آچي مشعول | قصيدتان

آچي مشعول | قصيدتان

النّسر

على الطّريق وَجدتُ
جُثّة نَسْر.

مَخالبُهُ انْقَبَضتْ على بقايا هواء
حاولتْ أن تَتشبّثَ بشيءٍ ما.

من ريشاته المُتحرّكة في الرّيح نَتَفتُ ثلاثًا -
لعبةً للقطّ الجديد.
***

كلب ينبح

كلبٌ ينبحُ في اللّيل
نُباحًا حادًّا يتكوّر ويطولُ،
يُمسي نَحيبًا.
النّحيبُ يمتدُّ إلى القَمر.
الكلبُ النّاحبُ إلى هناك
لا يعرف.
والإنسان الذي ينصتُ له
لا يعرف.
الجسدُ الذي يُطلقُ النّحيب
يعرف.
النّحيب يعرف.

***
ترجمة من العبرية: سلمان مصالحة

لقراءة مجموعة أخرى من قصائدها بترجمة للعربية، انقر هنا

***
For Hebrew, press here
_______________

تفكيك أدونيس ومن هم على شاكلته



لا يستطيع القارئ أن يعثر في رسالة أدونيس الاستجدائيّة هذه على أيّ صيغة تشفع له أمام هول ما يجري في الشّام. كما ليس في رسالته أيّ موقف أخلاقي ممّا تعرضه الشاشات، وما يتسرّب إلى اليوتيوب من صور المجازر التي يرتكبها هذا النّظام البعثي الفاشي.

خيوط دخان


ذاكرة - كذا كان:


سلمان مصالحة ||

خيوط دخان


البحث عن المكان هو بحث عن ساكن المكان، صائتًا كان أم صامتًا، رائدًا كان أم جامدًا. الصّامت صائتٌ من حيث هو يُخبر عن حاله بصمته، والرّائد يبحثُ عن أصوات جمدت أصداؤها في حجر، في أثرٍ باقٍ رغم تبدُّل السّنين والأعوام. هكذا كان وهكذا سيكون إلى يوم يبعثون ما دامت عجلات هذه الآلة الغريبة تدور وتدور. ما هي هذه الآلة التي شاعت تسميتها بالذّاكرة؟ هل هي من صنف الآلات التي يجب تشحيمها بين فينة وأُخرى؟ ماذا يعلق بها، وماذا يتناثر من بين دواليبها فتذروه الرّياح ليحطّ في أركان خافية عن الذّهن والعيان؟ ها هي هذه الأسئلة تراودك وأنت قابع في مكتبك بعيدًا بعيدًا عن سنوات تصنيع ذاكرتك الأُولى. وحين تنظر إلى خيوط الدّخان المتسامية في فضاء الغرفة، تحاول جاهدًا أن تُمسك بطرف خيط منها الآن في هذه اللّحظة، مثلما كنتَ تمسك بطرف خيط طيّارة ورقيّة في ساعة عصر مرحة من ساعات ذاكرة بعيدة هناك في الشّمال القريب البعيد في آن. هل تُقاس المسافات بالأمتار، بالأميال وبالفراسخ، أم أنّها تُقاس بوحدات أُخرى لم تنكشف بعد أسرارها؟

حين تدلف هذه التّساؤلات إلى الذّهن من مخابئها وتحملك على المضيّ معها قدمًا، ترى مِنْ عجبٍ أنّك لا تمضي قدمًا، بل تأخذك الهواجس في رحلة إلى وراء. وهذا الوراء البعيد يصير قريبًا حتّى يُشَبَّهَ لك أنّك تملك أنْ تمدَّ يدك فتمسك به. يا لها من آلة غريبة! إنّها تختزل الزّمان والمكان برمشة عين.

المسافات ليست جغرافيا ولا حركة أفلاك ومجرّات. المسافات شيء آخر لا علاقة له بالجبال والوديان والبحار. المسافات هي تلك العتمة الّتي تحجب عن العينين تضاريس الشّيء. لا حاجة أن يكون هذا الشّيء بعيدًا مئات الكيلومترات والسّاعات لكي تشعر كما لو أنّه يقع وراء سبعة بحور. قد يكون هذا جارًا لا تعرف عنه سوى طلعته العابرة حينما تلتقيه في الدّرج. تحيّة منك أو منه تُلقَى لمجرّد الحفاظ على آداب الجيرة، ثمّ يمضي كلّ في حال سبيله إلى حيث تقوده رجلاه. المسافات هي تلك العتمة الّتي لا يملك الفردُ أن يرى عبرها غير الأوهام. والأوهام غيب والغيب بعيد.

ها هي خيوط الدّخان المتسامية من سيچارتك تلتفّ حول رأسك المُثقَل بذكريات أُولى من مكان أوّل، لا أوّل له ولا آخر. إنّها هي هي البحيرة الّتي ارتاحت على مرمى النّظر في التّلال الّتي رأيت فيها النّور. والنّور هذا كنت تراه يخرجُ من ذلك السّتار المُسدَل خلفها نَصيفًا شفّافًا، حتّى يتشكّلَ كرةً كبيرةً من ذهب تتهادى فوق البحيرة. كان الشّيوخُ الكبار يُشيرون بأصابعهم نحو الكرة السّائرة على مهل في عرض السّماء ويقولون للصّغار إنّ اسمَها القمرُ. ثُمّ يدورون رافعين رؤوسهم نحو الغرب حتّى تقع أبصارهم على نجم مشعّ في الأُفق الغربيّ حيث اختفت وراءه الشّمس معلنةً نهاية يوم آخر. في تلك اللّحظات كنت تدير برأسك المُثقَل بأوهام هذا الكون المترامي الأطراف، وها أنت الآن في مكتبك، وها هي ذات الأوهام لم تتغيّر. لقد تغيّرتَ أنت فقنعت بأنّها خالدة معك، وصرت ترى فيها جَمالاً ومتعةً ونشوة. نعم، الوهم حلم فكيف تكون الحياة بلا أوهام!

في سنوات الطّفولة تكون الأوهامُ والأحلامُ كبيرة، ومع دوران الأفلاك ومرور الأعوام تأخذ تلك الأوهام بالانكماش. وهذا هو الخطر الدّاهم الّذي يُحْدق بكلّ من اتّخذ الحروف والكلمات سميرًا له في وحدته. الكلمات منبع دافق للأوهام، عينٌ ساهرة لا ينضب أبدًا دمعها. إذا جفّت الكلمات تُركت على قارعة الطّريق فلا تصل مع الرّيح إلى الأرواح. وها أنت والكلمات نديمان مدمنان على المسير في رحلة انتحاب على ما كان، وعلى ما لن يكون إلاّ في لحظة من هذه اللّحظات المحمولة على مركبة غريبة إلى تخوم الغيب الحاضر فيك أبدًا.

تعتلي دفّة المركب، الزّورق الشّراعي الّذي حفظته في رُكن من أركان ذاكرتك، وتنتظر هبوب الرّياح الّتي تقودك إلى حيث تشتهي أنتَ، لا ما يشتهي لك غيرُكَ. وبين تلاشي دوائر الدّخان في فضاء الغرفة وتشكّل دوائر أُخرى تتعقّبها في حركات متغنّجة، تهبّ عليك بعض نسائم عليلة من أُفق خفيّ فتنبسط أشرعتك ويتحرّك الزّورق في بحر هادئ الموج نحو جزيرة بعيدة لا تزال روائحها تعبق في ذاكرتك.

في سنوات السّتين من القرن المنصرم قادتك رجلاك، أو بالأَحرى قادتك مركبة على عجلات، إلى قرية الرّامة الجليليّة. لم يكن في قريتك، المغار، مدرسة ثانويّة، فكان عليك وعلى أمثالك، ممّن كُتبَ له أن يفكّ الحرف، البحث عن مفاتيح فكّ الحروف في مدرسة ثانويّة في بلد قريب أو بعيد. كان هناك من ذهب بعيدًا، وكان هناك من ذهب قريبًا.

أنت ذهبت قريبًا، أوّلاً إلى عيلبون، تلك القرية الوادعة المقابلة للمغار جنوبًا، وبعد عام آخر إلى الرّامة الّتي اختفت وراء الجبل في الشّمال الغربيّ. في سنوات طفولتك الأُولى كنت تصعد الجبل مع رفاق لك تغيرون على تينة هنا، أو لوزة هناك، أو تقتطفون قطفًا عنبًا قبل موسم نضوجه، فتتلذّذون على مذاقه. أحيانًا كنتم تعتانون ببعض الملح لتخفيف حموضة ذلك الحصرم. كانت البحيرة في الجنوب الشّرقيّ تمتدّ أمام أعينكم فتسرحون وتمرحون وتحلمون بالوصول إليها في يوم من الأيّام.

هل للشّقاوات نكهة خاصّة في ما يتشكّل من ذاكرة على مرّ الزّمن؟ لا شكّ في أنّ كثيرًا من ذاكرة الطّفولة يتشكّل من تلك المشاهد الّتي تختفي وتظهر كما لو كانت شريطًا مسجّلاً على جهاز خفيّ يعمل من تلقاء نفسه في لحظات غريبة. تنتقش الشّقاوات في الذّاكرة كما لو كانت نقشت في حجر يبقى أثرًا تستطيع العودة إليه فتنتشله من هذه البئر فتُلقيه في بركة هادئة لتبدأ دوائر الماء تتسارع أمام ناظريك. تشعر الآن بنوع من الإرتياح لأنّ هذه النّقوش لم تختفِ من ذاكرتك، رغم دورات كثيرة من غروب الشّمس وشروقها.

تقول لنفسك، فكم بالحري إذا كانت هذه الذّكريات قد نُقشت في ذهنك من مرحلة ثانويّة حيث بدأ نبات خفيّ يعلو بشرتك الّتي اعتدت على كونها غضّة. حاولتَ، قطعةً من الزّمن، أن تغضّ الطّرف عمّا يتنامى سرًّا دون أن يستأذنك، ولكن سرعان ما تكتشف سرًّا آخر من أسرار الحياة كنت ظننت أنّه لك وحدك.

ها هي خيوط الدّخان الصّاعدة إلى حيث تتلاشى بعد أن تتقاذفها نسمة خفيفة تهبّ من شرفة مفتوحة على حديقة وادعة في شارع وادع في القدس الغربيّة من شتاء العام 2003. الهدوء هذا يذكّرك بهدوء القرية الّتي نشأت وترعرعت فيها. لقد هجر هذا الهدوء القرية وجاء معك إلى المدينة. لقد ارتبطتَ بالهدوء مثلما ارتبط بك، فذهب معك أنّى رحلتَ وأنّى حللتَ.

السّاحة الّتي انبسطت أمام بناية المدرسة الثّانويّة في الرّامة كانت مسرحًا لبعض المرح. كان الطّلاّب القادمون من قرى مختلفة يختلطون فيما بينهم، أو يسارعون فيتجمهرون حول بائع المناقيش الّذي كان يعرف ساعة الإستراحة فيأتي بسيّارته محمّلاً بهذه العجينة بعد أن تكون لفحتها النّار مع الزّيت والزّعتر. كذا كان يفعل الطّلاّب، بينما الطّالبات القلائل اللّواتي وصلن إلى المدرسة الثّانويّة في تلك الأعوام فلم يكنّ ينزلن إلى السّاحة، بل كنّ يبقين فوق في الشّرفة الّتي كانت ممرًّا يوصل بين غرف التّدريس. كنّ يتمشّين ذهابًا وإيابًا وبين الفينة والفينة يُلقين نظرة خاطفة على الهرج والمرج في السّاحة.

النّظرات والبسمات الخاطفة الّتي كانت تُلقى من فوق كان يتلقّفها البعض، أو جميع من ينتبه إليها وكانوا كثرًا، كما لو كانت حُبًّا خاطفًا، أو هكذا خُيّل لهؤلاء المتوهّمين الهائمين. أمّا أنت فلم تكن بأحسن حالاً من هؤلاء الحالمين. وها أنت لا زلت حالمًا هائمًا على وجهك في رحاب ذاكرة تتراكم أمام عينيك كالسّراب. كلّما حاولت الاقتراب من شاطئها قادتك رجلاك إلى بقعة أُخرى، فلا يستكنّ هبوب الرّيح ولا تستريح.

خيوط الدّخان تتعالى في فضاء الغرفة الآن وترسم لوحة من زمان ومكان بعيدين. في الطّرف الشّرقي من السّاحة كان درج يصعد ثمّ يتّجه يمينًا نحو جناح جديد أُضيف إلى البناية. كان هذا الجناح مؤلّفًا من غرفتين-صفّين في بناء موقّت لتسارع أعداد المنتسبين للدّراسة الثّانويّة. كنتَ تجلس هناك في طرف الغرفة وتنتظر درس الأدب العربيّ الّذي كان يمليه عليكم الأُستاذ شكيب جهشان. كانت الحشرجات في صوته، وكان السّعال بفعل الدّخان. لم تكن السّيچارة تفارق أصابعه حتّى في أثناء إملاء الدّرس. أمّا الطّلاّب الّذين يدّخنون فكانوا يدلفون في الإستراحات إلى المراحيض لاقتناص سيچارة هنا وسيچارة هناك.

في دروس العربيّة وصل إلى أسماعك أنّ الورد واللّيث والأسد واحدٌ رغم أنّ أصولها مختلفة، كأن تقول محمودًا ومحمّدًا وحميدًا، أو حسنًا وحسينًا من أصل واحد. ورويدًا رويدًا بدأت تعشق هذه اللّغة وأدبها. وكم سُررتَ حين عرفت أنّ المتنبّي ذكر البحيرة إيّاها الّتي حلمت طفلاً بالوصول إليها:

وَرٌد إذا وَرَدَ البُحيرةَ شاربًا
وَرَدَ الفُراتَ زئيرُهُ والنّيلا

فحفظت البيت عن ظهر قلب، وكنت كلّما رأيت البحيرة ذكّرتك هذه بالشّعر العربيّ فأنشدتَ بيت المتنبّي لنفسك. ولمّا كانت البحيرة تختفي عن الأنظار، كنت تنشد بيت الشّعر فتتشكّل البحيرة أمام ناظريك من جديد. وكم كنتَ تُسحرُ عندما كان الأُستاذ شكيب يحاول تمثيل جرس الألفاظ الدّالة على المعنى في صوته الأجشّ حين يُنشدُ في فضاء الصّفّ بيتًا آخر للبحتري. كان يخطو بضع خطوات نحو شبّاك الغرفة، ينفخ دخان سيچارته في الهواء الطّلق ثمّ يعود بطيئًا إلى مركز الصّفّ فيُنشدُ مؤكّدًا مشدّدًا على كلّ حرف:

يُقَضْقضُ عُصلاً في أَسرّتها الرّدى
كَقَضْقضةِ المقرورِ أَرْعدَهُ البَرْدُ

فكانت القافات والرّاءات تملأ الصّفّ فتنجلي الصّورة أمام الطّلاّب دون حاجة إلى إطالة في الشّرح أو إطناب.

حُبّ اللّغة العربيّة والشّعر العربيّ دفعك إلى محاولات الإدلاء بدلوك، ومحاولة نظم أبيات هجائيّة فيها نوع من الدّعابة. كنت تقرأها على زملائك فيتلقّفونها ويحفظونها ويردّدونها في السّاحة ساعة الاستراحة. الطّالب الّذي كان يحظى ببعض الأبيات الهجائيّة من جعبتك يصير ذائع الصّيت بين طلاّب المدرسة، فتنتقل الأبيات بين الصّفوف كالنّار في الهشيم، فتتعالى الضّحكات ويكثر المرح والمزاح. فحين كَنّيتَ أحد الفسّائين بأبي الرّياحين سمع الزّملاء الشّعر وتناقلوه حتّى ذاع اسمه في المدرسة فصار يتجنّب الظّهور في السّاحة. كان هنالك من ينكبُّ بعد أن أصابته سهام الهجاء مهمومًا حزينًا، ثم يحاول الإفلات من هذه الشِّباك محاولاً نظم ردّ، غير أنّ القريحة واللّغة لم تكونا تسعفانه، فيتعاظم الضّحك منه وعليه.

نصيب المعلّمين من هذه الأبيات المنظومة لم يتأخّر عن الشّيوع في السّاحة على ألسنة الطّلاّب. لقد انضمّ الأُستاذ نبيه القاسم بقامته النّحيفة إلى سلك التّدريس معلّما للّغة العربيّة، فتعرّفت عليه مدرّسًا وتعرّف عليك دارسًا، وسرعان ما تعرّف عليه سائر الطّلاّب بعد أن حبوتَه ببيتين من نظمك:

أهلاً نَبيهُ، بأرْضِ رامَةَ نَوَّرَتْ
مِنكَ اللّيَالِي السُّودُ نُورَ المَشرِقِ
يَا مَنْ يَجُودُ عَلَى الأنامِ بِلَحْمِهِ
وَيَظَلُّ مَهْزُولاً بِأرْجُلِ لَقْلَقِ

ولمّا لم تكن من الممتازين في الرّياضيّات والهندسة، بل كنتَ متوسّطًا، فقد استعنت بالنّظم لتخفيف وقع هذه الدّروس عليك. أُستاذ الرْياضيّات، الأستاذ نافذ حنّا، كان دمثًا خلوقًا مبعثرًا على غرار كلّ المدرّسين لهذه المادّة، فالقوانين والمعادلات وخباياها تذهب بهم كلّ مذهب. فلم تتمالك في أن تقول:

عَجبًا لِنافِذَ، مَا تَراهُ وَاجِمًا
دَوْمًا يُغَنِّي للغَوَانِي النَّاعِمَهْ
وَإذَا تَوَانَى فِي غِناءٍ مَرَّةً
فَلأنَّهُ ذَكَرَ الزَّوايَا القَائِمَهْ

وكان أن وصلت الأبيات مسامع المعلّمين، بمن فيهم الأُستاذ نبيه والأستاذ نافذ. وكنت تخشى من عقاب شديد سيُنزل بك لهذه الشّقاوات المنظومة والشّائعة على الألسن في المدرسة. غير أنّ العقاب لم يأت، بل فهمت أنّ المعلّمين يتقبّلونها بروح من الدّعابة، فراقت نفسك لذلك وحفظت لهم هذه الرّوح على مرّ الزّمن.

والآن حين تتفحّص هذه الذّاكرة مع خيوط الدّخان تفطن إلى أنّك لم تنظم في تلك الأيّام الغابرة شعرًا في الأُستاذ شكيب جهشان. هل أنت نادمٌ على هذه الغفلة بعد أن فارق هذه الدّار إلى دار قرار؟ رُبّما. لكنّك، ولكي لا تنسى ولكي لا ينسى زملاء قد يقرأون هذا الكلام في مكان ما عن تلك الأعوام، تُحاول الآن أن تتمّ العهد وتفي بالوعد:

قِفْ للمُعلّمِ وَارْسمِ الإكْلِيلا
فِي هَالَةٍ مِلْءَ الدُخَانِ جَمِيلا
لَوْ كُنْتَ تَنْقُشُ ذِكْرَهُ فِي رُقْعَةٍ
لَنَقَشْتَهُ، مِنْ أَفْعَلٍ، تَفْضِيلا

وحين تفرغ من هذه الكلمات، تنظر إلى الطّاولة، فترى أنّ السّيچارة قد خبت في المنفضة، وتلاشت خيوط الدّخان من فضاء الغرفة. لقد حملتها نسمة خفيفة إلى الفضاء الأرحب خارج البيت، خارج الشّعر.
*
نشر النصّ في: مجلة “مشارف”، عدد 20 ، حيفا 2003، ص 222-227

مأساة العرب جبن مثقّفيهم

أرشيف - كذا كان. فهل كذا يكون؟

سلمان مصالحة ||

مأساة العرب جبن مثقّفيهم


كثيرًا ما نجنح، في غمرة الحديث عن أحوال العرب في هذا الأوان، إلى الكلام التّعميمي الّذي نُطلقه. الكلام التّعميمي قد يفيد في بعض الأحايين، إذ أنّه يقوم بفعل "التّنفيس"، أي التّرويح عن النّفس الّتي امتلأت غيظًا ممّا نشاهده بكرةً وأصيلاً في هذا الجزء من العالم الّذي ننتمي إليه. والحقيقة أنّنا جميعًا مصابون بهذا الدّاء، هذا الوباء، ولا أستثني نفسي من هذا القول. مع أنّي أحاول، قدر المستطاع، الابتعاد عنه ومداواة ما علق بي من تبعاته الخبيثة.

الكلام التّعميمي، وعلى وجه الخصوص في "مقالات الرأي" العربيّة الّتي تعجّ بها الصّحافة العربيّة الورقيّة والمُؤَنْلَنَة (نحتًا من: أونلاين)، ينبع من حالات الكبت الّتي ذوّتها هؤلاء الكتّاب في أماكن تواجدهم العربيّة. وهذا الكبت متشعّب يشمل المجالات السّياسيّة - مواجهة السّلاطين والحكّام، الدّينيّة - مواجهة السّلطات الدّينيّة وفقهاء الظّلام، والاجتماعيّة - مواجهة المنظومات المتوارثة دون إعمال العقل فيها. وما دام العقل والبصيرة الفطريّة قد تعطّلا لدى هؤلاء الكتّاب، إنْ كان الأمر قد جاء نتيجة التّذويت الإرادي للكبت أو نتيجة التعسُّف الحقيقيّ من جانب ذلك الثّالوث الكابت سياسيًّا، دينيًّا واجتماعيًّا، فليس ثمّ أملٌ في الإمساك بطرف خيط يُفضي إلى بصيص في نهاية هذا النّفق المعتم الّذي وجد العرب أنفسهم فيه، منذ عقود، إن لم نقل منذ قرون طويلة.


***

تفكيك محمود درويش:

ولكي لا أتّهم بأني ألقي الكلام على عواهنه مُعمّمًا، فلننظر معًا إلى الحال الفلسطينيّة الرّاهنة، إذ أنّ الأقربين أولى بالمعروف، كما يُقال. فقد يكون الكلام التّعميمي الصّادر من البعض في هذه الحال، بالإضافة إلى جبن كاتبه في مواجهة الحقيقة، نابعًا من مصدر آخر، هو مصدر نرجسيّ، يهدف إلى البحث عن عطف كلّ من هبّ ودبّ. فيأتي هذا الكلام التّهويمي مغلّفًا بتشبيهات واستعارات ممجوجة ومتكرّرة طالما شكّلت كواتم عقول على رؤوس الأعاريب. إنّ النّزوع إلى مثل هذه الصّيغ من الكلام التّهويمي الفضفاض يهدف إلى حقن القارئ العربي المدمن على هذه السّموم البلاغيّة بجرعة أخرى من هذا المخدّر العربيّ. فما بالكم إن جاءت هذه الحقنة البلاغيّة من شاعر لا بأس به، يعتبره كثيرون شاعر فلسطين الأوّل؟

فها هو محمود درويش، وتعقيبًا على ما جرى من جرائم بشعة في غزّة، ينشر "مقالة" في صحف فلسطينية وعربيّة، كمن يريدُ أن يقول شيئًا ما. غير أنّ قراءة كلامه لا يفيد منها القارئ شيئًا بقدر ما تضع كاتم عقل على رأسه من خلال حقنه بجرعة جديدة من هذا المخدّر البلاغي. لقد وضعت المصطلح مقالة بين هلالين لأنّي لا أدري أهي مقالة هذه الّتي نحن بصددها، أم قصيدة، أم تهويمات نثريّة لشاعر يبدو كمن ليس لديه ما يقوله؟ أمّا هو فقد وسم الكلام بعنوان "أنت منذ الآن غيرك"، ضمن زاوية بعنوان "يوميّات"، ولا يوميّات ولا ما يحزنون.

***
لنقم إذن بتفكيك هذا النّصّ الهلامي:
فالعنوان "أنت منذ الآن غيرك" يضع ما جرى في غزّة حدًّا فاصلاً بين ما سبق وبين ما هو لاحق، جاعلاً طرفي الزّمان من المعادلة في موقعين نقيضين، هكذا وبجرّة قلم. أمّا هذه الـ"أنت" في العنوان فهي ليست سوى "أنا" الكاتب ذاته الّتي استعار لها هذه الـ"أنت" في الكثير من شعره المنشور، وبعضه حسنٌ. ولأنّ الكاتب قد أدمن النّظر إلى "أنا"ه، فقد خلطها كثيرًا بالـ"نحن"، بما يليق بمن ينتمي إلى شعراء القبيلة. وحيثما تكثر الـ"نحن" تقلّ الصّراحة، ويقلّ القول. وهكذا سرعان ما يعود الكاتب إلى هذه الـ"نحن" بعد العنوان، فيقول: "هل كان علينا أن نسقط من عُلُوّ شاهق، ونرى دمنا على أيدينا، لنُدْرك أننا لسنا ملائكة، كما كنا نظن؟"

فما هو هذا العلوّ الشّاهق الّذي سقطنا منه، ومنذ متى كنّا نظنّ أنّا ملائكة؟ ورؤية الدّم على أيدينا! أي دم وبأيدي من؟ إنّ كلامًا من هذا النّوع الفضفاض التّهويمي لا يقول شيئًا، بل بوسع كلّ من هبّ ودبّ من هذا الفصيل أو ذاك، في المكتب والسّوق، يساريًّا كان أم يمينيًّا، علمانيًّا أم إسلاميًّا، مثقّفًا أو من عامّة الشّعب، عاملاً أم مزارعًا أن يحمله ويطلقه. هذا الكلام الّذي يحتمل التّأويل لكلّ شيء قد يخطر على بال كلّ فرد من هؤلاء، ولذلك فهو كلام فارغٌ، لا معنى له أصلاً. وإذا كان هذا الصّنف من الكلام ينفع للشّعر، مع أنّي أشكّ في ذلك أيضًا، فإنّه لا يُجْدي نفعًا عندما يدور الحديث عن قضيّة حريّ بالكاتب أن يتّخذ فيها موقفًا أخلاقيًّا.

ثمّ يستمرّ الكاتب فيقول: "كم كَذَبنا حين قلنا: نحن استثناء!" فماذا نقول في هذا الكلام الّذي صدر من فم الكاتب؟ أوّلاً، يجدر بالكاتب عدم الزّجّ بنا جميعًا في خانة "نحن"ـه هذه. فلم نقل في يوم من الأيّام إنّنا استثناء، كما لم نكذب على أنفسنا. وثانيًا، إذا كان هو الّذي كذب أو يكذب على نفسه، فليتحدّث باسمه هو وعن نفسه فقط، أو عمّن هو على شاكلته. فهنالك فلسطينيّون كثيرون آخرون لا يكذبون على أنفسهم، وحريّ به ألاّ يجمعهم في خانة الكذب الّتي اقتناها لنفسه.

ثمّ يمضي الكاتب في طرح التّهويمات الطّفوليّة على القارئ: "أيها المستقبل! لا تسألنا: مَنْ أنتم؟ وماذا تريدون مني؟ فنحن أيضاً لا نعرف...أَيها الحاضر! تحمَّلنا قليلاً، فلسنا سوى عابري سبيلٍ ثقلاءِ الظل!"

هذه التّهويمات "الشّعريّة" يمكن أن تصدر من نفوس المراهقين والمراهقات في كلّ مكان على وجه البسيطة، وليست حكرًا على بني يعرب. غير أنّها عندما تأتي من شخص في عقده السّادس، أو ممّن يُعتبر لدى كثيرين شاعر فلسطين الأوّل، فإنّها تُبقي المرء مشدوهًا أمام هذا الخواء العربيّ.

ونمضي في قراءة هذه التّهويمات، لنصل إلى: "تَقَنَّع وتَشَجَّع، وقتل أمَّه.. لأنها هي ما تيسَّر له من الطرائد.. ولأنَّ جنديَّةً أوقفته وكشفتْ له عن نهديها قائلة: هل لأمِّك، مثلهما؟"

فمن هو هذا الّذي تقنّع وتشجّع وقتل أمّه، ومن هي أمّه؟ مرّة أخرى، نحن أمام كلام فضفاض لا يخرج منه القارئ بشيء سوى هذه الإشارات والإحالات إلى استعارات بوسع كلّ عابر سبيل أن يرفعها شعارًا. بل أكاد أجزم أنّ عابري السّبيل أكثر جرأة من كاتب هذا الكلام، لأنّهم يصرّحون بما يفكّرون به في الشّارع، في السّوق وفي كلّ مكان في هذا الوطن. أمّا هو فقد آلى على نفسه البقاء في خانة الكلام التّهويمي، في وضع فلسطيني بحاجة إلى قول الكلام صراحة وعلى الملأ. كذلك، انظروا إلى تلك الجملة المحشورة في هذه الكلام عن الجنديّة والنّهدين. فما علاقة الجنديّة والنّهدين في معرض الكلام عمّا جرى في غزّة؟ يبدو أن الكاتب قد استحوذت عليه "ريتا وبندقيّتها"، حتّى يبدو أنّه لا يستطيع منها فكاكًا فيحشرها في كلّ شاردة وواردة، وكيفما اتّفق. المهمّ أن يحشر الجنديّة في نصّه، وأن يتطرّق إلى نهديها. فيا لها من جنديّة! لقد احتلّت كيانه كلّه بواسطة نهدين اثنين، لا ثالث لهما في هذه الأرض البوار.

ويمضي الكاتب فيقول: "لولا الحياء والظلام، لزرتُ غزة، دون أن أعرف الطريق إلى بيت أبي سفيان الجديد، ولا اسم النبي الجديد! ولولا أن محمداً هو خاتم الأنبياء، لصار لكل عصابةٍ نبيّ، ولكل صحابيّ ميليشيا!"

إذن، على حدّ قوله: "لولا الحياء والظّلام، لزرتُ غزّة...". فعن أيّ حياء يتحدّث الكاتب؟ وما الحاجة إلى الحياء من أجل زيارة غزّة؟ على الكاتب أن يشرح لنا علنًا ودون لفّ أو دوران، ما هو هذا الحياء الّذي يمنعه من زيارة غزّة؟ ربّما استطاع القارئ أن يتكهّن ما هو الظّلام الّذي يقف مانعًا أمام زيارة غزّة، غير أنّه لا يستطيع وضع النّقاط على الحروف المبهمات فيما يتعلّق بهذا "الحياء" الّذي لولاه لزار الكاتب غزّة. فهلاّ أفادنا عن مصدر هذا الحياء، كي لا تختلط الأمور على القرّاء؟ ثمّ انظروا بعد ذلك إلى الكلام عن أبي سفيان وخاتم الأنبياء، والّذي يفرده الكاتب، لا لهدف إلاّ لتملّق الإسلاميّين، ليس إلاّ.

إنّ هذا التّملُّق يظهر جليًّا في جملة لاحقة، حيث يقول: "هل يعرفُ مَنْ يهتفُ على جثة ضحيّته-أخيه: الله أكبر، أنه كافر...". فهذه الجملة مرّة أخرى هي جملة تعميميّة، كما يستطيع كلّ فرد من عامّة الشّعب، ومهما كانت مشاربه، أن يحملها شعارًا. إنّه يتركها بكلام تعميمي هكذا لأنّه يخشى قول الكلام صراحةً. فمن الّذي قتل أخيه وهتف: اللّه أكبر، غير هؤلاء الإسلاميّين، أيّها الكاتب؟ ثمّ إنّ الكاتب ولكي يبعد التّهمة عن ذاته يتبنّى مصطلحات هؤلاء، مُستخدمًا مصطلح "كافر". إنّه يعلم بلا شكّ، أنّ كلّ إسلاميّ أو متأسلم يستطيع أن يرفع علنًا هذا الكلام شعاره أيضًا.

ثمّ نخلص إلى مسك الختام من هذا التّهويم في الكلام: "لا يغيظني الأصوليون، فهم مؤمنون على طريقتهم الخاصة. ولكن، يغيظني أنصارهم العلمانيون، وأَنصارهم الملحدون الذين لا يؤمنون إلاّ بدين وحيد: صورهم في التلفزيون!".

إذن، هؤلاء الأصوليّون الّذين يهتفون الله أكبر على جثث ضحاياهم لا يغيظون الكاتب، "فهم مؤمنون على طريقتهم الخاصة"، على حدّ قوله. فهنيئًا له بهذه الرؤيا الخاصّة. غير أنّ الّذين يغيظونه، كما يصرّح، فهم "أنصارهم العلمانيون، وأَنصارهم الملحدون الذين لا يؤمنون إلاّ بدين وحيد: صورهم في التلفزيون!". فمن هم هؤلاء العلمانيّون والملحدون الّذين يغيظون الكاتب؟ إنّه يلقي الكلام جزافًا، تعميميًّا دون أن يُقدّم لنا مثالاً واحدًا من هؤلاء. هل هو الجبن مرّة أخرى في قول شيء صراحةً؟ هل الكاتب يرغب في كلامه المراوغ هذا في البقاء ممسكًا بـ"شعرة" معاوية، مع كلّ من هبّ ودبّ؟ ثمّ حين يعزو لهؤلاء دينًا وحيدًا هو "صورهم في التّلفزيون"، أليس ينفع هذا الكلام في توصيف حالة الكاتب ذاته الّذي لم نقرأ له في يوم من الأيّام مقالة موقّعة باسمه يتّخذُ فيها موقفًا أخلاقيًّا من أيّ قضيّة، صغرت أم كبرت، يواجهها الفلسطيني أو العربي على العموم؟ إنّه أيضًا، وعلى ما يبدو من هذه المقالة التّهويميّة، لا يهمّه أمر سوى التّودُّد لكلّ من يمرّ أمامه، أو التّودُّد لكلّ من يشاهده. قد تكون نيّته حسنة ولا نشكّ فيها. غير أنّ النّيّة وحدها لا تكفي، إذ لم يأت الكلام على قدر النّوايا والقضايا، وإنّما جاء باهتًا، لاهثًا وراء صياغات هي أشبه بمراهقات شعريّة، من صنف المخدّرات الّتي ترعرعت عليها الشّعوب العربيّة، الّتي لم تفارق المراهقة حتّى ببلوغها سنّ الشّيخوخة.

***

والحقيقة أنّ المشكلة ليست في درويش وحده. إذ أنّه ولطبيعته الشّعريّة يبحث، أنَّى حلّ وأنَّى رحل، عن حنان ربّما افتقده في زمان ومكان آخرين، ولسنا هنا بصدد الكلام عن هذه النّاحية. إنّما نعني أيضًا تلك الجوقة في الصّحافة العربيّة، أو في مجلاّت أدبيّة يُشرف عليها مشرفون أو مشرفات، في مشارف هذه الألفيّة، من صنف أولئك الّذين يُسرّون شيئًا ويُعلنون خلافَهُ سيرًا على نهجٍ عربيّ مقيت ممتلئ بالرّياء، أو من صنف أولئك المُستَكتَبين الّذين خدّرهم مصنع الاستعارات الجينيريّة الّتي اكتظّت بها أسواق القَيْح الشّعري العربيّة.

أليس كذلك؟

***


ملاحظة أخيرة:

وها أنذا أكتشف الآن، بعد أن أنهيت هذه المقالة وراجعتها قبل الدّفع بها للنّشر، أنّ العنوان الّذي اخترته لها فيه أيضًا نوع من التّعميم، وكان حريًّا بي أن أضع بدله: "مأساة العرب جبن بعض مثقّفيهم".

فماذا أقول، إذن، في حالي وحالكم؟

شفاني العقلُ وشفاكم!

***

نشر في: ”إيلاف“ 3 يوليو 2007

نعم، لا يوجد عالم عربي


سـلمان مصـالحة ||


نعم، لا يوجد عالم عربي

أيلول الأسود:
لا أدري لماذا أتذكّر الآن ما جرى في أيلول الذي سُمّي بالأسود سنة 1970. في ذلك الأيلول وعلى أثر الأحداث الدموية التي حصلت في المملكة الأردنية الهاشمية، وتحت ضغط الجيش الأردني قام بعض المسلّحين الفلسطينيين بعبور النّهر وتسليم أنفسهم بالذّات للجيش الإسرائيلي. نعم، لقد فرّوا من بلد عربيّ وفضّلوا تسليم أنفسهم لجيش الـ“عدو“.

أتذكّر هذه الأحداث الآن على ضوء ما يجري في سورية. فها هم العرب ينتكبون مرّة أخرى بأنظمتهم المافيوزية، ولكنّ النكبة هذه المرّة يصنعها العرب بأنفسهم ولأنفسهم. فها هم المواطنون السوريّون يفرّون باحثين عن ملجأ في تركيا خشية بطش هذا النّظام البعثي المافيوزي. نعم، إنّ المواطنين السوريين يفرّون من بلد هو بلدهم طالما ادّعى بأنه حامل لواء العروبة، وذلك بحثًا عن ملجأ في تركيا. وهي التي طالما وسمها مراهقو العروبة بأنّها أساس بلاء العرب وتخلّفهم، بسبب سيطرة العثمانيين على العرب طوال قرون.

خلاف على أسباب التخلّف:
لقد ذكرت مرّة لصديق تركيّ هذه الدعوى القوموية العربية والتي تنسب التخلّف العربي المزمن إلى تلك القرون من الحكم العثماني للمنطقة العربيّة. غير أنّ الصديق التركي انفجر ضاحكًا حتّى كاد يستلقي على قفاه. ولمّا حاولت الاستفسار عن سبب ضحكه هذا، أجاب: هنالك دعوى مشابهة في تركيا، غير أنّها معكوسة تمامًا. القومويون الأتراك يقولون إنّ سبب بقاء تركيا متخلّفة كلّ هذا الزّمان هو بسبب حكمهم العرب.

وفي هذا دلالة على أنّ القومويّين لا يختلفون عن بعضهم البعض. القومويّ يعلّق أسباب تخلّفه على الآخرين. إنّه لا يستطيع، أو أنّه لا يرغب في النظر إلى نفسه بالمرآة. إنّه يبحث عن أسهل الطرق بغية تجنّب مساءلة الذات، والوقوف على جذور وأسباب الفشل الذّاتي. لهذا السّبب أيضًا، فإنّنا نرى أنّ العرب هم أكثر شعوب الأرض قبولاً واستيعابًا لنظريّات المؤامرة على اختلافها وغرائبيّتها.


إنّه اليأس، يا خوري!
في مقالة بعنوان ”إنّه الأمل“ نشرها في ”القدس العربي“ في الأسبوع الفائت يصبّ الكاتب اللبناني إلياس خوري، ”المُصاب بالأسى“ بتعبيره، دلوًا من اللّوم على رأس الكاتب المغربي الطاهر بن جلون. ومناسبة هذا الدلو من اللائمة هو ما ورد من تفوّهات على لسان الطاهر بن جلون بشأن أحوال ”العالم العربي“ في لقاء حواري مع الروائي اللبناني شريف مجدلاني في بيروت. لقد ذكر أنّ بن جلون نفى وجود ”عالم عربي“ وهو ما حدا بإلياس خوري إلى التساؤل: ”ما معنى أن يقول بن جلون أن العالم العربي غير موجود؟“، ثم يُضيف: ”هل يكفي ان تكون هناك اختلافات في اللهجات والأديان كي يصير العالم العربي غير موجود؟“. ثمّ يذكر خوري من بين مسبّبات الأسى الذي دلقه عليه بن جلون في هذا اللقاء: ”لكن ما يثير الأسى هو ان يدافع المثقف عن نظام بلاده وعن مليكه، في بيروت، وعلى مبعدة مئة كيلومتر فقط من الشام، حيث تسيل الدماء.“

ولهذا السّبب يطلب الكاتب اللبناني من الكاتب المغربي أن يكون حذرًا وأكثر دقّة قائلاً: ”كان على صاحبنا المغربي أن يكون أكثر دقة. فالحوار العلني في الجامعة ليس شبيهًا بحوارات المقاهي، بل يفترض شيئًا من المسؤولية الأدبية.“

هكذا، إذن. إنّه يطلب من الكاتب المغربي أن لا يقول ما يجيش بصدره من أفكار في منصّة عامّة، بل يطلب منه أن يكون بوقًا لـ“فكرة مُتوَهَّمة“ اسمها الـ“عروبة“ أو ”العالم العربي“، وهي الفكرة التي طالما جلبت وبالاً على أصحابها. والغريب في الأمر أنّ هذه الدّعوى تأتي من كاتب لبناني، وهو على علم بحيثيّات الوضع اللبناني. ففي بلد صغير مثل لبنان، لم يستطع هذا البلد ولا زعاماته أو أهله أن يبنوا هويّة واحدة جامعة لأبنائه تتخطّى هذه الطوائف المتصارعة طوال تاريخه.

وعودًا على بدء:
نعم، لا يوجد عالم عربي. لا يوجد تكافل عربي بما تعنيه هذه الكلمة. فلو كان هنالك شيء اسمه ”عالم عربي“ لاستنفر هذا العالم نفسه لوقف المجازر التي يرتكبها البعث المافيوزي بحقّ المواطنين السوريين. يكفي المرء أن ينظر إلى صور التمثيل بجثث الأطفال السوريّين لكي يقف على طبيعة هذا النّوع من الأنظمة.

ولو كان هنالك شيء اسمه ”عروبة“ لانطلقت المظاهرات في العواصم العربية ضدّ هذا النّظام المجرم وضدّ كلّ ما يمثّله من استبداد طوال عقود من الزمان.

لكنّ الحقيقة هي أنّ بيوت العرب كلّها وكلّهم مصنوعة من زجاج. هذه هي الحقيقة المرّة التي يجب أن يواجهها كلّ عربيّ. وما لم يبدأ العربيّ بالنّظر إلى نفسه في المرآة فلن يصل إلى سواء السّبيل.

والعقل ولي التوفيق!
*
نشر في: ”إيلاف“، 13 يونيو 2011
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!