ما بعد كترمايا

سـلمان مصـالحة

ما بعد كترمايا

"كترمايا أكثر من قرية"، يكتب خالد صاغية في "الأخبار" حول ملابسات الجريمة التي ارتكبت في قرية كترمايا اللبنانية، حيث نفّذ عامل مصريّ جريمة قتل بشعة بحقّ عائلة لبنانية. بعد أن قبضت قوى الأمن اللبنانية على المجرم وأحضرته لتمثيل الجريمة، جاءت ردّة فعل أهل القرية بأن اختطفوه بالقوّة من قوى الأمن ونفّذوا به جريمة بشعة هم أيضًا وجرجروه في شوارع القرية وعلّقوه على عمود كهرباء في ساحة القرية وسط هتافات الثأر. ويضيف الكاتب في مقالته: "كترمايا هي لبنان حين يتجرّأ على النظر إلى نفسه في المرآة." (الأخبار اللبنانية، الإثنين 3 أيار 2010).

لقد أخطأ الكاتب في اختزال لبنان بهذه القرية، فـ"كترمايا" ليست لبنان وحده. إنّها بغداد حيث يٍقتل الناس البسطاء في الأسواق تحت مسمّى "المقاومة". إنّها المغرب العربي. إنّها فلسطين حيث يُلقى البشر من الطوابق العليا. إنّها مصر كما تصل إلينا أخبارها بين فترة وأخرى. إنّها سورية حيث يُعلّق البشر في الساحات العامّة. إنّها قتل المرأة العربيّة بحجّة ما يسمّى زورًا وبهتانًا "شرف العائلة". إنّها في نهاية المطاف ثقافة الصحراء وذهنيّة الصحراء، إنّها "حضارة" كلّ شعوب هذه البقعة من الأرض، مشرقها ومغربها. فهي على هذه الحال منذ البدايات الأولى لظهور العرب على مسرح التاريخ بجاهليّتهم وإسلامهم.

لن نذكّر هنا بما أفتى ابن خلدون بشأن هذه الـ"حضارة" الصحراوية التي خرجت من جزيرة العرب. فقد خرجت هذه الحضارة من الجاهليّة حاملة معها كلّ موبقات الجاهليّة أنّى حلّت وأنّى ارتحلت، حتّى إلى ما وراء البحار. لا دولة ولا قانون ولا ما يحزنون، ما عدا قانون الثأر القبليّ البدائي المتجذّر كأذرع الأخطبوط في كلّ صقع من هذه الأصقاع.

يحقّ لنا بين فينة وأخرى أن ننظر إلى تاريخنا لكي نعرف حقّ المعرفة من أين يأتي كلّ هذا العنف. فلينظر القارئ إلى ما دوّنه لنا السّلف عن بعض الشّخوص الذين أضحوا رموزًا "تُحتذى" في ذهنيّات أهل هذه الحضارة، "حضارتنا" جميعًا. فها هو "القائد الرمز"، خالد بن الوليد، سيف الله المسلول، يأمر بقطع رأس مالك بن نويرة ليجعل من رأسه المقطوع أثفية لقدر يُطبخ فيها الطّعام لعسكره. فلنقرأ معًا: "كان مالك من أكثر النّاس شَعْرًا، وأنّ العسكر أثّفوا القُدور برؤوسهم، فما من رأس إلاّ وصلت النّار إلى بشرته، ما خلا مالكًا فإنّ القدر نضجتْ وما نضجَ رأسُه من كثرة شَعْرِه، ووقَى الشّعْرُ البشرةَ من حَرّ النّار أن تبلغ منه ذلك". (تاريخ الطبري: ج 2، 503؛ أنظر أيضًا: الأغاني للأصفهاني: ج 15، 293-294؛ أنساب الأشراف للبلاذري: ج 4، 10؛ الإصابة لابن حجر: ج 3، 482؛ الوافي بالوفيات للصفدي: ج 5، 529).

ليس هذا فحسب، بل إنّ التّراث يعلّمنا أنّ خالدًا بن الوليد، المدعو سيف اللّه المسلول، قد فعل ذلك لأنّه رغب في امرأة مالك، الّتي تشير إليها الروايات: "كانَ يُقال إنّه لم يُرَ أحسنُ من ساقيها" (الأغاني للأصفهاني: ج 15، 296). وبالفعل، "يُقال إنّ خالد بن الوليد تزوّج بامرأة مالك ودخل بها، وعلى ذلك أجمع أهلُ العلم". (الفتوح لابن أعثم: ج 1، 26).

ولنقرأ معًا ما يرويه لنا الطّبري عن مقتل الخليفة عثمان: "وأما عمرو بن الحمق فوثب على عثمان فجلس على صدره وبه رمق فطعنه تسع طعنات وقال: أمّا ثلاث منهنّ فإني طعنتهن للّه، وأمّا ستّ فإني طعنت إياهن لما كان في صدري عليه." (طبقات ابن سعد: ج 3، 74؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 3، 424؛ تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 39، 409). وبعد أن تمّ الإجهاز على عثمان، وهو خليفة المسلمين، فقد ألقي في دمنة لثلاثة أيّام، كما دوّن لنا السّلف: "عن مالك قال: لما قُتل عثمان رض أُلقي على المزبلة ثلاثة أيام." (الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر: ج 1، 322؛ أنظر أيضًا: الفتوح لابن أعثم: الفتوح لابن أعثم: ج 1، 430)، وذلك حتّى جاءت الكلاب ونهشته على المزبلة.

على هذا التاريخ المليء بالجرائم البشعة منذ البدايات الأولى يترعرع ويكبر أطفال العرب. لذلك، فإنّ ما جرى في كترمايا ليس صورة لبنان وحده، إنّه صورة هذا التراث العربي بأسره.

لقد شاهدت التقرير في إحدى المحطّات اللبنانيّة، وهو موجود في الإنترنت أيضًاويستطيع العالم بأسره مشاهدته. في التلفزيونات المتحضّرة يقومون بإخفاء جزء من الصورة وتمويهها لكي لا تظهر بشاعة الجريمة على الشاشة. إنّهم يفعلون ذلك حفاظًا على نفسيّات المشاهدين، والأطفال منهم بخاصّة. غير أنّ التلفزيون اللّبناني، وقد تكون محطّات عربيّة أخرى أيضًا قد بثّت كلّ تلك الصور الهمجيّة دون التفكّر فيما تبقيه هذه المشاهد من أثر في نفسيّات الأطفال العرب.

وهكذا ورغم تقادم السنين فلا يزال أطفال العرب يكبرون على هذا العنف الوحشي البدائي منذ العصور القديمة وحتّى عصرنا الحاضر، دون رقيب أو حسيب. المشاهد البشعة من تاريخنا القديم قد دوّنها لنا السّلف، أمّا في هذا الأوان فإنّ الصورة المتلفزة هي التدوين المعاصر الأكثر خطورة على نفسيّات المشاهدين. فأين علماء النّفس العرب، وأين علماء الاجتماع العرب من كلّ هذا؟ وأين أهل الثقافة العرب ومنظّمات حقوق الإنسان العربيّة، إن وُجدت أصلاً، من كلّ هذا؟ وأين منظّمات حقوق الأطفال من كلّ هذا؟ ولماذا لا يرفعون أصواتهم لوقف هذا الاعتداء التلفزيوني الوحشي على نفسيّات الأطفال العرب؟

خلاصة القول، إنّ "كترمايا" هي حقيقة كلّ هذا الشرق المأزوم منذ قرون طويلة. والسؤال الجوهري الّذي لا مناص من طرحه هو: حتّامَ ستبقى الحال على ما هي عليه؟ وقد آن الأوان أن نجد بعض الجرأة الأخلاقية على النّظر إلى أنفسنا العربيّة في المرآة.

أليس كذلك؟
***
المقالة نشرت في: الأوان - منبر رابطة العقلانيين العرب

أيضًا في:
شفاف الشرق الأوسط
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جلعاد شليط والضمير الغائب

سـلمان مصـالحة

جلعاد شليط والضمير الغائب

يجب التأكيد أوّلاً على أنّ جلعاد شليط هو جندي إسرائيلي وقع في أسر قوّات فلسطينيّة في غزّة خلال عمليّة عسكريّة على خلفيّة الصّراع الفلسطيني ضدّ الاحتلال الإسرائيلي المستمرّ منذ عقود. هذه الحقيقة وهذه الخلفيّة تضعان كلاًّ من العمليّة وأسر الجندي في خانة المشروعات الطبيعيّة الأمميّة لمن هو واقع في حالة صراع ضدّ احتلال. ولقد كُتب الكثير وقيل الكثير باللغة العربيّة حول قضيّة هذا الأسير الإسرائيلي القابع في غزّة منذ عدّة أعوام.

لن أتحدّث هنا في هذه المقالة عن موبقات الاحتلال الإسرائيلي، بجيشه ومستوطنيه، المتراكمة فوق صدور الفلسطينيّين منذ عقود. فكلّ هذه الموبقات معروفة للقاصي والداني، كما أنّ وسائل الإعلام، العربية منها بصورة خاصّة، وكذلك غير العربيّة بما فيها العبريّة أيضًا، تعجّ بهذه الأخبار والتحقيقات.

ولن أتحدّث في هذه المقالة عن مدى الحكمة في هذه العمليّة التي كلّفت الجانب الفلسطيني آلاف القتلى والجرحى، إضافة إلى الدّمار الّذي حلّ بغزّة وأهلها بعد أن انهال عليهم "رصاصًا مصبوبًا" على مرأى ومسمع من العالم، العربي والأجنبي. وها هو الحصار لا يزال مطبقًا على غزّة منذ ذلك الأوان دون أن يفعل هذان العالمان، لا الأجنبيّ ولا العربيّ، شيئًا يُذكر لأجل فكّ هذا الحصار.

كما لن أتحدّث عن عمرو موسى، أمين عام كتاتيب المشيخات العربيّة، الذي لم نسمعه أبدًا يطالب جمهورية مصر العربية ورئيسها بفتح حدود مصر مع غزّة لإنهاء الحصار فورًا. لا نفهم كيف يطلب حضرته من إسرائيل، وهي العدوّ في منظوره العروبيّ، بفكّ الحصار عن غزّة، ولا يطلب من بلده العربي، "الشّقيقة مصر"، بعمل ذلك. فهل هذا هو منطقه العروبيّ؟ وهل ثمّة عربيّ على وجه الأرض يستطيع فهم هذا المنطق أصلاً؟ لكن، ما لنا ولهذا.

بعد مرور أعوام على هذه القضيّة وملابساتها، ثمّة حاجة ماسّة إلى قول شيء لم يُقل بعد في اللغة العربية. لم يُقل بعدُ في اللغة الفلسطينيّة، على وجه الخصوص، وفي الشارع الفلسطيني المعني بهذه المسألة أكثر من غيره، لأنّها تخصّه مباشرة وتخصّ قضيّته.

كما أسلفت من قبل، فإنّ عمليّة أسر جندي، في حالة صراع مع الاحتلال، هي عمليّة مشروعة بحسب النواميس المتعارف عليها دوليًّا. لذا، فإنّ الحديث عن صفقة تبادل أسرى هو أمر مشروع أيضًا. لن أتحدّث في هذه المقالة عن صفقات تبادل الأسرى بين العرب وإسرائيل الّتي تمّت في الماضي وينتظر الجميع أن تتمّ أيضًا في حالة الأسير جلعاد شليط. لقد تطرّق البعض إلى مسألة حسابيّة تتعلّق بـ"كم يساوي أسير إسرائيليّ من العرب؟"، وما لهذه المسألة من أبعاد أخلاقيّة لها علاقة بقيمة الفرد العربي مقابل الآخر.

لا شكّ أنّ الأسير الإسرائيلي يحظى بمعاملة لائقة وإنسانيّة في الأسر الفلسطيني لما يمثّله من ورقة في أيدي الفلسطينيّين لإتمام صفقة تبادل الأسرى مع الجانب الإسرائيلي. لكن، ومن جهة أخرى، فإنّ صمت الكتّاب الفلسطينيّين على عدم إتاحة الفرصة للصّليب الأحمر بزيارة الأسير الإسرائيلي هو صمت معيب بكلّ المقاييس ويشكّل خللاً أخلاقيًّا، فلسطينيًّا، عربيًّا وإسلاميًّا.

كثيرًا ما يتساءل العرب بخصوص تشويه صورة العربي في الإعلام وفي الرأي العام في العالم. كلّ هذه التساؤلات نابعة برأيي من عدم فهم العربيّ لهذا العالم من حوله. مثلما أنّ هذا العالم لا يفهم العالمَ العربيَّ، أنظمته ومجتمعاته أيضًا. هذا ناهيك عن أنّ صورة العربيّ مشوّهة في نظر العربيّ ذاته.

يستطيع الجانب الفلسطيني أن يُسجّل لصالحه نقاطًا أخلاقيّة واضحة أمام الرأي العام الإسرائيلي والعالمي في هذه القضايا. لا أدري لماذا يترك العرب هذه الجوانب الأخلاقيّة للآخرين، ولماذا يصرّون على ترك هذه الساحة، كما لو أنّ القضايا الأخلاقيّة لا تعني العرب من قريب أو بعيد.

لهذا السّبب، يجب الخروج من خانة هذا الصّمت الفلسطينيّ والعربي المعيب أخلاقيًّا، ويجب إتاحة الفرصة لعائلة جلعاد شليط بزيارته في الأسر في غزّة، مثلما يزور الفلسطينيّون أسراهم في إسرائيل. أو يجب، على الأقلّ، إتاحة الفرصة للصّليب الأحمر بزيارة الأسير الإسرائيلي في غزّة والوقوف على وضعه. لمن لا يعرف هذه الأمور، فإنّ هذا هو صوت الضّمير الفلسطينيّ الأخلاقي الّذي يجب أن يصدر علانيةً، وهذا هو الصّوت الّذي يفهمه العالم المتحضّر ويتعاطف معه.

قد يثير هذا الكلام حفيظة الكثيرين، غير أنّي على يقين أنّه ما لم يَعْلُ هذا الصّوت وأصوات عربيّة أخرى في هذه القضايا فلا يعجبنّ أحدٌ من ذلك التشويه في الصورة العربيّة في العالم.

***
***




قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!