كاريكاتير بالكلام

كاريكاتير بالكلام

عنوان من صحافة العربان

الكلمات أحيانًا يمكن استخدامها بديلاً عن رسم كاريكاتيري.

***
هاكم وهاكنّ هذا المثال:
نص كلمة خادم الحرمين الشريفين
"إخواني.. أشكركم وأرجو لكم التوفيق وأشكر كل فرد من الشعب السعودي سأل عني، ولله الحمد أنا بخير وصحة ما دمتم بخير. إخواني.. جاءتني هذه الوعكة ما أدري ما هي.. ناس يقولون لها إنزلاق، وناس يقولون لها عرق النساء، والنساء ما شفنا منهن إلا كل خير. العرق هذا من أين جاءنا. هذا عرق فاسد. ولكن إن شاء الله إنكم ما تشوفون إلا كل خير ..."
عن: "الشرق الأوسط"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كيانات عربيّة مشوّهة

إنّ التّعامُل مع لبنان وقضاياه هو أكثر شبهًا بالتّعامُل مع "الخرا البائت" منه مع أيّ شيء آخر.
--

سـلمان مصـالحة || 

كيانات عربيّة مشوّهة


الكلام التعميمي مشوب على العموم بميزة عدم الدقّة لأنّه يتجنّب الولوج إلى التفاصيل الصغيرة. ولكن، من جهة أخرى، فإنّ الكلام التعميمي ضروريّ في بعض الأحايين ابتغاء إبلاغ رسالة حادّة للقارئ، وعلى وجه الخصوص القارئ العربي في هذا الفضاء الواسع الضيّق في آن معًا.

من هنا، أبدأ فأقول إنّ التّعامُل مع لبنان وقضاياه هو أكثر شبهًا بالتّعامُل مع "الخرا البائت" منه مع أيّ شيء آخر. فمهما حاول المرء الاحتذار والمداراة فلا شكّ أنّه، ما أن تقع عليه فردة حذائه، حتّى تتلطّخ به وتملأ الفضاء روائحه الكريهة التي تزكم الأنوف والنفوس معًا. سيحتاج المرء إلى قوارير من العطور، الأجنبية الصنع طبعًا، للخروج من هذه الحال.

ولبنان هذا الّذي يتصدّر النشرات الإخبارية العربية هو حالة فريدة لكيان سياسي أضحى خليطًا من تشكيلة غريبة عجيبة. إنّها تشكلية تجمع بين الصومال من جهة، وبين سويسرا من جهة أخرى. أقول إنّه أشبه الصّومال لأنّه انبنى منذ تأسيسه على هذه التوازنات الطائفيّة الإثنية، ولم يقم على الأسس التي تنبني عليها الدول وتتكوّن معها الهويّة الجامعة للشعب المنضوي بنوع من التوافق على حدّ أدنى من مكوّنات المجتمع المدني تحت هذه الهويّة.

البدايات عادة ما تكون ملتفعة بالآمال المعلّقة على الوليد الجديد، وعلى وجه الخصوص عندما يدور الحديث عن كلّ هذه الكيانات، هذا النّسل المشوّه، المسمّى دولاً خارجة من الانتدابات الغربية التي مكثت فترة قصيرة بعد أن خلفت قرونًا طويلة سالفة من حكم العثمانيين على هذه المنطقة.

الحروب الأهليّة في لبنان لا علاقة لها بالاستعمار ولا بالصهيونية فقد شهد هذا البلد حروبًا أهليّة منذ القدم ودائمًا كانت هذه الحروب تأتي على خلفية التوتّرات الدينية بين هذه التشكيلة الغريبة من القبائل البشرية التي استوطنت هذه البقعة. وعلى هذا الأساس فإنّ ما يجري في لبنان الآن هو استمرار لهذه الحال المشوّهة التي لم تخرج بعد من هذا الطور القبلي، دينيًّا واجتماعيًّا.

حتّى اللّغة السياسيّة في هذا البلد هي خير شاهد على هذا الفصام البنيوي. لقد كنت أشرت في الماضي إلى أنّ لغة المصطلحات المستعملة في السياسة اللبنانية تفضح هذا التشوّه البنيوي في هذا البلد. إنّه البلد - الوليد - في العالم، وعلى صغر حجمه، الّذي أضحى بثلاثة رؤوس بالتّمام والكمال، وربّما الحبل على الجرّار. فهنالك الرئيس سليمان، وهنالك الرئيس الحريري، وهنالك الرئيس بري. كلّهم رؤساء، وكلّ رئيس منهم يغنّي على ليلاه. فكم رئيسًا يتحمّل هذا البلد، وكم ليلى؟ أوليس في ذلك ما يفسّر حالة الفصام هذه؟

وكلّ هذا لا يكفي، إذ أنّ الكلام السياسي اللبناني يتّسع أيضًا إلى السيّد، والشّيخ، والبيك، والأمير وما إلى ذلك من ألقاب هي في نهاية المطاف زيادة بلّة على هذا الطّين القبلي والدّيني الّذي لا يوجد صمغ على وجه الأرض يستطيع أن يلصق أجزاءه ما دام على هذه الحال.

والحديث عن لبنان هو، في نهاية المطاف، حديث عن هذا المشرق العربي المأزوم في هويّاته المهزوم في إثنيّاته، في بطونه وأفخاذه منذ قديم الزّمان. دائمًا كان أصحاب الشّعارات ينحون باللائمة على الآخرين، لأنّ هذه هي أسهل الطرق للتنصُّل من المسؤولية. فهل دول الاستعمار ودول "الاستكبار" هي التي تورّث الرئاسات في بلاد العربان؟ أمّ أنّ دود العربان من عودهم ومن معدنهم هم؟ هذا هو السؤال الذي يجب أن يُطرح علانية ودون لفّ أو دوران. لأنّ الوصول إلى إجابة وافية شافية يتأتّى فقط بعد طرح السؤال الحقيقي.

أنظروا كيف هي حال العراق. إنّه كيان مسخ آخر في هذا الشّرق، إذ ما إن اختفى الدكتاتور المستبدّ الذي حكم بالحديد والنار عن الأنظار حتّى انفرط هذا الكيان المصطنع إلى مكوّناته القبليّة الإثنيّة والدينية والطائفيّة وأضحى القتل فيه على هذه الأسس، لا غير. وهذه هي الحال في مشرق العربان ومغربهم، فلسطينهم بلبنانهم، سودانهم ببيضانهم.

الشّعارات وحدها لا تكفي. الشعارات تدغدغ العواطف فحسب. أمّا الإجابات الشافية فهي تختفي وراء ستار شفّاف. والستار الشفّاف ليس إلاّ استعارة للشّجاعة على طرح الأسئلة الحقيقية، وعدم الاختباء وراء عاطفة كذوبة شاعت على ألسنة الكثيرين باسم العروبة.

لقد كنت أشرت في الماضي إلى أنّ العرب هم أحوج النّاس إلى أتاتورك عربيّ يفصل الدّين عن الدّولة. وما لم يوجد هذا الـ"أتاتورك" العربي، فإنّ العرب سيواصلون تخبّطهم. وحتّى التخبّط العربي سيظلّ عشوائيًّا كذهنيّتهم الّتي لم تعرف النّظام في يوم من الأيّام.

والعقل ولي التوفيق!

***

الأسئلة الصّعبة

سـلمان مصـالحة

الأسـئلة الصّعبة

النّعامات تضع رؤوسها في الرّمال، وبين الفينة والأخرى ترفعها فتصاب بالدّهشة.

هذه هي حال من لا يريد أن يرى الواقع العربي، ولا يريد، أو هو لا يجرؤ على، وضع إصبعه على سوس البلا. ما هي المفاجأة في كلّ ما يجري على أرض النّاصرة من توتّر بين مسلمين ونصارى؟ ألم نشهد أحداثًا كهذه في بلدات أخر على طول البلاد وعرضها؟ الغريب أنّ الأستاذ إلياس خوري يتفاجأ، وهو يعلم يقينًا ما جرى في لبنان. والغريب أنّ الكثير من المثقّفين الفلسطينيّين هنا، والعرب من حوالينا، ظنّوا أنّ رفع الشّعارات المعسولة عن وحدة الهدف ووحدة المصير تكفي لوحدها لدرء هذه المآسي عنّا.

الغريب في الأمر هو أنّهم لم يجدوا بعد نتفة شجاعة لوضع الأوراق على الطّاولة. وربّما في الحقيقة ليس ذلك غريبًا فقد صار هذا النّهج سمةً مميّزة للمثقّف العربي في جميع أماكن تواجده من المحيط إلى الخليج. السّؤال الّذي يجب أن يُطرَح هو ما معنى مصطلح الشّعب الواحد في مفهومنا نحنُ العرب؟ وهل نتصرّف نحن جميعًا كما لو كنّا شعبًا واحدًا أم لا؟

سأروي على مسامعكم هذه الحكاية. في أحد اللّقاءات الدّوريّة الّتي كانت تجمعني بأحد الأدباء الفلسطينيّين المعروفين، وهو من أصل نصرانيّ ولا أريد ذكر اسمه الآن فليس هذا المهمّ، كنت أكثر من مرّة أطرح عليه هذه التّساؤلات المشكّكة في كوننا شعبًا واضح المعالم والأهداف والمصائر بسبب أحداث كتلك الّتي تحدث في النّاصرة الآن. في إحدى المرّات أطرق قليلاً، ونظر إليّ نظرته إيّاها كمن يريد أن يفشي لي سرًّا يحمله من سنين. إسمع يا صديقي، قال لي وتنهّد تنهيدة طويلة، أنا أسكن في مدينة مختلطة، وفي بيت شقق مختلط ولي جار مسيحي وجار مسلم. وتعقيبًا على ما تقول، الآن أستطيع أن أرى ما ترى. فمع الجار المسيحي أنا على علاقة عاديّة كعلاقات الجيران ليست وطيدة، ولكنّه يأتي إليّ وأذهب إليه لشرب القهوة، أمّا مع الجار المسلم فلا توجد علاقة كهذه بتاتًا. قاطعته قائلاً، هذا هو سوس البلا الّذي أتحدّث عنه. ثمّ صمت طويلاً ولم يتحدّث، بعدئذ شعر بالإعياء وذهب في طريقه الطّويلة.

هذا عن الحياة، فماذا مع الموت؟

لننظر مرّة واحدة إلى أنفسنا في المرآة، ولنصارح أنفسنا ولو مرّة واحدة على الأقلّ. إذا كانت هناك بعض الشّعارات المعسولة فيما يتعلّق بالحياة، فإنّ الموت يأتي لينفض كلّ تلك الشّعارات ويلقي بها في سلال المهملات. وها أنا أسأل السؤال الّذي لا بدّ منه. هل نموت، وكثيرًا ما نموت نحنُ العرب، كشعب واحد؟ الجواب على ذلك بسيط، بالطّبع لا، فنحن نموت طوائف ومللاً ونحلاً وقبائل عاربة ومستعربة. وها أنذا أبدأ بنا الفلسطينيّين، وليسأل سائر العرب أنفسهم هذه الأسئلة. هل لدينا نحن الفلسطينيّين مقبرة مشتركة تجمع المسلم والمسيحي والدرزي وغيرهم؟ كلاّ قطعًا. وأريد أن أذهب أبعد من ذلك، ويجب أن نقول هذه الكلمة، على الأقلّ لنضع إصبعنا على موقع الوجع. في الحقيقة ليست المقابر سوى مقابر طوائف، وفوق كلّ ذلك، حتّى بين أفراد الطّوائف نفسها، فإنّ المدافن هي على أساس قبلي. فهذه مدافن آل فلان، وتلك تربة آل علاّن إلخ. مرّة أخرى، ملل ونحل وقبائل.

أوردتُ هذين المثالين كنموذجين يختزلان الحياة والموت وهما عماد الإنسان كلّ إنسان. فإذا لم نعش معًا ولم نمت معًا، فكيف نُطلق على أنفسنا اسم شعب واحد، موحّد الهدف والمصير؟ فلا الهدف واحد - في الحياة، ولا المصير واحد - في الممات.

هذه هي الحقيقة المرّة، وما دمنا لا ننظر إلى أنفسنا في المرآة فلن نصل إلى مكان.

***
نشرت المقالة في: "القدس العربي" 9 أبريل 1999
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عنزة نتنياهو

سـلمان مصـالحة

عنزة نتنياهو

تروي الأمثال اليهوديّة عن أحد اليهود، وقد جاء إلى الرابي كائلاً على مسامعه الشكاوى عن الوضع الذي لم يعد بوسعه تحمّله في البيت، بسبب ضيق المكان وكثرة النّسل.

أنصت الرّابي لمن جاء يستشيره في أمور الدنيا والدين دون أن يقطع حبل كلامه. وبعد أن فرغ اليهودي من شكاواه على مسمع من الرّابي، صمت منتظرًا المشورة الحكيمة.

قال له الرّابي: "ما عليك إلاّ أن تُدخل عنزة إلى البيت".
- "كيف أُدخل عنزة إلى البيت في هذا الوضع المزري؟"، سأل اليهودي.
- "إفعل ما أقوله لك، ولا تُجادل في أمور لا تفقهها"، وبّخه الرّابي بحزم.
انطلق اليهودي، وعاج في طريق عودته إلى السّوق فاقتنى عنزة، مثلما أشار عليه الرّابي، ثمّ مضى بها إلى البيت لتعيش مع الأسرة.
فرح الأولاد لرؤية العنزة ومضى اليوم الأوّل على خير. غير أنّ الوضع سرعان ما تدهور فامتلأ البيت ضجيجًا على ضجيج، ثغاء على صياح وضاق بهم المكان أكثر فأكثر.

وهكذا، وبعد مضيّ أسبوع، لم يعد اليهودي يستطيع تحمّل الوضع، فهرول مسرعًا إلى الرّابي شاكيًا باكيًا على ما حلّ به وبالعائلة.
أطرق الرّابي مليًّا، ثم نظر إلى اليهودي وقال: "عُد إلى البيت فورًا وأخرج العنزة من البيت، ثم ارجع إليّ بعد أسبوع."
أسرع اليهودي وأخرج العنزة من البيت. وبعد أسبوع عاد إلى الرّابي.
سأله الرّابي: "كيف حالكم في هذه الأيّام؟"
أجاب اليهودي: "الحمد للّه، لقد تحسّن الوضع ونشعر بالرّاحة الآن."
***
تذكّرت هذه الحكاية الآن في سياق ما يجري بين حكومة إسرائيل والسلطة الفلسطينيّة، بين نتنياهو وأبو مازن. والعنزة من الحكاية هي المطلب الجديد الذي أدخله نتنياهو إلى بيت الـ"قيادة" الفلسطينيّة، والمتمثّل بالاعتراف الفلسطيني بإسرائيل "دولة يهوديّة".

من الواضح أنّ هذه العنزة التي أُدخلت الآن، سيتمّ إخراجها لاحقًا. غير أنّ الـ"قيادات" الفلسطينيّة الّتي لا تفقه أصول اللّعبة، مثلما لا تفقه أبدًا في رعاية الماعز، ستشعر بنوع من الارتياح بعد أن يتمّ إخراج هذه العنزة - المطلب - من البيت الفلسطيني. عندها سيخرج كلّ هؤلاء "المسؤولين" الفلسطينيّين إلى الرأي العام وينشرون البيانات وسيعتبرون إزالة هذا المطلب من الطّاولة، كما لو أنّه انتصار على نتنياهو وحكومة إسرائيل وسيشعرون بالراحة، وربّما يوزّعون الـ"راحة" على المارّة.

إنّ المتتبّع، من صنف ذوي البصر والبصيرة، لما يجري في العقود الأخيرة، يلاحظ أنّ الجانب الفلسطيني أضحى يمتلك "شلعة معزى" من ماعز الحكومات الإسرائيليّة المختلفة.

كما أنّ الجانب الفلسطيني، من مسؤولين سلطويّين على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم السياسيّة والقبليّة، والّذين أدمنوا الفساد منذ سنوات طويلة، وخاصّة في العقدين الأخيرين، مضوا قدمًا في اختلاس الأموال المقدّمة للشعب الفلسطيني من الدول المانحة لبناء قصور لهم ولمقرّبيهم، بينما تركوا النّاس عراةً، فاضطُرّ هؤلاء للعمل في بناء المستوطنات الإسرائيليّة التي تكاثرت وقضمت الشّجر والحجر.

هكذا أوصلت هذه القيادات البائسة، بجميع أطيافها ولا أستثني من هذا البؤس أحدًا، الشّعب الفلسطيني إلى هذا الدّرك. إنّه الدّرك الّذي يتمثّل في امتلاك هذه الـ "شلعة" الكبيرة. غير أنّه، شعبًا وقيادة، لا يعرف رعاية الماعز، لا ثقافيًّا ولا سياسيًّا ولا نضاليًّا، لأنّه لا يفقه العالم أصلاً.

وفي هذه الأثناء لم تتبقّ أماكن رعاية لتسريح كلّ هذه الماعز فامتلأ البيت الفلسطيني ثغاء وبكاء.

ليس فقط أنّ من تناديه لا حياة له، إنّه لا يمتلك أيضًا ذرّة من حياء.

والعقل وليّ التّوفيق!
***

المقالة نشرت أيضًا في: شفاف الشرق الأوسط
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سليمان جبران: ماذا عن مسؤوليتنا نحن؟

رسالة شخصيّة، جوابي عليها
ثم
مقالة وَصِيــلَـة بالموضوع

"قرأت مقالتك عن اكتساب اللغة العربية في المرحلة المبكرة، فوجدتني أوافق على كل حرف فيها بحماس..."....


لقد وصلتني هذه الرسالة من الپروفسور سليمان جبران، رئيس قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة تل أبيب. لقد استأذنته طبعًا بنشر رسالته هنا في موقعي الخاصّ لما فيها من دعم يأتي من أستاذ متمرّس في اللغة العربية، آدابها ونحوها، بالإضافة إلى حرصه وجهوده المبذولة من أجل إيجاد حلول تدفع إلى تطوير اللغة العربية ابتغاء مجاراة هذا العصر في جميع مناحي الحياة. في نهاية الرسالة، أنشر جوابي عليها، وبالإضافة إلى ذلك أنشر مقالة الأستاذ سليمان جبران التي وصلتني وهي تتمحور حول مسؤولية أصحاب اللغة العربية عن الوضع الذي آلت إليه في هذا العصر.

_____________

أوّلاً -الرسالة

الصديق سلمان،

سلامات وتحيات من القلب. أقرأ لك شذرات هنا وهناك، في هآرتس مثلا، فأعجب بما أقرأ وأتمنى لو كنتُ أكثر شجاعة لأقول معظم ما تقوله. الفرق بيننا نقطتان، كما ترى، لكن الفرق الحقيقي أنك أكثر شجاعة وعنفًا....

كدتُ أنسى السبب المباشر لكتابة رسالتي هذه. قرأت مقالتك عن اكتساب اللغة العربية في المرحلة المبكرة، فوجدتني أوافق على كل حرف فيها بحماس. قلنا أقل من ذلك بكثير عن اللغة العربية فـ"طلع الجحش يشنهق"، وشتمنا كثيرون، شفهيا غالبا وكتابيا أحيانا، وأشبعونا فخرا باللغة العصماء!

من مقالتك المذكورة وصلت إلى موقعك، فرأيت عجبا عجابا، وها أنا مضيفه إلى "مفضلياتي"!
....
تحية ثانية، وإلى الأمام!

سليمان جبران
_________________

رسالتي الجوابية إلى الأستاذ سليمان جبران:

أهلا عزيزي،

لا تدري كم أفرحتني رسالتك هذه، وخاصة على خلفية ما يكتبه البعض من صنف أولئك الذين لا يفقهون شيئًا في هذه القضايا، وكلّ همّهم إطلاق الشعارات التي لا تشيع سوى الجهل بواسطة دغدغة العواطف الجيّاشة المعهودة إيّاها.

وضع اللغة العربية هو وضع مأساوي، وليس هنا فقط، بل في العالم العربي بأسره من حولنا. لم أشأ أن أردّ على سخافات وشعارات "أيتام تشيرنينكو"، لأنّهم ليسوا أهلا لذلك.

كلّ ما يشغل بالي هو مصير هذه الأجيال الشابّة والصعوبات التي سيواجهونها في النواحي المعرفية والأكاديمية، وفي سائر مناحي الحياة. فقط بمواجهة الحقائق يمكن السير في طريق ربّما تفضي إلى حلول.

لا أدري لماذا تسمّي ذلك شجاعة. أليس من واجب كلّ فرد فينا أن يواجه هذه الحقائق من أجل الوصول إلى حلول، خاصّة وأنّ الغاية المنشودة هي دفع وتطوير هذه اللغة وهذه المجتمعات؟

شكرًا مرّة أخرى على رسالتك، ففيها ما يشدّ على يدي من أجل مواصلة المشوار.
...

مع خالص المودّة،

سلمان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثانيًا: المقالة، وهي منشورة من قبل

سليمان جبران

ماذا عن مسؤوليتنا نحن؟



ما أكثرما نكتب ونقرأ في وضع لغتنا العربية في هذه البلاد. لا أستغرب أن يشيح القارئ بعينه عن مثل هذه المقالات، لأنها غالبا ما تردّد الكلام نفسه في وصف الأوضاع المزرية نفسها. قبل أيام قليلة، قرأت في هذا الموقع مقالة للصديق الدكتور حبيب بولس، عنوانها: لغتنا – هويّتنا وعنوان كرامتنا، وإذا هانت صرنا ضحايا الهوان!. وقبل مدّة كتب الدكتور حبيب ، على ما أذكر، مقالة أخرى ينذر فيها أنّ لغتنا العربية في خطر، بل إني لا أستبعد أيضا أن يكون صديقنا الحبيب كتب مقالات أخرى في القضيّة ذاتها. فاللغة العربية عزيزة عليه، ما في ذلك شكّ، وحالة اللغة كانت، وما زالت، لا تسرّ ولا تطمئن . ومن يراجع أرشيفات الصحف والمواقع الإلكترونية يجد مقالات أخرى طبعا، لكتّاب آخرين، تتناول المشكلة نفسها، وبالأسلوب نفسه إلى حدّ بعيد.

إذا نظرنا في هذه المقالات وجدنا دعاوى محدّدة تكاد تتكرّر فيها جميعا، يثبتها كتّابها كأنّما هي وقائع لا تستدعي سؤالا، ولا تقبل نقاشا. ولأن اللغة العربية عزيزة عليّ أيضا؛ قضيت عمري كلّه وأنا أحاول خدمتها، بكلّ الوسائل المتاحة وفي مختلف الميادين، رأيت أن أقول رأيي في هذه القضيّة الهامّة، من زاوية رؤيتي الخاصّة. قد يبدو في مواقفي بعض "النشاز" في تقييم ما تواضعنا على ترديده طويلا بشأن أوضاع هذه اللغة والأسباب التي آلت بها إلى هذه الأوضاع. لكنّ عذري الوحيد هو أني أحبّ هذه اللغة كما لو كانت من ذاتي، وآسى كلّ الأسى لحالتها الراهنة، وإن اختلفتُ عن كثيرين من الكتّاب الذين تناولوا هذه القضيّة في تفسيراتي واجتهاداتي.

من المحاور المشتركة، في المقالات المذكورة، الزعم بأنّ لغتنا العربية في هذه البلاد في خطر. صحيح أنّ اللغة العبرية تزاحم العربية بنجاح باهر على ألسنة الناس في الشارع، وعلى أقلام الصحافيين والكتّاب أحيانا. وصحيح أنّ اللغة المعيارية لا يجيدها ، في الحديث بوجه خاصّ، إلا نسبة قليلة من الكتّاب والمثقّفين. هذه الظواهر تدلّ طبعا أنّ لغتنا العربية في حالة ضعف وانحسار، إلا أنها غير مهدّدة بالخطر ولن تؤول إلى زوال. صمدت العربية في الخمسينات والستينات، حين كنّا أقليّة قوميّة هامشيّة، تعاني الاضطهاد والقمع سياسيا واجتماعيا وثقافيا. وصمدت في ظلّ الحكم العسكري، وفي ظروف القطيعة عن العالم العربي وتجاهل "ذوي القربى" المطبق للعرب والعربية في هذه البلاد. فهل تكون لغتنا في خطر في هذه الأيام بالذات، وقد انقلع الحكم العسكري، وتعزّزت الأقلية الفلسطينية في إسرائيل عددا ومكانة ومؤسّسات، وانفتحت الحدود مع العالم العربي، وأصبح الكتاب في متناول كلّ من يطلبه، ووسائل الاتّصال من صحف وإذاعات وفضائيات ومواقع إالكترونية لا قبل لنا بإحصائها فعلا؟ اللغة العربية في أزمة، هنا وفي البلاد العربية أيضا، لكن لا خطر عليها ولا على مستقبلها. لا بدّ لنا من تشخيص الحالة بدقّة وموضوعية، بعيدا عن التهويل والمغالاة، إذا رغبنا في العثور على الدواء الناجع للخروج باللغة من ضعفها وتقصيرها.

في كلّ مرّة نتحدّث فيها عن اللغة العربية، والتعليم العربي بوجه عامّ، نسارع أيضا إلى اتّهام السلطات والمسؤولين دون غيرهم: "المسؤولية الأساسية تقع على وزارة التعليم [ ... ] نحن نعرف تماما أنها تسعى جاهدة، وعلى مدى سنوات كثيرة، تنفيذا لنهج سلطوي عامّ، لطمس معالم لغتنا وحضارتنا ولضرب تراثنا وتشويهه" ، يقول الأستاذ بولس. يبدو أننا ما زلنا نردّد الخطاب السياسي القديم، بقوّة الاستمرار، تجنبا لنقد ذاتنا وتشخيص عيوبنا. ليس من "الشطارة" في شيء نقد "السلطات" في هذه الأيام، وشتمها أيضا. لا نعيش اليوم تحت سلطة الحكم العسكري، حين كان المعلّم يطرد من عمله لتأييده الحزب الشيوعي أو لشرائه "الاتحاد". لا يفهمنّ أحد من كلامي هذا أني أجهل تاريخ هذه السلطات أوأتجاهل سياسة التمييز التي تنهجها. لكنني لا أرضى لأنفسنا أن نلعن "الشيطان" كلّما زلّت بنا القدم لقلّة خبرتنا ويقظتنا. من واجبنا مقاومة كل تمييز بضراوة ، لكن من واجبنا أيضا نقد ذاتنا والتنديد بعيوبنا وأمراضنا دون هوادة.

ننتقل من التعميم إلى التفصيل أيضا: السلطات تميّز في الميزانيات، في عدد الساعات للصفّ أو الموضوع، وغالبا ما تعمل على تعيين المدير أو المفتّش وفقا لصلاته لا لمؤهلاته. هذا صحيح. إلا أن المناهج التعليمية نحن من يضعها ويقرّ أساليب تطبيقها. شاركت مع رفاق آخرين في لجان كثيرة لوضع مناهج اللغة العربية. لم يشارك في هذه اللجان أحد من "المسؤولين" ، ولم نتلقّ الأوامر من أحد، ولو حاول أحد أن يتدخّل في عملنا ونهجنا لرفضنا العمل أصلا. نحن أيضا من يدخل الصفّ، ويعلّم أولادنا اللغة العربية وغير اللغة العربية على مدار السنة. نحن أيضا من يربّي النشء الجديد، في البيت والشارع وساحة المدرسة، وفي حصص التربية في الصفّ . ونحن أخيرا، في السلطة المحلية ، من يرعى مصلحة المدرسة، ويحقّ له التدخّل أيضا في مناهجها وبرامجها. بعد تفصيل المسؤوليات هذا، من هو المسؤول الأوّل عن فشل التعليم في مدارسنا، أو تدنّي مستواه: نحن على اختلاف مواقعنا ومهمّاتنا، أم السلطة وسياستها المجحفة، وهي مجحفة فعلا؟ في المدارس الثانوية، بشكل خاصّ، تضطلع السلطة المحلية بكل المسؤوليات تقريبا: تشرف على المدرسة، وتدفع الرواتب، وتنفق على البنايات والتجهيزات، وهي أخيرا العامل الأوّل في تعيين المدير وطاقم المعلمين والموظّفين. فهل أوضاع التعليم في الثانويات خير منها في الابتدائيات والإعداديات؟ وهل "سياسة" الرؤساء والتحالفات الفئوية تفضل سياسة المسؤولين والوزارات؟ ألا يعيّن المديرون والمعلّمون هنا أيضا بناء على القرابات والتصويت في الانتخابات لا على العمل المخلص والمؤهّلات؟ لا حاجة إلى التوسّع والتفصيل في "نشاطات" السلطات المحلية في المدارس، وفي غير المدارس، فهي معروفة للقاصي والداني، وتحتاج إلى صفحات وصفحات!

نردّد في مقالاتنا أيضا أن "العيب ليس في اللغة". لكن من حقّنا أن نسأل أيضا: هل اللغة العربية التي نعلّمها أطفالنا خالية من كلّ العيوب، هل هي لغة عصرية سائغة للمتعلم والمتحدث؟ لماذا نجد "الكثيرمن مثقفينا وأدبائنا ومعلّمينا لا يجيدون العربية ويتهرّبون منها إلى العبرية وغيرها" ، بكلمات الدكتور بولس؟ هل يمكننا اتّهام كلّ من لا يجيد العربية بالضحالة والغباء؟ هل يتهرّبون منها إلى العبرية لأن العبرية هي لغة السلطة والمؤسسات فحسب؟ أليست العبرية أكثر طواعية ومجاراة للعصر، يجد فيها الرجل العادي والمثقف كل أو جلّ ما يلزمه في التعبير عن الحياة المعاصرة بكلّ مستحدثلتها المادّية والفكرية؟ هذه واقعة لا تخفى على أحد منّا في هذه البلاد، لكنّنا لا نقرّ بها، عادة، لأن اعترافنا بتقصير لغتنا من شأنه الإقراربضعفنا والمسّ بعزّتنا ! كنت أظن أننا وحدنا هنا من يعرف هذه الواقعة، دون غبرنا. اسمعوا معي رأي الأستاذ أحمد مختار عمر، أستاذ اللسانيّات المعروف، وعضو مجمع اللغة العربية في القاهرة : " ما يلفت النظر في التجربة اليهودية السرعة المذهلة في تنفيذها، وفاعليتها، وشمولها بدرجة جعلت هذه اللغة شبه الميّتة – في وقت قصير لا يزيد على مائة سنة – هي لغة الحياة، ووسيلة الاتصال داخل الدولة الحديثة، ووافية بالمراد لكل الأفراد من كلّ الجنسيات، ولجميع الأغراض، سواء كانت اجتماعية، أو تقنية في مجتمع متقدّم" ( قضايا فكرية، العدد 17- 18، ص 66). علينا أن نعترف إذن: تقصير العربية عن اللغات المعاصرة المتطوّرة هو عامل هامّ، ولا أقول العامل الوحيد طبعا، في "تهرّب" الكثيرين إلى العبرية، أوغيرها من اللغات.

علينا الاعتراف أيضا أن اللغة العربية لغة صعبة، دونما مفاخرة أو مكابرة. هذا ساطع الحصري، داعية القومية العربية المعروف، يؤكّد صعوبة لغتنا بقواعدها "الخالدة" دونما تغيير أو تبديل: " من المعلوم أنّ قواعد الفصحى في حالتها الحاضرة، معقّدة كلّ التعقيد، وصعبة أشدّ الصعوبة، وبعيدة عن اللهجة الدارجة بعدا كبيرا. فيجدر بنا أن نتساءل: هل من الضروري أن نتمسّك بجميع تلك القواعد التي وضعها أو دوّنها اللغويون منذ قرون بعيدة؟ هل يتحتّم علينا أن نصرف قوانا في سبيل نشر وتعميم جميع تلك القواعد والأساليب؟ ألا يمكن أن نختصر ونبسّط اللغة الفصحى، ونشذّبها تشذيبا معقولا، يكسبها شيئا من السهولة من غير أن يفقدها ميزتها التوحيدية؟ "( ساطع الحصري: في اللغة والأدب وعلاقتهما بالقوميّة، بيروت، 1985، ص 30). اللغة العربية، في نحوها بوجه خاصّ، لم تعرف تجديدا ولا تشذيبا ولا تبسيطا ، لا قبل استغاثة الحصري هذه ولا بعدها. كثيرون أيضا غير الحصري، من أدباء ورجال لغة ومفكّرين، نادوا بتجديد اللغة ونحوها، بل إنّ بعضهم قدّم خططا عينية واضحة، لا شطط فيها ولا مغالاة، إلا أنّها ظلّت في الكتب ولم يأخذ بها أحد: " فنحن نتغنّى يوميّا بجمال هذه اللغة وعروبتها وقدسيّتها، ولكنّنا نطبّل ونزمّر لها دون أن نخدمها نحويّا أو معجميا أو لسانيّا" ( حسام الخطيب: اللغة العربية، إضاءات عصرية، القاهرة، 1995، ص 34).

الازدواجية أيضا، لغة محكيّة طبيعية سائغة وأخرى معيارية مكتسبة معقّدة، هي من معوّقات اكتساب اللغة في المدرسة وإجادتها حديثا وكتابة. يدخل الأطفال إلى المدرسة بذخيرتهم من المحكيّة، فتأخذهم المعلّمة فجأة إلى مجاهل المعيارية الباردة، لا يجدون فيها أنفسهم ولا يعرفون طريقهم. يزعم "الغيورون" طبعا أن محكيّتنا لا تختلف كثيرا عن المعيارية التي نلقّنها للصغار، لكنّنا نعرف أنّها تختلف عنها نحوا وصرفا ومعجما وأصواتا، بحيث يمكن اعتبارها لغة قائمة بذاتها! وبصدد الحديث والكتابة باللغة المعيارية : حتى " المتمرّسون " منّا غالبا ما يفكّرون في المحكية ثمّ "يترجمون" إلى المعيارية. بل إنّ هذا الانتقال غالبا ما يعوق التفكير أيضا: " نعتقد أنّ انتقال العربي من لغة سيّالة مرنة غير معربة، من لغة لا تحتاج إلى عناء ولا إلى بذل مجهود، إلى لغة غريبة عن حياته اليومية، صعبة معقّدة تخضع لقوالب معيّنة، أمر يعوق الفكر. وعوضا عن أن ينصبّ الجهد الفكري في المعنى ينصرف إلى الشكل الذي يظهر فيه المعنى. والمعنى أصل والشكل فرع، أو ذاك جوهر وهذا عرض. هذه هي مشكلة ازدواج اللغة بالنسبة إلى الفكر" ( أنيس فريحة: نحو عربيّة ميسّرة، بيروت، 1955، ص 136- 137).

هذه المعوّقات، السياسة الرسمية والصعوبة والازدواجية في لغتنا ، لها دورها في تدنّي مستوى العربية، والتعليم العربي بوجه عامّ، ما في ذلك شكّ. إلا أنّها معوّقات لا يد لنا فيها، ولا قبل لنا بتغييرها. بكلمة أخرى، لا بدّ لنا من العمل في هذه الظروف، بل رغم هذه الظروف، بدل اتّخاذها ذريعة لتدهور اللغة العربية، والتعليم العربي بوجه عامّ. ثمّ إنّ هذه المعوّقات لا تبرّر الحضيض الذي آلت إليه اللغة العربية والتعليم العربي. ماذا عن العوامل الأخرى في العملية التربوية؟ ماذا عن المفتّشين، والمرشدين، والسلطة المحلية، والبيت، والمدرسة بمديرها ومعلّميها؟ على هؤلاء جميعا تقع المسؤولية المباشرة في المستوى المزري للغة العربية والتعليم العربي. المعلّم بالذات، هو العامل الأوّل في رأيي في هذه العملية، ويظلّ أمامه متّسع للارتقاء بالتعليم وبمستوى العربية، مهما كثرت المعوّقات وقست الظروف. إذا أردنا البحث عن أسباب تخلّف التعليم في مدارسنا فلنسأل أنفسنا قبل الآخرين: هل نؤدي واجبنا نحو أطفالنا ولغتنا وتراثنا كما يجب، هل نبذل قصارى جهودنا، كلّ في موقعه، لرفع مستوى مدارسنا وتلاميذنا ؟ في الماضي عانت مدارسنا ومجتمعاتنا من ظروف أقسى وأدهى، فما الذي يمنعها اليوم من تحقيق النجاح، رغم السياسة الرسمية والمعوّقات الموضوعية، إذا صدقت النوايا وتضافرت الجهود؟

***
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

رسالة في النّقْبَنَة والبَرْقَعَة


سـلمان مصـالحة ||

رسالة في النّقْبَنَة والبَرْقَعَة


يُقال إنّ صورة واحدة تسوى ألف كلمة. أي أنّ ما تراه العين يُلخّص قضيّة كاملة بكافّة جوانبها، وبكلمات أخرى فإنّ الصّورة تفعل في العقل فعل المثل في المقولات الشعبيّة، إذ يركم المثل في جملة مقتضبة تجارب المجتمع دون الحاجة إلى الإطناب في الحديث. وبهذا المعنى فإنّ الصّورة التي يقع عليها النّظر تركم في ذهن المُشاهِد تصوّرات صامتة في مسألة متشعّبة دون الحاجة إلى كلمات صائتة. هكذا تتحوّل الرؤية البصريّة إلى رؤيا ذهنية. ومناسبة الحديث حول هذا الموضوع هو الصورة المرفقة التي التقطتها عدسات وكالة "رويترز" وعمّمتها على وسائل الإعلام.

عن الكتابات الفلسطينيّة بالعبريّة

سـلمان مصـالحة 
عن الكتابات الفلسطينيّة بالعبريّة

قبل مدّة وصلني بريد إلكتروني من الزّميل نائل الطوخي ذاكرًا لي فيه إنّه يُعدّ تقريرًا شاملاً للنشر في “أخبار الأدب” القاهرية. والتقرير يدور حول كتابات بعض الفلسطينيّين من مواطني إسرائيل باللغة العبرية.

لقد سألني نائل في رسالته إن كنت مستعدًّا للإجابة على عدّة أسئلة تتعلّق بالموضوع. وقد أجبته بالإيجاب بالطبع. وبالفعل فقد أرسلت له إجاباتي على أسئلته.

وأخيرًا نُشر التقرير في “أخبار الأدب”، غير أنّي وجدت أنّ الإجابات قد حذف الكثير لكثير منها. ولا بأس في ذلك، فهذا من مسؤولية نائل أوّلاً ومن بعده المحرّر في “أخبار الأدب”.

لكن، ومن جهة أخرى، ولأنّ الموضوع مهمّ فقد رأيت أن أضع الأسئلة التي وصلتني، مرفقة بإجاباتي عليها كاملة، وذلك لتعميم الفائدة.
***
الأسئلة والإجابات كما أرسلتها:

أولا، ما الذي يدفع مبدعا عربيا للكتابة بالعبرية، ما إحساسك إزاء أزمة هويتك هنا؟

هذا السؤال مؤلّف من شقّين، ويفترض في طرحه بهذه الصّورة أنّ هنالك رابطًا بينهما. لا أعتقد أنّ ثمّة خيطًا واضحًا يصل بين شقّي السؤال. على كلّ حال، سأحاول من خلال الإجابة تبيان ما قد يلتبس في ذهن البعض في هذه القضايا.

أبدأ فأقول، إنّ الكتابة باللّغة العربيّة على العموم، من المحيط إلى الخليج ومن السودان إلى الشام، هي كتابة بلغة مُكتَسَبة في المدرسة، وليست لغة أمّ بأيّ حال من الأحوال. وبكلمات أخرى، الكاتب العربي، أينما كان، لا يكتب بلغة أمّه، لأنّ لغة أمّه هي اللّغة المحكيّة: مصريّة، مغربية، تونسية، سورية أو عراقية إلى آخر هذه القائمة، وهذه اللّهجات على تنويعاتها هي هي لغة / لغات الأمّ. أمّا هذه اللّغة التي أكتبها في هذه الإجابات فهي ليست لغة أمّ. إنّ هذه الازدواجية اللّغوية المزمنة، مضافة إلى تفشّي الأميّة، هي برأيي من بين المعوقات المركزية التي تقف حجر عثرة في طريق المجتمعات العربية بصورة عامّة. يجب أن تبقى هذه الحقيقة في البال لدى التطرّق إلى مثل هذه المسائل.

لهذا السبب أيضًا، فإنّ كلّ لغة أخرى يكتسبها الفرد، غير العربية المعيارية، وبمدى عمق هذا الاكتساب للغة، تصبح هذه اللغة الجديدة في نهاية المطاف شبيهة باللغة العربية المكتَسَبَة هي الأخرى في المدرسة.

اللغة، أيًّا كانت هذه اللّغة، هي أداة الكاتب في كلّ زمان ومكان. وفيما يخصّ الكتابة بلغة أخرى غير العربيّة، كالعبريّة مثلاً، يجدر التّفريق بين حالتين. فهنالك أشخاص لا يجيدون الكتابة بالعربيّة لأسباب كثيرة ليس هنا المجال لتفصيلها الآن، بينما هم يجيدون الكتابة بالعبريّة فقط. فهل ستطلب من هؤلاء أن يكفّوا عن الكتابة لأنّها ليست لغة أمّهم؟

أمّا فيما يتعلّق بي شخصيِّا، فأنا أشبّه اللّغة بالآلة الموسيقيّة لدى الفنّان الموسيقي. لا أعتقد أنّك كنت ستطلب من موسيقي أن يعزف على آلة واحدة فحسب إذا كان يجيد العزف على أكثر من واحدة. كما تعلم فأنا أعشق اللغة العربيّة، لغتي، ولم ولن أتنازل عنها بأيّ حال من الأحوال. وكما تعلم أيضًا فأنا أواصل الكتابة بهذه اللّغة، لغتي القومية، فلا خوف عليها من جهتي. ولكن وفي الوقت ذاته، لمّا كانت اللّغة العبريّة هي آلة موسيقيّة أخرى أجيد العزف عليها فإنّي أحاول العزف عليها أيضًا. ستسقط الحساسية عن هذا السؤال عندما نفرّق بين اللّغة كأداة تعبير وبين الأيديولوجيّات والسياسة. يجب ألاّ ننسى أنّ اللّغة العبريّة هي جزء هام من النّسيج اللّغوي السّاميّ، بل وأستطيع أن أؤكّد لك أنّك كعربيّ ومسلم لا تستطيع أن تفهم التراث الإسلامي على حقيقته دون معرفة اللّغة العبريّة، وقد أشرت إلى بعض هذه الجوانب في بعض الأبحاث التي نشرتها باللغة العربيّة.

أمّا بخصوص الشقّ الثاني من السؤال، فأنت تفترض وجود أزمة هويّة. إنّ سؤال الهويّة، على كلّ حال، هو سؤال كبير يحتاج إلى بحوث معمّقة. إنّه سؤال مطروح على مستوى العالم بأسره. الهويّة على العموم ليست أمرًا جامدًا وثابتًا، بل هي تتحرّك وتتشكّل في ظروف متغيّرة وتحت مؤثّرات متنوّعة من الناحية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية إلخ. فلو نظرنا إلى هذا العالم العربي من حولنا فإنّنا نرى بوضوح كلّ هذا التّخبّط الكبير في مسألة الهويّة. إنّه تخبّط لا يقتصر على قطر دون آخر بل هو يشمل كلّ هذه الأقطار بلا استثناء. ثمّ إنّ كلّ هذه الهويّات القطريّة التي تتحدّث عنها، ما هي إلاّ نتاج حدود رسمها الاستعمار في هذه المنطقة من العالم.

خلاصة القول حول هذا السؤال، كلّ من يقصر هويّته على حدود رسمها له الاستعمار الأجنبي فهذا شأنه هو وليشرح لنفسه أوّلاً هذه الهويّة الاستعماريّة التي يرتضيها لنفسه. أمّا أنا فلا يمكن أن أقصر هويّتي على ما يضعه لي الآخر من حدود استعمارية. إنّ هويّتي الثقافية الأولى هي عربيّة أوّلا وقبل أيّ شيء آخر، وهي شاميّة من ناحية الفضاء الجغرافي. إنّها هويّة عربيّة ثقافيّة تفصل العروبة عن الدّين، كلّ دين. فنحن ننتمي إلى حضارة عربيّة منذ ما قبل الإسلام وما قبل اليهودية وما قبل المسيحية. هذا هو الأصل الذي ننتمي إليه، وليس أيّ شيء آخر. ومن ناحيتي أؤكّد على أنّ هذه الهويّة التي أعنيها هي هويّة لغويّة في الأساس. أقول كلّ ذلك مع التأكيد على أنّ هذه الهويّة منفتحة على العالم وليست متقوقعة ومنغلقة على ذاتها.

ثانيا: من أول أنطون شماس مرورا بك وصولا إلى سيد قشوع وأيمن سكسك، هل ترى أن هناك ملامح محددة للأدب الفلسطيني المكتوب بالعبرية؟

هنالك نوعان من هذا الأدب، ويجب الفصل بينهما. نوع واحد هو عبارة عن رواية فلسطينية بشخصيّاتها وأجوائها وأحداثها، ولكنّها مكتوبة بالعبرية من قبل كاتب فلسطيني. وثمّة نوع آخر من الكتابة وهو كتابة لكتّاب فلسطينيّين بالعبريّة تحمل في طيّاتها كلّ ذلك التوتّر القائم لدى الأجيال "الفلسطينيّة الإسرائيليّة"، إذا ما استخدمنا هذا التعبير لتوصيف حالة الفلسطينيين من مواطني إسرائيل. ولمّا كانت كلّ هذه الأجيال على العموم الآن تقرأ العبرية، فإنّها أضحت تقرأ عن ذاتها بلغة أخرى غير لغة أمّها.
من جهة أخرى، هذه الكتابات الأدبيّة، الشعرية والروائية، على القارئ العبري، الإسرائيلي اليهودي، مرآة پانوراميّة عاكسة لمساحات أوسع في الساحات الخلفيّة للفضاء الإسرائيلي. وهي مساحات ما كان ليراها هذا القارئ لولا هذا النّؤع من الكتابات.

وفي جميع الأحوال، إنّ في هذا النوع من الكتابة الأدبيّة ما يمكن أن أُطلق عليه "إصابة عصفورين بحجر واحد". فمن جهة، إنّ هذه الكتابة توسّع فضاء "الفلسطيني الإسرائيلي" من خلال تخطّي الكثير من الرقابات الاجتماعية، الدينية والثقافية التي تتّسم بها الكتابة العربية. ومن الجهة الأخرى فإنّها تفرض نفسها على القارئ العبري، شاء ذلك أم أبى. إنّها تفرض عليه الخروج من بوتقته المُغلقة وتقوم من خلال ذلك بعمليّة هدم لجزء من من الحدود الإثنية اليهوديّة للأدب العبري.

ثالثا: ماذا تفعل إزاء الاتهامات من الجانبين، الجانب العربي الذي يرى في كتابتكم بالعبرية تخليا عن الهوية الفلسطينية، والجانب الإسرائيلي الذي يقلقه وجود صوت فلسطيني يعبر عن أزمته ويتعامل معه مباشرة بلغته مما لا يوفر له فرصة لتجاهله؟

لا أعتقد أنّ هنالك من يتّهم مغاربة، جزائريين، توانسة أو لبنانيين لمجرّد أنّهم يكتبون باللغة الفرنسية على سبيل المثال. لذلك فإذا كان ثمّة من يُطلق هذا النوع من الاتهامات فيبدو أنّ اتهاماته نابعة من مكان آخر لا علاقة له بالموضوع. أمّا من جهتي، فقد ذكرت أنّي أعزف على آلتي اللّغوية العربية، وعلى آلتي العبرية المكتسبة هي الأخرى، ولو امتلكت آلة، لغة أخرى وكنت واثقًا من امتلاكي لها بعمق، لعزفت عليها أيضًا.

على كلّ حال أعتقد أنّ هنالك، فيما ذكرت من قبل، إجابات على كلّ هذه التساؤلات.

***
لقراءة التقرير كما نشر في “أخبار الأدب”، انقر هنا.
__________________

راشومون متوسّطي

سـلمان مصـالحة | 

راشومون متوسّطي

 
لعلّ خير ما أبتدئ به هذا الدعاء: "إلهي! / أعوذُ بك الآن من شَرّ أهلي / يبيعون خَمْرًا رديئًا / ويُؤذونَ ليلَ السَّكَارى البريءْ"، وهي كلمات دعاء من قصيدة للشاعر التونسي محمّد الصغير، وهو الشاعر الذي شاء أن يأخذ اسم قبيلته "أولاد أحمد" بدلاً من اسم محمد الصغير. وهكذا أضحى، بين ليلة وضحاها، مفردًا بصيغة الجمع كما لو كان اسمًا لشركة مقاولات أو لافتة مرفوعة على متجر عائليّ. 

لقد كان أولاد أحمد قد قرأ هذه القصيدة جالسًا على يسار سميرة نقروش، وهي الجزائرية التي أدارت الجلسة الصباحيّة هذه من صباحات مهرجان أصوات البحر المتوسّط، والذي التأم للمرّة الثالثة عشرة في بلدة لوديف، جنوب فرنسا، في النصف الثاني من شهر تموز المنصرم. 

لقد عدت، بعد مرور أحد عشر عامًا، إلى بلدة لوديف في الجنوب الفرنسي. لقد كنت سمعت قبل مجيئي عن حيثيّات خلافات نشبت حول المهرجان بين الإدارة في السنوات السابقة وبين البلديّة لا أعرف تفاصيلها ومدى صحّة ما أشيع عنها، ولذلك لن أدخل في هذه المعمعات، إذ لا علاقة لها بموضوع هذه المقالة. وهكذا، فإنّ التعوّذ من شرّ الأهل، على ما يبدو، ينفع لكلّ زمان ومكان وبكلّ اللّغات. 

*** 

وعلى كلّ حال، فرغم المدّة الزمنية القصيرة التي أتيحت للطاقم الإداري الجديد للمهرجان مدعومًا من بلديّة لوديف للنهوض بالمهرجان، فقد بدا واضحًا التّنظيم الجيّد للقراءات حيث توزّع الشعراء على القراءات دوريًّا على مواقع مختلفة في البلدة، بدءًا من القاعات وردهات البيوت والساحات العامّة وانتهاء بالقراءات على إيقاع خرير النّهر (الوادي) الذي يقطع هذه البلدة الوادعة. وكلّ الفضل يعود لهذا الطاقم الجديد المدعوم من البلديّة، حيث ظهر التّفاني في العمل بغية مواصلة مشوار المهرجان وإنجاحه. 

كانت النهارات مكرّسة للقراءات الشعريّة، بينما احتلّت أماسي المهرجان عروضٌ موسيقيّة في مدرجات أُعدّت خصّصيًا لهذا الغرض. وقد تشكّلت في الليالي أيضًا حلقات موسيقيّة مرتجلة في الهواء الطّلق في ساحة الكاتدرائيّة حيث كان يجتمع الجمهور للاستماع، للشّراب وللدردشة، أو للتمايل على وقع الأنغام والرّقص، كلّ على ليله وليلاه، حتّى ساعات متأخّرة. 

لقد كان واضحًا خلال أيّام المهرجان أنّ المنظّمين قد أُفردوا بين القراءات العديدة للشعراء فسحات زمنيّة حرّة للشعراء القادمين من بلدان مختلفة للتمتّع بأجواء البلدة، للقاءات فرديّة هنا وهناك، على فنجان قهوة، كأس نبيذ محلّي لذيذ أو ما سوى ذلك. وهذه اللقاءات الشخصيّة مهمّة وهي أحيانًا تُنافس النصوص الشعريّة التي تُقرأ على انفراد. وذلك لأنّ اللّقاءات تكشف في الكثير من الأحيان ما بطن من أمور خلف تلك النّصوص والسطور. كما أنّها أحيانًا تُلقي ضوءًا على ما استتر خلف الابتسامات المتبادلة بين البعض من توتّرات مردّها إلى الشّلل والملل والنّحل الثقافية والاجتماعية والسياسية. وفي نهاية المطاف أحمد ربّي على كوني أعيش بعيدًا عن كلّ ذلك. 

*** 

هل هو حقًّا مهرجان متوسّط؟ إنّ الاسم الذي أُطلق على المهرجان، "أصوات المتوسّط" هو على ما يبدو اسم مطّاط، إذ لا يقتصر القادمون إلى لوديف على البلاد الحادّة بهذا البحر. فلو نظرنا إلى أسماء البلاد التي يأتي منها الشّعراء إلى هذه البلدة، نجد على سبيل المثال أسماء مثل كوسوفو، مقدونيا، ألمانيا، البرتغال، العراق، وفي سنوات سابقة وجدنا البحرين، السعودية وما إلى ذلك. وعلى ما نعلم فكلّ هذه البلدان لا تحدّ بهذا البحر المتوسّط. فهل هنالك مقولة أخرى وراء هذه الحقيقة، مثلاً كأن يكون هذا المنتدى الشعري نوعًا من تثاقُف الشمال بالجنوب والغرب بالشّرق، أو شيئًا من هذا القبيل؟ أصارحكم القول: لا أملك إجابة وافية على هذا التّساؤل. قد تكون الإجابة نعم وقد تكون لا. 

وعلى كلّ حال، إذا كان ثمّة قصد تثاقفي من وراء هذا المهرجان، فإنّ من يقرأ عن مجرياته كما يُنشر باللغة العربية مقارنة بما يُنشر بلغات أخرى، فقد يأخذ المرء انطباعًا كما لو أنّه إزاء مهرجانات مختلفة تجري في عوالم مختلفة لا تمتّ إلى بعضها البعض بصلة. فقارئ الأخبار بالعربية يأخذ انطباعًا خاطئًا، كما لو أنّ المهرجان عربيّ بامتياز، لا وجود لأصوات ولغات أخرى فيه. 

في أحد الصباحات، أذهب قبل الظّهر لإحدى القراءات، فأستمع إلى كاترينا إليوپولو، شاعرة يونانية شابّة، تقرأ عن "امرأتها" المفترضة : "امرأتي ليستْ شَجَرَة / إنّها حجرٌ / عندما أقضمُها تَتكسّرُ أسناني./ …. / أستطيعُ فقط أنْ أُغيّرَ فَضاءَها / وهكذا أرْميها بَعيدًا / وبعدئذٍ أعْدُو مثلَ كلبٍ يَبْتَلعُ المسافات / لأُعِيدَها إليّ"، من كلمات قصيدتها "قصيدة حبّ". ثمّ أستمع إلى عزف محموت دمير الكردي التركي على السّاز. أتساءل، هل يجب أن يكتب اسمه بالعربيّة محمود ضمير، أم أبقي عليه كما هو في التركية؟ مهما يكن من أمر، فهو عازف بارع على آلة السّاز وهو مغنّ بارع أيضًا في التركية والكرديّة وقد ألهب الجمهور في ليالي ساحة الكاتدرائيّة. 

ثمّ استمع إلى قراءة كويتيم پاشاكو، شاعر غجري من كوسوفو، وأنصت للترجمة إلى اللّغة الفرنسيّة التي لا أتقنها فأستعين بصديقتي لفهم جوّها العامّ. وقبل أن ينهي قراءته، يقف ويخطو باتّجاه البيانو في طرف المنصّة ليعزف على مسامعنا لحنًا غجريًّا حزينًا مغنّيًا شيئًا بلغة لم أفهمها بالطّبع. ولا بأس في ذلك، فكثيرًا ما نستمتع بالميلوديات دون أن نفهم نصوصها، فالموسيقى عابرة لحدود اللّغة منذ أن تبلبلت الألسن في بابل. لاحقًا يتبيّن لي من حديث عابر معه إنّه بالإضافة إلى الشّعر فهو مهموم جدًّا بأحوال كوسوفو، وعلى وجه الخصوص ينصبّ اهتمامه حول حقوق الأقليّة الغجريّة في هذه الدولة الوليدة الجديدة بعد أن انفرطت سبحة يوغوسلافيا والبلقان بأسره. فماذا أقول للشاعر الغجريّ الآن؟ هل أردّد على مسامعه قول امرئ القيس من البحر الطويل : "أَجارتَنا إنّا غَريبان ها هُنا - وَكُلّ غَريبٍ للغَريب نَسيبُ"؟ غير أنّي أعدل عن ذلك. فما له، لنا، ولامرئ القيس الآن في هذه الساعة غير الجاهليّة في الجهة الأخرى من هذا البحر المتوسّط. 

وهكذا، بين قراءة وأخرى تختلط كلّ الأصوات واللّغات في الأذن خلال الأسبوع، من الكرواتية، البرتغالية، الإيطالية، الإسپانية، اليونانية، العبريّة وغيرها من لغات المتوسط وغير المتوسط، مع اللغة العربية القادمة من أقطار عديدة. وكلّ هذه تمتزج مع اللغة الفرنسيّة شعرًا في الأصل وعبر الترجمة من اللّغات الأخرى. لكنّ شيئًا ما يحزّ في النّفس وهو ما سمعته من غير واحد من الفرنسيّين الّذين أثق بهم بخصوص الترجمات من العربيّة حيث ذكروا أنّ أسوأ الترجمات للفرنسيّة هي تلك الّتي جاءت من اللّغة العربيّة. أتساءل بيني وبين نفسي، هل هذه الحال هي قدر ملازم للعربيّ أنّى حلّ وأنّى ارتحل؟ 

*** 

شيء عن الموسيقى: في أحد جوانب الكاتدرائية المطلّ على حديقة عامّة بُني مدرج خاص ومنصّة للعروض الموسيقيّة. أذهب لعرض الفلامنكو والأندلسيّات برفقة سميرة. فجأة أسمع أنّ بعض الغناء الأندلسي، يرتفع في الأجواء باللغة العبريّة إضافة إلى بعضه بالعربيّة. أقول لسميرة ذلك فتتفاجأ، فأترجم لها بعض الغناء الذي كان أشبه بمناجاة دينيّة صوفيّة. ثمّ نلاحظ أنّ المغنّي كبير السنّ يضع على رأسه الكيپاه، وهي قبّعة صغيرة توضع على الرأس علامة على كونه يهوديًّا متديّنًا. وبين هذا وذاك، بين الإيقاعات المغربيّة وبين الغناء الإسپاني، تأخذنا راقصة الفلامنكو إلى عوالم ساحرة أخرى. ضربات نعليها تتصادى في ليل لوديف، بينما يتحرّك جسدها بإيقاعات متسارعة مشرعة يديها ناعفة بهما هواء هذه الليلة سفلاً وعلوًا، يمينًا ويسارًا، كما لو كانت مصارعة ثيران في حلبة تأخذ بالاتّساع تدريجيًّا في عيون الجمهور المشدوهة، ثمّ في أياديهم المصفّقة لها. وهكذا تتعالى في هذه الليلة الإيقاعات ممزوجة بحركات الجسد وبالكلمات العربية الإسپانية والعبريّة. 

ألتفت ورائي فأرى في الساحة العازف المغنّي محمود ضمير بين الواقفين الذين لم يجدوا مقعدًا في هذه الليلة. أتقدّم نحوه وأتحدّث إليه، فيُسرّ لي وهو العارف بأمور الموسيقى أنّ الموسيقى والألحان المغاربيّة فقيرة للغاية ولا تتّسم بأيّ عمق من الناحية الفنيّة ولا من ناحية التقنيّات. ولأنّي لستُ أفهم بالموسيقى بل أستمع إلى ما يروق لأذني فحسب، أحاول أن أسأل بعد عودتي إلى الوطن صديقًا فلسطينيًّا موسيقيًّا فاهمًا بهذه القضايا : هل صحيح ما أسرّه لي محمود ضمير بهذا الشأن؟ فيؤكّد الصّديق على هذا القول. 

لكن، هذا لا يعني أن موسيقى المشرق العربي بأحسن حالاً من شقيقاتها، فقد تركت أحد العروض بعد عشر دقائق فقط، فقد كان كونسرت الثلاثي الفلسطيني الّذي جرى في المدرّج الصغير باهتًا ومملاًّ جدًّا. وعندما سألت بعد عودتي صديقي الموسيقي الفسطيني عن رأيه في ذلك الثلاثي القادم من الشّرق قال لي متبسمًا إنّهم مثل شعر "فلان الفلاني"، وذكر لي اسم أحد مهابيل ما يُسمّى بالشعر الفلسطيني المحلّي، ففهمت قصده، فضحك وضحكت. 

خلافًا لذلك جاء في ليلة لاحقة كونسرت ثلاثي الجاز روزنبرغ في المدرج الأكبر، حيث التهب الجمهور بأسره من الحرفيّة الفنيّة والإتقان المحكم للعازفين، حيث أعاد الجمهور بالتصفيق الحادّ والصّفير هؤلاء العازفين أكثر من مرّة إلى المنصّة. حتّى أنّ الصديقة التي صرّحت قبل الأمسية إنّها قد لا تأتي للعرض لأنّها لا تحبّ الجاز فقد رأيت الفرح يتصبّب من عينيها ويديها في هذه الأمسية بعد أن حضرتها. 

*** 

وأخيرًا: دلالة جديدة لمصطلح الـ"ممانعة"؟ لقد توصلّت خلال أيّام المهرجان إلى قناعة أخرى. هنالك دلالة جديدة لمصطلح الـ"ممانعة". الآن فهمت أنّ مصطلح "الممانعة" يعني شيئًا آخر غير تلك الدلالات التي شاعت في الإعلام العربي. فلقد نما إلى أسماعي أنّ الشاعر السّوري عارف حمزة الذي كان مدعوًّا للمهرجان لم يستطع الحضور، مع أنّه حاول جاهدًا أن يأتي للمشاركة في المهرجان. وعلى ما فهمت من أقوال البعض فإنّه بعد أن توجّه لاستصدار جواز سفر بغية السّفر للمشاركة في المهرجان تبيّن له أنّ ثمّة أمرًا يحظر عليه الخروج من بلده. لم يكن الشاعر السّوري يعلم بهذا الأمر من قبل، كما لم يشرح له أحد سبب هذا المنع. هذه هي إذن، على ما يبدو، الدلالة الحقيقيّة لمصطلح "الممانعة" في عرف أنظمة من هذا النّوع. أي الـ"ممانعة" هي منع كاتب أو شاعر من مغادرة بلده للمشاركة في مهرجان دوليّ. "لا باس"، كما يلهج أخوتنا المغاربة، أو : "هيك الـممانعة وإلاّ بلاش"، كما نقول نحن في لهجتنا. 

إذن، والحال هذه، فلنتعوّذ في النهاية مرّة أخرى بكلمات التّونسي المفرد، أولاد أحمد: "صدَقتَ، إلهي. / إنّ الملوكَ – كما الرُّؤساءُ – / إذا دخلوا قريةً أفسَدُوها / فخرِّبْ قُصورَ الملوكِ / ليَصلُحَ أمرُ القُرَى".
***
نشر في: الأوان - منبر رابطة العقلانيين العرب

إنْ قالت النّار خُذني إلى البحر


سـلمان مصـالحة
 

إنْ قالت النّار خُذني إلى البحر

هَلِ الشِّعْرُ إنْسٌ غَرِيبٌ أَتَى راجِلاً
مِنْ مَكانٍ بَعِيد، وَسُرْعَانَ مَا
يَعْتَرِيهِ أُوَارُ النَّدَمْ؟
أَمِ الشِّعْرُ حِسٌّ خَفِـيتٌ تَوَارَى مَعَ
النّارِ حِينَ قَضَتْ نَحْبَهَا، إذْ مَضَتْ
فِـي اخْتِبارِ حُدُودِ الأَلَمْ؟

***

وَمَنْ يَحْمِلُ الصَّوْتَ لَيْلاً، بُعَيْدَ
اخْتِفاءِ الحَنِينِ الَّذِي أَشْبَعَ الذّكْرَياتِ
كَلامًا كَـثِيفًا نَمَا مِنْ عَدَمْ؟
وَمَنْ يَحْمِلُ النَّفْسَ، حِينَ تُفِـيقُ مِنَ
المَوْتِ، حِينَ سَتُبْحِرُ خَلْفَ عُيُونٍ
تَسَمَّرَ فِـيها السَّنَا حِقْبَةً، لَمْ تَنَمْ؟

***

وَإنْ قَالَتِ النّارُ للْقَلْبِ، خُذْنِـي
أَصِيلاً إلَى البَحْرِ؟ هَلْ يَسْمَعُ المَوْجُ
صَوْتَ الوَلِيدِ الَّذِي شَاقَهُ المَرْتَعُ؟
وَكَـيْفَ يَكُونُ الحَدِيثُ عَنِ القَلْبِ
بَعْدَ انْقِضاءِ الفُصُولِ؟ وَماذا يَصِيرُ
الرَّمَادُ الخَفِـيفُ إذَا مَسَّهُ المَاءُ؟
هَلْ يَنْفَعُ الشُّعَرَاءَ لِدَمْلِ الجِراحِ الّتِـي
وَرِثُوهَا أَبًا سائِلاً عَنْ أَبٍ؟

***

وَحِينَ يَغِيبُ الزَّمانُ عَنِ اللَّحْظَةِ،
وَتَعْلُو مِنَ الهَاوِياتِ الخُطُوبُ الَّتِـي
تَأخُذُ النَّفْسَ فِـي رِحْلَةِ اللاَّرُجُوعِ
إلَى حُلُمٍ سَابِقٍ، مَنْ يُعِيدُ الضِّيَاءَ
إلَى مُقْلَةٍ مَكَـثَتْ فِـي الغُرُوبِ؟
وَمَنْ فِـي الظَّلامِ سَيَرْسِمُ لَيْلاً
لَهُ ما لَهُ مِنْ صَفَا اللَّيْلَةِ؟

***

وَحِينَ يَصِيرُ المَكانُ كَـثِيبًا مِنَ
الحُزْنِ تَحْمِلُهُ الرِّيحُ أَنَّى تَرُوحُ.
وَحِينَ سَتُفْتَحُ، بَعْدَ سُبَاتِ
الخَرِيفِ، عَلَى مِصْرَعَيْهَا
القُرُوحُ. وَحِينَ، عَلَى شَفَةِ
القَفْرِ، يَنْمُو الضَّبابُ الجَدِيبُ.
وَحِينَ سَتُمْحَى الدُّرُوبُ
وَتَفْنَى عَلَى هذِهِ الأَرْضِ،

يَبْقَى الكَلامُ الجَرِيحُ
بُيوتًا مِنَ الشِّعْرِ، نَارًا تَوَقَّدُ
فِـي مَفْرَقِ الرُّوحِ.
يَأوِي إلَيْهَا، إذَا ما
أضاعَ الطَّرِيقَ، الغَرِيبُ.

***
قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!