين الكبرى لشعوبهم.

في إحدى لحظات اليأس سأل نزار قباني مرة: متى يعلنون وفاة العرب؟ والجواب هو: في كل يوم يعلنون هذه الوفاة، في الصحف والفضائيات والإذاعات. لكن يبدو أن ما من أحد يرغب في أن يشترك في جنازاتهم. وهكذا بوسعنا أن ننشد الآن، ولكن مع بعض التعديل، البيت الذي شاع على لسان عبد الوهاب:

أخي أيها العربي الغبي - أرى الأمس موعدنا لا الغدا.
*

نشرت المقالة بتاريخ 28 يوليو 2002، في ملحق ”تيارات“، صحيفة ”الحياة“ الصادرة في لندن
***

أخي أيّها العربيّ الغبيّ



أليس في هذه الحقائق ما يشهد على هذه الذهنيّة العفنة؟

سلمان مصالحة
| أخي أيّها العربيّ الغبيّ

لا يوجد ما هو أكثر
إثارة للضحك من هذا المنتدى المسمّى ”جامعة الدول العربية“. فلو أنّنا فقط أمعنّا النّظر في هذا الاسم الثلاثي الذي اصطُلح على المنتدى لكان الأمر كافيًا للقهقهة والانفجار ضحكًا حتّى الاستلقاء على أقفيتنا. فالثّلث الأوّل من الاسم، ومع أنّه منحوت من الأصل الثلاثي ”جمع“ إلاّ أنّ استخدامه بصيغة اسم الفاعل الذي يستعمل أيضًا دالاًّ على المؤسّسات الأكاديمية فيه شيء من سخرية الأقدار، إذ أنّ هذا المنتدى العربي هو أبعد ما يكون عن العلم والمعرفة. ولقد كنت تطرّقت في الماضي إلى مهازل هذه المؤسسة وبيّنت جهل القائمين عليها وعلى موقعها السخيف.

أمّا الثّلث الثّاني من الاسم
وأعني به ”الدول“، فهو أيضًا أبعد ما يكون عن مدلوله المعاصر. ربّما كان الأصل العربي الذي اشتقّ منه هذا المصطلح هو الأقرب في حقيقته لجوهر هذه الكيانات التي التأمت في المنتدى. فالـ“دولة“ في العربيّة لها خلفيّة قبليّة، إذ أنّها تعني انقلاب السّلطان وتحوّله من قبيلة إلى أخرى. وأصله من دَوْلة الحرب عندما تنقلب فيها الغلبة من فريق إلى آخر. والـ“دولة“ بضم الدّال هو الفيء (أي ما يُنتهب في الحرب) يتداولونه فيما بينهم. من هنا، وعلى ما يبدو فإنّ هذا الأصل العربيّ التّليد هو الأقرب إلى جوهر هذه الكيانات التي ينتهب فيها السلاطين على شتّى تقليعاتهم مقدّرات البشر في هذه الأصقاع من الأرض.

أمّا الثّلث الأخير من الاسم
فيجب أن نعيده هو الآخر إلى أصله الصحراوي. ولهذا فيمكننا القول إنّ ”الأعراب“ أو ”العُربان“ هو ما يليق بهذه المؤسسة التي لا تأتلف بقدر ما تختلف على صنوف الفيء والمنهوبات التي يتلقّفها ذوو الوجاهة من أصحاب الجلالة والفخامة والسموّ ومن يدور في أفلاكهم من شراذم بطون وأفخاذ العربان.

ولمّا كانت هذه هي الحال،
وهي كذلك بلا أدنى شكّ، إذ يعرف هذه الحقيقة كلّ من لا يزال يمتلك ذرّة من بصر وبصيرة في هذه البقعة من الأرض، فلا حاجة إذن إلى هذا النّوع من المؤسسات. إنّ بقاءها على الساحة هو نوع من الحبوب المنوّمة التي تُعطى في الإعلام العربي لتخدير النّاس. إنّها تُعطى كنوع من مُهدّئات الأوجاع في منطقة تعيش في حال مرضيّة، حال نهايويّة لا شفاء منها.

ولهذا يجب أن نقول كلامًا
صعبًا على الأسماع. إنّنا مطالبون بسلوك طريق ”الموت الرحيم“ لهذه المؤسسة الزّاجلة في العلن والدّاجلة فيما بطن، وإلى موت كلّ ما تمثّله في الذهنية العربية. كفى بنا أنّا شببنا وترعرعنا وها نحن مقدمون على الشيخوخة حتّى أضحت حالنا كحال ذنب الكلب الذي وضع في قالب أربعين سنة، وبعد أن فتح القالب بعد هذه العقود تبيّن أنّه لا يزال أعوج.

هذا الاعوجاج منّا وفينا، ولا يمكن أن نلقي المسؤولية على غيرنا. أسهل الطرق إلقاء المسؤولية على الغير، لأنّ ذلك يجعلنا في حال من الطمأنينة، كأن لا حول لنا ولا قوّة. بينما في الحقيقة ”دودنا من عودنا“، كما نقول في لهجتنا. فلنتفكّر، إذن، في مقولاتنا الشعبيّة ففيها من الحكمة الكثير الكثير.

ولهذا أيضًا، يجب أن نقول صراحة أنّ العروبة وهم أدمنّا عليه حتّى أضحى مرضًا عضالاً. فليس ثمّ ما يجمع بين هذه المجموعات البشرية، لا سياسيًّا ولا اجتماعيًّا ولا اقتصاديًّا. فإذا كان العربيّ غير قادر على التدخُّل في شؤون عربيّ آخر، فما الّذي يجمع هؤلاء إذن؟ يجب أن نقول صراحة أنّ كلّ المنتمين إلى التقليعات العربية، من إسلامويين وقوميين وليبراليين، لم يكونوا في يوم من الأيّام كذلك، بل كانوا دجّالين في الواقع.

أتريدون أمثلة على هذا الدجل؟
لا بأس. الإسلامويون الكذبة يقتلون المسلمين على لون البشرة. هذا ما فعله الإسلامويون في دارفور حينما نفّذ هؤلاء المجازر الرهيبة هناك. وهذا ما يفعله الإسلامويون الكذبة في كلّ مكان إذ يفجّرون المساجد والأسواق لمجرّد الانتماء إلى مذهب آخر. والقومويّون الكذبة، من أصحاب شعارات المقاومة والممانعة، أرسلوا جيوشهم برفقة بوش والجيوش الغربية لضرب واحتلال بلاد قومويّين كذبة آخرين على شاكلتهم. هذا ما فعله نظام البعث الفاشي في الشّام. والقومويّون الإسلامويّون الكذبة، من أمثال نصر الله وحزب الله ومن هم على شاكلتهم يدعمون الآن هذا النّظام البعثي الفاشي الذي ينفّذ المجازر يوميًّا في الشّام. والليبراليّون الكذبة أيضًا من صنف أولئك الذين يتظاهرون بدعم الانتفاضات العربية، من على شاشات فضائيّات النّفط المنتنة، لا ينبسون ببنت شفة إزاء حريّات البشر في ممالك وإمارات العربان الفاسدة والمفسدة في الأرض. وهناك الكثير الكثير من الأمثلة الماثلة للعيان في ربوع العربان.

وفوق كلّ ذلك، فإنّ كلّ هؤلاء الزّاجلين الدّاجلين صباح مساء يلقون المسؤولية على الغرب الـ“كافر“ والـ“متكابر“، وفي الآن ذاته يحلم كلّ هؤلاء الدجّالين بالهجرة بالذّات إلى ذلك الغرب والفوز بجنسيّات بلاد هؤلاء الـ“كفرة“.

أليس في هذه الحقائق ما يشهد على هذه الذهنيّة العفنة؟ أليس من حقّنا أن نتساءل بيننا وبين أنفسنا ما هو مصدر هذا الدّاء الّذي ألمّ بنا منذ ألف وخمسمائة عام؟الحقيقة التي يجب أن تُقال هي أنّنا إذا لم ننظر إلى أنفسنا في المرآة، فلن نصل إلى سواء السبيل.

ولعلّ خير الختام هذا الكلام:
أخي أيّها العربيّ الغَبيّ - أرَى الجَهْلَ يَحكُمنا سَيّدَا
وَما مِنْ سبيلٍ لنَيْل المُنَى - سِوَى العَقْلِ يُحْيِي بِنا سُؤْدَدَا
***
نشرت في: ”إيلاف“، 25 يناير 2012
ــــــــــــ
إقرأ أيضًا: "أخي أيها العربي... الغبي"، مقالة منشورة في الحياة اللندنية بتاريخ 28 يوليو 2002.
***

القصيدة الشاميّة


ولأنّ للعواطف مكانًا في هذا الفضاء العربي الدّامي، فقد آن أوانُ هذا القريض الذي يسير على خطى القصيد العربيّ...

 

سلمان مصالحة||

القصيدة الشاميّة


أحيانًا، هنالك لحظات يبتعد فيها المرء عن الخوض في تحليل الأحداث التي تجري على الساحة، ويبتعد فيها عن اللغة التقريرية التي يتطلّبها مقال سيّار من هذا النّوع. أحيانًا، هنالك لحظات يكون فيها للعاطفة دور غالب. فما بالكم، ونحن نرى كلّ هذا التّقتيل اليومي للبشر في منطقتنا؟

لقد كان ذكر قديمًا، طرفة بن العبد، شاعرٌ عربيّ حكيم من السّلف الصّالح أنّ ”ظلم ذوي القربى أشدّ مضاضةً“. وها هو ذلك الظّلم، وها هم ذوو القربى، وها هي تلك المضاضة من ذلك الماضي تظهر جميعًا الآن على الملأ وبجلاء، بفضل وسائل الاتّصال الحديثة. إنّها بارزة بكلّ قتامتها أمام أعين من لا يزال يمتلك ذرّة من بصر أو بصيرة.

ولأنّ للعواطف مكانًا في هذا الفضاء العربي الدّامي، فقد آن أوانُ هذا القريض الذي يسير على خطى القصيد العربيّ:


سلمان مصالحة

القصيدة الشاميّة


نَدًى بِعَيْنِكَ، أَمْ دَمْعٌ بِهِ نارُ؟
أَمْ فَارَقَتْ سِرْبَهَا فِي الجَوِّ أَطْيَارُ؟

وَمَنْ تَرَجَّلَ جُنْحَ اللَّيْلِ عَنْ فَرَحٍ
إذْ رَجَّعَتْ حُزْنَهَا فِي الأُفْقِ أَسْحارُ؟

لا زِلْتَ لَيْلَكَ أَرْضَ الشّامِ تَرْقُبُها
شَعْبٌ تَمَلْمَلَ مِنْ ظُلْمٍ، لَهُ ثارُ

فَالظّالِمُونَ تَمَادَوْا فِي مَظَالِمِهِمْ
لا يَأْبَهُونَ بِطِفْلٍ قَامَ يَخْتارُ

عَيْشًا كَرِيمًا وَحُلْمًا فِي مَرابِعِهِ،
حُرِّيَّةً نُقِشَتْ فِي النَّفْسِ، فَاحْتارُوا

إنْ أَخْمَدُوا وَلَدًا شَبَّتْ مَلائِكَةٌ
لا يَعْرِفُونَ بِأَنَّ الجَمْرَ سَعَّارُ

لَنْ يُطْفِئُوا أَمَلاً فِي نَفْسِ مَنْ نَبَتَتْ
فِيهِ حَمِيَّةُ أَبْرارٍ، بِهِ نَارُ

لِلظّالِمِينَ دِيَارٌ عِنْدَ مِزْبلَةٍ
كَيْ يَخْلُدُوا مَثَلاً فِيها وَيَعْتَارُوا

لا يَفْقَهُونَ أُصُولَ الحُلْمِ مُذْ دُحِيَتْ
أَرْضٌ لِعَيْشٍ، بِأَنَّ الدَّهْرَ دَوَّارُ

مَهْمَا تَغابَى سَراةُ الضَّيْمِ فِي بَلَدٍ
وَاسْتَأْسَدُوا عَمَهًا فَالشَّعْبُ صَبَّارُ

وَإنْ تَأَخَّرَ بَلْجُ الصُّبْحِ عَنْ مَهَلٍ
لا بُدَّ تَعْقُبَهُ فِي التّوِّ أَنْوارُ

***

نَدًى بِعَيْنِكَ أَمْ كَلْمٌ يُؤَرِّقُها
غَداةَ طَلَّ عَلَى الشّاشاتِ أَحْرارُ

هَبُّوا فَرَادَى فَهَبَّ النّاسُ خَلْفَهُمُو
حَتَّى أَتاهُمْ إلَى المَيْدانِ غَدَّارُ

فَاسْتَلَّ مِنْ جُعْبَةِ الشَّيْطانِ عُدَّتَهُ
يَغْتالُ فِي شَغَفٍ أَحْفادَ مَنْ سَارُوا

وَراءَ حُلْمٍ تَنامَى بَعْدَمَا انْعَتَقَتْ
فِي النّاسِ أُغْنِيَةٌ تَعْلُو وَأَنْظارُ

إنَّ الغَمامَ الّذِي يُرْخِي ضَفائِرَهُ
ناحَتْ بَوَارِقُهُ مِنْ فِتْيَةٍ ثَارُوا

فَاسْتَقْبَلُوا حِمَمًا مِنْ نَارِ غاصِبِهِمْ
لَمْ يَنْجُ مِنْ لُؤْمِها الأَهْلُونَ وَالجارُ

***

نَدًى بِعَيْنِكَ أَمْ دَمْعٌ تُكَفْكِفْهُ
لَيْلاً عَلَى نَفَرٍ فِي النّهْرِ قَدْ صَارُوا

لَوْلا الهَوانُ الّذي أَخْنَى عَلَى عَرَبٍ
لاسْتَنْفَرَتْ رَبْعَهَا فِي الشَّرْقِ أَخْيارُ

لكِنَّنَا هَمَجٌ مِنْ أُمَّةٍ دَثَرَتْ
لا يَنْفَعُ القَوْلُ فِي مَنْ زَيْتُهُ قَارُ

يَا سَامِعَ الصَّوْتِ لا تَبْخَلْ عَلَى وَلَدٍ
مِنْ بَعْضِ ما حَمَلَتْ فِي اللَّيْلِ أَذْكَارُ

وَارْحَمْ بِعَطْفِكَ طِفْلاً غَابَ فِي عَفَرٍ
أَلْغَتْ جَوارِحَهِ الأَحْقَادُ وَالعارُ

عارٌ عَلَى عَرَبٍ مِنْ أُمَّةٍ حُسِبَتْ
فِي قَوْلِهَا نَسَبٌ، وَالفِعْلُ أَغْيَارُ

عارٌ عَلَى حَجَرٍ، عارٌ عَلَى شَجَرٍ
عارٌ عَلَى بَشَرٍ فِي الشّامِ بَشّارُ

*

كانون الثاني 2012
***
نشرت في: ”إيلاف“، 12 يناير 2012


هل حقًّا ”الشعب السوري ما بينذلّ“؟

يجب أن لا يغيب عن الذّهن أيضًا أنّ الدّعوة إلى إسقاط هذا النّظام يجب أن تترافق مع دعوة لصيقة بها وهي دعوة إسقاط كلّ هذه التّوجّهات العنصريّة الدينيّة الأخرى الّتي لا تقلّ خطرًا عن الاستبداد البعثي.

سلمان مصالحة

هل حقًّا ”الشعب السوري ما بينذلّ“؟


هكذا، وبعد أن شاهد الناس
كيف بدأت ماكينة القمع البعثيّة عملها قتلاً وسحلاً ودوسًا على رؤوس الأطفال والكبار، ناهيك عن استئصال الأعضاء البشرية، انطلق ذلك الشّعار العفوي على ألسنة النّاس: ”الشعب السوري ما بينذلّ“. لقد انطلقت هذه الصرخة من قحف الرأس السوري الذي داسته طغمة البعث التي استبدّت بالبشر والحجر والشّجر طوال عقود طويلة. لقد انطلقت الصرخة من أعماق ذلك الذلّ الذي فرضته هذه الطغمة الرابخة على صدور هذا الشعب سنوات طوال.

إنّ هذا الشعار يعني
بين ما يعنيه، أنْ كفى ذلاًّ دام عقودًا. إنّه يعني أنْ، كفى ضحكًا على النّاس بشعارات الدّجل البعثي التليدة والبليدة، عن الأمّة الواحدة والرسالة الخالدة. كفى دجلاً بشعارات الصمود والتصدّي وما إلى ذلك من بلاغات الماضي، التي استُبدلت في المرحلة الجديدة بشعارات لا تقلّ بلادة عن ذلك الماضي، من مثل شعار ”الممانعة“، وشبيهاتها. فها هي هذه الـ”ممانعة“ البعثية تنكشف حقًّا على الملأ. العالم بأسره يشاهد ما تفعله ماكينة القمع الـ”ممانعة“ في محاولة منها لـ”منع“ البشر من التعبير عن رفضهم لبقاء هذا النّظام جاثمًا على صدور العباد.

في الواقع، لقد انذلّ الشّعب السوري
طويلاً، مثلما انذلّ الشّعب العراقي طويلاً من قبل. إنّ الحقيقة المرّة التي لا مناص من مواجهتها هي أنّ أيديولوجيّة البعث الكاذبة هذه، في بلاد الرافدين وفي الشام، قد أذلّت الناس على مختلف أطيافهم وطوائفهم. لقد رفعت شعارات طنّانة تدغدغ بها عواطف العامّة بغية إحكام القبضة الحديديّة القبليّة على البشر، لتنتهي بهم إلى توريث الحكم كما لو كانت البلاد مزرعة قبليّة وطائفيّة.

إنّ ماكينة القتل البعثية هذه
هي خير مثال على هذا الحضيض العربي. إنّها خير مثال على كلّ هذا الدّجل العروبي الذي طالما تغنّت به هذه الأيديولوجيّة. إنّ ماكينة القتل هذه تكشف على الملأ هشاشة هذه الهويّة، بل هشاشة هذه الهويّات العربيّة التي تعيش في الشّعار ليس إلاّ، بينما هي الواقع خلاف ذلك تمامًا. صحيح أنّ هنالك شعارًا آخر يُرفع بين حين وآخر، وهو: واحد، واحد، واحد. الشعب السوري واحد“. غير أنّه هو الآخر، إنّما يُرفع تمنّيًّا، بينما الوضع في الواقع هو خلاف ذلك. لأنّ هذا ”الشّعب المتوهّم“ هو خليط من الملل والنّحل والقبائل الّتي تُضمرُ الكراهيةً للآخر، في الوقت الّذي تتغنّى فيه بالوحدة شعارًا فقط.

يكفي النّظر إلى أيّ بقعة صغيرة،
إلى قرية أو بلدة أو مدينة في هذا المشرق، يعيش فيها عرب من طوائف مختلفة، لمعرفة حقيقة الدّجل بخصوص هذه الهويّة العربيّة المتوهّمة. إنّ حال البلدة الصغيرة هي حال البلد الكبير، فـ”هذه العصا من تلك العصيّا“، كما يقال في لغة الأعراب. فالبلدان، والحارات مفروزة طائفيًّا وقبليًّا وهذه الطوائف والقبائل لا تتداخل فيما بينها إلاّ فيما ندر. إنّ الاستثناء يشهد على عمق هذه القاعدة في نهاية المطاف. وعندما أؤكّد على هذه الحقيقة، فإنّي لا أستثني أحدًا من كلّ هذه الملل والنّحل ومن كلّ أصحاب هذه النّعرات.

إنّ الخروج ضدّ الطائفيّة والقبليّة
يجب أن يكون خروجًا جذريًّا، وعلى جميع تشكيلات وتنويعات هذه النّعرات الدينية والإثنية. إنّ هذه النّعرات هي التي تقف حاجزًا يصعب تخطّيه في الطّريق إلى خلق مجتمع عصري ودولة مدنية يتساوى فيها الأفراد، من ذكر وأنثى، على اختلاف خلفيّاتهم.

يجب أن لا يغيب عن الذّهن أيضًا أنّ الدّعوة إلى إسقاط هذا النّظام يجب أن تترافق مع دعوة لصيقة بها وهي دعوة إسقاط كلّ هذه التّوجّهات العنصريّة الدينيّة الأخرى الّتي لا تقلّ خطرًا عن الاستبداد البعثي. إنّ شعار ”الشعب يريد إسقاط النّظام“ يجب أن يكون شعارًا أكثر عمقًا، أي بمعنى إسقاط كلّ هذه المنظومات الذهنية التي تعشّش في مخّه وتنخر في جسد هذا ”الشعب“.

إنّ هذه الطغمة القبليّة
الّتي استولت على الحكم واستبدّت بالعباد عقودًا طويلة ستزول عاجلاً. وإذا اقتضت الحال بالاستعانة بقوى خارجية، فليكن كذلك. لقد كنت كتبت قبل زمن طويل إنّ الاستعمار كان أرحم بالعباد في هذه البلاد مقارنة بكلّ هذه الأنظمة اللقيطة التي نبتت وراءه.

لا يغترّنّ أحد بهذه الجيوش التي تقتل شعبًا يُفترض أنّه شعبها. فبقدر ما تُظهره هذه الجيوش أمام النّاس العُزّل من جبروت وقوّة، فإنّ انهيارها المدوّي سيكون أسرع وأكثر مدعاة للسخرية من هذه الجبروت الزّائفة، لدى أوّل تدخّل خارجيّ.

ورُبّ سائل يسأل،
وكيف تعرف ذلك، يا أخا العرب؟ والإجابة على التّساؤل هي في غاية البساطة. إنّ هذا النّوع من الجيوش ليس من النّوع الّذي يُطلَق عليه مصطلح ”جيش الشعب“. لأنّ جيش الشعب الحقيقي لا يُطلق النّار على شعبه الأعزل أصلاً، ولا يدكّ مدنه وقراه بالقذائف وبالبوارج البحرية. إنّ الجيش الّذي يفتك بمن يُفترض أنّهم شعبه، كما يفعل جيش النّظام السّوري، إنّما هو جيش من مرتزقة النّظام القبلي ليس إلاّ. لذلك، فعندما يحسّ هؤلاء بأنّ النّظام القبلي آيل للسّقوط فإنّهم سيسارعون إلى نزع بزّاتهم العسكرية وإلى إلقاء أسلحتهم وسيهرول كلّ منهم إلى قبيلته وعشيرته ومنطقته للاحتماء بتلك الانتماءات المتجذّرة.

أليس هذا هو ما حصل في العراق مع جيش صدّام العرمرم؟ لذلك، فما من شكّ في أنّ هذا السيناريو هو بالضبط ما سيحدث في الشّام. إذ أنّ ”الحسن أخو الحسين“، كما يقال في عاميّتنا.

وإنّ غدًا لناظره قريبُ.
*
نشرت في: ”إيلاف“، 4 يناير 2012
___________________

ودارت الأيّام ومرّت الأوهام

سلمان مصالحة | ودارت الأيّام ومرّت الأوهام

مع اقتراب نهاية السنة،
ستسارع الصحافة، على اختلاف لغاتها ومشاربها، إلى إجراء جردة حساب حول أحداث السنة الفائتة. ولا شكّ أنّ الصحافة العربية ستدلي بدلوها في هذا الموضوع، فالعالم مُعَولَم هذه الأيّام كما يعلم الجميع، والموضة أيضًا عابرة للحدود واللغات والقارات.

ما من شكّ في أنّ الحدث الأبرز في السّنة المنصرمة هو هذا ”الرّبيع“ الذي امتدّ شهورًا طويلة قاطعًا حواجز الصيف والخريف، حتّى دلف أخيرًا بخطوات حثيثة إلى الشّتاء الذي يطرق الأبواب. ولكن، ولمّا كان المرء مدعوًّا إلى التبصّر والنّظر بإمعان إلى ما يدور حوله، فإنّه مع ذلك مدعوّ أيضًا إلى عدم إطلاق العنان للخيال أكثر من اللّزوم خشية السقوط من أعالي الأوهام إلى قيعان الواقع الصّادم.

سنترك كتّاب العالم الآخرين
الذين يتحدّثون عن ”الربيع العربي“، ويصولون ويجولون بشتّى لغاتهم لوكًا وعلكًا في وصف وتقصّي الأحداث العربية. إنّهم ينظرون إلينا بمناظيرهم هم، وهو أمر طبيعيّ. وعلى كلّ حال، فهذا هو شأنهم ولا غرارة في ذلك. غير أنّنا، نحن العرب، مُلزمون بأن ننظر إلى ما يحصل لدينا بمناظيرنا نحن، لا بمناظير الآخرين. وبكلمات أخرى فإنّنا نحن الذين يجب أن نجد الوسائل والطريق إلى تقليع أشواكنا بأيدينا.

لقد تفاءل الجميع خيرًا
منذ أن بدأت بشائر هذا ”الربيع العربي“ تظهر في تونس. وعندما أقول الجميع، فإنّما أعني تلك الشّرائح الشابّة التي تعيش في عالم اليوم الذي قلّصت التكنولوجيا الحديثة مسافاته الجغرافية والثقافية. ولعلّ هذه البشائر لم تأت من هناك صدفة، فطالما وُسمت تونس بالخضراء في الغناء العربي.

ولكن، ها هو العام العربيّ المنتفض على أهبة الرحيل إلى عام جديد. غير أنّ هذا الرّبيع لم تتفتّح أزهاره بعد. قد تبدو الأمور مختلفة بعض الشيء في تونس عن سائر الأقطار العربية، إذ لم يشهد هذا البلد ما شهدته، ولا زالت تشهده، الأقطار الأخرى من قلاقل.

فما السرّ في ذلك؟
إنّه سؤال يجب أن يُطرح لأنّه وضع صارخ أمام أعيننا. ولأنّنا شاهدنا جميعنا كيف انتهى الوضع في ليبيا، ولأنّنا نشاهد ما يجري في مصر، وفوق كلّ ذلك نشاهد ما هو حاصل يوميًّا ومنذ شهور طويلة في اليمن، ونشاهد ما يجري على وجه الخصوص في سورية التي يرسل فيها النّظام جيشه وعصاباته لقصف وارتكاب الجرائم بحقّ من يُفتَرَض أنّهم ينتمون إلى ذات الشّعب وذات الوطن.

وللإجابة على هذا السؤال، حريّ بنا أن نذكر هنا أمورًا عادة ما تتفادى التطرّق إليها الكتابات العربية. فهنالك عوامل كثيرة جعلت الانتقال السّلمي تقريبًا يحصل في تونس ويتأخّر في الأقطار الأخرى. ويمكن اختزال هذه العوامل في عاملين جوهريين اثنين، وهما: التجانس المجتمعي، دينيًّا وإثنيًّا، والتّراث العلماني البورقيبي الذي تمّ ترسيخه بصورة أو بأخرى في تونس.

هذان العاملان الجوهريّان
لا ينوجدان بهذا الترسيخ في سائر البلدان. فلقد رأينا التمايز القبلي في ليبيا، وهو يلعب دورًا في شتّى المناحي، بل وحتّى في أسر رموز النّظام البائد. أمّا في مصر التي يصرّ أهلها على التشبّث باسم "أم الدنيا"، ورغم التجانس المجتمعي في الهوية المصرية القوية بلا شكّ، إلاّ أنّ الشّرخ الديني يطفو دائمًا على السّطح. وعلى ما يبدو لم يترسّخ في مصر منذ عبد الناصر سوى مؤسسة واحدة هي المؤسسة العسكرية التي أضحت مؤسسة اقتصادية كبرى.

من الواضح أنّ الوضع المصري ذاهب إلى "ستّين داهية"، كما يقال باللهجة المصرية. إذ أنّ صعود الإخوان والسلفيّيين سيأتي بالضربة القاضية على أهمّ الموارد في الاقتصاد المصري، ونعني به: السياحة. فهل هنالك من يعتقد بسذاجة أنّ سيطرة الاسلاميين ستجلب السياح إلى هذا البلد؟ لا حاجة إلى التذكير بأنّ السياحة في هذا العالم الواسع تذهب إلى البلاد المستقرّة والمنفتحة على الحريّات، ولا أظنّ أنّ "أم الدنيا" بسيطرة الإسلاميين ستكون كذلك. وعلى سبيل المثال، يمكن النّظر إلى إيران أو السّودان، فلا أعتقد أنّ هذين البلدين يعجّان بالسيّاح من أركان الأرض.

هذه العوامل أيضًا لا تنوجد
في سورية، مثلما لم تنوجد من قبل أيضًا في العراق. إنّ هذا النوع من البلاد، على تشكيلاتها الدينية والإثنية، والتي كان بوسعها أن تثري البلد وتكون له نعمة، إلاّ أنّها بدل ذلك فقد تحوّلت إلى نقمة بسبب هذا الإرث القبلي الاستبدادي المتجذّر في الذهنيّة.

لقد تظاهر البعث الاستبدادي، من قبل في العراق، والآن في سورية بالقومية، مستخدمًا أيديولوجيّة حزبيّة، لكي يخفي وراءها كلّ ما هو قبليّ مافيوزي. وهذا ه السّبب لما نراه الآن من كلّ صنوف هذا القتل والسحل والجرائم التي تقشعرّ لها الأبدان بحقّ المواطنين السوريّين.

في الواقع، لقد سقط هذا النّظام منذ أن بدأت ماكينته الإجراميّة تحصد الأبرياء، من جميع أطياف الشعب السوري. لقد شاهد العالم هذه الجرائم، فلم يعد بالإمكان إخفاء الأمور كما حدث في الماضي. وكلّنا أمل الآن أن لا يأتي النّظام القادم شبيهًا بهذا الزّائل عاجلاً أم آجلاً، وألاّ يأتي أيضًا شبيهًا بالقرضاوي ومن هم على شاكلته.

فهل يأتي العام القادم بهذا الجديد، أي دولة المواطنين وفصل الدين عن الدولة وهما أساس الدولة العصرية. هذا ما يصبو إليه من يبتغي الخير لهذه البقعة المأزومة. ورغم القراءة المتشائمة بعض الشيّء، مع ذلك سأترك بصيصًا للأمل، فلعلّ وعسى...

والعقل ولي التوفيق!
*
نشرت في: "إيلاف"، 30 ديسمبر 2011
______________________

رسالة إلى الرئيس الأسد

سلمان مصالحة | رسالة إلى الرئيس الأسد

(وإلى أدونيس أيضًا)
سيّدي الرئيس،
من الصعب أن أتوجّه إليك بهذا اللّقب، ولكن ولأنّك لا زلت حتّى هذه اللّحظة، من الناحية الرسميّة على الأقلّ، تحمل اللّقب وتجلس في المنصب فإنّ الأصول والرسميّات توجب التوجّه إليك بهذه الصفة. ولذا، أبدأ فأقول:

سيّدي الرئيس،
منذ أن اندلعت ألسنة النّيران في تونس، في جسد البوعزيزي، وتطاير شررها في أنحاء مختلفة من الأقطار العربيّة لم تفهم أنت، أو أنّ من أوصلك إلى الحكم بمسرحيّة دستوريّة لم يرد لك أن تفهم، أنّ هذا الجمر العربي الكامن تحت الرّماد والرّمال العربية طوال هذه العقود الطويلة من الاستبداد سيلتهب في بيتك أنت أيضًا.

لقد صرّحت أنت وفي أكثر من مناسبة، للصحافة الأجنبيّة طبعًا، أنّ سورية تختلف عن تونس وتختلف عن ليبيا وتختلف عن مصر. نعم، هكذا وبجرّة لسان في مقابلات صحفيّة ظهرت الحقيقة على السّطح، فأطاحت بكلّ هذه الأيديولوجيّة البعثيّة الكاذبة القائلة بـ ”أمّة واحدة ورسالة خالدة“.

إذن، مع نشوب النّار فيما لدى العرب من أقطار، تهاوى سريعًا ذلك الشّعار. إنّ هذا السّقوط المدوّي للشّعار، كما جاء على لسانك أنت، يكشف على الملأ كلّ ذلك الدّجل القوميّ الّذي أشاعه البعث طوال عقود طوال. طالما دغدغت هذه الشعارات البرّاقة، ولا زالت تدغدغ للأسف، عواطف مراهقي العروبة.

خلف هذه الشّعارات البعثيّة، قامت هذه الأيديولوجيّة الكاذبة، في العراق وفي سورية التي لا زلت فيها رئيسًا بصفة رسميّة، بإخفاء غياهب السّجون التي زُجّ فيها بكلّ من بحث عن حريّة، ثقافيّة أو سياسيّة من أبناء هذه الأصقاع العربيّة.

نعم، لم يكن هذا البعث سوى
أيديولوجيّة عنصريّة عربيّة. ولأنّه كذلك في الجوهر، فقد تحوّل سريعًا إلى أيديولوجيّة قبليّة. نعم، كذا كانت الحال في بلد الرافدين في عراق صدّام وكذا هي الحال الآن في بلاد الشّام. لقد تفاءل البعض من السّاذجين عندما أضحيت رئيسًا لكونك درست في الغرب وتعرّفت على حضارة الغرب، وتعرف استعمال الإنترنت والفيسبوك وما إلى ذلك من وسائل الاتّصال المعاصرة. لقد تفاءل البعض سذاجةً منهم ظانّين أنّك ربّما قد علقت بك رائحة من روائح الحريّة والانفتاح في العالم الغربي.

فيا لهم من ساذجين!
نعم، لقد كان كلّ هؤلاء ساذجين لأنّهم لم يعرفوا أنّك لم تكن في يوم من الأيّام حرًّا. كلّ تلك السّنوات التي مرّت عليك في الغرب ذهبت أدراج الرّياح. إنّ أشدّ ما يثير الاكتئاب في النّفس هو هذه السّرعة التي تتلاشى فيها الشّعارات البرّاقة مع هبوب أوّل نسمة حريّة. لقد قالوا أيضًا عن ابن آخر قد وقع في الأسر أخيرًا إنّه تعلّم في الغرب وإنّه منفتح بخلاف والده. لكن، ما إن نشبت الانتفاضة في ليبيا حتّى رأينا كيف عاد سيف الإسلام القذّافي إلى طبعه الذي غلب على تطبّعه في الغرب. فبين ليلة وضحاها تحول النّاس المنتفضون إلى جرذان.

وهكذا أنت يا سيادة الرئيس.
نعم، لم تكن في يوم من الأيّام حرًّا، بل أنت ابن أبيك. إذ، لو كنت حرًّا بحقّ وحقيق لكنت رفضت ما قام به أبوك من عمليّة توريث للسّلطة بمهزلة دستوريّة. لو كنت حرًّا بحقّ وحقيق لكنت أصررت على مواصلة عملك كطبيب عيون. لكنت أصررت على مواصلة تقديم العون للنّاس ليروا النّور على يديك. لكنّك لست كذلك. لم تنفع معك الدّراسة في الغرب المتحضّر، ولم يعلق بك أيّ شيء من حضارة الحريّة هذه.

لقد عدت إلى الطبع القبليّ
العربيّ الّذي لا يعلق به التطبُّع. هكذا أضحت ”سورية ليست تونس، وسورية ليست مصر...“ علامة على العودة إلى هذه الأصول القبليّة العربيّة. إنّ هذه الأصول هي أساس بلاء العرب. إنّ هذه الأصول هي التي تشدّ هذه المجموعات البشريّة إلى القيعان كلّما حاول البعض من أبناء هذه الأمّة الخروج منها.

نعم، سيّدي الرئيس،
إنّ هذه النّعرات القبليّة البدائيّة هي التي تقف سدًّا منيعًا أمام قيام دولة عصريّة. إنّ هذه النّعرات هي التي تمنع تكوّن شعب، بما يعنيه هذا المصطلح.

سيّدي الرئيس، كم هو مؤلم أن أقول لك: هذه هي حقيقتك. في الواقع، هذه هي حقيقتنا جميعًا.

والآن، وبعد كلّ هذه الجرائم
التي يرتكبها النّظام الّذي تقف أنت على رأسه، لا يمكن للحياة في الشّام أن تعود إلى سابق العهد. لا يمكن أن تهدأ الأمور والخواطر وكأنّ شيئًا لم يحصل. سيّدي الرئيس، لقد آن الأوان أن تفهم هذه الحقيقة المرّة، ولذا لم يعد بدّ من أن تحزم الحقائب. لم يعد بدّ من أن تترك النّاس لشأنهم.

إنّ الحنجرة التي استأصلها شبّيحتك تصرخ من تحت التّراب: ”ياللّه، ارحل يا بشّار!“

والعقل وليّ التّوفيق!
*
مقالة نشرت في: ”إيلاف“، 27 ديسمبر 2011

إقرأ أيضًا: "تفكيك أدونيس ومن هم على شاكلته"
***
For Hebrew, press here
***

تشارلز بوكوڤسكي | جوابي



 

تشارلز بوكوڤسكي ||


جوابي 




”ما الدّاعي لديه لاستعمال كلمات مثل هذه
في كتاباته؟“


”كلمات مثل ماذا، يا أمّاه؟“


”حسنًا، مثل - motherfucker .“

”هنالك مَنْ يتكلّم هكذا، يا أمّاه.“

”أُناسٌ يعرفُهم؟“

”نعم.“

”لكن، لماذا يُصادق
أُناسًا كهؤلاء؟“

”لأنّه، يا أمّ امرأتي، لو صادقتُ فقط
ناسًا مثلكِ،
لن يكون ثَمّ شيء أكتب عنه،
شيء يرغبُ الـ motherfuckers بقراءتِهِ“.
*
من مجموعة: The Continual Condition 2009

ترجمة: سلمان مصالحة

For Hebrew, press here
ــــــ
قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!