مرگ بر ديكتاتور

سـلمان مصـالحة

مرگ بر ديكتاتور

أيًّا ما كانت النتائج
التي سيتمخّض عنها الوضع في إيران إثر الانتخابات الأخيرة والمظاهرات الشعبية المطالبة بإعادتها عقب دعاوى تزوير ملالي النّظام لها، فما من شكّ في أنّ أمرًا واحدًا قد ظهر جليًّا على الملأ وهو هذه الحيويّة الشّعبيّة التي تسم الإيرانيين، والتي لا يسع الفرد العربي إلاّ النّظر إليها مشدوهًا بنوع من الغيرة. العالم بأسره يشاهد كيف يقوم النّظام الإيراني بتقييد الصحافة ومنعها من إيصال الأحداث، غير أنّ الأجيال الإيرانية الشابّة المتمكّنة من تقنيّات الاتّصالات الحديثة التي تقدّمها الثورة التكنولوجية تتخطّى كلّ القيود وتوصل إلى العالم بالصوت والصورة كلّ ما يريد نظام الملالي إخفاءه عن أعين العالم.

لقد كنت كتبت في الماضي وقبل أكثر من ثلاث سنوات، وعلى وجه التّحديد في سپتمبر 2006، مقالة أشرت فيها إلى أنّ رياح التّغيير في هذا الشّرق لن تأتي من البلدان العربيّة وإنّما من إيران ومن الشّعب الإيراني بالذّات. كما نوّهت إلى تلك التوجّهات العنصرية العربية المقيتة الّتي تسم كتابات الكثيرين من العرب العاربة والمستعربة التي تنهل من روافد الجهل والجاهلية الجهلاء تجاه الآخرين وتجاه الشعب الإيراني على وجه الخصوص.

***

ليس دفاعًا عن إيران هذا الأوان

لا يشكّ أحد في أنّي أمقت
نظام الملالي الّذي أناخ بكلكله على صدور الشّعب الإيراني منذ عودة الخميني من منفاه الأوروپي. إنّ نظام الملالي هذا تمقته أيضًا الأجيال الإيرانية الشابّة. وبوسع المرء أن يستنتج ذلك من خلال التّقارير الّتي تُنشر عن أجواء وأهواء هذه الشّريحة الإيرانيّة الكبرى في صحف أجنبيّة كثيرة، مثلما قد يلاحظها المتتبّع للبلوچات الإيرانيّة على الإنترنت. لقد كنت كتبت في الماضي إلى أنّه لو قيّض لأن يحدث تحوّل جذري في هذه المنطقة، فما من شكّ في أنّ هذا التّحوّل سيأتي من إيران بالذّات. نعم من إيران، ليس من ملالي إيران بل من الأجيال الإيرانيّة الشّابّة الّتي ستُحدث ثورة حقيقيّة في هذه المنطقة. كما بوسعنا أن نقول إنّ تحوّلاً من هذا النّوع لا يمكن أن يأتي من البلدان العربيّة وذلك لطبيعة هذه المجتمعات القبليّة، ولعلّ في ما يجري في العراق، بعد أن جُدعت قبضة السّفّاح التّكريتي، خير شاهد على ذلك. وكذا هي الحال في سائر البلاد العربيّة الّتي تشكّل في حقيقة الأمر فيدراليّات قبليّة محكومة بالحديد والنّار، أكثر منها دولاً وشعوبًا حقيقيّة يجمعها وحدة هدف ووحدة مصير.



وفي الآونة الأخيرة،
ولأسباب سياسيّة وقبليّة، وفئويّة مذهبيّة في ظاهرها وفي باطنها، بدأت تظهر على السّطح في وسائل الإعلام العربيّة ظاهرة مقيتة تشهد على هذا الدّرك العنصري الّذي وصل إليه هؤلاء الكتبة من مدّعي القومويّة العربيّة. لا شكّ أنّ القرّاء قد بدؤوا يلاحظون تلك النّبرة الّتي تتحدّث عن الفرس وأطماعهم مستعيدين مقولات من غابر العصور عن مؤامرات الفرس والعجم الّتي تُحاك ضدّ العرب. طالما أشبَعَنا هؤلاء وأمثالهم في الماضي بشعارات أخوّة الشّعوب والدّيمقراطيّة وما إلى ذلك من كلام معسول، بينما ها هي اليوم كتاباتهم تنضح بمقولات لا يمكن أن ندرجها إلاّ في خانة العنصريّة العربيّة، تجاه الفرس حينًا وتجاه الأكراد حينًا آخر، إلى آخر قائمة البشر الّذين يعيشون في بلدان العربان أو حولها.

يجب أن نضع النّقاط
على الحروف المبهمات فنقول إنّ كلّ تلك الدّعاوى الّتي يشيعها هؤلاء إنّما هي نابعة من تلك العقيدة العنصريّة الّتي يترعرع العرب عليها وينهلونها من منابع ثقافتهم قديمة كانت هذه الثّقافة أم معاصرة. في الحقيقة لم يتحرّر العرب من هذه الدّعاوى العنصريّة في يوم من الأيّام. فقد تخبو هذه النّظرة ردحًا من الزّمن، ولأسباب عديدة ليس هنا المجال لطرحها، لكنّ هذه النّعرة سرعان ما تعلو وتثور من جديد مع كلّ أزمة وجوديّة يجد العرب أنفسهم فيها.

ألا يمكننا أن نقول إنّه لولا الفرس لما عرف العرب نحو وقواعد لغتهم هم، ولولا الفرس لما عرف العرب الفنون والعمارة والتّاريخ والعلوم. فها هو سيبويه في النّحو، وها هو الطبري في التّاريخ وفي تفسير القرآن، وها هو إبراهيم الموصلي في الموسيقى والغناء، وها هو الخوارزمي في الرّياضيّات والفلك، وها هما الفارابي وابن سينا في الفلسفة والعلوم، وها هو الرازي في الطب والكيمياء والفلسفة، وها هو البيروني وها هو الإصفهاني وبوسعنا أن نعدّد الأسماء تلو الأسماء مديدًا طويلاً. فلولا هؤلاء الفرس الّذين رفدوا الحضارة العربيّة بكلّ ما هو نافع ماكث في الأرض، كيف كانت ستكون أحوال هذه الحضارة الّتي يتبجّح بها هؤلاء العنصريّون الآن؟

والعنصريّون القومويّون العرب هم هم من تنضح كتاباتهم صبح مساء بتلك النّظرة العنصريّة تجاه سائر الإثنيّات الغير العربيّة الّتي تعيش في الفضاء العربي وفي الجوار العربي. كيف ينظر هؤلاء العنصريّون القومويّون إلى أكراد سورية، أو إلى أكراد العراق؟ يتشدّق هؤلاء بصلاح الدّين ناسين متناسين كونه كرديًّا وليس عربيًّا. وكيف ينظر هؤلاء إلى الأمازيغ في المغرب وقبائل شمال أفريقيا؟ ناهيك عن السُّمر في السّودان، وأهل دارفور؟ كذلك، انظروا ما آلت إليه حال الأقباط، وما أدراكم ما حالُ الأقباط؟

إنّ نطام الملالي زائل لا محالة،

لأنّ هذه هي سنّة التّاريخ. لن يستطيع نظام الملالي في إيران من مجاراة العصر رغم ما قد يبدو لأوّل وهلة. إنّ هذا النّظام قادم من عصور قديمة، وهو نظام عائد إلى عصور قديمة، ولذلك فإنّ كلّ توجّهاته هي توجّهات صِدامٍ مع الحضارة المعاصرة مع مستقبل البشر. إنّ زرع هذه الأيديولوجية الصّدَاميّة لدى الشّعب الإيراني هي الأفيون الّذي يخدّر به هؤلاء الملالي أهل هذه البقعة من الأرض. وهذه البقعة هي البقعة الّتي وضعَ الإسلامُ السّياسي (وفي الحقيقة لا يوجد إسلام غير سياسي) على عقول أهلها حجابًا حاجزًا يحجب عنهم حقائق هذا العالم، من أجل حملهم إلى العودة إلى الماضي المُتَخَيَّل. إنّ الحنين إلى ذلك الماضي الموهوم هو خير شاهد على العياء المعاصر، الحاضر في كلّ مجال من مجالات الحياة العربيّة؛ كما أنّه خير شاهد على انسداد الأفق الحضاري العربي للمستقبل المنظور. لهذا السّبب بدأنا نرى شيوع كلّ تلك التّعابير العنصريّة الّتي تنضح من كتابات بعض القومويّين الّذين آن الأوان إلى كشف عنصريّتهم البغيضة المتستّرة خلف شعاراتهم وبلاغتهم البليدة. إنّ هذه التّعابير والمقولات العنصريّة هي خير شاهد على بلادة ّهؤلاء وعلى عمق جهلهم. وعلى ما يبدو فإنّ طَبْعَ هؤلاء يغلب تَطَبُّعَهم، مهما تظاهروا بغير ذلك.
وعندما تكون الحال على هذا المنوال، فبئس المآل!


***


ولقد ذكرت أكثر من مرّة
أنّه ورغم كلّ ما يقال عن النظام الإيراني إلاّ أنّه يبقى والشعب الإيراني أكثر تعدّديّة وديمقراطيّة من جميع الأنظمة والشّعوب العربيّة كافّة. كما أشرت في أكثر من مناسبة إلى أنّ البلد الوحيد في هذه المنطقة الّذي قد تحدث فيه ثورة ديمقراطيّة حقيقيّة هو إيران بلا أدنى شكّ. إنّ الشّعب الإيراني المتحضّر والمنفتح على الحضارات بحاجة إلى دعم جميع المتنوّرين في هذا العالم، وهو بحاجة إلى دعم المتنوّرين العرب على وجه التّحديد، لأنّ الثّورة التّنويريّة الحقيقيّة في هذا الشّرق ستأتي من إيران بالذّات، بعد أن يطيح الشّعب الإيراني بنظام الملالي القابع في غياهب الماضي (إقرأ:
"لا فضل لعربي على أعجميّ إلاّ بالقهوة"). وها هي الجماهير الإيرانية قد خرجت إلى الشّوارع صارخة على الملأ: "مرگ بر ديكتاتور" (الموت للدكتاتور)، وذلك بخلاف الجماهير العربيّة التي تخرج فقط لتصرخ صرخة مختلفة، وهي صرخة أضحت ماركة مسجّلة عليها وباسمها، ألا وهي صرخة "بالرّوح بالدّم نفديك يا فلان"، كائنًا من كان على رأس قبائل العربان. ربّما كان هذا هو الفرق بين معدن الإيرانيوم ومعدن العربانيوم.

وأخيرًا، لا يسعنا سوى أن نقول نحن العرب أيضًا، لقد آن الأوان لأن نصرخ: "مرگ بر ديكتاتور"، لكلّ المستبدّين من العربان، كائنًا من كان ذلك المستبدّ، أكان رئيسًا يورّث الرئاسة لأبنائه من الولدان، أو كان ملكًا جاهلاً لا يعرف القراءة والكتابة ولا حتّى التّفوّه بجملة عربية سليمة في ممالك وأمارات وسلطنات جزيرة العربان، إلى آخر قائمة سلالات الكذب والبهتان.

والعقل ولي التوفيق.

***

المقالة في "شفاف الشرق الأوسط"


إجلاء اليهود من جزيرة العرب


سلمان مصالحة


إجلاء اليهود من جزيرة العرب


لقد شهد افتتاح حصون خيبر
قتالاً شديدًا بين محمّد وأتباعه وبين اليهود الذين تصفهم الرّواية الإسلاميّة بالمشركين: "فقاتل رسول الله صلعم المشركين، قاتلوه أشدّ القتال وقتلوا من أصحابه عدة، وقُتل منهم جماعة كثيرة، وفتحها حصنًا حصنًا." (طبقات ابن سعد: ج 2، 106). وكان ابتداء افتتاح حصون خيبر بفتح حصن ناعم من حصون النّطاة: "وبدأ رسول الله صلعم بالأموال يأخذها مالاً مالاً ويفتتحها حصنًا حصنًا، فكان أول حصونهم افتتح حصن ناعم." (تاريخ الطبري: ج 2، 135؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 4، 300؛ سيرة ابن حبان: ج 1، 293؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 278؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 179؛ تاريخ خليفة بن خياط: ج 1، 10). وبعد أن أفتتح محمّد حصن ناعم وقسم الغنائم على أصحابه، جاءه بنو سهم من بني أسلم وطلبوا منه أن يعطيهم شيئًا من تلك الغنائم، فلم يجدوا عنده شيئًا، إذ كان قد وزّعها على أصحابه. فوعدهم بأن تكون غنائم حصن الصعب بن معاذ لهم عند افتتاحه، كما يروي عبد الله بن أبي بكر: "أنّه حدّثَه بعضُ أسلم أنّ بني سهم مِنْ أسلمَ أتوا رسول الله صلعم فقالوا: يا رسول الله، والله لقد جهدنا وما بأيدينا شيء، فلم يجدوا عند رسول الله شيئًا يعطيهم إياه فقال النبي: اللهمّ إنّك قد عرفتَ حالَهم وأنْ ليست بهم قوة، وأنْ ليس بيدي شيء أعطيهم إياه، فافتحْ عليهم أعظمَ حصونها أكثرَها طعامًا وودكًا." (تاريخ الطبري: ج 2، 135؛ أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 267؛ سيرة ابن هشام: ج 4، 302؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 366؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 277). وكان اليهود الذين سلموا من فتح حصن ناعم قد انتقلوا إلى حصن الصّعب بن معاذ، فلاحقهم المسلمون وفتحوا حصن الصّعب قبل مغيب الشمس: "وكان من سلم من يهود حصن ناعم انتقل إلى حصن الصعب من حصون النطاة، ففتح الله حصن الصعب قبل ما غابت الشمس من ذلك اليوم." (عون المعبود: ج 6، 492)، ويُعدّ حصن الصعب هذا من أغنى حصون خيبر، حيث تذكر الرّوايات: "وكان حصن اليهود فيه الطعام والودك والماشية والمتاع." (مغازي الواقدي: ج 1، 267؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 135؛ سيرة ابن هشام: ج 4، 302؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1، 319؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 277؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 366)، وذكرت أنّه: "لم يكن بخيبر حصن أكثر طعامًا وودكًا وماشية ومتاعًا منه." (سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 5، 121؛ أنظر أيضًا: دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 306؛ الخصائص الكبرى للسيوطي: ج 1، 425؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 137).

ثمّ تحوّل من نجا من اليهود إلى حصن قلّة المنيع، وهو: "حصن بقلة جبل... وهو آخر حصون النطاة." (عون المعبود للعظيم آبادي: ج 6، 492). فحاصرهم الرسول ثلاثة أيّام حتّى جاء إليه أحد اليهود ووشى له بمكان مصدر مياههم لكي يقطع الماء عنهم بشرط أن يؤمنّه على حياته وأهله وماله: "فجاء رجل من اليهود يقال له غزال، فقال: يا أبا القاسم، تؤمنني على أن أدلّك على ما تستريح من أهل النطاة وتخرج إلى أهل الشقّ... قال: فأمّنه رسول الله صلعم على أهله وماله، فقال اليهودي: إنّك لو أقمت شهرًا ما بالوا، لهم دبول تحت الأرض يخرجون بالليل فيشربون منها ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمتنعون منك. فإن قطعت مشربهم عليهم أصحروا لك. فسار رسول الله صلعم إلى دبولهم فقطعها، فلما قطع عليهم مشاربهم خرجوا فقاتلوا أشدّ القتال وقتل من المسلمين يومئذ نفر وأصيب من يهود ذلك اليوم عشرة، وافتتحه رسول الله صلعم." (دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 307؛ أنظر أيضًا: زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 283؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 376؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 5، 122-123). وبعد أن افتتحت حصون النّطاة انتقل المسلمون إلى حصار منطقة الشقّ وحصونها: "ثم صار المسلمون إلى حصار حصون الشقّ فكان أول حصن بدأ به من حصني الشق حصن أبي، فقاتل أهله قتالاً شديدًا، وهرب من كان فيه ولحق بحصن يقال له حصن البريء وهو الحصن الثاني من حصني الشقّ. فحصون الشق اثنان حصن أبي وحصن البريء." (عون المعبود للعظيم آبادي: ج 6، 492؛ أنظر أيضًا: دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 308).

صلح خيبر:
بعد افتتاح حصون النطاة والشق التجأ من سلم من اليهود من هذه الحصون إلى حصون الكتيبة، وهي القموص والوطيح والسلالم. فانتقل المسلمون إلى حصارها فافتتحوا القموص وهناك وقعت صفيّة بنت حيي بن أخطب في السبي، كما أسلفنا من قبل. فانتقل من نجا من اليهود إلى الوطيح والسلالم وتحصّنوا هناك أشدّ التحصّن، فأطبق المسلمون الحصار على الوطيح والسّلالم أيّامًا وليالي: "ولمّا افتتح رسول الله صلعم من حصونهم ما افتتح وحاز من الأموال ما حاز انتهوا إلى حصنيهم الوطيح والسلالم." (تاريخ الطبري: ج 2، 135؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 2، 333؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 277؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 211؛ معجم ما استعجم للبكري: ج 1، 149؛ تاريخ خليفة بن خياط: ج 1، 10؛ عون المعبود للعظيم آبادي: ج 6، 492).

وبعد أن أُطبق الحصار على الوطيح والسلالم وأيقن اليهود، بعد أن استمرّ الحصار بضعة عشر يومًا، أنّهم لن يصمدوا أمام حصار المسلمين لهم، أرسل ابن أبي الحُقيق إلى الرسول طالبًا الصّلح: "وحاصر رسول الله صلعم أهل خيبر في حصنيهم الوطيح والسلالم حتّى إذا أيقنوا بالهلكة سألوه أن يسيّرهم ويحقن لهم دماءهم، ففعل." (تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 2، 337؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 309؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 375؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 139؛ الروض المعطار للحميري: ج 1، 490؛ معجم ما استعجم للبكري: ج 1، 149؛ البدء والتاريخ لابن المطهر: ج 1، 253؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 283). لقد تمّ ذلك بعد أن أرسل زعيمهم ابن أبي الحقيق إلى محمّد طالبًا أن يكلّمه: "وأرسل ابن أبي الحقيق إلى رسول الله صلعم: أنزل فأكلمك؟ فقال رسول الله صلعم: نعم. فنزل ابن أبي الحقيق فصالح رسول الله صلعم على حقن دماء من في حصونهم من المقاتلة وترك الذرية لهم ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم." (زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 283؛ أنظر أيضًا: دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 309؛ عون المعبود للعظيم آبادي: ج 6، 492؛ الرحيق المختوم للمباركفوري: ج 1، 342).



وبالإضافة إلى الجلاء
عن أرضهم ومنازلهم فقد أضاف محمّد شرطًا آخر، وهو أن لا يُخفوا شيئًا من أموالهم عنه. إذ أنّه، على ما يبدو، كان يبحث عن شيء ما: "فصالحوه على أن يجلوا منها ولهم ما حملت ركابهم... فاشترط عليهم أن لا يكتموا ولا يغيّبوا شيئًا، فإن فعلوا فلا ذمّة لهم ولا عصمة." (صحيح ابن حبان: ج 11، 562؛ أنظر أيضًا: طبقات ابن سعد: ج 2، 110؛ صحيح أبي داود: ج 2، 583؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 1، 1160؛ سنن البيهقي: ج 2، 62؛ فتح الباري لابن حجر العسقلاني: ج 12، 29؛ الأوسط لابن المنذر: ج 10، 263؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 283؛ عون المعبود للعظيم آبادي: ج 6، 492). لقد كان يبحث، كما يُستشفّ من الرّوايات، عن كنز حيي بن أخطب. وهو كنز يحتوي على الأموال والحلي التي كان حيي حملها معه عندما تمّ إجلاء بني النّضير إلى خيبر: "فغيّبوا مسكًا فيه مال وحلي لحيي بن أخطب كان احتمله معه الى خيبر حين أُجليت النضير."(صحيح ابن حبان: ج 11، 562؛ أنظر أيضًا: صحيح أبي داود: ج 2، 583؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 1، 1160؛ سنن البيهقي: ج 2، 62؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 377؛ فتح الباري لابن حجر: ج 12، 31؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 283؛). لقد حاول محمّد الاستفسار عن كنز حيي: "فقال رسول الله صلعم لعمّ حيي: ما فعل مسْكُ حيي الذي جاء به من النضير؟ فقال: أذهَبَتْه النفقات والحروب، فقال صلعم: العهدُ قريبٌ والمالُ أكثر من ذلك." (صحيح ابن حبان: ج 11، 562-563؛ أنظر أيضًا: جامع الأصول لابن الأثير: ج 1، 1160؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 283؛). أي أنّه يعني أنّ الكنز يحتوي على الكثير من الأموال ولم يمض وقت طويل منذ الجلاء فمن غير المعقول أن يكون المال قد نفد.

تعذيب زوج صفيّة:
كما تذكر الرّوايات كيف تمّ اقتياد كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، زوج صفيّة، إلى محمّد للتّحقيق معه حول الكنز: "قال ابن إسحاق: وأُتي رسول الله صلعم بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وكان عنده كنز بني النّضير، فسأله فجحد أن يكون يعلم مكانه. فأُتي رسول الله صلعم برجل من يهود فقال لرسول الله صلعم: إني قد رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة فقال رسول الله لكنانة: أرأيتَ إنْ وجدناه عندك أأقتلك؟ قال: نعم. فأمر رسول الله صلعم بالخربة فحُفرت فأخرج منها بعض كنزهم، ثم سأله ما بقي، فأبَى أن يؤدّيه." (تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 2، 336؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 12، 220؛ تفسير البغوي: ج 7، 309؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 374؛ الرحيق المختوم للمباركفوري: ج 1، 343). وبعد أن رفض كنانة الإفصاح عن مخبأ سائر الكنز فقد دفع به محمّد إلى الزّبير بن العوام قائلاً له: "عَذّبْهُ حتّى تستأصلَ ما عنده! فكان الزبير يقدحُ بزنده في صدره حتى أشرفَ على نفسه، ثم دفعه رسول الله إلى محمد بن مسلمة فضربَ عنقَه بأخيه محمود بن مسلمة. (تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 2، 336؛ تفسير البغوي: ج 7، 309؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 12، 220؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 374؛ الرحيق المختوم للمباركفوري: ج 1، 343). وبرواية أخرى ذُكر أنّ ابن عمّ كنانة كشف عن مكان الكنز: "فاعترف ابن عمّ كنانة عليهما بالمال حين دفعه رسول الله صلعم إلى الزبير يُعذّبه. فدفع رسول الله صلعم كنانة إلى محمد بن مسلمة فقتله." (زاد المعاد لابن قيم الجوزية:ج 3، 283).

بعد ذلك أراد أن يجلي اليهود عن ديارهم فطلبوا منه أن يبقيهم في أرضهم قائلين له إنّهم أعلمُ وأكثر دربة من أصحابه برعاية الأرض والنّخل: "وقالوا: نحن أعْلَمُ بها منكم، وأعْمَرُ لها." (معجم ما استعجم للبكري: ج 1، 149؛ البلدان لياقوت: ج 2، 195؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 283)، فأقرّهم على أن أن يدفعوا له النّصف من ثمر الأرض، كما ورد في الرّوايات: "وأراد ان يجليهم منها، فقالوا: يا محمد دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها، ولم يكن لرسول الله صلعم ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها فكانوا لا يتفرغون أن يقوموا. فأعطاهم خيبر على أنّ لهم الشطر من كل زرع ونخل وشيء ما بدا لرسول الله صلعم." (صحيح ابن حبان: ج 11، 563؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 4، 329؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 1، 1160؛ سنن البيهقي: ج 6، 114؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 124؛ نيل الأوطار للشوكاني: ج 8، 132؛ الأوسط لابن المنذر: ج 10، 263؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 213؛ تاريخ خليفة بن خياط: ج 1، 10)، فوافق محمّد على الاقتراح وأقرّهم على ذلك.

***
يهود فدك
في ذات الوقت الذي خرج فيه محمّد وأتباعه إلى غزو خيبر، قام أيضًا بإرسال محيصة بن مسعود إلى أهل فدك لدعوتهم إلى الإسلام، مهدّدًا إيّاهم، أنّهم سيكونون هم أيضًا عرضة للغزو مثل أهل خيبر إذا لم يستجيبوا لدعوته: "لما أقبل رسول الله صلعم إلى خيبر فدنا منها، بعث محيصة بن مسعود إلى فدك يدعوهم إلى الإسلام ويخوفهم أن يغزوهم كما غزا أهل خيبر ويحلّ بساحتهم." (مغازي الواقدي: ج 1، 706؛ أنظر أيضًا: سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 5، 138). لقد حاولوا في البداية رفض ما يُعرض عليهم ظنًّا منهم أنّهم يستطيعون الصمود أمام هذا الغزو: "قال محيصة جئتهم فأقمتُ عندهم يومين وجعلوا يتربّصون ويقولون: بالنّطاة عامر وياسر وأسير والحارث وسيد اليهود مرحب، ما نرى محمّدًا يقرب حرّاهم، إنّ بها عشرة آلاف مقاتل." (مغازي الواقدي: ج 1، 706).


غير أنّ الأخبار التي وصلت بشأن القتل والسبي وما جرى في حصون خيبر، كما تذكر الروايات، قد فتّت من عزائمهم: "حتى جاءهم قتلُ أهل حصن ناعم وأهل النّجدة منهم، ففَتّ ذلك أعضادهم." (مغازي الواقدي: ج 1، 706؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 5، 138). وعلى أثر أخبار الغزو والقتل هذه قرّروا أن يرسلوا مع محيصة رجالاً منهم يطلبون الصّلح: " قال محيصة: وقدم معي رجل من رؤسائهم يقال له نون بن يوشع، في نفر من اليهود... ويقال عرضوا على النبي صلعم أن يخرجوا من بلادهم ولا يكون للنبي صلعم عليهم من الأموال شيء، وإذا كان جذاذها جاءوا فجذّوها. فأبى النبي صلعم أن يقبل ذلك." (مغازي الواقدي: ج 1، 706). وقد استقرّ الصلح في نهاية المطاف على مثل صلح خيبر: "وقع الصلح بينهم أنّ لهم نصف الأرض بتربتها لهم، ولرسول الله صلعم نصفها. فقبل رسول الله صلعم ذلك... فأقرّهم رسولُ الله صلعم على ذلك ولم يبلّغهم." (مغازي الواقدي: ج 1، 706؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 140؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 213؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 375؛ تاريخ خليفة بن خياط: ج 1، 10؛ معجم ما استعجم للبكري: ج 1، 149).

***
يهود وادي القرى
بعد الانتهاء من خيبر تحوّل محمّد وأتباعه إلى وادي القرى، حيث حلّوا على مقربة من منازل لليهود فاستقبلهم اليهود برمي السّهام من حصونهم، حسبما روى أبو هريرة، قال: "خرجنا مع رسول الله صلعم من خيبر إلى وادي القرى.... فلما نزلوا بوادي القرى انتهينا إلى اليهود وقد ضَوَى إليها أناسٌ من العرب... وقد استقبلتنا اليهود بالرمي حيث نزلنا، ولم يكن على تعبية، وهم يصيحون في آطامهم." (مغازي الواقدي: ج 1، 289؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ البدء والتاريخ لابن المطهر: ج 1، 254). فأسرع محمّد إلى إجراء الاستعدادات لقتال اليهود ودعوتهم إلى الإسلام لأجل حقن دمائهم: "فعبّى رسول الله أصحابه للقتال وصفّهم،... ثم دعاهم إلى الإسلام وأخبرهم إنْ أسلموا أحرزوا أموالهم وحقنوا دماءهم وحسابهم على الله. قال: فبرز رجل منهم، فبرز إليه الزبير بن العوام فقتله، ثم برز آخر فبرز إليه علي فقتله، حتى قتل منهم أحد عشر رجلاً، كلّما قتل منهم رجلاً دُعي من بقي منهم إلى الإسلام... وقاتلهم حتى أمسى، وغدا عليهم فلم ترتفع الشمس قيد رمح حتّى أعطوا بأيديهم، وفتحها عنوةً وغنّمهم الله أموالَهم وأصابوا أثاثًا ومتاعًا كثيرًا. وأقام رسول الله صلعم بوادي القرى أربعة أيام، فقسم ما أصاب على أصحابه، وترك الأرض والنخيل في أيدي اليهود وعاملهم عليها." (سيرة ابن كثير: ج 3، 412-413؛ أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 710-711؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 313؛ سبل الهدى وارشاد للصالحي الشامي: ج 5، 149).


وعندما علم يهود تيماء بما جرى مع سائر اليهود فقد أيقنوا أن لا سبيل أمامهم وقرّروا طلب الصّلح من الرّسول على الجزية: "فلما بلغ يهود تيماء ما وطئ به رسول الله صلعم خيبر وفدك ووادي القرى، صالحوا رسول الله صلعم على الجزية، وأقاموا بأيديهم أموالهم." (مغازي الواقدي: ج 1، 711؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 366؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 413؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3 313)، وقد ذكرت الرّواية أنّ محمّدًا كتب لهم كتابًا بذلك: "هذا كتاب محمد رسول الله لبني عاديا، أنّ لهم الذمة، وعليهم الجزية، ولا عداء ولا جلاء." (الرحيق المختوم للمباركفوري: ج 1، 351؛ طبقات ابن سعد: ج 1، 279).

***
تسميم محمّد:
وبعد أن انتهى محمّد وأتباعه من إخضاع اليهود في خيبر وفي سائر أماكن تواجدهم في فدك ووادي القرى وتيماء والاستيلاء على أموال المواقع التي كان افتتاحها حربًا وتوزيعها على المسلمين وإقرار بعضها على النصف صلحًا وإبقاء بعضهم يعملون في الأرض، عاد إلى المدينة: "ثم انصرف رسول الله صلعم راجعًا إلى المدينة بعد أن فرغ من خيبر ووادي القرى وغنّمه الله عزوجل." (سيرة ابن كثير: ج 3، 413؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 366؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 5، 149).

وكان من بين اليهود من أسلم، ومنهم من بقي في أرضه، يعمل في الأرض ويدفع للمسلمين نصف ثمر الأرض. ومن بين السبايا اللّواتي أسلمن، على ما ذكرت الرّوايات، زينب بنت الحارث اليهوديّة، ابنة أخي مرحب وامرأة سلام بن مشكم. وبعد أن اطمأنّ الرّسول إلى إخضاع اليهود، جاءت إليه زينب هذه وقدّمت له شاةً مسمومة: "عن جابر وأبي هريرة وغيرهما أن رسول الله صلعم لمّا افتتح خيبر واطمأنّ جعلت زينب بنت الحارث وهي بنت أخي مرحب وامرأة سلام بن مشكم سمًّا قاتلاً في عنز لها، ذَبحَتْها وصَلَتْها وأكثرت السمّ في الذراعين والكتف. فلمّا صلّى النبي صلعم المغرب انصرفَ وهي جالسة عند رحله، فقالت: يا أبا القاسم هدية أهديتها لك، فأمر بها النبي صلعم. فأُخذت منها، ثم وُضعت بين يديه وأصحابه حضور، منهم بشر بن البراء بن معرور، وتناول رسول الله فانتهشَ من الذراع وتناول بشر عظمًا آخر فانتهش منه، وأكل القوم منها. فلما أكل رسول الله صلعم لقمةً قال: ارفعوا أيديكم، فإنّ هذه الذّراع تخبرني أنها مسمومة". وتذكر الرّوايات أنّ بشر بن البراء قد مات من تلك الأكلة الّتي أكلها من الشاة المسمومة الّتي أهدتها زينب: "فلم يقم بشر حتّى تغيّر لونُه وماطله وَجَعُهُ سنةً ومات. وقال بعضهم: لم يرمْ بشر من مكانه حتّى توفي." (تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 143؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ تفسير البغوي: ج 7، 310؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 394؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 213؛ أسد الغابة لابن الأثير: ج 1، 13؛ البدء والتاريخ لابن المطهر: ج 1، 253؛ تاريخ ابن خلدون: ج 2، 39).

سبب التّسميم:
ولمعرفة ملابسات التّسميم، تذكر الرّوايات أنّ محمّدًا طلب أن يتمّ إحضار اليهود أمامه وسؤالهم عن ذلك: "فقال رسول الله صلعم: اجمعوا لي من كان ها هنا من يهود. فجمعوا له، فقال النبي صلعم: ... هل أنتم صادقي عن شيء إذا سألتكم عنه؟ قالوا: نعم ... فقال رسول الله صلعم: مَنْ أهلُ النار؟ فقالوا: نكون فيها يسيرًا ثم تخلفونا فيها، فقال لهم رسول الله صلعم: والله لا نخلفكم فيها أبدًا. ثم قال لهم:... هل جعلتم في هذه الشاة سمًّا؟ فقالوا: نعم. قال: ما حملكم على ذلك؟ قالوا: أردنا، إنْ كنتَ كاذبًا أن نستريح منك، وإنْ كنتَ نبيًّا لم يَضُرّك." (سيرة ابن كثير: ج 3، 394؛ أنظر أيضًا: صحيح البخاري: ج 11، 291؛ شرح السنّة للبغوي: ج 7، 40-41؛ مصنّف ابن أبي شيبة: ج 5، 435؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 354؛ مشكاة المصابيح للتبريزي: ج 3، 290؛ الخصائص الكبرى للسيوطي: ج 1، 430).

كما تذكر الرّوايات إنّه دعا زينب بنت الحارث، المرأة اليهودية ذاتها، الّتي وضعت السمّ في الشّاة واستجوبها حول الموضوع: "فدعاها فقال: ما حملك؟ قالت: نلتَ من قومي وقتلتَ أبي وعمّي وزوجي، فقلت: إنْ كان نبيًّا فستخبره الذراع وإن كان ملكًا أسترحنا منه." (تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 143؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ تفسير البغوي: ج 7، 310؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 12، 221؛ تفسير ابن كثير: ج 7، 211). أمّا بخصوص مصير زينب هذه فهنالك اختلاف بما آل إليه مصيرها: "واختلفت الروايات في التجاوز عن المرأة وقتلها، وجمعوا بأنه تجاوز عنها أوّلا، فلما مات بشر قتلها قصاصا." (الرحيق المختوم للمباركفوري: ج 1، 347؛ شرح سنن ابن ماجة للسيوطي: ج 1، 254؛ سبل الهدى والرشاد للصاحلي الشامي: ج 5، 155). أو أنّه "لم يقتلها لإسلامها حينئذ، على ما قيل." (تاريخ ابن خلدون: ج 2، 39؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 12، 221؛ تاريخ الطبري: ج 2، 303؛ )، غير أنّ هنالك روايات تؤكّد على أنّه أمر أولياء بشر بقتلها: "فدفعها إلى أولياء بشر يقتلونها. وهو الثبت." (تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 143؛ طبقات ابن سعد: ج 2، 107؛ عون المعبود للعظيم آبادي: ج 10، 32؛ سمط النجوم للعصامي: ج 1، 328؛ شرح سنن ابن ماجة للسيوطي: ج 1، 254؛ سبل الهدى والرشاد للصاحلي الشامي: ج 5، 155).

محمّد يشير إلى مفعول السمّ:
ويروى أنّ الرّسول ذكر ذلك السمّ، الّذي وضعته له زينب بنت الحارث، في مرضه الّذي توفّي فيه مشيرًا إلى سريان مفعوله فيه: "عن محمد بن إسحاق عن مروان بن عثمان بن أبي سعيد بن المعلى قال، وقد كان رسول الله صلعم قال في مرضه الذي توفي فيه، ودخلت عليه أم بشر بن البراء تعوده: يا أم بشر، إن هذا الأوان وجدتُ انقطاعَ أبهري من الأكلة التي أكلتُ مع ابنك بخيبر." (تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ أنظر أيضًا: الكشف والبيان للثعلبي: ج 12، 221؛ تفسير البغوي: ج 7، 312). ويروى أيضًا عن عائشة أنّها قالت: "كان النبي صلعم يقول في مرضه الذي مات فيه: يا عائشة، ما أزال أجد ألَم الطعام الذي أكلتُ بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السمّ." (تفسير البغوي: ج 7، 310؛ أنظر أيضًا: شرح سنن ابن ماجة للسيوطي: ج 1، 254؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 213)، وبرواية أخرى فيها إقرار بمفعول السمّ: "ما زالت أكلة خيبر يعاودني ألَمُ سمّها." (تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 143؛ أنظر أيضًا: تفسير النيسابوري: ج 1، 265؛ تفسير الرازي: ج 2، 212؛ جامع الأحاديث للسيوطي: ج 19، 27؛ فيض القدير للمناوي: ج 5، 572).

إجلاء اليهود من جزيرة العرب:
بعد أن توفّي الرسول ووقع الاختيار على أبي بكر أن يكون خليفة للمسلمين بعد محمّد واصل أبو بكر التّعامل مع اليهود الباقين في جزيرة العرب بحسب المبادئ التي كان أقرّها الرسول عليهم في اتّفاقيّات الصّلح التي عقدوها معه: "فلما توفّى الله نبيه صلعم أقرّها أبو بكر رض بعد رسول الله صلعم بأيديهم على المعاملة التي عاملهم عليها رسول الله صلعم حتى توفي." (سيرة ابن هشام: ج 4، 329؛ تاريخ الطبري: ج 2، 307؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 415). وبعد أن توفّي أبو بكر وخلفه عمر بن الخطّاب استمرّ عمر على ذات النّهج فترة من الزّمن حتّى وصل إلى مسامعه قولٌ منسوب إلى الرّسول في مرضه الّذي قُبض فيه: لا يجتمعنّ بجزيرة العرب دينان: "ففحص عمر عن ذلك حتّى بلغه الثبت. فأرسل إلى يهود، أنّ الله قد أذن في اجلائكم، فقد بلغني أن رسول الله صلعم قال: لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان، فمن كان عنده عهد من رسول الله فليأتني به أنفذه له، ومن لم يكن عنده عهد من رسول الله من اليهود فليتجهز للجلاء." (تاريخ الطبري: ج 2، 307؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 2، 356؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 415).

غير أنّه، وعلى ما يبدو، فإنّ ثمّة أسبابًا أخرى لإجلاء اليهود. فمثلما أشرنا من قبل فقد أُبقي اليهود في البداية لمعرفتهم وعلمهم في تدبير وعمارة الأرض، ولم يكن المسلمون آنئذ على دراية بهذه الأمور. فلمّا كثرت الأموال في أيدي المسلمين، وتعلّموا أمور الزّراعة والاعتناء بالأرض والنّخيل قرّروا الاستيلاء على أراضي اليهود. كذا يُستشفّ من الرّواية التالية بهذا الشأن: "حتّى كان عمر، فكثر المال في أيدي المسلمين، وقووا على عمل الأرض، فأجلى عمر اليهود إلى الشام وقسم الأموال بين المسلمين إلى اليوم." (الأموال للهروي: ج 1، 144؛ البلدان لياقوت: ج 2، 410). وعلى كلّ حال، لقد أجلى عمر يهود خيبر وفدك، ولم يخرج يهود تيماء ووادي القرى لأنّ مناطق تيماء ووادي القرى تعتبر من بلاد الشام وليست داخلة في جزيرة العرب، على ما روي: "فلما كان زمن عمر بن الخطاب رض أخرج يهود خيبر وفدك ولم يخرج أهل تيماء ووادي القرى لأنهما داخلتان في أرض الشام، ويرى أن ما دون وادي القرى إلى المدينة حجاز وأن ما وراء ذلك من الشام" (زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 313؛ أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 706؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 366؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 213).

وعلى ما يبدو فقد بقي هناك من أسلم من اليهود في جزيرة العرب وفي المدينة، وظلّوا يعملون في الأرض ويهتمّون بالنّخيل: "بيت الخيبري - نسبة إلى خيبر بلدة قديمة مشهورة. وإليها ينسب كثير بالمدينة المنورة. وحرفتهم حفر الآبار وضرب اللبن. ويقال: إن أصلهم من يهود خيبر الذين أجلاهم النبي صلعم من المدينة. وقيل: إنهم مواليد لعبيد عنزة، لأن خيبر أملاك لهم إلى اليوم. ويحضرون فيها أيام الصيف مقدار عشرين يومًا ويجذّونها قبل استواء ثمارها. وهذا دأبهم في كل عام." (تحفة المدنيين لابن الفقيه: ج 1، 52).

كما أنّ ثمّة من اليهود الّذين أجلاهم عمر إلى الشّام قد ظلّوا يحنّون إلى ديارهم في جزيرة العرب، وفي أقوالهم تُسمع أصداء ما جرى لليهود في الحجاز:"عن عمرو بن أبي عمرو، قال: نزلت بأريحا زمن سليمان بن عبد الملك فإذا حيّ من اليهود، وإذا رجل يهدج من الكبر. فقال: ممن أنتم؟ فقلنا: من الحجاز، فقال اليهودي: واشوقاه إلى الحجاز! أنا ابن الحارث اليهودي فارس خيابر. قتله يوم خيبر رجل من أصحاب محمد يقال له أبو دجانة، يوم نزل محمد خيبر. وكنا ممّن أجلى عمر بن الخطاب إلى الشام. فقلت: ألا تسلم؟ قال: أما إنّه خيرٌ لي لو فعلت، ولكن أُعيّر. تعيرني اليهود، تقول: أبوك ابنُ سيّد اليهود، لم يترك اليهودية، قُتل عليها أبوك وتخالفه؟" (مغازي الواقدي: ج 1، 265).

***



في المقالة القادمة سنتطرق إلى قصّة الإسراء والمسجد الأقصى.

والعقل وليّ التوفيق.



***
المقالة في "شفاف الشرق الأوسط"
***

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقالات هذه السلسلة:
المقالة الأولى: "هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟"
المقالة الثانية: "لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟"
المقالة الثالثة: "لماذا استقبال قبلة اليهود بالذّات؟"
المقالة الرابعة: "من هو النّبي الأمّي؟"
المقالة الخامسة: "لماذا حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟"
المقالة السادسة: "المصير الذي آل إليه يهود جزيرة العرب"
المقالة السابعة: "إكسودوس بني النضير"
المقالة الثامنة: "محرقة بني قريظة 1"
المقالة التاسعة "محرقة بني قريظة 2"
المقالة العاشرة: "ماذا جرى مع يهود خيبر؟"
المقالة الحادية عشرة: "إجلاء اليهود من جزيرة العرب"

كلّ يغنّي على لبنانه

إنّ هذا الخراب اللّغوي العربي يكشف عن ذهنيّات قبليّة طائفيّة تنخر عظام هذا البلد، مثلما نخرت وتنخر هذه الذهنيّات في أصلاب هذا الشّرق.

ماذا جرى مع يهود خيبر؟

 

ليس هذا فحسب، بل وبحسب رواية ابن عباس، فإنّ محمّدًا نفسه قد أرسل كتابًا إلى يهود خيبر يستجديهم ويناشدهم فيه أن يبايعوه بوصفه النبيّ الذي يجدونه في التّوراة...
حصن القموص - خيبر

سلمان مصالحة

ماذا جرى مع يهود خيبر؟

لماذا التّرجمة، وكيف؟


سلمان مصالحة


لماذا التّرجمة، وكيف؟



حضارتنا القديمة، على العموم،
هي حضارة البداوة الشّفهيّة المعتمدة على الحفظ السّماعي للشّعر أوّلاً، ثمّ للرّواية الأدبيّة والتاريخيّة لاحقًا حتّى جاء عصر التّدوين، وهو العصر الّذي نقل العربيّ من مرحلة العقل الپاسيڤي السّماعي إلى مرحلة العقل الفاعل الواعي. لهذا، ربّما ليس صدفة أنّ المصطلح "ترجمة" المستخدم في العربيّة قد وفد عليها من مصدر غير عربيّ. فالأصل من اللّغة الأكديّة، ثمّ عبر إلى الآراميّة ثمّ إلى العربيّة في مرحلة متأخّرة. وما من شكّ في أنّ انعدام وجود مصطلح في لغة شعب من الشّعوب هو خير شاهد على انعدام ما يحمله هذا المصطلح من مفاهيم دلاليّة وذهنيّة في حضارة هذا الشّعب. فهل كان لتأخُّر وفود هذا المصطلح على العربيّة أثرٌ على تخلُّف المعارف العربيّة؟ أغلب الظنّ أنّ الإجابة هي بالإيجاب، إذ أنّ الطّفرة العلميّة والأدبيّة العربيّة في القرون العربيّة الوسطى قد حدثت عقبَ حصول التّرجمات الّتي نقلت إلى العربيّة معارف الشّعوب الأخرى. وأغلب الظنّ أيضًا أنّ العرب دخلوا عصر الانحطاط مع توقُّف عمليّة التّرجمة هذه. وهذا ما يشهده العالم العربي في عصرنا الحاضر، كما تشير إليه تقارير التّنمية البشريّة الصّادرة عن الأمم المتّحدة.

على كلّ حال، يصحّ أن نقول الآن إنّ التّرجمة، على اختلاف مجالات المعارف المنقولة، هي شبكة الإنترنت الأولى قبل أن تداهمنا هذه الشّبكة المعاصرة. فالتّرجمة هذه هي الّتي قرّبت العالم من بعضه البعض في العصور الخوالي، ولولاها لما تثاقف العالم ولما تطوّرت العلوم وتكدّست المعارف وتناقلتها الشّعوب فيما بينها. فالتّرجمة هذه هي هي الّتي حوّلت العالم القديم - ولا زالت تفعل كذلك في عصرنا الحاضر - إلى قرية كونيّة منفتحة على بعضها.

ولمّا كنّا في هذه المقالة في معرض الحديث عن الشّعر، فربّما كانت عمليّة التّرجمة ذاتها، هي الّتي دفعت الجاحظ إلى إطلاق رأيه الفريد فيما يتعلّق بالشّعر العربيّ. وهو رأي لو تفكّرنا فيه قليلاً لسارعنا إلى لطم وجوهنا حزنًا على حالنا من جهة، أو لانْشَرحَ صدرنا وبششنا كثيرًا لفطنة هذا الرّجل من جهة أخرى.

لنقرأ ما يقول الجاحظ في الجزء الأوّل من كتاب الحيوان: "وقد نُقلت كتب الهند، وتُرجمت حكم اليونانيّة، وحُوّلت آداب الفرس، فبعضها ازداد حُسنًا، وبعضها ما انتقص شيئًا، ولو حُوّلت حكمة العرب، لبطلَ ذلك المُعجز الّذي هو الوزنُ، مع أنّهم لو حوّلوها لم يجدوا في معانيها شيئًا لم تذكُرْه العجمُ في كتبهم الّتي وضعت لمعاشهم وفطنهم وحكمتهم".

وبكلمات أخرى،
يمكننا أن نلخّص أقوال الجاحظ بأنّ ترجمة آداب الشّعوب الأخرى على مجالاتها المختلفة إلى اللّغة العربيّة قد يزداد بعضها حسنًا، أو قد لا ينتقص من بعضها شيئًا. بينما لو تُرجمت حكمة العرب، أي آدابها الشّعريّة، لَغابَ عنها الوزنُ، والوزنُ فقط، وهو ما يعتبره العربُ إعجازًا. إذ أنّ ترجمة المضامين الشّعريّة العربيّة لا تأتي بمنفعة إلى الشّعوب الأخرى، ولا تحمل إليهم معاني جديدة لا يجدونها في كتبهم. الوزنُ إذن، كما نبّهنا بفطنته الجاحظ، هو كلّ ما يملكه الشّعر العربيّ. والوزن هذا الّذي يعنيه الجاحظ ليس سوى شكل من أشكال التّطريب الّتي لصقت بالذهنيّة العربيّة، شعرًا وموسيقى وخطابة، حتّى عصرنا هذا، دون فكاك من قيود هذا التّطريب، إلاّ فيما ندر طبعًا.


وهكذا، وعندما اكتشف العرب
في تلك القرون أنْ ليس لديهم ما يهبونه للشّعوب الأخرى من معارف، عادوا إلى دعوى الإعجاز العربي الموهومة، أي إلى دعوى التّقوقع في خانة هذا الوزن التّطريبي الّذي لا يمكنُ في رأيهم أنْ يُتَرجَم إلى لغات أخرى. وربّما كانت هذه النّظرة هي بالضّبط ما دفعهم إلى الانكفاء على أعقابهم وهجر التّرجمات من إبداعات ولغات الشّعوب الأخرى. وبذلك دخل العرب في عصر الظّلمات قرونًا طويلة، حتّى جاء الاستعمار إليهم حاملاً معه المطبعة، فبدأت تظهر من جديد على السّاحة العربيّة حركة بطيئة من التأليف ثمّ التّرجمات الّتي شقّ بصيص منها بعض سدول الظّلام الّذي خيّم على العالم العربي طوال قرون.

وهكذا أيضًا بدأ التّأثُّر شعريًّا بما وفد على العرب من ترجمات للشّعر الغربي من جهة، وبما قام به روّاد الشّعر العربي الحديث من شقّ طريق جديدة لهذا الشّعر، وللشّعريّة العربيّة على العموم، حتّى اتّسعت جادة هذه الشّعريّة فدخل فيها الشّعراء العرب زرافات ووحدانا.

صحيح أنّ القطيعة
الّتي شهدها الشّعر العربي المعاصر مع التّراث الشّعري العربي القديم هي، بلا شكّ، من مؤثّرات الانفتاح على التّراث الشّعري العالمي، اطّلاعًا وقراءةً من جهة، وترجمة لهذا الشّعر إلى اللّغة العربيّة من الجهة الأخرى. غير أنّ لهذه القطيعة وجهين: واحد إيجابيّ والآخر سلبيّ يلقي بظلاله على مجمل الحركة الشّعريّة العربيّة المعاصرة.

فالعزوف عن المعجز العربي، بلغة الجاحظ، أي إلقاء الوزن والتّطريب عرض الحائط له جانب إيجابي، ففيه ما يُهدّئ من انفعالات عاطفيّة عربيّة. وهذه هي حال نفسيّة عربيّة طالما كانت تُشكّل حجابًا مُسْدَلاً على عمل العقل، أي تحجب عنه إمكانيّة الولوج في مضامين الكلام وسبر أغوارها. ولكن، ومن جهة أخرى، فإنّنا نرى أنّ الشّعر العربي، وعلى وجه التّعميم أيضًا، قد أخذ يفقد مع هذا العزوف كلّ تلك القيم المضافة الّتي تجعل من الشّعر شعرًا، لما لَهُ من وقع مختلف في النّفس البشريّة على اختلاف مللها ونحلها وتعدد ألسنها. كما يمكننا أن نقول، إنّه لا ينبغي للشّاعر العربي أن يبدأ البناء في الهواء، إنّما يتوجّب عليه أن يقف أوّلاً على أسس صلدة، بدءًا من تراثه ومن أرضه، من ترابه وصخره هو. لأنّه، فيما عدا ذلك، سينهار بناؤه مع هبوب أوّل عاصفة عليه. ومتى ما تمكّن الشّاعر العربيّ من أسس هذا البناء المتينة وأثبت فيه أبوابه ونوافذه وسقوفه واتّجاهات انفتاحه على الفضاء الرّحب من حوله، يستطيع حينئذ أن يختار وجهة الخروج عبر أبوابه ونوافذه إلى الهواء الطّلق، ليسرح ويمرح في فضاء الشّعر كما يشاء.

بالإضافة إلى ذلك، فمن شأن هشاشة القراءات والتّرجمات من اللّغات الأخرى، إن لم نذهب إلى ما هو أبعد من ذلك كتشويه نصوص الشّعوب الأخرى في التّرجمات العربيّة الّتي قلّما تتمّ من اللّغة الأصليّة للنصّ الشّعري المنقول وإنّما عبر لغة ثالثة، وما تولّده هذه الهشاشة التّرجمانيّة من فهم مخطوء، قد تضع القارئ - الشّاعر- العربيّ في وضع يخيّم فيه الجهل بحقيقة النّصّ الشّعري الأصلي على ما يحويه هذا النّص في لغته الأصليّة.

وهنا نصل إلى عمليّة التّرجمة ذاتها.


ومرّة أخرى نعود لنأخذ بقول الجاحظ
فيما ينبغي للمترجم أن يكون أوّلاً قبل البدء بهذه المهمّة: "ولا بدّ للتَّرجُمان من أن يكون بيانُه في نفس التّرجمة... وينبغي أن يكون أعلمَ النّاس باللّغة المنقولة والمنقول إليها، حتّى يكون فيهما سواءً وغايةً". وهذا العلم باللّغة الّذي يذهب إليه الجاحظ ليس علمًا مقصورًا على لغة القاموس، إنّما هو علم بكلّ طبقات هذه اللّغة على مرّ العصور، إذ أنّ اللّغة هي الأخرى كالبناء، تبدأ من زمان ومن مكان على هذه الأرض، ومن ثمّ تنبني لبنةً فوق أخرى، أو تتشكّلُ وتتلوّنُ مكوّنةً قصورًا مُنيفةً من المعارف الحضاريّة البشريّة.

ولذلك فإنّ التّرجمة، على غرار رياضة البدن، هي مهمّة شاقّة ومتعبة. غير أنّها، وعلى غرار الرّياضة البدنيّة، تحمل معها نفعًا هو ما يمكن أن نطلق عليه رياضة العقل. ومثلما ينتفع المترجمُ في عمله من الغوص في طبقات اللّغة المنقولة، فإنّه ينتفع أيضًا بالغوص في طبقات لغته إذ هو يحاول أن ينقل النّصّ إليها. فمن خلال هذه الرّحلة في أروقة وثنايا بيته اللّغوي كثيرًا ما يعثر على درر بأشكال مختلفة، هي ملك له، كانت محجوبة عن ناظريه ردحًا من الزّمن، فيسارع إلى انتشالها من تلك الأقباء المظلمة ليعيد عرضها على الملأ بحلّة جديدة.


وإذا كانت هذه
هي حال التّرجمة على العموم، فإنّ ترجمة النّصوص الشّعريّة هي ملكة هذه التّرجمات، لما ينضاف إلى جوهر الشّعر في التّراث الإنساني من قيم جماليّة تفرقه عن سائر الصّناعات الأدبيّة.


***


نشرت في "إيلاف"، 16 يونيو 2005

سخافات الفتاوى اليهوديّة

سلمان مصالحة
 
سخافات الفتاوى اليهوديّة
 
ما من شكّ في أنّ 
شريحة واسعة من القرّاء على علم بما شاع في السّنوات الأخيرة من مهازل الفتاوى الإسلاميّة. لقد لعبت هذه الفتاوى دورًا كبيرًا في إدخال الفكاهة إلى كثير من البيوت العربيّة في مشارق الأرض ومغاربها، نظرًا لما تضمّنته من أمور تدلّ على انشغال كثير من النّاس بتفاهات لا تُصَدَّق. بدءًا بإرضاع الكبير، مرورًا بالتّبرُّك ببول الرّسول وبصاقه وانتهاءً بأمور قد لا تخطر على بال. لقد كُتب الكثير عن هذه الأمور بالعربيّة مثلما كُتب عنها بلغات الشّعوب الأخرى حتّى أضحى هؤلاء ومن يتّبعهم مثارًا للسّخرية على رؤوس الأشهاد. لن نعود إلى هؤلاء في هذه المقالة، بل سنتعرض فيما يلي إلى مجموعة من الفتاوى الّتي لا تقلّ سخفًا عن تلك الفتاوى الإسلاميّة، ولكن هذه المرّة تأتي هذه الفتاوى من حاخامات يهود. 
 
 رُبّما كان يوم السّبت، بما يمثّله، 
أحد أهمّ الأمور الّتي منحتها الحضارة اليهوديّة للبشريّة، بمعنى إفراد هذا اليوم كيوم يتوقّف فيه العمل ويركن الإنسان والحيوان فيه للرّاحة. لقد نبع هذا من قصّة الخلق حيث فرغ الإله من خلق العالم في أيّام الأسبوع الستّة، وركن إلى الرّاحة في اليوم السّابع، يوم السّبت. قبل ذلك لم تعرف الحضارة البشريّة يومًا للرّاحة. لقد حافظ هذا اليوم على اسمه العبري "سبت" في اللّغة العربيّة. وللأهميّة المعزوّة ليوم السّبت في الحضارة اليهوديّة من حيث وجوب التّوقُّف عن المشاغل على جميع أشكالها، فهو يشغل بال الكثيرين من المستفسرين بقضايا شتّى قد لا تخطر على بال أحد من القرّاء. 
 
 مثال على ذلك، هل بوسع المرء أن يستخدم الشّمسيّة اتّقاءً للمطر أو أشعّة الشّمس أيّامَ السّبت؟ قد يظنّ البعض أنّ عمليّة فتح الشّمسيّة تشكّل عملاً يجب التّوقُّف عنه أيضًا، غير أنّ مردخاي إلياهو، وهو الحاخام السفرادي الأكبر قد أفتى بهذه المسألة قائلاً: "يُحظَر استعمال الشّمسيّة أيّام السّبت، حتّى وإنْ كانت مفتوحةً منذ يوم الجمعة". وتعليل ذلك أنّ الشّمسيّة هي بمثابة خيمة ترفه فوق الرأس، ولمّا كان التّخييم، أي إنشاء الخيام، محظورًا يوم السّبت، فإنّ حمل الشّمسيّة هو بمثابة تخييم، ولذا يُحظر رفعها حتّى وإن كانت مفتوحة منذ يوم الجمعة. 
 
غير أنّ أمورًا أخرى لها علاقة بالحياة العصريّة قد يُسمح بها إذا كان الابتداء بها يوم الجمعة. مثال على ذلك يتعلّق بالتّعامل مع بالإنترنت. فها هو حاخام مدينة صفد يتطرّق إلى سؤال حول إمكانيّة إنزال برامج من الإنترنت يوم السّبت. وعلى ذلك يجيب: "يُسمح إنزال برامج من الإنترنت أيّام السّبت، بشرط أن يبدأ الإنزال يوم الجمعة، وبشرط أن تكون شاشة الحاسوب مُطفأة، وكلّ ذلك مشروط أيضًا بأن يكون مشغّلو الموقع من غير اليهود". وتفسير أقوال الحاخام تعود إلى أنّ اليهودي مُلزم بالحفاظ على حرمة السّبت، فإذا كان مشغّل الموقع يهوديًّا فهذا يعني أنّه قد مسّ بحرمة السّبت، أمّا غير اليهودي فهو غير مُلزَم بهذه الحرمة، ولذلك إذا كانت شاشة الحاسوب مُطفأة وبدأ التّنزيل قبل دخول يوم السّبت فإنّ ذلك يحلّ لأنّ من يقوم بتنزيل البرامج لا يُشغّل الكهرباء، لكون شاشة الحاسوب مُطفأة يوم السّبت، ولكون مشغّل الموقع من غير اليهود. حُرمة السّبت تحظى بدرجة عالية من القدسيّة في نظر الحاخامات لدرجة أنّه حتّى لو رأى شخص وجود قَمْل في رأس أحد أبنائه فإنّه: "يُحظَر قصع القمل أيّام السّبت"، مثلما أفتى أحدهم. وعلى العموم، كما أفتى الحاخام السفرادي الأكبر: "يُحظر قتل الحشرات أيّام السّبت"، ويضيف أنّه يمكن رشّ المبيدات في الهواء لإبعاد الحشرات، وهو يعلّل ذلك بالقول: "لأنّ قاتل الحشرة مثله مثل قاتل البعير"، على حدّ قوله، فلمّا كان محظورًا قتل البعير يوم السّبت فإنّ ذلك يندرج أيضًا على الحشرات. وقد يصل التّطرُّق أحيانًا إلى مسائل قد تثير الضّحك في نفس من يسمعها. على سبيل المثال، هل يستطيع الفرد (اليهودي طبعًا) أن يضيف شقفة ليمون إلى كأس الشّاي الّذي يحتسيه يوم السّبت؟ وللإجابة على ذلك، ها هو عوڤاديا يوسف يفتي بهذه المسألة قائلاً: "يُحظر إضافة شقفة ليمون إلى كأس الشّاي يوم السّبت". وهو يعلّل ذلك على النّحو التّالي: "لأنّ اللّيمون يُعدّ من الأطعمة الحادّة. من هذا المنطلق فإنّ إضافته إلى الشّاي الحارّ تجعله ينطبخ، ولذلك فإنّ هذه الخطوة تُعدّ بمثابة عمليّة طبخ (علمًا أنّ الطبخ محظور على اليهود يوم السّبت). ويقول عوڤاديا يوسف: هنالك من يتشدّد بهذا الأمر وهنالك من يتهاون بهذه القضيّة سامحًا إضافة شقفة اللّيمون إلى الشّاي، غير أنّه يضيف: "من الأفضل التّشدّد بها الأمر". 
 
 وماذا بشأن الرجل والمرأة؟ 
عوڤاديا يوسف ذاته، وهو الحاخام المعروف أيضًا بتفوّهاته النّابية أحيانًا تجاه السّياسيّين الإسرائيليّين من الأحزاب العلمانيّة، يُصرّح أنّ على الرّجل (اليهودي طبعًا) عدم العبور بين امرأتين. فقد يحدث أحيانًا أنّ من يعيش في المدينة مثلاً ويمشي في الشّارع قد يُضطرّ إلى مواصلة سيره بالعبور بين امرأتين، غير أنّ هذا محظور على اليهوديّ التّقيّ، لأنّ عوڤاديا يوسف يعلّل ذلك بأن العبور بين امرأتين مثله مثل العبور بين حمارَيْن. وقد أثارت أقواله هذه، الّتي تشبّة عمليًّا المرأة بالحمار، تنديدات من أوساط كثيرة. حاخام آخر هو شلومو أڤينير يذهب بعيدًا في مسألة التّفريق بين مكانة الرّجل ومكانة المرأة في اليهوديّة. فقد أفتى هذا الحاخام، على سبيل المثال، إنّه حتّى في حالات الطّوارئ : "إذا رأى مُضَمّد، أو عامل إغاثة، جريحين بجراح خطيرة، وكان الجريحان امرأةً ورجلاً، فلزامٌ عليه أن يقدّم أوّلاً العونَ للرّجل، وبعدئذ للمرأة، وذلك لكي ينقذ قيامَه (أي قيام الرّجل) بفرائضه الدينيّة". 
 
 مسائل تتعلّق بقضاء الحاجة 
ها هو عوڤاديا يوسف مرّة أخرى يفتي: "على الجالس في المرحاض ألاّ يتكلّم مع أيّ شخص خارج المرحاض"، ويؤسّس فتواه على أحكام الرمبام (موسى بن ميمون) الّذي ذكر: "لا يذهب إلى المرحاض شخصان معًا، ولا يتكلّم ثمّ، وليغلق الباب وراءه". ويخفّف عوڤاديا يوسف من فتواه هذه بالسّماح بالتكلّم فقط في حالات الطّوارئ، وذلك بشرط أن يختصر المتكلّم بكلامه. ولكن، ليس الجالس في المرحاض لقضاء الحاجة ملزمًا بالصّمت فحسب، بل يُحظر عليه قراءة صحيفة عبريّة في ذا المكان. ففي فتوى أخرى يقول عوڤاديا يوسف: "يُحظر قراءة صحيفة عبريّة في المرحاض". مضيفًا إنّه على الرّغم من كون هذه الصّحف صحفًا علمانيّة إلاّ أنّها مكتوبة بحروف عبريّة، أي بلغة مقدّسة ولذلك يجب الامتناع عن إدخال هذه اللّغة إلى أماكن غير محترمة. أمّا الصّحف الإنكليزيّة (وغير العبريّة على العموم)، فيسمح بقراءتها في المرحاض. 
 
 وما هو حكم الطّير الّذي يسبّ ويشتم؟ 
حتّى طيور الببغاوات لا تفلت من هذه الفتاوى. وملخّص الحكاية أنّ أحد الأشخاص اشترى طير ببغاء ودفع ثمنه، غير أنّ هذا الطير كما هو معلوم قد يتفوّه ببعض الكلمات. غير أنّ هذا الطير بالذّات كان يتفوّه بألفاظ نابية، مثل "منيك"، "ابن زانية" و"هومو" إلى آخره. 
 
وحول هذه القضيّة جاءت فتوى الحاخام مئير مزوز، وهو الحاخام الأكبر لليهود التّونسيّين. وقد نصّت فتواه على ما يلي: "يجب تبكيم الببغاء بأقلّ قدر من المعاناة"، أي يجب قصّ لسانه. ولكن إن لم ينجح هذا العلاج، فـ "يجب ذبح الببغاء". غير أنّ صاحب الببغاء يرفض ذبحه لأنّ زوجته هدّدته إن فعل ذلك فستطلب الطّلاق منه. ولذا يقول إنّه على استعداد للتّبرّع بالببغاء لحديقة الحيوانات، ولكن بشرط أن يتمّ إبعاد الأطفال عنه، لكي لا يسمع الأطفال تلك الكلمات النّابية الصّادرة عن هذا الطير الفظّ. 
 
 كلّ هذه المضحكات الدّينيّة جمعها ودوّنها الموقع الإسرائيلي "حوفش" (أي حريّة بالعربيّة) والّذي يذكر، بين ما يذكر، من بين أهدافه ما يلي: "عرض الهويّة اليهوديّة العلمانيّة بوصفها قيمة حضاريّة ووجوديّة، وبيان التّوجهات المختلفة بشأن المصطلح "الله"، وإضفاء الشرعيّة على هذه التّوجّهات الّتي القاسم المشترك بينها هو نَفْيُ الإيمان بإله شخصاني، كما هي الحال في اليهودية والنصرانية، والّذي يراقبُ ويتدخّل بما يجري في العالَم، ويطلب من بني البشر أن يسجدوا له وقيموا فرائضه. وكذلك نقد الإيمان الدّيني وشرح انعدام منطقيّته...." (عن الموقع باللغة العبريّة). 
 
 إذن، وبعد كلّ ما أوردنا هنا من تفاهات تشغل بال المتديّنين اليهود، ألا تذكّر هذه القضايا السّخيفة القارئ العربي بالقضايا السّخيفة ذاتها الّتي تنشغل بها الفتاوى الإسلاميّة. على ما يبدو فحتّى النّظر في هذه القضايا تعلّمها الفقهاء الإسلاميّون من الإفتاء اليهودي. 
لذا لا مناص من القول إنّ: 
 
 العقل وليّ التّوفيق.
***

محرقة بني قريظة 2

سلمان مصالحة

محرقة بني قريظة (2)


بعد أن سمع سعد بن معاذ
الأصوات التي رغبت في استيهاب بني قريظة، خطب فيهم فقال: "لا آلوكم جهدًا. فقالوا، ما يعني بقوله هذا؟ ثم قال: عليكُم عهد الله وميثاقه أنّ الحكمَ فيهم ما حكمتُ؟ قالوا: نعم. فقال سعد للناحية الأخرى التي فيها رسول الله صلعم...: وعلى مَنْ ها هنا مثل ذلك؟ فقال رسول الله صلعم ومن معه: نعم. قال سعد: فإني أحكُمُ فيهم أنْ يُقْتلَ مَنْ جَرَتْ عليه المُوسَى، وتُسْبَى النّساءُ والذرية، وتُقسم الأموالُ." (مغازي الواقدي: ج 1،203. أنظر أيضًا: طبقات ابن سعد: ج 2، 75؛ المختصر في أخبار البشر لأبي الفدا: ج 1، 90؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 203-204؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1، 306-307؛ مسند سعد بن أبي وقاص: ج 1، 20؛ الأسماء والصفات للبيهقي: ج 2، 321؛ سنن البيهقي: ج 2، 126؛ شرح السنّة للبغوي: ج 7، 31؛ مسند البزار: ج 3، 325؛ مكارم الأخلاق للخرائطي: ج 2، 34؛ إثبات صفة العلو لابن قدامة: ج 1، 69؛ حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني: ج 3، 171؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشّامي: ج 5، 11). وبعد سماع هذا الحكم بالذّبح الّذي أصدره سعد بن معاذ على بني قريظة، والّذي كان حذّرهم منه أبو لبابة من قبل، صادق محمّد على هذا الحُكم قائلاً له: "لقد حَكَمْتَ بحُكْم الله عزّ وجلّ من فوق سبعة أرقعة." (مغازي الواقدي: ج 1،203. أنظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 20، 247؛ تفسير البيضاوي: ج 1، 371؛ سيرة ابن هشام: ج 2، 240؛ مسند سعد بن أبي وقاص: ج 1، 20؛ الروض الأنف للسهيلي: ج 3، 443؛ تفسير الثعالبي: ج 3، 226؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 3، 343؛ الكشاف للزمخشري: ج 1، 994؛ الأسماء والصفات للبيهقي: ج 2، 321؛ سنن البيهقي: ج 2، 126؛ المختصر في أخبار البشر لأبي الفدا: ج 1، 90؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 203-204؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1، 306-307؛ سير إعلام النبلاء للذهبي: ج 1، 288؛ مسند البزار: ج 3، 325؛ إثبات صفة العلو لابن قدامة: ج 1، 69). وبرواية أخرى، قال محمّد بعد أن أصدر سعد بن معاذ حكمه: "لقد حكمَ - حُكْمَ - الله عز وجل، ولقد رضي الله على عرشه بحكم سعد." (تفسير مقاتل: ج 3، 80).

بل وأكثر من ذلك، فقد رُوي عن محمّد قولُه في هذا الحكم، وعلى مسمع من الجميع: "بذلك طَرَقَني المَلَكُ سَحَرًا." (الدر المنثور للسيوطي: ج 4، 49؛ أنظر أيضًا: تفسير القرطبي: ج 7، 395؛ الرّوض الأنف للسهيلي: ج 3، 442؛ عمدة القاري للعيني: ج 22، 120؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشّامي: ج 5، 11)، أي أنّ الملاك قد نزل عليه وأوعز له بهذا الحكم، بالذّات في سَحَر تلك اللّيلة التي كان سمع فيها، على ما يبدو، دعاء سعد بن معاذ الله أنْ لا يميتَه حتّى تقرّ عينه من بني قريظة. كما ذُكر في رواية أخرى أنّ محمّدًا قام باستشارة سعد بن معاذ بشأنهم بعد استسلامهم، فأشار عليه سعد بذبحهم، فوافقَهُ محمّد على ذلك قائلاً بأنّ ذلك هو ما أمره الله به. لقد توجّه محمّد إلى سعد سائلاً إيّاه أن يشير عليه فيهم، فأجابه سعد: "لو وُلّيتُ أمْرَهم قتلتُ مقاتلتَهم وسبيتُ ذراريهم وقسمتُ أموالَهم. فقال رسول الله صلعم: والذي نفسي بيده، لقد أشَرْتَ علَيّ فيهم بالذي أمَرَني الله به." كما يورد ابن سعد (طبقات ابن سعد: ج 3، 425؛ أنظر أيضًا: تاريخ الإسلام للذهبي: ج 2، 322؛ سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 1، 288؛ تفسير ابن عبد السلام: ج 5، 33؛ النكت والعيون للماوردي: ج 3، 370).

وها هي أصداء ذلك الحكم بقتل الرّجال دون الأولاد، تُسمع لاحقًا كما يرويها أحد بني قريظة، وكان من هؤلاء الأولاد الذين نجوا من تلك المجزرة لأنّه كان صغير السنّ ولم تكن عانَتُه أنبتت الشّعر بعد: "عن عبد الملك بن عمير قال، سمعت عطية القرظي يقول: عُرِضْنَا على النبيّ صلعم، يوم قريظة، فكانَ مَنْ أنْبَتَ قُتِلَ، ومَنْ لم يُنْبِتْ خُلِّيَ سَبيلُهُ، فكُنتُ فيمن لم يُنْبتْ، فخُلّي سَبيلي. وفي رواية: كنتُ، يوم حكم سعد بن معاذ في بني قريظة، غلامًا. فنَظَرُوا إلى مُؤتَزَري، فلم يجدُوني أنْبَتُّ، فها أنا ذا بين أظْهُركم."، وبرواية أخرى: "كنتُ يوم حكم سعد بن معاذ في بني قريظة غلامًا. فشَكّوا فيّ، فنَظَرُوا إليّ فلم يجدُوا المَواسي جَرَتْ عَلَيّ، فَاستُبْقيتُ." (المسند الجامع لأبي المعاطي النّوري: ج 29، 370-372؛ أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 205؛ مسند الصحابة في الكتب التسعة: ج 48، 207-210؛ مسند أحمد: ج 42، 237-239؛ سنن النسائي: ج 11، 190؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 3، 343؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 17، 164؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 1، 6175؛ المعجم الأوسط للطبراني: ج 6، 209؛ المستدرك للحاكم: ج 3، 37).

محرقة بني قريظة:
وهكذا، وبعد أن صدر حكم سعد بن معاذ على بني قريظة، أمر محمّد بتكتيف الأسرى وفصل الرّجال عن النّساء والأطفال: "فأمرَ بهم رسولُ الله صلعم محمّدَ بن مسلمة فكُتفوا ونُحّوا ناحية وأخرج النّساء والذرية فكانوا ناحية." (طبقات ابن سعد: ج 2، 75؛ أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 510؛ تاريخ الطبري: ج 2، 250؛ سيرة ابن هشام: ج 2، 240؛ تفسير البغوي: ج 6، 341؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 11، 116؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 238؛ زاد المسير لابن الجوزي: ج 6، 374؛ تفسير حقي: ج 11، 32). فأمّا الرّجال فاقتيدوا إلى دار أسامة بن زيد، وأمّا النّساء والأطفال فقد اقتيدوا إلى دار بنت الحارث. ثمّ أمر محمّد بجمع كلّ ما تحتوي عليه حصونهم: "وجمع أمتعتهم وما وجد في حصونهم من الحلقة والأثاث والثياب، فوجد فيها ألفًا وخمسمائة سيف وثلاثمائة درع وألفي رمح وخمسمائة ترس وحجفة، وخمرًا وجرار سكر، فأُهْريقَ ذلك كلّه." (عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 55؛ أنظر أيضًا: طبقات ابن سعد: ج 2، 75)، وبعدئذ أمر بنقل كلّ ما انتُهبَ منهم: "وأمرَ رسول الله صلعم بالسلاح والأثاث والمتاع والثياب، فحُمل إلى دار بنت الحارث، وأمرَ بالإبل والغنم، فتُركتْ هناك ترعى في الشجر." (مغازي الواقدي: ج 1، 203؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 5، 12). ثمّ بدأ محمّد بإجراء التّحضيرات لتنفيذ الحكم على بني قريظة، فقد رُوي أنّه: "رجع رسول الله صلعم إلى المدينة، وحَبَسَ بني قريظة في بعض دور الأنصار." (تاريخ أبي الفدا: ج 1، 204؛ أنظر أيضًا: المختصر في أخبار البشر لأبي الفدا: ج 1، 90). بعدئذ "أمر رسول الله صلعم بأحمال التّمْر فنُثرتْ عليهم، فباتوا يكدمونها كدمَ الحُمُر، وجعلوا ليلتَهم يَدْرُسون التوراة، وأمرَ بعضُهم بعضًا بالثّبات على دينه ولُزُوم التّوراة." (مغازي الواقدي: ج 1، 203؛ أنظر أيضًا: سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 5، 12؛ السير الكبير للشيباني: ج 3، 1029).

وفي صبيحة اليوم التالي قاد محمّد نفسه وأصحابه عمليّة الإعدام، حيث خرج مبكرًا إلى السوق وأمرَ بحفر قبر جماعيّ لهم: "قالوا: ثم غدا رسول الله صلعم إلى السوق، فأمر بخُدود فخُدّت في السّوق، ما بين موضع دار أبي جهم العدوي إلى أحجار الزيت بالسّوق، فكان أصحابُه يحفرون هناك. وجلس رسول الله صلعم ومعه علية أصحابه، ودعا برجال بني قريظة، فكانوا يخرجون رسلاً رسلاً، تُضْرَب أعناقُهم." (مغازي الواقدي: ج 1، 203؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 4، 200؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 238؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 103؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 204؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 249؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 120). وفي هذه الأثناء، بينما كانت عمليّة قتل الأسرى المكبّلين تجري على قدم وساق، لم يكن هؤلاء الأسرى من بني قريظة يعرفون ما يجري مع الّذين يُقتادون إلى موتهم: "فقالوا لكعب بن أسد: ما ترى محمّدًا يصنعُ بنا؟ قال: مايسوؤكم وما ينوؤكم. ويلكم، على كل حال لا تعقلون. ألا ترون أنّ الدّاعي لا يَنزعُ، وأنّه من ذهبَ منكُم لا يرجعُ؟ هو والله السّيف. قد دعوتكم إلى غير هذا فأبيتم! قالوا: ليس هذا بحين عتاب... قال حيي: اتْركُوا ما تَرون من التّلاوُم، فإنّه لا يَرُدُّ عنكم شيئًا، واصبروا للسّيف. فلم يزالوا يُقْتَلون بين يدي رسول الله صلعم، وكان الذين يَلُون قَتْلَهم علي والزّبير." (مغازي الواقدي: ج 1، 203؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 101؛ سيرة ابن هشام: ج 2، 240؛ تفسير البغوي: ج 6، 341؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 11، 116؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 71؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 239؛ المختصر في أخبار البشر لأبي الفدا: ج 1، 90؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 203-204؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1، 306-307).

وقد شارك محمّد بنفسه في قتل الأسرى،
كما يروي أحد أحفاد سعد بن معاذ: "عن الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، قال: لما قَتلَ رسولُ الله صلعم حيي بن أخطب، ونباش بن قيس، وغزال بن سموأل، وكعب بن أسد وقام، قال لسعد بن معاذ: عليكَ بمَنْ بَقِي. فكان سعد يُخرجهم رسلاً رسلاً يقتلهم." (مغازي الواقدي: ج 1، 205؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 4، 200؛ تاريخ الطبري: ج 2، 4؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 238؛ بحر العلوم للسمرقندي: ج 3، 404؛ نهاية الأرب للنويري: ج 4، 456). أمّا حيي بن أخطب، وهو زعيم بني النّضير الّذي كان التجأ إلى بني قريظة من قبل بعد إجلاء بني النّضير من أوطانهم، فقد اقتيدَ مكتوفًا، وكانَ قد شَقّ حلّة كان يلبسها، وأُحضر إلى محمّد: "ثم أُتي بحيي بن أخطب مجموعة يداه إلى عنقه، عليه حلّة شقحية قد لبسها للقتل، ثم عمدَ إليها فَشَقّها أُنْملةً لئلا يسلبه إياها أحد، وقد قال له رسول الله صلعم حين طلع: ألمْ يُمكّن اللهُ منكَ، يا عدو الله؟ قال: بلى، والله ما لُمْتُ نفسي في عداوتك، ولقد التَمَسْتُ العزّ في مكانه... ثم أقبلَ على الناس فقال: يا أيّها الناس، لابأسَ بأمر الله! قَدَرٌ وكتابٌ، ملحمةٌ كُتبت على بني إسرائيل. ثم أمرَ به فضربَ عُنقَه." (مغازي الواقدي: ج 1، 203؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 4، 201؛ تاريخ الطبري: ج 2، 4؛ تفسير الطبري: ج 20، 247؛ تفسير البغوي: ج 6، 341؛ تفسير القرطبي: ج 14، 140-141؛ سنن البيهقي: ج 6، 323؛ الفائق للزمخشري: ج 2، 257؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 5، 241؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 103).

غير أنّ ذلك الشّقّ الّذي عمله حيي بن أخطب في الحلّة الّتي ارتداها قدر أنملة لم يكن، بحسب ما تذكره الرّواية "لئلا يسلبه إياها أحد"، بل هي علامة من علامات الحزن والحداد في اليهوديّة لدى موت الأقرباء، وهذا التّقليد لا زال قائمًا لدى اليهود المتديّنين حتّى اليوم. إنّ مصدر هذا التّقليد قديم، وهو يستند إلى تلك الإشارة التي وردت في التّوراة عن يعقوب، إذ شقّ يعقوب ثوبه لسماع خبر موت يوسف: "فَشَقَّ يَعْقُوبُ ثِيَابَهُ وَطَرَحَ مُسوحًا عَلَى حَقَوَيْهِ دِثارًا وَحَدَّ عَلَى ابْنِهِ أَيَّامًا كُثارًا." (سفر التكوين: فصل 37، 34، الترجمة من الأصل العبري هي لي)، وبحسب التّقليد يُشقّ الثّوب قدر أنملة في قَبّته لدى مقدم العنق. وهذا هو بلا شكّ سبب الشقّ في حلّة حيي بن أخطب، وليس ما ورد من تفسير له في الرّواية الإسلاميّة بهدف إضافة نُعوت لتقذيع اليهود والحطّ من قيمتهم.

وها هي عائشة أيضًا تؤكّد على أوامر محمّد بقتل رجال بني قريظة، كما تروي أيضًا قصّة مقتل امرأة يهوديّة واحدة منهم في تلك المجزرة: "قالوا: وكانت امرأةٌ من بني النضير يقال لها نباتة، وكانت تحت رجلٍ من بني قريظة فكان يحبّها وتحبّه، فلما اشتدّ عليهم الحصار بكت إليه وقالت: إنّك لمفارقي. فقال: هو والتوارة ما ترين، وأنت امرأةٌ فدلّي عليهم هذه الرّحى، فإنّا لم نقتل منهم أحداً بعد، وأنت امرأةٌ، وإن يظهر محمدٌ علينا لا يقتل النساء. وإنما كان يكرهُ أن تُسبَى، فأحبّ أن تُقتل بجرمها. وكانت في حصن الزبير بن باطا، فدلّت رحًى فوق الحصن، وكان المسلمون ربما جلسوا تحت الحصن يستظلون في فيئه، فأطلعت الرّحى، فلما رآها القوم انفضّوا، وتدرك خلاد بن سويد فتشدخ رأسه، فحذر المسلمون أصل الحصن. فلما كان اليوم الذي أمرَ رسولُ الله صلعم أن يُقْتلوا، دخلَتْ على عائشة فجعلت تضحك ظهراً لبطنٍ وهي تقول: سراةُ بني قريظة يقتلون، إذ سمعتْ صوت قائل يقول: يا نباتة! قالت: أنا والله التي أُدْعَى. قالت عائشة: ولم؟ قالت: قتلني زوجي - وكانت جاريةً حلوة الكلام. فقالت عائشة: وكيف قتلك زوجك؟ قالت: كنت في حصن الزبير بن باطا، فأمرني فدلّيت رحًى على أصحاب محمد فشَدَختُ رأس رجلٍ منهم فمات، وأنا أُقتل به. فأمر رسول الله صلعم بها فقُتلت بخلاد بن سويد. قالت عائشة: لا أنسى طيبَ نفس نباتة وكثرةَ ضحكها، وقد عرفت أنها تقتل." (مغازي الواقدي: ج 1، 205؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 2، 241؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 102؛ مسند أحمد: ج 57، 228؛ صحيح أبي داود: ج 2، 507؛ سنن أبي داود: ج 8، 151؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 1، 6176؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 55؛ تفسير الألوسي: ج 16، 85؛ المسند الجامع لأبي المعاطي النّوري: ج 51، 234). ورغم ما تذكر عائشة من طيب نفس تلك المرأة اليهودية وبشاشتها، إلاّ أنّها لم تحاول إنقاذها من القتل.

أمّا قصّة العجوز اليهودي،
الزبير بن باطا، وما جرى من حديث بينه وبين ثابت بن قيس آنئذ، فإنّها تحمل في طيّاتها عمق تلك المأساة الّتي حلّت بيهود بني قريظة:
"كان الزبير بن باطا مَنَّ على ثابت بن قيس يوم بعاث، فأتى ثابتٌ الزبيرَ فقال: يا أبا عبد الرحمن هل تعرفني؟
قال: وهل يجهل مثلي مثلك؟
قال ثابت: إنّ لك عندي يدًا، وقد أردتُ أن أجزيك بها.
قال الزبير: إنّ الكريم يجزي الكريم، وأحوج ما كنت إليه اليوم.
فأتى ثابت رسولَ الله صلعم فقال: يا رسولَ الله، إنّه كان للزبير عندي يدٌ، جزّ ناصيتي يوم بعاث فقال: اذْكُرْ هذه النعمةَ عندَك. وقد أحببتُ أن أجزيه بها، فهبه لي.
فقال رسول الله صلعم: فهو لك.
فأتاه فقال: إن رسول الله قد وهبك لي.
قال الزبير: شيخ كبير لا أهل ولا ولد ولا مال بيثرب، ما يصنع بالحياة؟
فأتى ثابت رسولَ الله صلعم فقال: يا رسول الله، أعطني ولده.
فأعطاه ولده فقال: يا رسول الله أعطني مالَه وأهلَه. فأعطاه رسول الله صلعم ماله وولده وأهله.
فرجع إلى الزبير فقال: إن رسول الله قد أعطاني ولدَكَ وأهلَكَ ومالَكَ.
فقال الزبير: يا ثابت، أمّا أنت فقد كافأتني وقضيتَ بالذي عليك. يا ثابت، ما فعلَ الذي كأنّ وجهه مرآة صينية تتراءى عذارى الحي في وجهه - كعب بن أسد؟
قال: قتل.
قال: فما فعلَ سيّد الحاضر والبادي، سيّد الحيين كليهما، يحملهم في الحرب ويطعمهم في المحل - حيي بن أخطب؟
قال: قتل.
قال: فما فعلَ أوّلُ غادية اليهود إذا حملوا، وحاميتهم إذا ولوا - غزال بن سموأل؟
قال: قتل.
قال: فما فعل الحول القلب الذي لا يؤمّ جماعة إلا فضّها ولا عقدة إلا حلّها - نباش بن قيس؟
قال: قتل.
قال: فما فعل لواء اليهود في الزحف - وهب بن زيد؟
قال: قتل.
قال: فما فعلَ والي رفادة اليهود وأبو الأيتام والأرامل من اليهود - عقبة بن زيد؟
قال: قتل.
قال: فما فعل العمران اللذان كانا يلتقيان بدراسة التوراة؟
قال: قتلا.
قال: يا ثابت، فما خير في العيش بعد هؤلاء؟ أأرجع إلى دار كانوا فيها حلولا فأخلد فيها بعدهم؟ لا حاجة لي في ذلك، فإني أسألك بيدي عندك إلا قدمتني إلى هذا القَتّال الذي يَقتل سراةَ بني قريظة ثم يقدّمني إلى مصارع قومي، وخذْ سيفي، فإنه صارمٌ. فاضربني به ضربةَ وأجهزْ، وارفعْ يدَكَ عن الطّعام وألصقْ بالرّأس واخْفضْ عن الدّماغ، فإنّه أحسنُ للجسد أن يبقى فيه العنق. يا ثابت، لا أصبر إفراغَ دلو من نَضَحٍ حتّى ألقى الأحبّة.
قال أبو بكر، وهو يسمع قوله: ويحك يا ابن باطا، إنّه ليسَ إفراغَ دلو ولكنّه عذابٌ أبدي.
قال: يا ثابت، قدمني فاقتلني.
قال ثابت: ما كنتُ لأقتلنك.
قال الزبير: ما كنت أُبالي من قتلني. ولكنْ يا ثابت، انظُرْ إلى امرأتي وولدي فإنّهم جزعوا من الموت، فاطلبْ إلى صاحبك أن يطلقَهُم وأنْ يردّ إليهم أموالَهم.
وأدناهُ إلى الزبير بن العوام، فقدّمهُ فضربَ عنقَهُ. وطلب ثابت إلى رسول الله صلعم في أهله وماله وولده، فردّ رسولُ الله صلعم كل ما كان من ذلك على ولده، وتركَ امرأتَه من السبا، ورد عليهم الأموال من النخل والإبل والرثّة إلا الحلقة فإنّه لم يردها عليهم. فكانوا مع آل ثابت بن قيس بن شماس." (مغازي الواقدي: ج 1، 519؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 251؛ سيرة ابن هشام: ج 2، 242؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 11، 117-118؛ تفسير البغوي: ج 6، 343؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 55-57؛ بحر العلوم للسمرقندي: ج 3، 404؛ تفسير الألوسي: ج 16، 84؛ الأموال لابن زنجويه: ج 1، 382؛ الإيناس بعلم الأنساب للوزير المغربي: ج 1، 20). فكان هذا، على ما يبدو، هو "ردّ الجميل" الذي قدّمه ثابت بن قيس لهذا العجوز اليهودي من بني قريظة، والّذي كان عفا عنه وأطلقَ سراحَه من قبل حين كان ثابت هذا قد وقعَ في أسره يوم بعاث. (أمّا عن تعذيب الأسرى قبل إعدامهم فهذا ما نقرأه من رواية عن نباش بن قيس الّذي سأل عنه الزبير بن باطا من قبل، وعن أنّ الرّسول وبّخَ معذّبه على ما فعل قائلاً له إنّ في ضرب عنقه بالسّيف ما يكفي: "ثمّ أُتي بنباش بن قيس وقد جابذ الذي جاء به حتّى قاتَلَه، فَدَقَّ - أو: فَقَدَّ - الذي جاء به أنْفَه فأرْعَفَه. فقال رسول الله صلعم للّذي جاء به: لم صنعت به هذا؟ أما كانَ في السيف كفاية؟ فقال: يا رسول الله جابذني لأنْ يهرب، فقال: كذب، والتوراة يا أبا قاسم. ولو خلاني، ما تأخّرتُ عن مَوْطن قُتلَ فيه قَوْمي حتّى أكونَ كأحدهم." - مغازي الواقدي: ج 1، 505؛ أنظر أيضًا: سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 5، 12-13).

وبخلاف صنيع ثابت هذا
الّذي لم يشفع للزّبير بن باطا الّذي مَنَّ عليه يوم بعاث، فقد كان هناك من نجا من بالقتل، كما يروى عن رفاعة بن سموأل القرظي الّذي استوهبته سليمى بنت قيس من محمّد: "قالوا: وكان رسول الله صلعم قد أمر بقتل من أُسر منهم، فسألته سليمى بنت قيس... وكانت إحدى خالات رسول الله صلعم... رفاعةَ بن سموأل القرظي وكان رجلاً قد بلغ، فلاذ بها وكان يعرفها قبل ذلك. فقالت: يا نبي الله بأبي أنت وأمي، هَبْ لي رفاعةَ بن سموأل، فإنّه زعم أنّه سيصلّي ويأكل لحم الجمل، فوهبه لها، فاسْتَحْيَتْهُ." (الكشف والبيان للثعلبي: ج 11، 119؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 2، 243؛ الرحيق المختوم للمباركفوري: ج 1، 280). كما كان هناك من نجا بحياته وماله من تلك المجزرة، فقط بعد أن أعلن إسلامه: "وذكر الطبري أنّ ابن إسحاق قال في ثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد بن عبيد: هم من بني هدل ليسوا من بني قريظة ولا النضير، فنسبُهم فوق ذلك، هم بَنو عَمّ القوم، أسلموا تلك الليلة التي نزلت فيها قريظة على حكم سعد بن معاذ." (أسد الغابة لابن الأثير: ج 1، 43، 152؛ أنظر أيضًا: تفسر الطبري: ج 20، 246؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 11، 114؛ لاستيعاب لابن عبد البر: ج 1، 63؛ أسد الغابة لابن الأثير: ج 1، 43).

وحسبما يُروى، لقد كان ذلك اليوم الّذي نُفّذت فيه المجزرة يومًا قائظًا شديد الحرارة فشكا الأسرى المكتوفون من العطش. ولذلك أشار الرّسول على مُنفّذي الإعدام بأن يُتركُوا ليقيلوا في الظلّ ويُسْقوا حتّى يبردوا قليلاً، ثمّ مواصلة الإعدام بعد أن يبرد الطّقس قليلاً: "ثمّ قال رسول الله صلعم: أحْسِنوا إسارَهم وقَيِّلُوهم وأسْقُوهم حتّى يَبْردوا فتَقْتُلوا مَنْ بَقِي، لا تَجْمَعوا عليهم حرَّ الشّمس وحرَّ السّلاح - وكان يومًا صائفًا. فقَيّلُوهم وأسْقُوهم وأطْعَمُوهم. فلمّا أبردوا، راحَ رسولُ الله صلعم يَقْتلُ مَنْ بَقِي." (مغازي الواقدي: ج 1، 505؛ أنظر أيضًا: عمدة القاري للعيني: ج 23؛ 113؛ السير الكبير للشيباني: ج 3، 1029؛ بحر العلوم للسمرقندي: ج 3، 404؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 5، 13؛ بدائع الصنائع للكاساني: ج 6، 92؛ فيض القدير للمناوي: ج 4، 406؛ الموسوعة الفقهية الكويتية: ج 13، 256). لقد استمرّ القتل طوال ذلك النّهار، ولأنّهم لم يفرغوا من قتل جميع الأسرى في النّهار فقد استمرّت العمليّة في اللّيل أيضًا، حتّى إنّهم احتاجوا إلى إشعال سُعف النّخيل لكي يُضيئوا ساحة الإعدام ليلاً، كما روت عائشة: "فكانت عائشة تقول: قُتلت بنو قريظة يومَهم حتّى قُتلوا بالليل على شُعل السّعف. حدثني إبراهيم بن ثمامة، عن المسور بن رفاعة عن محمد بن كعب القرظي، قال: قُتلوا إلى أن غابَ الشّفق، ثم رُدّ عليهم التّراب في الخندق. وكان من شُكَّ فيه منهم أنْ يكونَ بَلَغَ، نُظرَ إلى مُؤتَزَره؛ إنْ كانَ أنْبتَ قُتل، وإنْ كانَ لم يُنبتْ طُرحَ في السّبْي." (مغازي الواقدي: ج 1، 205؛ أنظر أيضًا: سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 5، 113).

أمّا بشأن السّبايا من النّساء والأطفال،
فقد باع محمّد مجموعة منهم لاستعبادهم في نجد مقابل خيل وسلاح، حسبما يُروى: "ثم بعث رسول الله صلعم سعد بن زيد الأنصاري، أخا بني عبد الأشهل، بسبايا من سبايا بني قريظة إلى نجد، فابتاعَ لهُ بهم خيلاً وسلاحًا." (تاريخ الطبري: ج 2، 6؛ انظر كذلك: الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1، 307؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 249). كما كان قسم السّبايا على أتباعه: "ثم قسمَ رسولُ الله صلعم سبايا بني قريظة... واصْطَفَى لنفسه ريحانة بنت عمرو، فكانت في مُلْكه حتّى ماتت..." (المختصر في أخبار البشر لأبي الفدا: ج 1، 90؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 203-204؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1، 306-307). وكان محمّد قد عرض على ريحانة هذه أن تُسلم وأن يتزوّجها ويعتقها، غير أنّها رفضت قبول الإسلام وأصرّت على بقائها على يهوديّتها: "وقد كان رسول الله صلعم عرضَ عليها أن يتزوّجها، ويضرب عليها الحجاب، فقالت: يا رسول الله، بل تَتْرُكني في مُلْكك، فهو أخَفّ علَيّ وعليك، فتركَها. وقد كانت حين سباها رسولُ الله صلعم قد تَعَصّتْ بالإسلام، وأبَتْ إلا اليهودية." (تاريخ الطبري: ج 2، 6؛ انظر كذلك: تفسير البغوي: ج 6، 343-344؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1، 307؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 249). وتذكر الروايات إنّ محمّدًا قد عزلها لهذا السّبب واكتئب بسببها: "فعَزَلَها رسولُ الله صلعم ووَجَدَ في نفسه لذلك من أَمْرِها." (تاريخ الطبري: ج 2، 6؛ انظر كذلك: تفسير البغوي: ج 6، 344؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 11، 119؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1، 307؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 249). ثم تذكر الروايات أنّها أسلمتْ لاحقًا، فَسَرَّه ذلك.

وفيما يتعلّق بعدد الذين قُتلوا في تلك المجزرة وأُلقوا في تلك القبور الجماعيّة فقد اختلفوا فيه. فهنالك من يقول إنّه تراوح ما بين الستمائة إلى التسعمائة: "ثم بعث إليهم فضربَ أعناقَهم في تلك الخنادق...وهم ستمائة أو سبعمائة، والمُكثر يقول كانوا ما بين الثمانمائة والتسعمائة." (عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 54-55؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 101؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 203-204؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1، 306-307؛ المختصر في أخبار البشر لأبي الفدا: ج 1، 90)، غير أنّ هنالك من يذكر عددًا أكبر من ذلك بكثير: "وقيل كانوا ستمائة مقاتل وسبعمائة أسير." (تفسير النّسفي: ج 3، 303؛ الكشاف للزمخشري: ج 1، 994؛ تفسير النيسابوري: ج 6، 251؛ البحر المحيط لأبي حيّان: ج 9، 144).

وهكذا طُويت صفحة بني قريظة بهذه المجزرة.



في المقالة القادمة، سنتطرق إلى ما جرى مع يهود خيبر.



والعقل وليّ التّوفيق.



***

المقالة في "شفاف الشرق الأوسط"

***
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقالات هذه السلسلة:المقالة الأولى: "هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟"
المقالة الثانية: "لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟"
المقالة الثالثة: "لماذا استقبال قبلة اليهود بالذّات؟"
المقالة الرابعة: "من هو النّبي الأمّي؟"
المقالة الخامسة: "لماذا حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟"المقالة السادسة: "المصير الذي آل إليه يهود جزيرة العرب"المقالة السابعة: "إكسودوس بني النضير"المقالة الثامنة: "محرقة بني قريظة 1"المقالة التاسعة "محرقة بني قريظة 2"المقالة العاشرة: "ماذا جرى مع يهود خيبر؟"المقالة الحادية عشرة: "إجلاء اليهود من جزيرة العرب"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ




محرقة بني قريظة 1


سلمان مصالحة

محرقة بني قريظة (1)

بعد إجلاء بني النّضير،
واصل محمّد حملاته ضدّ اليهود، فقد قام في السنة الخامسة بعد الهجرة، وعقب يوم الخندق والأحزاب، بمحاصرة بني قريظة طوال خمس وعشرين ليلة. وحتّى بعد هذا الحصار الطويل الّذي فرضه محمّد عليهم، ومحاولة البعض منهم البحث عن مخرج من هذا الحصار، فقد أصرّ هؤلاء على رفض قبول الإسلام ورفضوا التّنازُل عن عقيدتهم اليهوديّة. لقد كانوا متمسّكين بتعاليم دينهم لدرجة قصوى، حتّى إنّهم رفضوا خرق حرمة السّبت لمهاجمة محمّد ليلاً على حين غرّة بينما كان يحاصرهم. فقد ذكرت الرّوايات أنّ حيي بن أخطب، وهو من بني النّضير الّذين كانوا أُجلوا من قبل، قد دخل على بني قريظة وتحدّث إليهم وإلى زعيمهم كعب بن أسد، وقال لهم بأنّ محمّدًا لن يفكّ عنهم الحصار حتّى يقبلوا بنبوّته.

وبعد أن أنصت بنو قريظة إلى هذا الكلام، قام كعب بن أسد، وهو سيّدهم، وعرض عليهم: إمّا قبول الإسلام، وإمّا تبييت محمّد ومهاجمته على حين غرّة ليلة السّبت، وإمّا قتل النّساء والأولاد ثمّ الخروج للحرب حتّى الاستماتة. فكما تذكر الرّوايات لقد قام كعب بن أسد فيهم خطيبًا وقال: "يا معشر يهود، إنّه قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإنّي عارضٌ عليكم خلالاً ثلاثًا، فخُذوا أيّها. قالوا: وما هُنّ؟ قال: نُبايعُ هذا الرجلَ ونُصدّقُهُ... فتَأمَنوا على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم، قالوا: لا نُفارقُ حُكْمَ التوراة أبدًا، ولا نَسْتبدلُ به غيرَه. قال: فإذا أبَيْتُم هذه عليّ، فَهَلُمّ فلنَقْتُلْ أبناءَنا ونساءَنا، ثمّ نخرجُ إلى محمّد وأصحابه رجالاً مصلتين بالسّيوف، ولم نترك وراءَنا ثقْلاً يهمّنا، حتّى يحكمَ اللهُ بيننا وبين محمّد. فإنْ نَهْلكْ، نَهْلكْ ولم نتركْ وراءَنا شيئًا نخشى عليه، وإنْ نَظْهَرْ فلَعَمْري لَنَتّخذَنّ النّساء والأبناء. قالوا: نقتلُ هؤلاء المساكين، فما خيرُ العيش بعدَهم؟ قال: فإذا أبَيْتُم هذه علَيّ، فإنّ الليلةَ ليلة السبت، وإنّه عَسَى أنْ يكونَ محمّد وأصحابُه قد أَمِنُوا، فانزلوا لَعَلّنا أنْ نُصيبَ من محمّد وأصحابِه غرّةً، قالوا: نُفْسِدُ سَبْتَنا ونُحْدِثُ فيه ما لم يَكُنْ أَحْدثَ فيه مَنْ كانَ قَبْلَنا؟" (تفسير الطبري: ج 20، 245-246. أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 2-3؛ سيرة ابن هشام: ج 2، 235؛ السيرة النبوية لابن كثير: ج 3، 230؛ الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1، 164؛ مغازي الواقدي: ج 1، 503؛ الروض الأنف للسهيلي: ج 3، 439-440؛ تفسير البغوي: ج1، ص 338؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 66؛ الخصائص الكبرى للسيوطي: ج 1، 393؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 114-117؛ تاريخ ابن خلدون: ج 2، 31؛ حياة الصحابة للكاندهلوي: ج 3، 213).
وبعد التّشاوُر في الأمر
الّذي وجدوا أنفسهم فيه، قرّروا أخيرًا، بحسب الرّوايات، الطّلب من محمّد أن يرسل إليهم أبا لبابة بن عبد المنذر، لاستشارته في الموضوع، كما رُوي: "ثمّ إنّهم بعثوا إلى رسول الله صلعم، أن ابعَثْ إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر، أخا بني عمرو بن عوف - وكانوا من حُلفاء الأوس - نستشيره في أمرنا." (تفسير الطبري: ج 20، 245-246؛ تاريخ الطبري: ج 2، 2-3؛ تفسير البغوي: ج1، ص 338؛ السيرة لابن كثير: ج 3، 231؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 66؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 11، 113). وأبو لبابة هذا، وهو من حُلفاء الأوس، قد عُرف عنه أنّه لا يرتدع من محمّد كما تذكر رواية الواقدي: "عن ابن المسيب، قال: كان أوّل شيء عتب فيه رسول الله صلعم على أبي لبابة بن عبد المنذر، أنّه خاصم يتيمًا له في عذق. فقضى رسول الله صلعم بالعذق لأبي لبابة فصيّحَ اليتيمُ واشتكى إلى رسول الله صلعم فقال رسول الله صلعم لأبي لبابة: هبْ لي العذق يا أبا لبابة - لكي يردّه رسول الله صلعم إلى اليتيم - فأبى أبو لبابة أن يهبَه لرسول الله صلعم، فقال: يا أبا لبابة، أعطه اليتيم ولك مثله في الجنّة، فأبى أبو لبابة أن يعطيه." (مغازي الواقدي: ج 1، 505؛ أنظر أيضًا: أنساب الأشراف للبلاذري: ج 1، 146؛ ثمّ يروى أنّ شخصًا آخر، ثابت بن الدحداحة، رغب أن يفوز بمثله في الجنّة فابتاع العذق من أبي لبابة، ثم أعاده لليتيم).

وبعد أن سمع محمّد طلب بني قريظة قال لأبي لبابة: "اذهبْ فقُلْ لحلفائك ومواليك يَنْزِلُوا على حكم الله تعالى ورسوله." (بحر العلوم للسمرقندي: ج 3، 402؛ أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 506). فانطلق أبو لبابة على الفور إلى بني قريظة ودخلَ عليهم في حصنهم: "فلمّا رأوه قام إليه الرّجال، وجهشَ إليه النّساءُ والصّبيان يبكون في وجهه، فَرَقَّ لهم." (تفسير الطبري: ج 20، 245-246؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 2، 236؛ السيرة لابن كثير: ج 3، 231؛ تفسير البغوي: ج1، 338؛ تاريخ الطبري: ج 2، 2-3؛ مغازي الواقدي: ج 1، 201؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 66؛ التمهيد لابن عبد البر: ج 20، 84؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 51؛ أسد الغابة لابن الأثير: ج 1، 369)، ثمّ أخبرهم أبو لبابة بأنّ أصحاب محمّد سيقومون بذبحهم، قائلاً لهم: "انزلوا على حكم الله ورسوله. فقالوا: يا أبا لبابة نَصَرْناك يوم بعاث، ويوم الحدائق والمواطن كلّها التي كانت بين الأوس والخزرج ونحنُ مواليك وحلفاؤك، فانْصَحْ لنا ماذا ترى؟ فأشارَ إليهم ووَضَعَ يَدَهُ على حَلْقِهِ، يعني: الذّبْح." (بحر العلوم للسمرقندي: ج 3، 402؛ أنظر أيضًا: طبقات ابن سعد: ج 3، 422؛ مغازي الواقدي: ج 1، 506؛ السيرة لابن حبان: ج 1، 255؛ تفسير الطبري: ج 20، 245-246؛ تفسير البغوي: ج1، ص 338؛ تاريخ الطبري: ج 2، 2-3؛ فتح الباري لابن حجر العسقلاني: ج 11، 455؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 114-117).
وكالعادة يواكب القرآن الأحداث الجارية
فقد ذكر المفسّرون أنّ الآية "لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم" (المائدة، 41) قد نزلت في أبي لبابة لهذا السّبب، كما ذكر مقاتل: "نزلت فى أبي لبابة، اسمه مروان بن عبد المنذر الأنصارى، من بني عمرو بن عوف، وذلك أنّه أشار إلى أهل قريظة إلى حَلْقِه أنّ محمّدًا جاء يحكم فيكم بالموت، فلا تنزلوا على حُكْم سعد بن معاذ، وكان حليفًا لهم." (تفسير مقاتل: ج 1، 398؛ أنظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 10، 301؛ المحرر الوجيز للمحاربي: ج 2، 288). بينما يقول آخرون إنّ الآية التي نزلت في أبي لبابة هي "لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء" (المائدة، 51): "وقال عكرمة: نزل فى أبي لبابة بن عبد المنذر لما بعثه النبي صلعم إلى بني قريظة حين حاصرهم، فاستشاروه... فجعل إصبعه فى حلقه، أشار إلى أنه الذبح، وأنّه يقتلكم فأنزل الله." (تفسير الخازن: ج 2، 296؛ أنظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 10، 398؛ أنظر أيضًا: تفسير البغوي: ج 3، 67-68؛ المحرر الوجيز للمحاربي: ج 2، 303؛ تفسير اللباب لابن عادل: ج 6، 112؛ تفسير ابن عبد السلام: ج 1، 484). وهنالك من يقول إنّ الآية التي نزلت فيه لهذا السّبب هي: "ياأيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم" (الأنفال، 27)، يعنى أبا لبابة، وفيه نزلت هذه الآية... واسمه مروان بن عبد المنذر الأنصارى، من بنى عمرو بن عوف، وذلك أن النبى صلعم حاصر يهود قريظة إحدى وعشرين ليلة، فسألوا الصلح على مثل صلح أهل النصير، على أن يسيروا إلى إخوانهم إلى أذرعات وأريحا فى أرض الشام، وأبى النبى صلعم أن ينزلوا إلا على الحكم، فأبوا. وقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة، وكان مُناصحهم، وهو حليف لهم، فبعثه النبى صلعم إليهم، فلما أتاهم، قالوا: يا أبا لبابة، أننزل على حكم محمد؟ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه إنه الذبح، فلا تنزلوا على الحكم، فأطاعوه، وكان أبو لبابة وولده معهم." (تفسير مقاتل: ج 2، 32؛ أنظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 13، 481؛ تفسير ابن كثير: ج 4، 40؛ الكشاف للزمخشري: ج 2، 355؛ تفسير الرازي: ج 7، 392؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 6، 36؛ تفسير البغوي: ج 3، 347؛ بحر العلوم للسمرقندي: ج 2، 191؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 4، 48).

وهكذا رفض بنو قريظة العرض وأصرّوا على موقفهم: "فقالوا: لا نَفْعَلُ، يعني: لا نَنْزلُ." (بحر العلوم للسمرقندي: ج 3، 402). ولمّا لم يتمّ التوصّل إلى حلّ فقد استمرّ الحصار، بل واشتدّ عليهم وأجهدَهم وبلغ منهم كلّ مبلغٍ لم يستطيعوا تحمّله بعدُ، فاضطرّوا في نهاية المطاف إلى الاستسلام: "فلما طال عليهم الحال، نزلوا على حكم سعد بن معاذ - سيّد الأوس - لأنهم كانوا حلفاءهم في الجاهلية، واعتقدوا أنّه يُحسن إليهم في ذلك، كما فعل عبد الله بن أبي بن سلول في مواليه بني قينقاع، حين استطلقهم من رسول الله." (تفسير ابن كثير: ج 6، 397).
أمّا سعد بن معاذ هذا،
فقد كان من رجال محمّد. وقد كان محمّد، حين أجلى بني قينقاع من قبل وفرّق الغنائم الّتي استولى عليها منهم، قد "أعطى سعد بن معاذ درعًا من دروعهم المذكورة، وأعطى محمد بن مسلمة درعًا أخرى." (أنساب الأشراف للبلاذري: ج 1، 134. أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 66). وعلى ما يبدو، فقد كان محمّد على علاقة وثيقة بسعد بن معاذ، إذ يروى عن عبد الله بن الزبير أنّه قال: "أفطر رسول الله صلعم عند سعد بن معاذ، فقال: أفطرَ عندكم الصّائمون وأكلَ طعامَكم الأبرارُ وصلّتْ عليكم الملائكةُ." (سنن ابن ماجة: ج 1، 556. أنظر أيضًا: صحيح ابن حبان: ج 12، 96؛ معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني: ج 11، 466؛ موضح أوهام الجمع والتفريق للخطيب البغدادي: ج 2، 129؛ العلل للدارقطني: ج 4، 310؛ المسند الجامع لأبي المعاطي النّوري: ج 18، 285). كما يروى عن سعد هذا، الذي كان قد أُصيب من قبل في الخندق بسهم كاد يموت منه، أنّ محمّدًا نفسه قام بمعالجته وتطبيب جرحه. لقد كانت صلة محمّد بسعد بن معاذ وثيقة جدًّا لدرجة أنّه روي عنه أنّه قال بعد موته لاحقًا: "اهتزّ عرش الله عز وجل لموت سعد بن معاذ." (سنن ابن ماجة: ج 1، 193؛ أنظر أيضًا: صحيح البخاري: ج 13، 108؛ سنن الترمذي: ج 13، 490؛ الكنى والأسماء للدولابي: ج 5، 440؛ نسب معد واليمن الكبير لابن الكلبي: ج 1، 87؛ جمهرة أنساب العرب لابن حزم: ج 1، 140-141؛ معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني: ج 8، 444).

غير أنّ بني قريظة لم يكونوا على علم بعمق هذه العلاقة الوثيقة بينهما، ولم يكونوا على علم بما كان سعد بن معاذ يكنّه لهم من ضغائن على أثر إصابته تلك بسهم في تلك الغزوة. فقد روت عائشة عن سعد بن معاذ أنّه وبعد أن أصيب بسهم في الخندق، وهي غزوة الأحزاب التي حالف فيه يهود بنو قريظة والنّضير وآخرون قريشًا (التنبيه والإشراف للمسعودي: ج 1، 92؛ أنظر أيضًا: تاريخ ابن خلدون: ج 2، 293)، ولأنّه كان خائفًا أن يموت من جرحه هذا فقد دعا ربّه قائلاً: "اللهمّ لا تُمتني حتّى تشفيني من قريظة." (طبقات ابن سعد: ج 3، 422؛ أنظر أيضًا: صفة الصفوة لابن الجوزي: ج 1، 80؛ سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 1، 289؛ الأنساب للصحاري: ج 1، 182؛ وبراوية أخرى: "حتّى تقرّ عيني من بني قريظة."، تفسير ابن كثير: ج 6، 397؛ أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 203؛ صحيح ابن حبان: ج 15، 484؛ مسند أحمد بن حنبل: ج 6، 142؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 6، 198؛ دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني: ج 2، 17؛ معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني: ج 8، 444؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 6، 592؛ الأنساب للصحاري: ج 1، 182؛ فتح القدير للشوكاني: ج 4، 390).
ليس هذا فحسب،
بل إنّ محمّدًا قد ضرب له خيمة في مسجده، ليكون قريبًا منه، وكان يزوره ليطمئنّ عليه، كما تروي عائشة: "قالت: أصيب سعد يوم الخندق... فضرب عليه رسول الله صلعم خيمة في المسجد ليعوده من قريب." (الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 3، 425؛ أنظر أيضًا: صحيح البخاري: ج 14، 6؛ صحيح أبي داود: ج 2، 599؛ مسند الصحابة في الكتب التسعة: ج 8، 454؛ سنن أبي داود: ج 9، 257؛ سنن البيهقي: ج 2، 185؛ سنن النسائي: ج 1، 261؛ مصنف ابن أبي شيبة: ج 8، 499؛ مستخرج أبي عوانة: ج 7، 445؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 1، 6170؛ أسد الغابة لابن الأثير: ج 1، 442؛ الخصائص الكبرى للسيوطي: ج 1، 394؛ نيل الأوطار للشوكاني: ج 4، 47؛ المسند الجامع لأبي المعاطي النّوري: ج 51، 228). وعلى ما يبدو فقد سمع محمّد دعاء سعد بن معاذ في تلك اللّيلة الّتي سبقت استسلام بني قريظة: "وكان سعد بن معاذ، الليلة التي في صبيحتها نزلت بنو قريظة على حكم رسول الله صلعم، قد دعا فقال: اللهمّ ان كنت أبقيت من حرب قريش شيئًا فأبْقِني لها، فإنّه لا قومَ أحبّ إلي أن أقاتلهم من قوم كذّبوا رسولَك آذوه... ولا تُمتني حتّى تقرّ عيني من بني قريظة." (سبل الهدى والرشاد للصالحي الشّامي: ج 5، 11؛ أنظر أيضًا: تفسير القرطبي: ج 7، 395؛ الرّوض الأنف للسهيلي: ج 3، 442؛ عمدة القاري للعيني: ج 22، 120؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 4، 49). وها هو ابن كثير يؤكّد على ما نرمي إليه، إذ يُصرّح بأنّ بني قريظة: "لم يعلموا أنّ سعدًا، رض، كان قد أصابه سهم في أكحله أيام الخندق، فكَوَاهُ رسولُ الله صلعم في أكحله، وأنزله في قبة في المسجد ليعوده من قريب، وقال سعد فيما دعا به: اللهمّ ... لا تُمتني حتّى تقرّ عيني من بني قريظة." (تفسير ابن كثير: ج 6، 397؛ أنظر أيضًا: طبقات ابن سعد: ج 2، 77؛ في ظلال القرآن لسيد قطب: ج 6، 68).
ومعنى هذا الكلام
الّذي يرد في الرّوايات هو أنّ محمّدًا كان يعلم، على ما يبدو، بهذه الضّغينة التي يكنّها سعد بن معاذ لبني قريظة على أثر إصابته، وبأنّه يريد أن يشفي غليله منهم. لهذا السّبب، على ما يبدو أيضًا، وبعد أن سمع محمّد مطالب رجال الأوس بقولهم له: "تَهبُهُم لنا كما وهبتَ بنى قينقاع للخزرج." (تاريخ ابن خلدون: ج 2، 293، أنظر أيضًا: طبقات ابن سعد: ج 2، 75؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 114)، قال لهم محمّد: "ألا تَرْضُون أن يحكُمَ فيهم سعد بن معاذ؟ وهو سيد الأوس. فقالوا: بلى، ظنًّا منهم أنْ يحكمَ بإطلاقهم. فأمر بإحضار سعد ... ثم أقبلوا به إلى رسول الله صلعم وهم يقولون لسعد: يا أبا عمرو، أحسِنْ إلى مواليك، فقال رسول الله صلعم: قُوموا إلى سيّدكم ... فقاموا إليه وقالوا: يا أبا عمرو، إنّ رسولَ الله قد حَكّمَك في مواليك." (المختصر في أخبار البشر لأبي الفدا: ج 1، 90؛ أنظر أيضًا: تاريخ أبي الفدا: ج 1، 203-204؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1، 306-307؛ مسند سعد بن أبي وقاص: ج 1، 20؛ الأسماء والصفات للبيهقي: ج 2، 321؛ سنن البيهقي: ج 2، 126؛ مسند البزار: ج 3، 325؛ إثبات صفة العلو لابن قدامة: ج 1، 69).
وبعد سماع هذه الأصوات وقف سعد بن معاذ خطيبًا فيهم وأصدر حكمه.

في المقالة القادمة، سنتطرق حكم سعد بن معاذ ومحرقة بني قريظة.

والعقل وليّ التّوفيق.

***
المقالة في "شفاف الشرق الأوسط"
***

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقالات هذه السلسلة:
المقالة الأولى: "هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟"
المقالة الثانية: "لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟"
المقالة الثالثة: "لماذا استقبال قبلة اليهود بالذّات؟"
المقالة الرابعة: "من هو النّبي الأمّي؟"
المقالة الخامسة: "لماذا حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟"
المقالة السادسة: "المصير الذي آل إليه يهود جزيرة العرب"
المقالة السابعة: "إكسودوس بني النضير"
المقالة الثامنة: "محرقة بني قريظة 1"
المقالة التاسعة "محرقة بني قريظة 2"
المقالة العاشرة: "ماذا جرى مع يهود خيبر؟"
المقالة الحادية عشرة: "إجلاء اليهود من جزيرة العرب"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

شارون أولدز - ذَكَرُ البابا

شارون أولدز || 

ذَكَرُ البابا


بمناسبة زيارة البابا بنيديكتوس السادس عشر إلى الأراضي المقدّسة، أقدّم لكم هذه الترجمة لقصيدة الشاعرة شارون أولدز (Sharon Olds) وهي بعنوان "ذَكَرُ البابا". إنّ هذه الشّاعرة الأميركيّة، المولودة في سان فرانسيسكو سنة 1942، ترى إلى البابا لحمًا ودمًا كسائر بني البشر. وعلى الرّغم من الهالة القدسيّة الّتي تحيط به في أذهان المؤمنين غير أنّه يظلّ بنظرها مع ذلك رجلاً كسائر الرّجال. ولهذا السّبب فما من شكّ في أنّه يعتريه في اللّيالي ما يعتري الرّجال، كما تشير الشّاعرة في قصيدتها. يُلاحظ أيضًا أنّ الشّاعرة تستعير في قصيدتها تشبيه السمكة، وفي ذلك إشارة إلى بعض الرّموز الّتي استُخدمت في القرون المسيحيّة الأولى.

ولمّا كنّا نسمع صباح مساء عن حظر بعض الكتب في العالم العربي وعن تكفير الكتّاب والشّعراء لأسباب سخيفة سُخْفَ هؤلاء المُكَفِّرين أنفسهم ومن هم على شاكلتهم، فقد خطر ببالي السؤال التالي: ماذا كان سيكون مصير شاعر، بل شاعرة عربيّة لو نشرت قصيدة كهذه فيما يتعلّق بالأئمّة والمشايخ؟ ناهيك عن أناس أعلى مرتبةً. أليس كذلك؟

القدس، 12 أيّار 2009
***

شارون أولدز

ذَكَرُ البابا


مُعلّقٌ عَميقًا في جَوْفِ عَباءاتِه،
مِضْرَابٌ ناعمٌ في مَرْكز جَرَس.
يَتحَرّكُ عندما يَمْشي، سَمَكةٌ روحانيّة* 
في هالةٍ من طُحْلُبٍ فضّيّ، 
الشَّعْرُ يَتَمايَلُ في الظّلمَة والحَرّ - وفي اللّيْل 
حِينَما تَنامُ عيناهُ، 
يَنْتَصبُ قائمًا
إجْلالاً للرَّبّ.


ترجمة: سلمان مصالحة

* روحانيّة: أي، من ذوات "الأرواح الّتي لا أجساد لها مثل الملائكة والجن وما أَشبهها"، كما يرد في لسان العرب تعريفًا للرّوحاني.

The Pope's Penis by Sharon Olds,
translated into Arabic by Salman Masalha.

***

Sharon Olds

The Pope's Penis

It hangs deep in his robes, a delicate
clapper at the center of a bell.
It moves when he moves, a ghostly fish in a
halo of silver seaweed, the hair
swaying in the dark and the heat -- and at night
while his eyes sleep, it stands up
in praise of God.

***

For Hebrew translation, press here.
قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!