محرقة بني قريظة 1


سلمان مصالحة

محرقة بني قريظة (1)

بعد إجلاء بني النّضير،
واصل محمّد حملاته ضدّ اليهود، فقد قام في السنة الخامسة بعد الهجرة، وعقب يوم الخندق والأحزاب، بمحاصرة بني قريظة طوال خمس وعشرين ليلة. وحتّى بعد هذا الحصار الطويل الّذي فرضه محمّد عليهم، ومحاولة البعض منهم البحث عن مخرج من هذا الحصار، فقد أصرّ هؤلاء على رفض قبول الإسلام ورفضوا التّنازُل عن عقيدتهم اليهوديّة. لقد كانوا متمسّكين بتعاليم دينهم لدرجة قصوى، حتّى إنّهم رفضوا خرق حرمة السّبت لمهاجمة محمّد ليلاً على حين غرّة بينما كان يحاصرهم. فقد ذكرت الرّوايات أنّ حيي بن أخطب، وهو من بني النّضير الّذين كانوا أُجلوا من قبل، قد دخل على بني قريظة وتحدّث إليهم وإلى زعيمهم كعب بن أسد، وقال لهم بأنّ محمّدًا لن يفكّ عنهم الحصار حتّى يقبلوا بنبوّته.

وبعد أن أنصت بنو قريظة إلى هذا الكلام، قام كعب بن أسد، وهو سيّدهم، وعرض عليهم: إمّا قبول الإسلام، وإمّا تبييت محمّد ومهاجمته على حين غرّة ليلة السّبت، وإمّا قتل النّساء والأولاد ثمّ الخروج للحرب حتّى الاستماتة. فكما تذكر الرّوايات لقد قام كعب بن أسد فيهم خطيبًا وقال: "يا معشر يهود، إنّه قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإنّي عارضٌ عليكم خلالاً ثلاثًا، فخُذوا أيّها. قالوا: وما هُنّ؟ قال: نُبايعُ هذا الرجلَ ونُصدّقُهُ... فتَأمَنوا على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم، قالوا: لا نُفارقُ حُكْمَ التوراة أبدًا، ولا نَسْتبدلُ به غيرَه. قال: فإذا أبَيْتُم هذه عليّ، فَهَلُمّ فلنَقْتُلْ أبناءَنا ونساءَنا، ثمّ نخرجُ إلى محمّد وأصحابه رجالاً مصلتين بالسّيوف، ولم نترك وراءَنا ثقْلاً يهمّنا، حتّى يحكمَ اللهُ بيننا وبين محمّد. فإنْ نَهْلكْ، نَهْلكْ ولم نتركْ وراءَنا شيئًا نخشى عليه، وإنْ نَظْهَرْ فلَعَمْري لَنَتّخذَنّ النّساء والأبناء. قالوا: نقتلُ هؤلاء المساكين، فما خيرُ العيش بعدَهم؟ قال: فإذا أبَيْتُم هذه علَيّ، فإنّ الليلةَ ليلة السبت، وإنّه عَسَى أنْ يكونَ محمّد وأصحابُه قد أَمِنُوا، فانزلوا لَعَلّنا أنْ نُصيبَ من محمّد وأصحابِه غرّةً، قالوا: نُفْسِدُ سَبْتَنا ونُحْدِثُ فيه ما لم يَكُنْ أَحْدثَ فيه مَنْ كانَ قَبْلَنا؟" (تفسير الطبري: ج 20، 245-246. أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 2-3؛ سيرة ابن هشام: ج 2، 235؛ السيرة النبوية لابن كثير: ج 3، 230؛ الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1، 164؛ مغازي الواقدي: ج 1، 503؛ الروض الأنف للسهيلي: ج 3، 439-440؛ تفسير البغوي: ج1، ص 338؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 66؛ الخصائص الكبرى للسيوطي: ج 1، 393؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 114-117؛ تاريخ ابن خلدون: ج 2، 31؛ حياة الصحابة للكاندهلوي: ج 3، 213).
وبعد التّشاوُر في الأمر
الّذي وجدوا أنفسهم فيه، قرّروا أخيرًا، بحسب الرّوايات، الطّلب من محمّد أن يرسل إليهم أبا لبابة بن عبد المنذر، لاستشارته في الموضوع، كما رُوي: "ثمّ إنّهم بعثوا إلى رسول الله صلعم، أن ابعَثْ إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر، أخا بني عمرو بن عوف - وكانوا من حُلفاء الأوس - نستشيره في أمرنا." (تفسير الطبري: ج 20، 245-246؛ تاريخ الطبري: ج 2، 2-3؛ تفسير البغوي: ج1، ص 338؛ السيرة لابن كثير: ج 3، 231؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 66؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 11، 113). وأبو لبابة هذا، وهو من حُلفاء الأوس، قد عُرف عنه أنّه لا يرتدع من محمّد كما تذكر رواية الواقدي: "عن ابن المسيب، قال: كان أوّل شيء عتب فيه رسول الله صلعم على أبي لبابة بن عبد المنذر، أنّه خاصم يتيمًا له في عذق. فقضى رسول الله صلعم بالعذق لأبي لبابة فصيّحَ اليتيمُ واشتكى إلى رسول الله صلعم فقال رسول الله صلعم لأبي لبابة: هبْ لي العذق يا أبا لبابة - لكي يردّه رسول الله صلعم إلى اليتيم - فأبى أبو لبابة أن يهبَه لرسول الله صلعم، فقال: يا أبا لبابة، أعطه اليتيم ولك مثله في الجنّة، فأبى أبو لبابة أن يعطيه." (مغازي الواقدي: ج 1، 505؛ أنظر أيضًا: أنساب الأشراف للبلاذري: ج 1، 146؛ ثمّ يروى أنّ شخصًا آخر، ثابت بن الدحداحة، رغب أن يفوز بمثله في الجنّة فابتاع العذق من أبي لبابة، ثم أعاده لليتيم).

وبعد أن سمع محمّد طلب بني قريظة قال لأبي لبابة: "اذهبْ فقُلْ لحلفائك ومواليك يَنْزِلُوا على حكم الله تعالى ورسوله." (بحر العلوم للسمرقندي: ج 3، 402؛ أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 506). فانطلق أبو لبابة على الفور إلى بني قريظة ودخلَ عليهم في حصنهم: "فلمّا رأوه قام إليه الرّجال، وجهشَ إليه النّساءُ والصّبيان يبكون في وجهه، فَرَقَّ لهم." (تفسير الطبري: ج 20، 245-246؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 2، 236؛ السيرة لابن كثير: ج 3، 231؛ تفسير البغوي: ج1، 338؛ تاريخ الطبري: ج 2، 2-3؛ مغازي الواقدي: ج 1، 201؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 66؛ التمهيد لابن عبد البر: ج 20، 84؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 51؛ أسد الغابة لابن الأثير: ج 1، 369)، ثمّ أخبرهم أبو لبابة بأنّ أصحاب محمّد سيقومون بذبحهم، قائلاً لهم: "انزلوا على حكم الله ورسوله. فقالوا: يا أبا لبابة نَصَرْناك يوم بعاث، ويوم الحدائق والمواطن كلّها التي كانت بين الأوس والخزرج ونحنُ مواليك وحلفاؤك، فانْصَحْ لنا ماذا ترى؟ فأشارَ إليهم ووَضَعَ يَدَهُ على حَلْقِهِ، يعني: الذّبْح." (بحر العلوم للسمرقندي: ج 3، 402؛ أنظر أيضًا: طبقات ابن سعد: ج 3، 422؛ مغازي الواقدي: ج 1، 506؛ السيرة لابن حبان: ج 1، 255؛ تفسير الطبري: ج 20، 245-246؛ تفسير البغوي: ج1، ص 338؛ تاريخ الطبري: ج 2، 2-3؛ فتح الباري لابن حجر العسقلاني: ج 11، 455؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 114-117).
وكالعادة يواكب القرآن الأحداث الجارية
فقد ذكر المفسّرون أنّ الآية "لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم" (المائدة، 41) قد نزلت في أبي لبابة لهذا السّبب، كما ذكر مقاتل: "نزلت فى أبي لبابة، اسمه مروان بن عبد المنذر الأنصارى، من بني عمرو بن عوف، وذلك أنّه أشار إلى أهل قريظة إلى حَلْقِه أنّ محمّدًا جاء يحكم فيكم بالموت، فلا تنزلوا على حُكْم سعد بن معاذ، وكان حليفًا لهم." (تفسير مقاتل: ج 1، 398؛ أنظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 10، 301؛ المحرر الوجيز للمحاربي: ج 2، 288). بينما يقول آخرون إنّ الآية التي نزلت في أبي لبابة هي "لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء" (المائدة، 51): "وقال عكرمة: نزل فى أبي لبابة بن عبد المنذر لما بعثه النبي صلعم إلى بني قريظة حين حاصرهم، فاستشاروه... فجعل إصبعه فى حلقه، أشار إلى أنه الذبح، وأنّه يقتلكم فأنزل الله." (تفسير الخازن: ج 2، 296؛ أنظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 10، 398؛ أنظر أيضًا: تفسير البغوي: ج 3، 67-68؛ المحرر الوجيز للمحاربي: ج 2، 303؛ تفسير اللباب لابن عادل: ج 6، 112؛ تفسير ابن عبد السلام: ج 1، 484). وهنالك من يقول إنّ الآية التي نزلت فيه لهذا السّبب هي: "ياأيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم" (الأنفال، 27)، يعنى أبا لبابة، وفيه نزلت هذه الآية... واسمه مروان بن عبد المنذر الأنصارى، من بنى عمرو بن عوف، وذلك أن النبى صلعم حاصر يهود قريظة إحدى وعشرين ليلة، فسألوا الصلح على مثل صلح أهل النصير، على أن يسيروا إلى إخوانهم إلى أذرعات وأريحا فى أرض الشام، وأبى النبى صلعم أن ينزلوا إلا على الحكم، فأبوا. وقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة، وكان مُناصحهم، وهو حليف لهم، فبعثه النبى صلعم إليهم، فلما أتاهم، قالوا: يا أبا لبابة، أننزل على حكم محمد؟ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه إنه الذبح، فلا تنزلوا على الحكم، فأطاعوه، وكان أبو لبابة وولده معهم." (تفسير مقاتل: ج 2، 32؛ أنظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 13، 481؛ تفسير ابن كثير: ج 4، 40؛ الكشاف للزمخشري: ج 2، 355؛ تفسير الرازي: ج 7، 392؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 6، 36؛ تفسير البغوي: ج 3، 347؛ بحر العلوم للسمرقندي: ج 2، 191؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 4، 48).

وهكذا رفض بنو قريظة العرض وأصرّوا على موقفهم: "فقالوا: لا نَفْعَلُ، يعني: لا نَنْزلُ." (بحر العلوم للسمرقندي: ج 3، 402). ولمّا لم يتمّ التوصّل إلى حلّ فقد استمرّ الحصار، بل واشتدّ عليهم وأجهدَهم وبلغ منهم كلّ مبلغٍ لم يستطيعوا تحمّله بعدُ، فاضطرّوا في نهاية المطاف إلى الاستسلام: "فلما طال عليهم الحال، نزلوا على حكم سعد بن معاذ - سيّد الأوس - لأنهم كانوا حلفاءهم في الجاهلية، واعتقدوا أنّه يُحسن إليهم في ذلك، كما فعل عبد الله بن أبي بن سلول في مواليه بني قينقاع، حين استطلقهم من رسول الله." (تفسير ابن كثير: ج 6، 397).
أمّا سعد بن معاذ هذا،
فقد كان من رجال محمّد. وقد كان محمّد، حين أجلى بني قينقاع من قبل وفرّق الغنائم الّتي استولى عليها منهم، قد "أعطى سعد بن معاذ درعًا من دروعهم المذكورة، وأعطى محمد بن مسلمة درعًا أخرى." (أنساب الأشراف للبلاذري: ج 1، 134. أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 66). وعلى ما يبدو، فقد كان محمّد على علاقة وثيقة بسعد بن معاذ، إذ يروى عن عبد الله بن الزبير أنّه قال: "أفطر رسول الله صلعم عند سعد بن معاذ، فقال: أفطرَ عندكم الصّائمون وأكلَ طعامَكم الأبرارُ وصلّتْ عليكم الملائكةُ." (سنن ابن ماجة: ج 1، 556. أنظر أيضًا: صحيح ابن حبان: ج 12، 96؛ معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني: ج 11، 466؛ موضح أوهام الجمع والتفريق للخطيب البغدادي: ج 2، 129؛ العلل للدارقطني: ج 4، 310؛ المسند الجامع لأبي المعاطي النّوري: ج 18، 285). كما يروى عن سعد هذا، الذي كان قد أُصيب من قبل في الخندق بسهم كاد يموت منه، أنّ محمّدًا نفسه قام بمعالجته وتطبيب جرحه. لقد كانت صلة محمّد بسعد بن معاذ وثيقة جدًّا لدرجة أنّه روي عنه أنّه قال بعد موته لاحقًا: "اهتزّ عرش الله عز وجل لموت سعد بن معاذ." (سنن ابن ماجة: ج 1، 193؛ أنظر أيضًا: صحيح البخاري: ج 13، 108؛ سنن الترمذي: ج 13، 490؛ الكنى والأسماء للدولابي: ج 5، 440؛ نسب معد واليمن الكبير لابن الكلبي: ج 1، 87؛ جمهرة أنساب العرب لابن حزم: ج 1، 140-141؛ معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني: ج 8، 444).

غير أنّ بني قريظة لم يكونوا على علم بعمق هذه العلاقة الوثيقة بينهما، ولم يكونوا على علم بما كان سعد بن معاذ يكنّه لهم من ضغائن على أثر إصابته تلك بسهم في تلك الغزوة. فقد روت عائشة عن سعد بن معاذ أنّه وبعد أن أصيب بسهم في الخندق، وهي غزوة الأحزاب التي حالف فيه يهود بنو قريظة والنّضير وآخرون قريشًا (التنبيه والإشراف للمسعودي: ج 1، 92؛ أنظر أيضًا: تاريخ ابن خلدون: ج 2، 293)، ولأنّه كان خائفًا أن يموت من جرحه هذا فقد دعا ربّه قائلاً: "اللهمّ لا تُمتني حتّى تشفيني من قريظة." (طبقات ابن سعد: ج 3، 422؛ أنظر أيضًا: صفة الصفوة لابن الجوزي: ج 1، 80؛ سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 1، 289؛ الأنساب للصحاري: ج 1، 182؛ وبراوية أخرى: "حتّى تقرّ عيني من بني قريظة."، تفسير ابن كثير: ج 6، 397؛ أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 203؛ صحيح ابن حبان: ج 15، 484؛ مسند أحمد بن حنبل: ج 6، 142؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 6، 198؛ دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني: ج 2، 17؛ معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني: ج 8، 444؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 6، 592؛ الأنساب للصحاري: ج 1، 182؛ فتح القدير للشوكاني: ج 4، 390).
ليس هذا فحسب،
بل إنّ محمّدًا قد ضرب له خيمة في مسجده، ليكون قريبًا منه، وكان يزوره ليطمئنّ عليه، كما تروي عائشة: "قالت: أصيب سعد يوم الخندق... فضرب عليه رسول الله صلعم خيمة في المسجد ليعوده من قريب." (الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 3، 425؛ أنظر أيضًا: صحيح البخاري: ج 14، 6؛ صحيح أبي داود: ج 2، 599؛ مسند الصحابة في الكتب التسعة: ج 8، 454؛ سنن أبي داود: ج 9، 257؛ سنن البيهقي: ج 2، 185؛ سنن النسائي: ج 1، 261؛ مصنف ابن أبي شيبة: ج 8، 499؛ مستخرج أبي عوانة: ج 7، 445؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 1، 6170؛ أسد الغابة لابن الأثير: ج 1، 442؛ الخصائص الكبرى للسيوطي: ج 1، 394؛ نيل الأوطار للشوكاني: ج 4، 47؛ المسند الجامع لأبي المعاطي النّوري: ج 51، 228). وعلى ما يبدو فقد سمع محمّد دعاء سعد بن معاذ في تلك اللّيلة الّتي سبقت استسلام بني قريظة: "وكان سعد بن معاذ، الليلة التي في صبيحتها نزلت بنو قريظة على حكم رسول الله صلعم، قد دعا فقال: اللهمّ ان كنت أبقيت من حرب قريش شيئًا فأبْقِني لها، فإنّه لا قومَ أحبّ إلي أن أقاتلهم من قوم كذّبوا رسولَك آذوه... ولا تُمتني حتّى تقرّ عيني من بني قريظة." (سبل الهدى والرشاد للصالحي الشّامي: ج 5، 11؛ أنظر أيضًا: تفسير القرطبي: ج 7، 395؛ الرّوض الأنف للسهيلي: ج 3، 442؛ عمدة القاري للعيني: ج 22، 120؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 4، 49). وها هو ابن كثير يؤكّد على ما نرمي إليه، إذ يُصرّح بأنّ بني قريظة: "لم يعلموا أنّ سعدًا، رض، كان قد أصابه سهم في أكحله أيام الخندق، فكَوَاهُ رسولُ الله صلعم في أكحله، وأنزله في قبة في المسجد ليعوده من قريب، وقال سعد فيما دعا به: اللهمّ ... لا تُمتني حتّى تقرّ عيني من بني قريظة." (تفسير ابن كثير: ج 6، 397؛ أنظر أيضًا: طبقات ابن سعد: ج 2، 77؛ في ظلال القرآن لسيد قطب: ج 6، 68).
ومعنى هذا الكلام
الّذي يرد في الرّوايات هو أنّ محمّدًا كان يعلم، على ما يبدو، بهذه الضّغينة التي يكنّها سعد بن معاذ لبني قريظة على أثر إصابته، وبأنّه يريد أن يشفي غليله منهم. لهذا السّبب، على ما يبدو أيضًا، وبعد أن سمع محمّد مطالب رجال الأوس بقولهم له: "تَهبُهُم لنا كما وهبتَ بنى قينقاع للخزرج." (تاريخ ابن خلدون: ج 2، 293، أنظر أيضًا: طبقات ابن سعد: ج 2، 75؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 114)، قال لهم محمّد: "ألا تَرْضُون أن يحكُمَ فيهم سعد بن معاذ؟ وهو سيد الأوس. فقالوا: بلى، ظنًّا منهم أنْ يحكمَ بإطلاقهم. فأمر بإحضار سعد ... ثم أقبلوا به إلى رسول الله صلعم وهم يقولون لسعد: يا أبا عمرو، أحسِنْ إلى مواليك، فقال رسول الله صلعم: قُوموا إلى سيّدكم ... فقاموا إليه وقالوا: يا أبا عمرو، إنّ رسولَ الله قد حَكّمَك في مواليك." (المختصر في أخبار البشر لأبي الفدا: ج 1، 90؛ أنظر أيضًا: تاريخ أبي الفدا: ج 1، 203-204؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1، 306-307؛ مسند سعد بن أبي وقاص: ج 1، 20؛ الأسماء والصفات للبيهقي: ج 2، 321؛ سنن البيهقي: ج 2، 126؛ مسند البزار: ج 3، 325؛ إثبات صفة العلو لابن قدامة: ج 1، 69).
وبعد سماع هذه الأصوات وقف سعد بن معاذ خطيبًا فيهم وأصدر حكمه.

في المقالة القادمة، سنتطرق حكم سعد بن معاذ ومحرقة بني قريظة.

والعقل وليّ التّوفيق.

***
المقالة في "شفاف الشرق الأوسط"
***

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقالات هذه السلسلة:
المقالة الأولى: "هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟"
المقالة الثانية: "لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟"
المقالة الثالثة: "لماذا استقبال قبلة اليهود بالذّات؟"
المقالة الرابعة: "من هو النّبي الأمّي؟"
المقالة الخامسة: "لماذا حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟"
المقالة السادسة: "المصير الذي آل إليه يهود جزيرة العرب"
المقالة السابعة: "إكسودوس بني النضير"
المقالة الثامنة: "محرقة بني قريظة 1"
المقالة التاسعة "محرقة بني قريظة 2"
المقالة العاشرة: "ماذا جرى مع يهود خيبر؟"
المقالة الحادية عشرة: "إجلاء اليهود من جزيرة العرب"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

شارون أولدز - ذَكَرُ البابا

شارون أولدز || 

ذَكَرُ البابا


بمناسبة زيارة البابا بنيديكتوس السادس عشر إلى الأراضي المقدّسة، أقدّم لكم هذه الترجمة لقصيدة الشاعرة شارون أولدز (Sharon Olds) وهي بعنوان "ذَكَرُ البابا". إنّ هذه الشّاعرة الأميركيّة، المولودة في سان فرانسيسكو سنة 1942، ترى إلى البابا لحمًا ودمًا كسائر بني البشر. وعلى الرّغم من الهالة القدسيّة الّتي تحيط به في أذهان المؤمنين غير أنّه يظلّ بنظرها مع ذلك رجلاً كسائر الرّجال. ولهذا السّبب فما من شكّ في أنّه يعتريه في اللّيالي ما يعتري الرّجال، كما تشير الشّاعرة في قصيدتها. يُلاحظ أيضًا أنّ الشّاعرة تستعير في قصيدتها تشبيه السمكة، وفي ذلك إشارة إلى بعض الرّموز الّتي استُخدمت في القرون المسيحيّة الأولى.

ولمّا كنّا نسمع صباح مساء عن حظر بعض الكتب في العالم العربي وعن تكفير الكتّاب والشّعراء لأسباب سخيفة سُخْفَ هؤلاء المُكَفِّرين أنفسهم ومن هم على شاكلتهم، فقد خطر ببالي السؤال التالي: ماذا كان سيكون مصير شاعر، بل شاعرة عربيّة لو نشرت قصيدة كهذه فيما يتعلّق بالأئمّة والمشايخ؟ ناهيك عن أناس أعلى مرتبةً. أليس كذلك؟

القدس، 12 أيّار 2009
***

شارون أولدز

ذَكَرُ البابا


مُعلّقٌ عَميقًا في جَوْفِ عَباءاتِه،
مِضْرَابٌ ناعمٌ في مَرْكز جَرَس.
يَتحَرّكُ عندما يَمْشي، سَمَكةٌ روحانيّة* 
في هالةٍ من طُحْلُبٍ فضّيّ، 
الشَّعْرُ يَتَمايَلُ في الظّلمَة والحَرّ - وفي اللّيْل 
حِينَما تَنامُ عيناهُ، 
يَنْتَصبُ قائمًا
إجْلالاً للرَّبّ.


ترجمة: سلمان مصالحة

* روحانيّة: أي، من ذوات "الأرواح الّتي لا أجساد لها مثل الملائكة والجن وما أَشبهها"، كما يرد في لسان العرب تعريفًا للرّوحاني.

The Pope's Penis by Sharon Olds,
translated into Arabic by Salman Masalha.

***

Sharon Olds

The Pope's Penis

It hangs deep in his robes, a delicate
clapper at the center of a bell.
It moves when he moves, a ghostly fish in a
halo of silver seaweed, the hair
swaying in the dark and the heat -- and at night
while his eyes sleep, it stands up
in praise of God.

***

For Hebrew translation, press here.

إكسودوس بني النضير

سلمان مصالحة

إكسودوس بني النضير


بعد مرور عدّة أشهر من وقعة أحد،
أرسل محمّد رجاله لدعوة أهل نجد إلى الإسلام، فكانت وقعة بئر معونة التي قُتل فيها غالبيةُ رجاله، بينما وقع أحدهم، وهو عمرو بن أميّة الضمري، في أسر عامر بن الطفيل. غير أنّ عامر بن الطفيل عفا عنه وأطلق سراحه. فانطلق عمرو بن أميّة هذا في طريقه حتّى وصل إلى موقع القرقرة في منطقة قناة، فجلس هناك يستظلّ تحت شجرة. وكان أن وصل إلى المكان رجلان من بني عامر وبعد أن سألهما من هما وتأكّد من هويّتهما، انتظر حتّى يناما فهجمَ عليهما وقتلهما غدرًا، كما تذكر الرواية: "حتّى إذا كان بالقرقرة من صدر قناة، أقبل رجلان من بنى عامر حتّى نزلا في ظلّ هو فيه، وكان مع العامريين عهد من رسول الله صلعم وجوار، لم يعلمه عمرو بن أمية، وقد سألهما حين نزلا: ممّن أنتما؟ قالا: من بني عامر. فأمهلهما حتّى إذا ناما، عَدَا عليهما وقتلهما... فلما قدم عمرو بن أمية على رسول الله صلعم أخبره بالخبر، فقال رسول الله صلعم: لقد قتلت قتيلين لأَدِيَنّهُما... قد كنتُ لهذا كارهًا متخوّفًا." (سيرة ابن هشام: ج 4، 139-140؛ السيرة النبوية لابن كثير: ج 3، 141-143؛ السيرة لابن حبان: ج 1، 234؛ مغازي الواقدي: ج 1، 364؛ تاريخ الطبري: ج 2، 81؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1، 301-302؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 17؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 4، 84؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 224).

بعد أن سمع عامر بن الطفيل بهذا الغدر من طرف عمرو بن أميّة الضمري، أرسل كتابًا إلى محمّد مطالبًا إيّاه بدفع دية هذين الرجلين من بني عامر: "وقيل إنّ عامر بن الطفيل كتب إلى رسول الله صلعم: إنّكَ قتلتَ رجلين، لهما منك جوار وعهد، فابعثْ بديتهما." (تاريخ الطبري: ج 2، 223؛ مغازي الواقدي: ج 1، 141؛ السيرة لابن حبان: ج 1، 234؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 8، 6058). وكما تفيد الرّوايات، فقد كان ثمّ حلف بين بني عامر، وهم قوم هؤلاء المغدورين، وبين بني النّضير: "وكان بين بني النضير وبين بنى عامر حلف وعقد." (مغازي الواقدي: ج 1، 141؛ تاريخ الطبري: ج 2، 224؛ سيرة ابن هشام: ج 2، 189؛ السيرة النبوية لابن كثير: ج 3، 146؛ عمدة القاري للعيني: ج 17، 125). ثمّ تذكر الرّوايات أنّ الرّسول توجّه، عقب هذه الحادثة، إلى بني النّضير طالبًا منهم أن يدفعوا دية هذين الرّجلين المغدورين من بني عامر: "ثم أتى بني النضير فكلّمهم أن يعينوه في دية الكلابيين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري." (الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 2، 57. أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 223؛ مغازي الواقدي: ج 1، 141؛ سيرة ابن هشام: ج 2، 189؛ دلائل النبوّة للبيهقي" ج 3، 48؛ تفسير الثعالبي: ج 1، 450؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 13، 183؛ الشفا للقاضي عياض: ج 1، 352؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 3، 36؛ نيل الأوطار للشوكاني: ج 11، 40).

والسؤال الّذي يطرح نفسه من تسلسل هذه الأخبار هو، لماذا يُضطرّ بنو النضير إلى دفع الدية على قتل العامريين، في الوقت الّذي يوجد فيه لبني النّضير حلف وعقد مع بني عامر، وذلك علمًا أنّ القاتل الغادر بهما هو من رجال محمّد أصلاً، ولا علاقة لبني النّضير به بأيّ حال من الأحوال؟

ربّما تكون هذه هي الخلفيّة
من وراء ما تذكره الرّوايات من محاولة بني النّضير التخلُّص من محمّد، كي "يرتاحوا منه"، بحسب لغة الروايات. وذلك إضافةً إلى ما كانوا يعلمون من فعله من قبل بإجلاء يهود بني قينقاع، كما أسلفت في المقالة السّابقة. وهكذا تذكر الروايات أنّه، وبعد أن توجّه محمّد إلى بني النّضير يطلب منهم أن يدفعوا دية الرجلين المغدورين من بني عامر، قالوا له: "نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت. ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنّكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، ورسول الله صلعم إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد. فَمَنْ رجلٌ يعلو على هذا البيت فيُلقي عليه صخرةً ويُريحُنا منه؟" (السيرة النبوية لابن كثير: ج 3، 146؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 224-223؛ الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 2، 57؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 3، 428؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 115؛ سمط النجوم للعصامي: ج 1، 301).

لقد حدث جدل بين يهود بني النّضير، كما تذكر الرّوايات، حول كيفيّة التّصرُّف إزاء كلّ هذه الضّغوط من طرف محمّد وجماعته، فبعضهم دفع إلى القيام بعمليّة التخلّص من محمّد بواسطة إلقاء الصخرة عليه من فوق أحد السّطوح، والبعض الآخر حذّر من مغبّة ذلك الفعل، حيث "نهاهم عن ذلك سلام بن مشكم وخوّفهم الحرب." (تاريخ الطبري: ج 2، 224. للمزيد من أخبار الجدل يمكن العودة إلى: مغازي الواقدي: ج 1، 364-372؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 4، 320-321). غير أنّهم لم يأخذوا برأيه.

وعندما تقرّر في نهاية المطاف المضيّ قدمًا بالعمليّة انتدب أحدهم، عمرو بن جحاش بن كعب، نفسه للقيام بذلك. وتضيف الرّواية أنّ محمّدًا عرف بالخطّة من السّماء، فعاد إلى المدينة: "فانتدبَ لذلك عمرو بن جحاش بن كعب، فقال: أنا لذلك. فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال، ورسول الله صلعم في نفر من أصحابه، فيهم أبو بكر وعمر وعلي، فأتى رسولَ الله الخبرُ من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعًا إلى المدينة." (السيرة النبوية لابن كثير: ج 3، 146؛ تاريخ الطبري: ج 2، 224-223؛ سيرة ابن هشام: ج 2، 189؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 3، 428؛ عمدة القاري: ج 17، 125؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 115).

بعد أن علم محمّد بالخطّة،
دعا إليه محمّد بن مسلمة، وهو من بني حارثة بن الأوس، وحمّله رسالة إلى بني النّضير يقول فيها: "اذهب إلى يهود فقل لهم: اخرجُوا من بلادي فلا تساكنوني وقد هممتم بما هممتم به من الغدر". أمّا ردّ بني النّضير فقد كان استهجانًا لهذه الرّسالة الّتي يحملها إليهم رجل من الأوس، علمًا بما كان للأوس من حلف وعهد مع بني النّضير: "قال، فجاءهم محمد بن مسلمة فقال لهم: إنّ رسول الله صلعم يأمركم أن تظعنوا من بلاده. فقالوا: يا محمّد! ما كنا نظنّ أن يجيئنا بهذا رجل من الأوس، فقال محمّد: تغيّرت القلوبُ ومحا الاسلامُ العُهودَ." (تاريخ الطبري: ج 2، 224؛ أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 365؛ السيرة النبوية لابن كثير: ج 3، 146؛ السيرة لابن حبان: ج 1، 234؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 4، 320؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 115؛ نهاية الأرب للنويري: ج 4، 434).

في هذه الأثناء وصلت أيضًا رسائل من قبل عبد الله بن أبيّ بن سلول، الذي كان أنقذ بني قينقاع من الموت الّذي أراد محمّد إنزاله بهم من قبل، يحثّهم فيها على البقاء واعدًا ايّاهم بتقديم العون لهم: "فأرسل إليهم عبد الله بن أبيّ يقول: لا تخرجوا، فإنّ معي من العرب ومن انضوى إليّ من قومي ألفين، فاقيموا فهم يدخلون معكم، وقريظة تدخل معكم". غير أنّ هذه الرّسائل أثارت لدى القوم شكوكًا بجدواها نظرًا للأحلاف التي كانت قائمة: "فبلغ كعب بن أسد، صاحب عهد بنى قريظة، فقال: لا ينقض العهدَ رجلٌ من بنى قريظة وأنا حيّ. فقال سلام بن مشكم لحيى بن أخطب: يا حيى، اقبلْ هذا الذي قال محمّد، فانّما شُرّفنا على قومنا بأموالنا، قبلَ أن تقبلَ ما هو شرٌّ منه. قال: وما هو شرٌّ منه؟ قال: أخْذُ الأموال وسَبْيُ الذّرية وقَتْلُ المقاتلة. فأبى حيي، فأرسل جدي بن أخطب إلى رسول الله صلعم: إنّا لا نريم دارَنا، فاصْنَعْ ما بدَا لكَ." (تاريخ الطبري: ج 2، 224-225؛ انظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 365؛ السيرة النبوية لابن كثير: ج 3، 146؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 115).

وهكذا، وبعد أن رفض هؤلاء الرّضوخ لإملاءاته، أمر محمّد أتباعه بالاستعداد لمحاربة بني النّضير وحصارهم من أجل إخضاعهم: "فعند ذلك أمر الناس بالخروج إليهم." (السيرة النبوية لابن كثير: ج 3، 146). فتحصّن هؤلاء في مواقعهم، فما كان من محمّد إلاّ أن أمر بتقطيع النّخيل وإشعال الحرائق في مزارعهم: "فتحصّنوا منه في الحصون، فأمر رسول الله صلعم بقطع النخل والتّحريق فيها، فنادوه: يا محمّد، قد كنتَ تنْهَى عن الفساد وتعيبه على من صنعه، فما بالُ قطع النخيل وتحريقها؟" (تاريخ الطبري: ج 2، 224؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 4، 144؛ السيرة النبوية لابن كثير: ج 3، 147؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 24).

واشتدّ الحصار المطبق على بني النّضير: "... عن ابن عباس قال: حاصرهم رسول الله صلعم، يعنى بنى النضير، خمسة عشر يوما حتّى بلغَ منهم كلّ مبلغ." (تاريخ الطبري: ج 2، 225؛ أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 372؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 147)، كما أنّ الإمدادات التي كان وعدهم بها الحلفاء لم تصلهم: "قاموا على حُصونهم معهم النبل والحجارة، واعتزلتهم قريظة فلم تُعِنْهم، وخذلهم ابنُ أُبيّ وحلفاؤهم من غطفان، فأيسوا من نصرهم." (الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 2، 58؛ أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 367؛ تفسير السعدي: ج 1، 848؛ الرحيق المختوم للمباركفوري: ج 1، 269؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 25؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 115).

في نهاية المطاف، لم يستطيعوا الصمود وقرّروا الاستسلام بشروط تضمن حقن دمائهم وخروجهم من أرضهم مع ما تحمله الإبل فقط، دون السّلاح: "فَصالَحَهم على أن يحقن لهم دماءهم وأن يخرجهم من أرضهم وأوطانهم... على أنّ لهم ما حَمَلت الإبلُ من أموالهم، إلا الحَلَقَة، ففعل." (تاريخ الطبري: ج 2، 225-226). وهكذا خرجوا من بلادهم إلى خيبر والبعض منهم خرج إلى الشّام: "فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشأم، فكان أشرافُهم، ممن سار منهم إلى خيبر، سلام بن أبى الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب، فلما نزلوها دان لهم أهلها." (تاريخ الطبري: ج 2،226؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 4، 145).

مشاهد إكسودوس بني النّضير:
ها هي الروايات الإسلامية تصف لنا هذه المشاهد من إكسودوس بني النّضير، بينما النّاس مصطفّون على جانبي الطريق يشاهدون قوافل المهجّرين تمرّ أمامهم: "فجعلوا يحملون الخشب ونجف الأبواب... وحملوا النساء والصبيان فخرجوا على بلحارث بن الخزرج، ثم على الجبلية ثم على الجسر حتى مروا بالمصلّى، ثم شقّوا سوقَ المدينة، والنساءُ في الهوادج عليهنّ الحرير والديباج وقطف الخزّ الخُضْر والحُمْر. وقد صُفّ لهم الناسُ، فجعلوا يمرّون قطارًا في أثر قطار، فحملوا على ستمائة بعير..." (مغازي الواقدي: ج 1،372).

ومن بين النّساء اللّواتي شوهدن خارجات من المدينة في ركاب بني النّضير، تذكر الرّوايات صاحبة عمرو بن الورد: "قالوا: ومرّت في الظعن يومئذ سلمى، صاحبة عروة بن الورد العبسي." (مغازي الواقدي: ج 1،372؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 1، 490؛ سيرة ابن هشام: ج 4، 145؛ الروض الأنف للسهيلي: ج 1، 326). وعلى ما يبدو فإنّ صاحبة عروة هذه، والتي كان سباها في إحدى غزواته وكان يؤثرها ويحبّها كثيرًا وولدت له أولادًا، هي يهوديّة أصلاً، إذ يُروى: "أنّ قومها افتدوها منه، وكان يظنّ أنّها لا تختار عليه أحدًا ولا تفارقه، فاختارت قَوْمَها." (الروض الأنف للسهيلي: ج 1،327؛ مغازي الواقدي: ج 1،372). وتزوّجت بعد ذلك رجلاً آخر من بني النّضير: "ثمّ تزوّجها بعدَهُ رجلٌ من بني النضير." (الروض الأنف للسهيلي: ج 1،327. وسبب اختيارها لقومها، على ما تذكره الرّوايات، هو ما كان من تعيير الأولاد بكون امّهم من السّبايا: "فكانت ذات جمال فولدت له أولادًا ونزلت منه منزلاً. فقالت له، وجعل ولده يُعَيّرون بأمهم: يا بني الأخيذة، فقالت: ألا ترى ولدك يُعَيّرون؟ قال: فماذا ترين؟ قالت: تردّني إلى قومي حتى يكونوا هم الذين يزوجونك، قال: نعم. فأرسلت إلى قومها أن: القوه بالخمر، ثم اتركوه حتّى يشرب ويثمل. فإنّه إذا ثمل لم يُسأل شيئًا إلا أعطاه. فلقوه، ونزل في بني النضير فسقوه الخمرَ، فلما سكر سألوه سلمى فردّها عليهم، ثم أنكحوه بعد..." (مغازي الواقدي: ج 1،372)، أو أنّ بنات عمّه كنّ يعيّرنها، كما كان أولادهما يُعيّرون، ولذلك قالت له: "وما كنت لأوثر عنكَ أهلي لولا أنّي كنت أسمع بنات عمّك يقلن: فعلتْ أمَةُ عروة وقالت أمَةُ عروة، فأجدُ من ذلك الموت. والله لا يجامعُ وجهي وجهَ غطفانية أبدًا، فاستوصِ ببنيك خيرًا." (الروض الأنف للسهيلي: ج 1،327).

وها هو عبد الله بن أبي بكر يروي لنا ما رأت عيناه من مشاهد: "استقلّوا بالنّساء والأبناء والأموال، معهم الدّفوف والمزامير، والقيان يعزفن خلفهم... بزهاء وفخر ما رُئيَ مثلُه من حَيٍّ من الناس في زمانهم." (تاريخ الطبري: ج 2، 226؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 2، 191؛ الروض الأنف للسهيلي: ج 1، 326؛ السيرة النبوية لابن كثير: ج 3، 148). أو كما في هذا الوصف من رواية يوردها الواقدي: "ومرّوا يضربون بالدّفوف ويزمرون بالمزامير، وعلى النّساء المُعصفراتُ وحُليّ الذهب، مُظهرين ذلك تَجلُّدًا. قال، يقول جبار بن صخر: ما رأيتُ زَهاءَهم لقومٍ زالوا من دار إلى دار ... عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه عن جدّه قال: لقد مرّ يومئذ نساءٌ من نسائهم في تلك الهوادج قد سَفَرنَ عن الوجوه، لَعَلّي لم أرَ مثلَ جمالهنّ لنساءٍ قط. لقد رأيت الشّقراء بنت كنانة يومئذ كأنّها لؤلؤة غوّاص، والرّواع بنت عمير مثل الشمس البازغة، في أيديهنّ أسورةُ الذهب والدرّ في رقابهن." (مغازي الواقدي: ج 1، 372).

لا شكّ أنّ أوصاف هذا الخروج الذي يرافقه غناء ورقص وضرب بالدّفوف وزمر بالمزامير يذكّرنا بصورة خروج بني إسرائيل من مصر بينما كان جيش فرعون في أعقابهم، تلك الصّورة الّتي على ما يبدو كانت قائمة في أذهان يهود بني النّضير. فها هي الصورة كما وردت في سفر الخروج: "إذْ وَلَجَتْ خَيْلُ فِرْعَونَ بِمَرْكَبَاتِهِ وَفُرْسَانِهِ البَحْرَ، وَرَدَّ اللّهُ عَلَيْهِمْ مَاءَ الْبَحْرِ، وَمَشَى بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى اليَابِسَةِ فِي وَسَطِ البَحْرِ. فَأَخَذَتْ مِريَمُ النّبيّةُ أُخْتُ أَهَارُونَ الدّفَّ بِيَدِهَا وَخَرَجَتْ كُلُّ النّساءِ وَراءَهَا بِالدُّفُوفِ وَالرّقْص. وَرَجَّعَتْ لَهُمْ مِريَمُ: رَنّمُوا لِلقَيُّومِ عَزَّ وَجَلَّ، الخَيْلَ وَرَاكِبَهَا قَدْ رَمَى في البَحْرِ." (سفر الخروج: فصل 15، 19-20. التّرجمة من الأصل العبري هي لي).

وهكذا خرج بنو النّضير
وتركوا أرضهم وأملاكهم: "وخلّوا الأموال لرسول الله صلعم. فكانت لرسول الله صلعم خاصةً، يضعها حيث يشاء. فقسمها رسول الله صلعم على المهاجرين الأولين دون الأنصار، إلاّ أن سهل بن حنيف وأبا دجانة سماك ابن خرشة ذكَرَا فقرًا، فأعطاهما رسول الله صلعم." (تاريخ الطبري: ج 2، 226؛ سيرة ابن هشام: ج 2، 191). كما استولى محمّد على أسلحتهم وأرضهم: "وقبض السلاح واستولى على أرضهم وديارهم وأموالهم، فوجد من السلاح خمسين درعًا، وخمسين بيضة وثلاثمائة وأربعين سيفًا." (زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 115). فقط اثنان من اليهود، وابتغاء الحفاظ على أموالهما، فضّلا البقاء في المدينة والرّضوخ باعتناق الإسلام: "ولم يُسلم من بنى النضير إلا رجلان، يامين بن عمير بن كعب، بن عم عمرو بن جحاش، وأبو سعد ابن وهب، أسْلَمَا على أموالهما فأحرزاها " (تاريخ الطبري: ج 2، 226؛ سيرة ابن هشام: ج 2، 191).

مشاعر الحزن الإنسانية على فراق بني النّضير:
لقد أثارت مشاهد خروج بني النّضير من ديارهم مشاعر الحزن والأسى لدى بعض أولئك الّذين اصطفّوا يشاهدون خروجهم من ديارهم على هذه الحال. وقد عبّروا عن مشاعرهم هذه تجاه هؤلاء القوم المنكوبين من يهود بني النّضير، معدّدين خصالهم الحميدة التي كانت دائمًا من مفاخر العرب: "وقال حسان بن ثابت وهو يراهم، وسراةُ الرّجال على الرِّحال: أما والله، إن لقد كان عندكم لَنائلٌ للمُجْتدي، وقِرًى حاضرٌ للضّيف، وسقيا للمُدام، وحِلْمٌ على من سَفهَ عليكم، ونَجْدَةٌ إذا استُنْجِدْتُم. فقال الضحاك بن خليفة: واصباحاه، نفسي فداؤكم، ماذا تحمّلتم به من السّؤدد والبهاء والنجدة والسخاء؟ قال، يقول نعيم بن مسعود الأشجعي: فدًى لهذه الوُجوه التي كأنّها المصابيح، ظاعنين من يثرب. مَنْ للمُجتدي الملهوف؟ ومن للطارق السَّغْبان؟ ومَنْ يسقي العقار؟ ومَنْ يُطعمُ الشّحمَ فوقَ اللحم؟ ما لنا بيثرب بعدكم مقام. يقول أبو عبس بن جبر وهو يسمع كلامه: نعم، فالحقهم حتّى تدخل معهم النار. قال نعيم: ما هذا جزاؤهم منكم، لقد استنصرتموهم فنصروكم على الخزرج، ولقد استنصرتم سائر العرب فأبوا ذلك عليكم. قال أبو عبس: قَطَعَ الإسلامُ العُهود... ولقي المنافقون عليهم يوم خرجوا حزنًا شديدًا. لقد لقيت زيد بن رفاعة بن التابوت وهو مع عبد الله بن أبيّ، وهو يناجيه في بني غنم وهو يقول: تَوحّشْتُ بيثرب لفقد بني النضير، ولكنّهم يخرجون إلى عزّ وثروةٍ من حلفائهم، وإلى حصون منيعة شامخة في رؤوس الجبال ليست كما هاهنا." (مغازي الواقدي: ج 1، 372).

وكالعادة، فإنّ القرآن يتابع الأحداث، حتّى إنّ سورة كاملة، هي سورة الحشر، قد أنزلت فيما جرى لبني النّضير، وكما يُروى فإنّ ابن عبّاس كان يسمّيها سورة بني النّضير: "غزوة بنى النضير وهى التى أنزل الله تعالى فيها سورة الحشر، في صحيح البخاري عن ابن عباس أنه كان يسميها سورة بنى النضير... قال ابن إسحاق: فأنزل الله فيهم سورة الحشر بكمالها، يذكر فيها ما أصابهم به من نقمته وما سلّط عليهم به رسوله وما عمل به فيهم." (السيرة النبوية لابن كثير: ج 3، 146، 148؛ سيرة ابن هشام: ج 2، 193؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 115).

لقد تردّدت أصداء هذا الخراب
وهذا الذلّ اللّذين حلاّ ببني النّضير في أنحاء جزيرة العرب، ووصلت أخبارهم إلى بني قريظة: "لمّا خرجت بنو النضير أقبل عمرو بن سعدى فأطافَ بمنازلهم فرأى خرابَها. وفكّر، ثم رجع إلى قريظة فيجدهم في الكنيسة فينفخ في بوقهم، فاجتمعوا... قال: رأيتُ اليومَ عِبرًا قد عَبرْنا بها، رأيتُ منازلَ إخواننا خاليةً، بعد ذلك العزّ والجلد والشّرف الفاضل والعقل البارع. قد تركوا أموالَهم ومَلَكَها غيرُهم، وخَرجُوا خُروجَ ذُلّ." (تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 226؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 155).

وهكذا طُويت صفحة بني النّضير في المدينة.

والعقل وليّ التوفيق.

***

في المقالة القادمة سنتطرق إلى محرقة بني قريظة.

المقالة في "شفاف الشرق الأوسط"
***
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقالات هذه السلسلة:
 المقالة الأولى: "هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟"
المقالة الثانية: "لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟"
المقالة الثالثة: "لماذا استقبال قبلة اليهود بالذّات؟"
المقالة الرابعة: "من هو النّبي الأمّي؟"

 المقالة الخامسة: "لماذا حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟"
 المقالة السادسة: "المصير الذي آل إليه يهود جزيرة العرب"
 المقالة السابعة: "إكسودوس بني النضير" 
المقالة الثامنة: "محرقة بني قريظة 1" 
المقالة التاسعة "محرقة بني قريظة 2" 
المقالة العاشرة: "ماذا جرى مع يهود خيبر؟"
 المقالة الحادية عشرة: "إجلاء اليهود من جزيرة العرب"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


المصير الذي آل إليه يهود جزيرة العرب

سلمان مصالحة

المصير الذي آل إليه يهود جزيرة العرب



تعود بداية الاستيطان اليهودي
في شبه الجزيرة العربيّة، بحسب الأسطورة، إلى التّاريخ اليهودي القديم وإلى جيش موسى الذي حارب وقضى على الأقوام الماضية ممّن يُطلق عليهم اسم العماليق: "وكان ذلك الجيش أوّل سكنى اليهود المدينة، فانتشروا في نواحي المدينة كلها إلى العالية، فاتّخذوا بها الآطام والأموال والمزارع. ولبثُوا بالمدينة زمانًا طويلاً." (الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني: ج 22، 112). ثمّ تتوالى الأخبار لاحقًا بعد استيلاء الرّوم على مملكة اليهود وخراب الهيكل: "ثم ظهرت الروم على بني إسرائيل جميعًا بالشام، فوطئوهم وقتلوهم ونكحوا نساءهم. فخرج بنو النضير وبنو قريظة وبنو بهدل هاربين منهم إلى مَنْ بالحجاز من بني إسرائيل لمّا غلبتهم الرّوم على الشام." (الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني: ج 22، 113؛ خلاصة الوفا للسمهودي: ج 1، 72).
وحسبما يذكر ابن كثير، فقد كان الاستيطان اليهودي سابقًا للأنصار في الحجاز وفي المدينة، حيث: "كان بها من أحياء اليهود بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة. وكان نزولهم بالحجاز قبل الأنصار أيّام بختنصر، حين دوّخ بلاد المقدس." (سيرة ابن كثير: ج 2، 319؛ الروض الأنف للسهيلي: ج 1، 238؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 145)، إذ يعتبر غزو بختنصر هذا من أعظم الأحداث في التاريخ القديم: "ومن أعظم ما يذكرون فعل بخت نصر ببني إسرائيل بالبيت المقدس." (تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 4413؛ الكامل لابن الأثير: ج 5، 304)، حيث "أخذ بخت نصر التوراة، وما كان في الهيكل من كتب الأنبياء، فصيرها في بئر وطرح عليها النار وكبسها... وكان عدة من حمل بخت نصر إلى أرض بابل ثمانية عشر ألفا... فمنهم اليهود الذين بالعراق." (تاريخ اليعقوبي: ج 1، 24).

لقد كانت يثرب قبل الإسلام بلدًا عامرًا بالقبائل اليهوديّة: "فكان ممن يسكن المدينة، حين نزلها الأوس والخزرج، من قبائل بني إسرائيل: بنو عكرمة وبنو ثعلبة وبنو محمر وبنو زغورا وبنو قينقاع وبنو زيد وبنو النضير وبنو قريظة وبنو بهدل وبنو عوف وبنو الفصيص. فكان يسكن يثرب جماعة من أبناء اليهود فيهم الشرف والثروة والعزّ على سائر اليهود... وكان يقال لبني قريظة وبني النضير خاصة من اليهود الكاهنان. نُسبوا بذلك إلى جدّهم الذي يقال له الكاهن." (الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني: ج 22، 114). وقد كان الملك والحكم في المدينة لليهود ردحًا من الزّمن: "ولم تزل اليهود ظاهرين على المدينة حتّى كان سيلُ العرم." (سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 3، 282؛ خلاصة الوفا للسمهودي: ج 1، 73).

لا يوجد تحديد دقيق لزمن حدوث هذا السّيل بسبب تهدّم السدّ: "والذي يفهم من أقوال الأخباريين أن هذا التصدّع كان قد وقع قبل الإسلام بزمن، وقد بقيت ذكراه عالقة في الذاكرة إلى أيام الإسلام." (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي: ج 1، 1683). لقد كان هذا التّهدّم هو السّبب الذي أدّى إلى تفرّق قبائل اليمن في البلاد، وهكذا وصلت قبائل الأوس والخزرج إلى يثرب، بل وأكثر من ذلك فقد حالف هؤلاء اليهودَ وصاروا يتشبّهون بهم لعلمهم: "ثمّ لمّا كان سيل العرم وتفرّقتْ شذر مذر، نزلَ الأوسُ والخزرجُ المدينةَ عند اليهود، فحالفوهم وصاروا يتشبّهون بهم، لِمَا يرون لهم عليهم من الفَضْل في العِلْم المأثور عن الأنبياء." (سيرة ابن كثير: ج 2، 320؛ حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني: ج 3، 337؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 6، 689).

لم تكن أحوال الأوس والخزرج
في بداية نزولهم المدينة على أفضل حال، إذ أنّهم وجدوا أنفسهم في ضائقة معيشيّة، بخلاف اليهود الّذين كانوا قد أسّسوا ملكهم فيها: "فأقامت الأوس والخزرج في منازلهم التي نزلوها بالمدينة في جهد وضيق في المعاش، ليسوا بأصحاب إبل ولا شاة، لأن المدينة ليست بلاد نعم وليسوا بأصحاب نخل ولا زرع. وليس للرجال منهم إلا الأعذاق اليسيرة والمزرعة يستخرجها من أرض موات، والأموال لليهود. فلبثت الأوس والخزرج بذلك حينًا." (الأغاني للأصفهاني: ج 22، 115-116)، حيث كانت يثرب مدينة ومملكة يهوديّة عامرة: "وكانت يثرب منازل اليهود، فنازعتهم، وغلبتهم اليهود بكثرتهم، وقهروهم." (تاريخ اليعقوبي: ج 1، 79). ولمّا كانت هذه هي الحال في يثرب عقد هؤلاء حلفًا مع اليهود: "أنّ الأوس والخزرج وجدوا الأموال والآطام بأيدي يهود والعدد والقوة معهم. فمكثوا ما شاء الله ثم سألوهم أن يعقدوا بينهم جوارًا وحلفًا يأمن به بعضهم من بعض ويمتنعون به ممن سواهم، فتحالفوا وتعاملوا ولم يزالوا كذلك زمانا طويلا. وأثْرَت الأوس والخزرج وصار لهم مال وعدد. فخافت قريظة والنضير أن يغلبوهم على دورهم فتنمّروا لهم، حتى قطعوا الحلف، وقريظة والنضير أعَدُّ وأكثرُ، فأقاموا خائفين أن تجليهم يهود." (خلاصة الوفا للسمهودي: ج 1، 76).

وهكذا استمرّت الحال،
ثمّ يروي لنا الأخباريون سبب غزو تبّع أسعد، ملك اليمن، ليثرب وما جرى بعدئذ: "قال محمد بن اسحق: كان الأوس والخزرج مستضعفين متهضمين في أيدي اليهود وملكهم القيطون، لا يزف عروس إلا افتضّها. فلما زوّج مالك بن عجلان الخزرجي أخته وأدخلها إلى القيطون، تشبّهَ مالكُ بن عجلان بالنساء وتستّر بثيابهنّ ودخل معهنّ، واختبأ في ناحية من داره. فلما همّ القيطون بأخته، قام إليه مالك بن عجلان فقتله. ثم خرج إلى تبّع فاستصرخه، فجاء حتّى قتل من رؤساء اليهود وأعلامهم ثلثمائة وخمسين رجلا غيلةً بذي حرض... قال وهمّ تبّع بإخراب المدينة فقالت له يهود: إن هذا غير ممكن ولا أنت واصل إليه. قال: ولم؟ قالوا: لأنها مهاجر نبي يخرج من مكة، فقبل تبّع اليهودية ودان بها. وأخذ حبرين من أحبارهم معه إلى اليمن." (البدء والتاريخ لابن المطهر: ج 1،179؛ انظر أيضًا: سيرة ابن كثير: ج 1، 295؛ البداية والنهاية: ج 2، 379؛ الأنساب للصحاري: ج 1، 186؛ خلاصة الوفا للسمهودي: ج 1، 76؛ الأخبار الطوال للدينوري: ج 1، 41 -حيث يذكر الأخير أنّ القيطون هو ابن عمّ أسعد بن عمرو الحميري وأصله من اليمن.).

وكما يُروى فإنّ هذين الحبرين هما اللّذان دفعاه إلى اعتناق اليهوديّة: "وكان تبّع تبان لما قدم من المدينة صحبه حبران من اليهود، وهما اللذان هَوّداه." (البلدان لياقوت: ج 2، 373)، فقد رافقه الحبران في عودته من المدينة إلى اليمن: "ثم خرج منها متوجها إلى اليمن، بمن معه من جنوده وبالحبرين، حتى إذا دخل اليمن دعا قومه إلى الدخول فيما دخل فيه... فأصفقت عند ذلك حمير على دينه. فمن هنالك وعن ذلك كان أصلُ اليهودية باليمن." (سيرة ابن هشام: ج 1، 26؛ تاريخ الطبري: ج 1، 305؛ البداية والنهاية: ج 2، 202-203). وتُبّع هذا هو أبو ذي نواس ملك اليمن اليهودي الّذي أحرق نصارى نجران، إذ بعد أن تولّى ابنه، يوسف ذو نواس، الملك في اليمن غزا نصارى نجران، حيث دعاهم إلى اعتناق اليهودية. فلما أبوا خدّ لهم الأخدود وأحرقهم بالنار: "ولم ينج منهم سوى رجل واحد يقال له دوس ذو ثعلبان، ذهب فارسًا، وطردوا وراءه فلم يُقدر عليه، فذهب إلى قيصر ملك الشام، فكتب إلى النجاشي ملك الحبشة، فأرسل معه جيشًا من نصارى الحبشة يقدمهم أرياط وأبرهة، فاستنقذوا اليمن من أيدي اليهود." (تفسير ابن كثير: ج 8، 369-370؛ الرحيق المختوم للمباركفوري: ج 1، 23). أي أنّ دخول اليهودية إلى اليمن كان على يدي هذين الحبرين القادمين مع تبّع من يثرب: "فكان تهوّد من تهوّد من أهل اليمن على يديهما." (تفسير ابن كثير: ج 8، 369). ومن بين أشهر رجالهم نذكر كعب الأحبار الّذي أسلم وكان له تأثير بالغ في بداية الإسلام: "ويقولون إنّ علم كعب الأحبار كان من بقية ما أورثت تلك الأحبار. وكان كعب الأحبار رجلاً من حمير." (تاريخ الطبري: ج 1، 524).

وعلى مرّ الزّمن، على ما يبدو، فقد تعاظمت قوّة الأوس والخزرج في المدينة وبدأت تتضعضع سيطرة اليهود، فتفرّق اليهود وصاروا أحزابًا متناحرة تبني أحلافًا مع تلك القبائل: "وكانت بنو قينقاع أعداء قريظة، وكانت الأوس حلفاء بني قينقاع، والخزرج حلفاء بني قريظة. والنضير والأوس والخزرج إخوان، وقريظة والنضير أيضًا إخوان. ثم افترقوا فكانوا يقتتلون، ثم يرتفع الحرب فيَفْدُون أساراهم". (تفسير القرطبي: ج 2، 20).

كذا كانت حال اليهود في جزيرة العرب عشيّة ظهور محمّد ورسالته الجديدة.

***

مصير بني قينقاع:
لقد استمرّ محمّد وأصحابه في بذل الجهود الحثيثة للتّقرُّب من اليهود في يثرب - المدينة -، وواصل إرسال موفدين إلى اليهود لدعوتهم إلى الإسلام: "كتب النبي صلعم مع أبي بكر رض إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام... فدخل أبو بكر رض ذاتَ يوم بيتَ-مدراسهم، فوجد ناسًا كثيرًا من اليهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص بن عازوراء وكان من علمائهم، ومعه حبرٌ آخر يقال له أشيع. فقال أبو بكر لفنحاص: اتّقِ اللهَ وأسلمْ، فوالله إنك لتعلم أن محمّدًا رسول الله قد جاءكم بالحق من عند الله تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة، فآمنْ وصَدّقْ وأقرض اللهَ قرضًا حسنًا يُدْخلك الجنةَ ويضاعف لك الثواب..." (تفسير البغوي: ج 2، 143؛ أسباب النزول للواحدي: ج 1، 46؛ سيرة ابن هشام: ج 1، 558؛ تفسير السراج المنير للشربيني: ج 1، 595). إلاّ أنّ هؤلاء قد رفضوا بغالبيّتهم الدخول في الإسلام وقبول نبوّته، ما عدا أحد أحبارهم وهو عبد الله بن سلام من بني قينقاع: "وبادرَ حبرُهم وعالمُهم عبد الله بن سلام فدخل في الإسلام وأبى عامّتهم إلاّ الكفر." (زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 58). وهكذا، وبعد أن يئس محمّد من قبول أهل الكتاب بنبوّته الأمّيّة، طفق يبحث عن قبلة أخرى غير قبلة اليهود، فحوّل القبلة نحو الكعبة رغبة منه في استمالة العرب إلى الإسلام، كما أسلفنا من قبل.

ليس هذا فحسب، بل يبدو أنّ محمّدًا نفسه توجّه إلى اليهود، وبعد انتصاراته على قريش يوم بدر، محاولاً تهديدهم بأن يكون مصيرهم مشابهًا لمصير قريش، ما يشير إلى هذا التحوّل من مرحلة استجدائهم للاعتراف به إلى مرحلة العداء ومحاولة فرض الإسلام عليهم وقبول نبوّته بالقوّة: "عن ابن إسحاق قال: كان من أمر بني قينقاع أنّ رسول الله صلعم جمعهم بسوق بني قينقاع، ثم قال: يا معشر اليهود، احذروا من الله مثلَ ما نزلَ بقريش من النقمة، وأسْلِمُوا. فإنّكم قد عرفتم أنّي نبيّ مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم." (سيرة ابن هشام: ج 2، 46. وانظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 6، 228؛ تاريخ الطبري: ج 2، 172؛ تفسير القرطبي: ج 4، 24؛ تفسير النيسابوري: ج 2، 218؛ السنن الكبرى للبيهقي: ج 9، 183؛ العجاب في بيان الأسباب لابن حجر العسقلاني: ج 2، 665).

أمّا بخصوص الفتيل الذي أشعل الحرب
بين المسلمين وبين بني قينقاع، فهنالك روايات تذكر أنّ ذلك العداء قد تسبّبت به امرأة من العرب: "كان من أمر بني قينقاع أنّ امرأة من العرب قدمت بجلب لها، فباعته بسوق بني قينقاع وجلست إلى صائغ بها. فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت. فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلمّا قامت انكشفت سَوْأتُها، فضحكوا بها، فصاحت. فوثبَ رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديًّا، وشدّت اليهودُ على المسلم فقتلوه. فاستصرخ أهلُ المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون فوقع الشرّ بينهم وبين بني قينقاع." (سيرة ابن هشام: ج 2، 47؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 196؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 1، 385-386؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 4، 179).

الحصار:
وهكذا، وبعد مضيّ فترة قصيرة من تحويل القبلة إلى الكعبة، أي في شوّال من السنة الثانية للهجرة، تحوّل محمّد إلى حصار يهود بني قينقاع حتّى استسلموا، وكان محمّد مصرًّا على قتلهم كما يذكر الطبري: "حاصرهم رسول الله صلعم خمس عشرة ليلة، لا يطلع منهم أحد. ثم نزلوا على حكم رسول الله صلعم، فكُتفوا وهو يريد قتلهم." (تاريخ الطبري: ج 2، 173؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1، 289؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 194)، غير أنّ عبد الله بن أبيّ ابن سلول أمسك بجيب محمّد وهدّده ألاّ يفعل ذلك قائلاً له: "يا محمد! أحسن في مواليّ، وكانوا حلفاء الخزرج، فأبطأ عليه النبي صلعم، فقال: يا محمد أحسن في مواليّ، فأعرض عنه النبي صلعم. قال، فأدخلَ يده في جيب رسول الله صلعم، فقال رسول الله صلعم: أرسلني، وغضب رسول الله صلعم حتى رأوا في وجهه ظلالاً، يعنى تلوّنًا، ثم قال: ويحك أرسلني! قال: لا والله لا أرسلك حتى تُحْسنَ إلى مواليّ. أربعمائة حاسر وثلثمائة دارع قد منعوني من الأسود والأحمر، تحصدُهم في غداةٍ واحدة؟ وإنّي والله لا آمنُ، وأخشَى الدوائر. فقال رسول الله صلعم: هُمْ لكَ." (تاريخ الطبري: ج 2، 173؛ سيرة ابن اسحاق: ج 1، 294؛ سيرة ابن هشام: ج 2، 48؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 4، 5؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1، 298؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 197؛ تفسير الثعالبي: ج 1، 468)، أو أنّه قال برواية أخرى: "خلّوهم لعنهم الله ولعنه معهم! وتركهم من القتل، وأمر بهم أن يجلو من المدينة." (الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 2، 29). ولأنّ بني قينقاع لم يكونوا ممّن يمتلكون أراضي فقد نهب محمّد أسلحتهم وحليّهم ومجوهراتهم، كما تذكر الرواية: "ولم تكن لهم أرضون إنّما كانوا صاغةً. فأخذ رسول الله صلعم لهم سلاحًا كثيرًا وآلةَ صياغتهم." (تاريخ الطبري: ج 2، 173).

وهكذا نجا يهود بني قينقاع
بعد تهديد عبد الله بن أبيّ لمحمّد شخصيًّا. وهذه الحادثة كما يذكر بعض المفسّرين هي السّبب من وراء نزول الآية من سورة المائدة: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم" (الدر المنثور للسيوطي: ج 3، 98؛ تفسير الطبري: ج 4، 615؛ تفسير ابن كثير: ج 2، 94؛ تفسير القرطبي: ج 6، 203؛ )، حيث تمسّك عبد الله بن أبيّ بأوليائه من اليهود، وأنقذهم من موت محتوم كان ينوي محمّد إنزاله بهم، كما لو أنّ الله في عليائه ينتظر مكالمة هاتفيّة من رسول أمّي لينزل آياته حسبما تقتضيه الضّرورة، وبحسب الطلب. أليس كذلك؟

والعقل وليّ التوفيق.


في المقالة القادمة سنتطرق إلى إكسودوس بني النّضير.

***

المقالة في: "شفاف الشرق الأوسط"

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقالات هذه السلسلة:المقالة الأولى: "هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟"
المقالة الثانية: "لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟"
المقالة الثالثة: "لماذا استقبال قبلة اليهود بالذّات؟"
المقالة الرابعة: "من هو النّبي الأمّي؟"

 المقالة الخامسة: "لماذا حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟"
 المقالة السادسة: "المصير الذي آل إليه يهود جزيرة العرب" 
المقالة السابعة: "إكسودوس بني النضير" 
المقالة الثامنة: "محرقة بني قريظة 1" 
المقالة التاسعة "محرقة بني قريظة 2" 
المقالة العاشرة: "ماذا جرى مع يهود خيبر؟" 
المقالة الحادية عشرة: "إجلاء اليهود من جزيرة العرب"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لماذا حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟

سلمان مصالحة



لماذا حُوّلت القبلة
من بيت المقدس إلى الكعبة؟


كما أسلفت في
المقالة السابقة "من هو النبيّ الأمّي؟"، فقد بذل محمّد وأصحابه جهودًا كبيرة في استعطاف واستجداء أهل الكتاب الذين يقطنون جزيرة العرب بعامّة، واليهود منهم بصورة خاصّة، لكي يعترفوا به بوصفه "النبيّ الأمّي" - أي المسيح المنتظر - الذي تتحدّث عنه كتبهم المقدّسة، كالتوراة والإنجيل. لقد حاول في البداية استمالة قلوب أهل الكتاب بصورة سلميّة، غير أنّ هؤلاء لم يرغبوا في ترك معتقداتهم وكتبهم والإنضمام إلى الرسالة الجديدة التي تدّعي أنها جاءت تكملة لتلك الرسالات القديمة، رسالات أنبياء بني إسرائيل في التوراة ورسالة عيسى في الإنجيل. فما عدا قلّة من بين أهل الكتاب الذين قبلوا برسالة محمّد وبايعوا رسالته، فقد باءت محاولات محمّد وأصحابه بالفشل لدى الغالبيّة العظمى. ولم تشفع له حقيقة كونه يتّجه بالصّلاة نحو الصخرة وبيت المقدس التي هي "قبلة اليهود"، كما يقول هو نفسه عنها، مثلما أشرت في مقالة سابقة أيضًا.
فها هم رؤساء مكّة يذهبون لاستشارة اليهود
في أمر دعوى محمّد أنّه النبيّ الأمّي ودعوى كونه مُبَشّرًا به في كتبهم، بينما اليهود ينكرون أمام رؤساء مكّة هذه الدّعاوى جملة وتفصيلاً، كما يروي ابن عبّاس: "أنّ رؤساء مكة أتوا رسول الله صلعم فقالوا: يا محمّد سألنا عنك اليهود وعن صفتك في كتابهم، فزعموا أنّهم لا يعرفونك." (تفسير البغوي: ج 2، 312)، أو برواية أخرى: "فقالوا سألنا اليهود عن صفتك ونعتك، فزعموا أنهم لا يعرفونك في كتابهم." (بحر العلوم للسمرقندي: ج 1، 443، وانظر أيضًا: أسباب النزول للواحدي: ج 1، 66؛ زاد المسير لابن الجوزي: ج 2، 257).
وها هم اليهود يقولون ذلك صراحة لمحمّد ذاته: "ودخل عليه جماعة من اليهود فقال لهم: إني والله أعلمُ إنّكم لتعلمون أنّي رسول الله، فقالوا: ما نعلم ذلك." (تفسير الطبري: ج 9، 409؛ تفسير ابن كثير: ج 2، 476؛ تفسير البغوي: ج 2، 312؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 2، 750). غير أنّ محمّدًا لا يكتفي بذلك، بل يذهب بنفسه في أحد أيّام الأعياد اليهوديّة إلى كنيس اليهود باحثًا عن دعم وإقرار بدعواه دون جدوى: "عن عوف بن مالك الأشجعي قال: انطلق النبي صلعم وأنا معه، حتّى دخلنا كنيسة اليهود بالمدينة يوم عيد لهم، فكرهوا دخولنا عليهم، فقال لهم رسول الله صلعم: يا معشر اليهود، أروني اثني عشر رجلاً يشهدون إنه لا إله إلا هو، وأنّ محمّدًا رسول الله، يحبطُ اللهُ عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضبَ الذي غضب عليه. قال، فأسكتوا فما أجابَه منهم أحدٌ، ثم ثلث فلم يجبه أحد، فانصرف وأنا معه." (تفسير الطبري: ج 22، 107؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 7، 9)، وفي رواية أخرى، قبل أن ينصرف عنهم قال: "أبَيْتُم، فوالله لأنا الحاشرُ وأنا العاقبُ وأنا النبي المصطفى، آمنتم أو كذبتم! ثم انصرف و أنا معه..." (المعجم الكبير للطبراني: ج 12، 409؛ المستدرك للحاكم النيسابوري: ج 3، 469؛ جامع الأحاديث للسيوطي: ج 23، 424؛ صحيح السيرة للألباني: ج 1، 80-81).
وهكذا، وعلى ما يبدو،
فقد كان محمّد يحاول البحث عن أيّ بصيص أمل لاعتراف يهودي به، أو عن أيّ شكل من أشكال التّصديق لرسالته الجديدة. ولقد بلغ به الأمر أنّه كان يتوجّه لأيّ شخص يمرّ به ويسأله طالبًا منه هذا الاعتراف التوراتي بنبوّته، ومثال على ذلك ما تذكره الرّواية التّالية: "عن الفلتان بن عاصم قال: كنت جالسًا عند النبي صلعم، إذ شَخَصَ بَصرُه إلى رجل، فإذا هو يهودي عليه قميص وسراويل ونعلان، قال: فجعل النبي صلعم يكلّمه وهو يقول: يا رسول الله، فقال النبي صلعم: أتشهد أني رسول الله؟ قال: لا. قال رسول الله صلعم: أتقرأ التوراة؟ قال: نعم. قال: أتقرأ الإنجيل؟ قال: نعم. قال: والقرآن ولو تشاء قرأته. فقال رسول الله صلعم: فيما تقرأ التوراة والإنجيل، أتجدني نبيا؟ قال: إنّا نجدُ نعتَك ومخرجَك، فلمّا خرجتَ رجَوْنا أنْ تكونَ فينا، فلمّا رأيناكَ، عرفنا أنّكَ لَسْتَ به." (السيرة النبوية لابن كثير: ج 1، 323؛ تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 3، 415).
ليس هذا فحسب، بل إنّ محمّدًا وأصحابه يستنجدون ببعض اليهود، الذين كانوا قد بايعوه من قبل، بغية إقناع بني قومهم الآخرين، وذلك من خلال تقديم الوعود لليهود ببناء الهيكل اليهودي في بيت المقدس، كما نستنتج من الراوية التالية: "عن محمد بن كعب القرظي قال: أوحى الله إلى يعقوب أنّي أبعث من ذرّيتك مُلوكًا وأنبياء حتّى أبعثَ النبي الحرمي الذي تبني أمّته هيكلَ بيت المقدس وهو خاتم الأنبياء واسمه أحمد. (الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1، 163؛ سبل الهدى والرشاد للصاالحي الشامي: ج 1، 99).
والحقيقة أنّ اليهود ما كانوا ليؤمنوا بمحمّد
بوصفه النبيّ الأمّي - أي المسيح - الذي ينتظرون قدومه في آخر الزّمان، إذ أنّ هذا المسيح المنتظر، وبحسب ما تذكره التّوراة وكما أشرنا من قبل، يجب أن يكون يهوديًّا ومن نسل داود، فما بالُكُم الآن بمحمّد العربيّ النّسب. بل وأكثر من ذلك، فربّما حريّ بنا أن نذكر إنّه حتّى قبل قرون ستّة من ظهور محمّد على السّاحة في جزيرة العرب، كان قد ظهر شخص آخر، وهو شخص ينتسب إلى اليهود على وجه التّحديد، ومن نسل داود أبًا عن جد واسمه يسوع، حيث ادّعى هذا النبوّة أيضًا وأنّه المسيح الذي بشّرت به التّوراة، غير أنّ اليهود لم يؤمنوا به كما هو معلوم.
فإذا كانت هذه هي الحال مع يسوع، اليهودي المولد والنّسب، فما بالكم الآن بشخص عربيّ ليس يهوديًّا وليس من نسل داود، يجيء الآن ويقول أمورًا مشابهة، فهل سيؤمن به اليهود خلافًا لمعتقداتهم؟ ولهذا السّبب قال اليهود فيما يتعلّق بنبوّة محمّد: "إنّما كانت الرُّسُل من بني إسرائيل، فما بالُ هذا من بني إسماعيل؟" (تفسير الطبري: ج 2، 342؛ أسباب النزول للواحدي: ج 1، 8؛ العجاب في بيان الأسباب لابن حجر العسقلاني: ج 1، 284)، أي أنّ الرّسول الّذي ينتظره اليهود ليس من العرب بأيّ حال. وهذا التصوُّر هو ما تؤكّده رواية ابن عبّاس على لسان أحد بني النّضير: "فقال سلام بن مشكم أحد بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفُه، وما هو بالّذي كُنّا نَذْكُر لكم." (السيرة لابن هشام: ج 1، 547؛ تفسير الطبري: ج 2، 333؛ تفسير ابن كثير: ج 1، 326؛ تفسير ابن أبي حاتم: ج 3، 490؛ أسباب النزول للسيوطي: ج 1، 11)، إذ أنّ الّذي كان يذكره اليهود للعرب في السّابق، على ما يبدو، إنّما هو المسيح اليهودي الّذي من نسل داود.
وهكذا، لم يقتنع اليهود بالرسالة
الجديدة، حتّى بعد أن قال لهم محمّد إنّه يؤمن بما أُنزل عليهم وعلى آبائهم: "أؤمن باللّه وما أُنزل إلينا، وما أُنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط، وما أُوتي موسى وعيسى... فلمّا ذكر عيسى جحدوا نبوّته وقالوا: لا نؤمن بمن آمن به"، (تفسير الطّبري: ج 4 ص 631؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 5، 121؛ العجاب في بيان الأسباب لابن حجر العسقلاني: ج 1، 382؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 3، 108؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 1، 335)، بل وأكثر من ذلك، فقد أضافوا قائلين: "والله ما نعلمُ أهلَ دين أقلّ حظًّا في الدنيا والآخرة منكم، ولا دينًا شرًّا من دينكم." (تفسير الرّازي: ج 6، 97؛ تفسير النيسابوري: ج 3، 183؛ زاد المسير لابن الجوزي: ج 2، 386).
ولهذا السّبب بالذّات أيضًا، فقد وبّخ اليهودُ عبدَ الله بن سلام اليهودي بعد أن أسلم: "وقال حيي بن أخطب وكعب بن أسد وأبو رافع وأشيع وشمويل بن زيد، لعبد الله بن سلام حين أسلم: ما تكونُ النبوّةُ في العرب، ولكنّ صاحبَكَ مَلِكٌ..." (سيرة ابن هشام: ج 1، 568؛ الروض الأنف: ج 2، 430؛ التاريخ الكبير للبخاري: ج 1، 193، 225؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 1، 288).
تحويل القبلة:
وهكذا، وبعد أنْ لم ينفع محمّدًا أنّه يتوجّه بالصّلاة نحو بيت المقدس، "قبلة اليهود"، بهدف استمالة قلوبهم لرسالته، كما أسلفت من قبل، وبعد أن رفض اليهود دعوته لأنّها لا تتمشّى مع ما يؤمنون هم به، إذ أنّ التوجّه فقط بالصّلاة إلى قبلة اليهود لا يكفي: "قالت اليهود: يُخالفنا محمّد ويتبع قبلتنا ... والله ما دَرَى محمّد وأصحابُه أينَ قِبْلتُهم حتّى هَدَيْناهم. فكرهَ ذلك النبي صلعم ورفع وجهه إلى السماء..."، كما رُوي عن مجاهد (تفسير الطبري: ج 2، 22). وبعد أن يئس من إمكانية قبول اليهود وعامّة أهل الكتاب دعوته إلى قبوله بوصفه "المسيح المنتظر" الجديد، فقد بدأ يفكّر في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى مكّة، كما تكشفه لنا الرواية التّالية: "وذلك أن النبي صلعم لما قدم المدينة أراد أن يستألفَ اليهود فتوجّه إلى قبلتهم ليكون ذلك أدْعَى لهم، فلما تبينَ عنادُهم وأَيِسَ منهم، أحبّ أن يُحَوّل إلى الكعبة، فكان ينظر إلى السماء." (تفسير القرطبي: ج 2، 150). ولذلك أيضًا فقد رُوي عنه في الحديث النبوي أنّه بدأ يرغب في صرف القبلة عن "قبلة اليهود"، فقال: "وددتُ أنّ ربّي صَرَفَني عن قبلة اليهود إلى غيرها" (طبقات ابن سعد: ج 1، 241؛ تفسير مقاتل:ج 1، 92; تفسير الطبري:ج 2، 3؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 1، 343؛ بحر العلوم للسمرقندي: 1، 126).
على ما يبدو فقد رغب محمّد في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة بسبب ردود فعل اليهود، كما يظهر في الرواية الإسلامية: "كرهَ قبلةَ بيت المقدس من أجل أنّ اليهود قالوا: يتبع قبلتنا ويخالفنا فى ديننا! ... والله ما دَرَى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم! فكره ذلك النبي صلعم." (تفسير الطبري: ج 2 ص 22؛ تاريخ الطبري: ج 2، 18)، أو برواية الرازي يصف هذه الحال التي وجد الرسول نفسه فيها بالمحنة، بسبب ما يقوله اليهود: "إنه يخالفنا ثم إنّه يتبع قبلتنا، ولولا نحن لم يدر أين يستقبل، فعند ذلك كرهَ أن يتوجّه إلى قبلتهم." (تفسير الرازي: ج 2، 403).
وهكذا بدأ الرسول يجد نفسه في حيرة من أمره: "وكان رسول الله صلعم يقعُ في رَوْعِه ويتوقعُ من ربّه أن يُحوّله إلى الكعبة." (تفسير البيضاوي: ج 1 ص 42؛ تفسير أبي السعود: ج 1 ص 174)، فأخذ يبحث عن قبلة أخرى مختلفة عن قبلة اليهود: "واختلفوا في سبب اختيار النبي الكعبة علي بيت المقدس على قولين: أحدهما أنها كانت قبلة إبراهيم، روي عن ابن عباس. والثاني لمخالفة اليهود." (زاد المسير لابن الجوزي: ج 1، 156؛تفسير البيضاوي: ج 1، 42؛ كشف المشكل لابن الجوزي: ج 1، 462)، أو لأنّها "أقدم القبلتين وأدْعَى للعرب إلى الإيمان." (تفسير البيضاوي: ج 1، 42)، أو لأنّها "مفخرتهم ومزارهم ومطافهم" (تفسير النيسابوري: ج 1، 358؛ تفسير أبي السعود: ج 1، 174).
ومثلما كان الهدف من استقبال بيت المقدس في البداية هو استمالة اليهود في الأساس، فها هو يحوّلها الآن إلى الكعبة لأغراض الاستمالة أيضًا. لقد رغب محمّد في تحويل القبلة إلى الكعبة، كما يصرّح الرّازي، لأنّه "كان يُقدّر أن يصيرَ ذلك سببًا لاستمالة العرب ولدخولهم في الإسلام." (تفسير الرازي: ج 2، 403).
وهكذا، وبعد مضيّ ما يقارب سنة ونصف على هجرة الرسول إلى المدينة، تمّ تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وكما يجمع المفسّرون فإنّ هذا التّحويل يُعتبر أوّل نسخ في القرآن: "أوّل ما نُسخ في القرآن القبلة..." (تفسير الطبري: ج 2، 3 ؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 1، 343 ؛ فتح القدير للشوكاني: ج 1، 205؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: 370)، أو أنّ هذا التّحويل، كما يذكر ابن كثير، هو "أوّل نَسْخٍ وقعَ في الإسلام"، على الإطلاق (سيرة ابن كثير: ج 2، 372).
بلبلة المصلّين في تحويل القبلة:
لقد أثار صرف القبلة عن بيت المقدس وتحويلها إلى الكعبة بلبلة في صفوف المصلّين، كما تشير الروايات: "عن ثابت عن أنس أن رسول الله صلعم كان يصلي نحو بيت المقدس فنزلت {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فولّ وجهك شطرَ المسجد الحرام}، فمرّ رجل من بني سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر وقد صلّوا ركعة، فنادى ألا إنّ القبلة قد حُوّلتْ، فمالوا كما هم نحو القبلة" (صحيح مسلم: رقم 527؛ مسند أحمد بن حنبل: ج 3، 284؛ تفسير الطبري: ج 3، 135؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 2، 476؛ مستخرج أبي عوانة الإسفراييني: ج 2، 159). أو كما أخبرت نويلة بنت مسلم عن لحظة التّحوُّل إلى الكعبة، قالت: "صلّينا الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة فاسْتَقْبَلْنا مسجدَ إيلياء فصلّينا ركعتين، ثم جاء من يحدثنا أن رسول الله صلعم قد استقبلَ البيت الحرام، فتحوّل النّساءُ مكانَ الرّجال، والرّجالُ مكانَ النّساء. فصلّينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيتَ الحرام" (تفسير ابن كثير: ج 1، 263؛ وانظر أيضًا: الدر المنثور للسيوطي: ج 1، 65؛ تفسير ابن أبي حاتم: ج 1، 126؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 18، 220؛ فتح القدير للشوكاني: ج 1، 54).
ليس هذا فحسب، بل كان هنالك بين المسلمين من أثار تساؤلات وجيهة بشأن أولئك الذين صلّوا من قبل نحو بيت المقدس وقد قضوا نحبهم قبل تحويل القبلة إلى الكعبة، فماذا يكون بشأن هؤلاء: "وقال المسلمون: ليتَ شعرنا عن إخواننا الذين ماتوا وهم يُصلّون قبلَ بيت المقدس! هل تَقبّلَ اللهُ منّا ومنهم، أو لا؟ " (تفسير الطبري: ج 3، 157).
وعندما صُرفت القبلة من بيت المقدس
إلى الكعبة، كان اليهود يقولون له: "يا محمّد، ما هو إلا شيء تبتدعه من تلقاء نفسك، فتارة تصلي إلى بيت المقدس وتارة إلى الكعبة ولو ثَبتَّ على قبلتنا لكُنّا نرجو أن تكونَ صاحبَنا الذي ننتظره؟" (تفسير البغوي: ج 1، 163؛ تفسير البيضاوي: ج 1، 422؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 1، 261؛ تفسير النيسابوري: ج 1، 364؛ الكشاف للزمخشري: ج 1، 101)، أو أنّهم عيّروا المسلمين بالقول: "ليستْ لهم قبلة معلومة، فتارة يستقبلون هكذا، وتارة هكذا." (تفسير البغوي: 1، 139؛ تفسير السراج المنير للشربيني: ج 1، 194).
حتّى إنّ مجموعة من رجالهم جاءت إلى محمّد تطلب منه أن يرجع إلى قبلة بيت المقدس وتعده بأنهم سيتبعونه إنْ فعل ذلك: "قال ابن إسحاق: ولما صرفت القبلة عن الشام إلى الكعبة... أتى رسولَ الله صلعم رفاعةُ بن قيس، وقردم بن عمرو، وكعب بن الأشرف ورافع بن أبي رافع، والحجاج بن عمرو، حليف كعب بن الأشرف والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، فقالوا: يا محمّد ما ولاّكَ عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه؟ ارجعْ إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك..." (سيرة ابن هشام: ج 1، 549؛ تفسير الطبري: ج 3، 132؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 2، 477؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 1، 344).
لقد استاء بعض اليهود جدًّا من تحويل القبلة إلى الكعبة بدل بيت المقدس والتوجّه بالصّلاة نحو قبلة أخرى غير قبلتهم: "لما صُرفت إلى الكعبة شقّ ذلك على اليهود لمخالفتهم." (تفسير النيسابوري: ج 2، 285؛ أسباب نزول القرآن للواحدي: ج 1، 73)، إذ أنّ محمّدًا قد أوشكَ أن يدخلَ في دين اليهود، كما قال المشركون من أهل مكّة لليهود بعد تحويل القبلة: "تُحُيّرَ على محمّد دينُه، فتوجّهَ بقبلته إليكم، وعلمَ أنّكم كُنتم أهْدَى منه، ويوشكُ أنْ يدخلَ في دينكم!" (تفسير الطبري: ج 3، 158؛ العجاب في بيان الأسباب لابن حجر العسقلاني: ج 1، 402؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 1، 359).
لهذا السّبب، وبعد تحويل القبلة
من بيت المقدس فقد أقدم بعض اليهود، الذين كانوا أسلموا من قبل، على ترك الإسلام وعادوا إلى اليهوديّة، كما تُخبرنا الرواية التالية: "إن القبلة لمّا حُوّلت ارتدّ قومٌ من المسلمين إلى اليهودية، وقالوا: رجع محمّد إلى دين آبائه" (تفسير البغوي: ج 1، 160؛ تفسير السراج المنير للشربيني: ج 1، 221).
خلاصة القول، قد يكون رفضُ أهل الكتاب بصورة عامّة واليهود على وجه التّحديد قبول رسالة محمّد بوصفه المسيح التوراتي المنتظر في ظهوره الجديد، وبالمصطلح الإسلامي بوصفه "النبيّ الأمّي"، هو نقطة التحوّل في التاريخ الإسلامي من مرحلة التقرُّب والتّألُّف لليهود بواسطة التوجّه بالصلاة نحو قبلتهم، إلى مرحلة العداء الشامل، وذلك على غرار ما حصل قبل ستّة قرون بين النصرانية واليهوديّة من عدم اعتراف اليهود برسالة يسوع. وقد أفضى هذا العداء، في نهاية المطاف، إلى قتل وتهجير أهل الكتاب بعامّة واليهود بخاصّة من جزيرة العرب. أليس كذلك؟
والعقل وليّ التّوفيق.

***

في المقالة القادمة سنتطرق إلى ما آل إليه مصير اليهود في جزيرة العرب.

المقالة في "شفاف الشرق الأوسط"
***
_______________________________________
مقالات هذه السلسلة: 
المقالة الأولى: "هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟"
المقالة الثانية: "لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟"
المقالة الثالثة: "لماذا استقبال قبلة اليهود بالذّات؟"
المقالة الرابعة: "من هو النّبي الأمّي؟ "
 
المقالة الخامسة: "لماذا حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟"
 المقالة السادسة: "المصير الذي آل إليه يهود جزيرة العرب" 
المقالة السابعة: "إكسودوس بني النضير" 
المقالة الثامنة: "محرقة بني قريظة 1" 
المقالة التاسعة "محرقة بني قريظة 2"
 المقالة العاشرة: "ماذا جرى مع يهود خيبر؟" 
المقالة الحادية عشرة: "إجلاء اليهود من جزيرة العرب"
__________________________________

من هو "النّبيّ الأمّي"؟


فإذا كانت هذه هي الحال بشأن هذا النّبي الموعود، بحسب ما تذكره الرّواية الإسلاميّة، فمن هو هذا "النّبيّ الأمّي" الّذي بشّرت به أسفار التّوراة وبشّر به الإنجيل؟

لماذا استقبال "قبلة اليهود" بالذّات؟



سلمان مصالحة ||


لماذا استقبال "قبلة اليهود" بالذّات؟

بعد أن أسلفنا فيما مضى،
في مقالة "لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟"، من كون القدس - بيت المقدس - على التعميم، أو الصخرة بالتحديد، هي "قبلة اليهود" كما نستخلص من الروايات الإسلامية بشأن القبلة، سننظر فيما يلي في مسألة لا تقلّ عواصةً، ألا وهي: لماذا يتوجّه الرسول والمسلمون الأوائل إلى قبلة اليهود بالذّات بدل التوجّه إلى الكعبة، وهي محجّة العرب الجاهليّة منذ القدم ومن ثمّ المحجّة الإسلاميّة لاحقًا؟

وللإجابة على هذه الأسئلة لا مناص من النّظر في بعض الخلفيّات الّتي على ضوئها يمكننا أن نتحسّس طريقنا للوصول إلى صورة واضحة تجلو ما التبس من أمور في هذه القضيّة.
وبشأن هذه الخلفيّة، نبدأ فنقول: إنّ من أهمّ القضايا المتعلّقة بنبوّة محمّد يمكن الإشارة إلى مسألة الصفة التي أُضفيت عليه في القرآن في سورة الأعراف من المرحلة المكّيّة، حيث نعثر في هذه السّورة على التّعبير الضّبابيّ "النبيّ الأميّ" (الأعراف: 157-158)، وما يثيره هذا التّعبير من تساؤلات. إنّ هذه الصفة، كغيرها من الأمور المبهمة التي عادة ما تشتمل عليها النّصوص المقدّسة، ولا يشذّ القرآن عن هذه القاعدة، قد فتحت أيضًا الأبواب الواسعة لتفسيرات واجتهادات مختلفة.

فما هو المراد بـ"الأمّي" في هذه الآية؟
لقد ذهب أهل التّفسير إلى أنّ تعبير "الأمّي" في هذه السّورة هو إشارة إلى أمّة محمّد مستندين إلى ما تقدّم من سياق ذُكر في الآية التي سبقتها من قوله تعالى: "ورحمتي وسعتْ كلّ شيء"،(الأعراف: 156). وعلى ما يبدو فقد أثارت هذه الآية جدلاً كبيرًا بوسعنا أن نسمع أصداءه فيما يرويه لنا المفسّرون. إذ، مع نزول هذه الآية، تنطّح إبليس مستندًا إلى منطق الكلام الّذي يُفهم من نصّ الآية، بمعنى: إذا كان الأمر كذلك بشأن الرّحمة الّتي تسع كلّ شيء، فلكونه لا يخرج هو لآخر عن كونه جزءًا من الشيء، فقد "قال إبليس: أنا من كُلّ شيء، فنزعها اللّه من أبليس"، وذلك بواسطة إضافة قول جديد إلى القول السّابق، والقول الآخر الجديد هو: "فسأكتبها للذين يتّقون ويؤتون الزّكاة". فلمّا أضاف تعالى ذلك، قال اليهود مستندين هم أيضًا إلى منطق الكلام في النصّ المنسوب إليه تعالى: "نحنُ نتّقي ونؤتي الزّكاة ونؤمن بآيات ربّنا"، فلذلك لم يجد تعالى بدًّا من إضافة جملة أخرى لكي ينزع هذه الرّحمة من اليهود أيضًا بقوله: "الّذين يتّبعون الرّسول النبيّ الأمّي"، وهكذا تستمرّ الرّواية فتقول: "فنزعها الله من إبليس ومن اليهود وجعلها لهذه الأمّة، أو وجعلها لأمّة محمّد." (تفسير الطبري: ج 6، 78؛ أنظر أيضًا: تفسير مقاتل: ج 2، 10؛ تفسير الثعالبي: ج 2، 57؛ تفسير القرطبي:ج 7، 261؛ تفسير البغوي: ج 1، 287).

وأمّة محمّد هذه
الّتي يذكرها المفسّرون إنّما المراد بها أمّة العرب، كما يُفهم من إشارات المفسّرين إلى معنى تعبير "الأميّين" الّذي ورد في سورة الجمعة: "هو الذي بعث في الأمّيين رسولاً منهم" (سورة الجمعة: 2)، وكذا قال مجاهد وسفيان وقتادة وابن عباس وغيرهم من أهل التّفسير، (تفسير الطبري: ج 12، 88؛ تفسير القرطبي: ج 18، 81؛ تفسير البغوي: ج 1 ، 113؛ تفسير البيضاوي: ج 1، 337؛ الوجيز للواحدي: ج 1، 1095).
أي أنّ محمّدًا، الرّسول المبعوث، ينتسب إلى هؤلاء "الأميّين" العرب على اختلاف قبائلهم وأفخاذهم. ولكي لا يُفهم الكلام تعميمًا على العرب بالإطلاق فقد تمّ استثناء النّصارى منهم، إذ: "ما من حيّ من العرب إلاّ ولرسول الله صلعم فيهم قرابة وقد ولدوه، قال ابن إسحاق: إلا حيّ تغلب فإن اللّه تعالى طَهّرَ نَبيَّه صلعم منهُ لنصرانيّتهم، فلم يجعل لهم عليه ولادة." (تفسير القرطبي:ج 18، 81؛ تفسير اللباب لابن عادل: ج 15، 270؛ المحرر الوجيز لابن عطية المحاربي: ج 2، 40).

غير أنّ البلبلة لدى المفسّرين
تظهر جليّة عندما ينتقلون للحديث عن صفة "الأمّي" الّتي وردت في الآية {الّذين يتبعون الرّسول النبيّ الأمّي}، فقد اختلف أهل التّفسير في المعنى المراد به من صفة الأُمّيّة الّتي أضيفت إلى الرّسول. فقد قال البعض إنّ الأميّ هنا تعني عدم معرفة القراءة والكتابة، وقالوا إنّ الأمّي نسبة إلى أمّ القرى - مكّة -، وقالوا إنّ الأمّي هي نسبة إلى الأمّ. وقد أجمل هذه التّفسيرات البهاء العاملي فقال: "الأمّي من لا يكتب، منسوب إلى أمّة العرب، المشهورين بعدم الخطّ والكتابة، ووصف نبينا صلعم بالأمّي لذلك، أو لنسبته إلى أمّ القرى، لأن أهلها كانوا أشهر بذلك. ويجوز ان يكون الأمّي نسبة إلى الأم. أي، هو كما ولدته أمه، أي باقٍ على حاله، لم يتعلّم الكتابة. فهذه ثلاثة أوجه في قولنا: النبي الأمّي." (الكشكول للبهاء العاملي:ج 1، 340؛ العقد الفريد لابن عبد ربه: ج 2، 35-36).

غير أنّ الغالبيّة تذهب إلى ترجيح دلالة عدم معرفة القراءة والكتابة، مستندين في ذلك إلى حديث نبويّ: "عن النبي صلعم قال: إنّا أمّة أمّية لا نكتب ولا نحسب..." (صحيح مسلم: ج 2، 759؛ تفسير الطبري: ج 2، 257؛ تفسير ابن كثير: ج 1، 723؛ تفسير البغوي: ج 3، 288؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 1، 4450؛ أحكام القرآن للجصاص: ج 5، 335؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 8، 152). وها هو النّووي يضيف شرحًا للحديث مُجملاً أقوال العلماء حول معنى أمّة أميّة في الحديث السابق قائلاً: "قال العلماء: (أمّية) باقون على ما ولدتنا عليه الأمهات لا نكتب ولا نحسب، ومنه النبي الأمّي، وقيل: هو نسبة إلى الأم وصفتها؛ لأن هذه صفة النساء غالبًا." (شرح النووي على مسلم: ج 4، 50). من هنا فإنّ معنى النبيّ الأمّي، كما ورد في الآية يدلّ على "الأمّي الذي لا يقرأ الكتاب ولا يخطّ بيمينه..." (سنن البيهقي الكبرى: ج 7، 42)، أو المنسوب إلى: "الأمّة الأمّية التي هي على أصل ولادتها لم تتعلم الكتابة ولا قراءتها... وقال ابن عباس: كان نبيّكم صلعم أميًّا لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب." (تفسير القرطبي: ج 7، 262؛ للاستزادة في هذه المسألة يمكن العودة إلى: تفسير مقاتل: ج 2، 10؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 3، 574؛ تفسير القشيري: ج 2، 449؛ معاني القرآن للنحاس: ج 3، 89؛ أحكام القرآن للجصاص: ج 5، 335).

إنّ ما يزيد المسألة تعقيدًا
هو ما يذكره ابن كثير في معرض حديثه تفسيرًا لـ "النبيّ الأمي" فيذكر: "وهذه صفة محمد صلعم في كتب الأنبياء بَشّروا أممهم ببعثه، وأمروهم بمتابعته، ولم تزل صفاته موجودة في كتبهم يعرفها علماؤهم وأحبارهم." (تفسير ابن كثير: ج 3، 483)، ولذلك وردت أيضًا الآية: فآمنوا بالله ورسوله النبيّ الأمّي... أي: الذي وُعدتم به وبُشرتم به في الكتب المتقدمة. فإنّه منعوت بذلك في كتبهم..." (تفسير ابن كثير: ج 3، 491). وهذا ما يُروى عن قتادة بشأن الآية: يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون، قال: "تشهدون أن نعت نبي الله محمد صلعم في كتابكم ثم تكفرون به وتنكرونه ولا تؤمنون به وأنتم تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل النبي الأمّي." (الدر المنثور للسيوطي: ج 2، 240؛ تفسير الطبري: ج 6، 503؛ فتح القدير للشوكاني: ج 1، 531؛ تفسير ابن أبي حاتم: ج 13، 226).

ومعنى هذا الكلام
أنّ مصطلح "النبيّ الأميّ"، وبحسب الرّوايات الإسلاميّة ذاتها، هو مصطلح مأخوذ أصلاً من أسفار أهل الكتاب، أي بني إسرائيل، ومن معتقداتهم. جدير بالذكر هنا أنّ مصطلح بني إسرائيل في هذا السياق هو مصطلح يجمع عادة اليهود والنصارى، إذ أنّ "بني إسرائيل وهم حملة التوراة والإنجيل." (تفسير ابن كثير: ج 3، 497)، وهذا ما يُفهم من كلام ابن كثير عن عيسى: "فعيسى، عليه السلام، وهو خاتم أنبياء بني إسرائيل، وقد أقام في ملأ بني إسرائيل مبشرا بمحمد، وهو أحمد خاتم الأنبياء والمرسلين،" (تفسير ابن كثير: ج 8، 109). أي أنّ أهل الكتاب، بحسب الرؤيا الإسلاميّة، هم أمّة واحدة، هي أمّة بني إسرائيل التي اختلفت فيما بينها: "إن أهل الكتاب اختلفوا فيما بينهم فصاروا أحزابًا يطعن بعضهم على بعض فنزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه" (تفسير البغوي: ج 1، 175).

من هنا نخلص إلى النّتيجة
الّتي مفادها أنّ النّبيّ الأمّي، في نهاية المطاف، هو ما بشّر به الأنبياء السّابقون في التوراة والإنجيل. لقد شاعت هذه الرؤيا في أوساط المسلمين الأوائل، كما تشير إليه الرواية التّالية: "وقال الثعلبي قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وأخرج عبد بن حميد من طريق قتادة ومن طريق مجاهد يوم بدر أنّ يهود أهل المدينة قالوا لما هزم رسول الله المشركين يوم بدر هذا والله النبي الأمي الذي بشرنا به موسى ونجده في كتابنا بنعته..." (العجاب في بيان الأسباب - إبن حجر العسقلاني: ج 2، 665-666)، أو الرواية التّالية: "وقال مقاتل: إن اليهود أقرّوا ببعض صفه محمد صلعم وكتموا بعضًا." (الكشف والبيان للثعلبي: ج 1، 122)، أو التّالية: "وقال الضحاك: إن اليهود كانوا يقولون للملوك إنا نجد في كتابنا أن الله يبعث نبيا في آخر الزمان يختم به النبوة." (تفسير القرطبي: ج 4، 297).

وكانت هذه الرؤيا من بين الحجج التي ساقها المسلمون في دعوتهم سائر الأمم المحيطة وخاصّة أهل الكتاب الذين كانوا يحيطون بالمسلمين إلى اعتناق الإسلام. وهكذا، عندما دخل دحية الكلبي موفدًا إلى قيصر يدعوه للإسلام، قال دحية لقيصر: "فإنّي أدعوك إلى من كان المسيح يصلي له،... وأدعوك إلى هذا النبي الأمّي الذي بشّر به موسى وبشّر به عيسى ابن مريم بعدَه..." (الروض الأنف: ج 1، 424). وها هو شرحبيل بن حسنة يردّ على روماس بطريق الرّوم في بصرى، عندما خرج هذا الأخير إليه وسأله من أنتم، قال شرحبيل: "من أصحاب محمد صلعم النبي الأُمّي القرشي الهاشمي المنعوت في التوراة والإنجيل." (فتوح الشام للواقدي: ج 1، 17).

من هذا المنطلق نخلص إلى أنّ مصطلح "الأمّي" لا علاقة له بما اصطلح عليه العلماء المسلمون منذ القدم وحتّى الآن من كونه يدلّ على عدم معرفة القراءة والكتابة أو التّفسيرات الأخرى، وإنّما هو ذو أبعاد ومدلولات أخرى سنشرحها في المقالة القادمة.

والعقل وليّ التّوفيق!
***

المقالة في "شفاف الشرق الأوسط"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقالات هذه السلسلة:
 المقالة الأولى: "هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟"
المقالة الثانية: "لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟"
المقالة الثالثة: "لماذا استقبال قبلة اليهود بالذّات؟"
المقالة الرابعة: "من هو النّبي الأمّي؟"
المقالة الخامسة: "لماذا حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟"
المقالة السادسة: "المصير الذي آل إليه يهود جزيرة العرب"
المقالة السابعة: "إكسودوس بني النضير"
المقالة الثامنة: "محرقة بني قريظة 1"
المقالة التاسعة "محرقة بني قريظة 2"
المقالة العاشرة: "ماذا جرى مع يهود خيبر؟"
المقالة الحادية عشرة: "إجلاء اليهود من جزيرة العرب"
المقالة الثانية عشرة: "سبحان الذي أسرى"
المقالة الثالثة عشرة: "إلى المسجد الأقصى"
المقالة الرابعة عشرة: "سبحان الذي أسرى بعبده إلى الهيكل اليهودي"

***

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟



سلمان مصالحة

لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟


أيًّا ما كان الشأن في مسألة قبلة  
بيت المقدس، أكانت هي القبلة الأولى أم الثانية، كما نوّهت في المقالة السابقة "هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟" وأيًّا ما كان الشأن في مسألتها، أكانت أمرًا إلهيًّا أم تخييرًا من لدن اللّه، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح في هذا السياق هو: لماذا استقبال بيت المقدس، أو لماذا أصلاً استقبال صخرة بيت المقدس بالذات دون غيرها في الصّلاة؟مرّة أخرى، ومن أجل الإجابة على هذه التّساؤلات ما علينا إلاّ أن نشدّ رحالنا إلى تضاعيف التّراث الإسلامي ذاته لنتبيّن سبيلنا، من خلال ما دوّنه لنا السّلف، ابتغاء الوصول إلى إجابة واضحة.

 قبلة اليهود:
 فلو أنعمنا نظرنا في هذا التّراث الإسلامي نرى أنّ ثمّة إجماعًا فيه على أنّ "صخرة بيت المقدس" هذه هي قدس أقداس اليهود، ولو حاولنا في هذا السياق استخدام التّعبير الإسلامي بخصوصها فقد أطلق عليها المسلمون بدءًا من الرسول اسم "قبلة اليهود"، كما يتّضح ذلك من الحديث النبوي: "وددتُ أنّ ربّي صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها" (طبقات ابن سعد: 1ج، ص 241؛ تفسير مقاتل:ج 1، 92; تفسير الطبري:ج 2، ص 3؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 1، 343؛ بحر العلوم للسمرقندي: 1، 126)، إذ أنّ بيت المقدس كما تذكر الرّوايات والمأثورات الإسلاميّة المختلفة هي "قبلة اليهود"، على وجه الخصوص (تفسير ابن كثير: ج 1، 265؛ تفسير القرطبي:ج 8، 837؛ زاد المسير لابن الجوزي، ج 4، 55؛ الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي:ج 1، 117)، أو هي "قبلة أهل الكتاب..." تعميمًا (تفسير البغوي:ج 1، 162). وها هو ابن قيم الجوزية، عندما يتطرّق إلى قدسيّة الصّخرة يقول ذلك صراحة: "وأرفعُ شيءٍ في الصخرة أنها كانت قبلة اليهود" (المنار المنيف لابن قيم الجوزية: ج 1، 88)، ولا يشذّ عن هذه النّظرة المفكّر الإسلامي المعاصر سيّد قطب الذي يصرّح هو الآخر بذلك أيضًا: "بيت المقدس - قبلة اليهود ومُصَلاّهم." (في ظلال القرآن: ج 1، 72).

فمن جميع هذه الروايات نفهم أنّ ثمّة تداخُلاً بين بيت المقدس والصخرة في المنظور الإسلامي. وبكلمات أخرى فإنّ مصطلح "بيت المقدس" الذي شاع في التّراث العربي هو في الواقع مصطلح مرادف لـ"الصخرة" التي هي قبلة اليهود كما أجمع عليها المفسّرون والمفكّرون المسلمون منذ القدم وحتّى العصر الحديث. كما يتّضح جليًّا، ممّا أوردنا سالفًا، هذا الإجماع الإسلامي على أنّ الصخرة وبيت المقدس هي أقدس بقعة لدى اليهود، أو هي "قبلة اليهود"، كما ذكرت الرّوايات الإسلاميّة، مثلما هي الكعبة ومكّة قبلة للمسلمين. ولمّا كانت هذه حال هذه البقعة المحدّدة من الأرض، أكانت هي أولى القبلتين أو هي الثانية كما بيّنا من قبلُ في المقالة السّابقة، فلا مناص من إثارة السؤال المُلحّ، لماذا إذن يتوجّه إليها الرّسول والمسلمون الأوائل بالصّلاة؟


من المعلوم أنّ الكعبة 
الكائنة في مكّة، ومنذ عصور قديمة، هي مكان عربيّ مقدّس وهي محجّة العرب منذ قديم الزّمان. من هنا فإنّ الإسلام العربيّ كان موجّهًا في بداية أمره إلى القبائل العربيّة في شبه الجزيرة العربيّة، غير أنّ معارضة قريش وسائر العرب الجاهليّين في البداية لرسالة محمّد الجديدة هذه قد دفعتاه إلى البحث عن مكان آمن لأتباعه. هكذا كانت هجرة الحبشة بعد أن اشتدّ التّضييق على أتباعه، بينما بقي هو ولم يهاجر بسبب الانتماء القبلي، فالنّعرة القبليّة للبيت الذي ينتمي إليه هي التي حمته من الأذى كما تذكر الرّواية الإسلامية: "وكان رسول الله صلعم في منعة من قومه وعمّه، لا يصل إليه شيء ممّا يكره، ممّا ينال أصحابُه. فقال لهم رسول الله صلعم: إنّ بأرض الحبشة ملكًا لا يُظلم أحدٌ عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا ممّا أنتم فيه، فخرجنا إليها أرسالا حتى اجتمعنا بها." (السيرة النبوية لابن اسحاق: ج 1، 74، 194؛ سيرة ابن هشام: ج 2، 164؛ سنن البيهقي: ج 2، 268؛ سيرة ابن كثير: ج 2، 16؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 3، 85).

ولذلك أيضًا بدأ الرسول صلعم يبحث عن دعم لرسالته يأتيه من مكان آخر. وهكذا بدأ البحث عن قبلة أخرى بدل الكعبة ومكّة، وقد يكون هذا هو السّبب من وراء الهجرة إلى المدينة، لذا يذكر الرّازي: "إنّ أصل أمرك أن تسقبل الكعبة وأنّ استقبالك بيت المقدس كان أمرًا عارضًا لغرض..." (تفسير الرّازي - مفاتيح الغيب: 2، 396؛ تفسير اللّباب لابن عادل: 2، 160)، أو أنّ هذا الاستقبال قد كان "لفائدة"، كما ورد في روايات أخرى (تفسير النيسابوري: ج 1، 355). أي أنّ أصل الرّسالة هو التوجّه إلى مكّة والكعبة، غير أنّ ما جرى مع الرّسول قد دفعه إلى استقبال صخرة بيت المقدس، وقد كان هذا التحوُّل أمرًا طارئًا لأسباب تتعلّق بمجريات الأحداث التي ألمّت به وبصحابته في بداية الرسالة، وقد كان استقبال بيت المقدس بدل استقبال الكعبة ومكّة لغرض معيّن، أي لأهداف معيّنة سنشرحها فيما يلي.
 

فما هو هذا الغرض، إذن؟
مرّة أخرى، لا تترك الرّوايات التي حفظها لنا السّلف مجالاً للشكّ في أهداف هذا التّحوُّل. فمن هذه الرّوايات يتّضح جليًّا أنّ الغاية من وراء استقبال صخرة بيت المقدس، أكان ذلك الاستقبالُ قد حصل قبل أو بعد الهجرة، قد كانت لهدف واحد ومحدّد، وهذا الهدف هو التقرّب إلى اليهود واستمالتهم إليه إثر المعارضة التي واجهها من عرب الجاهليّة في مكّة، كما تذكر بعض الروايات الإسلامية: "لأن رسول الله صلعم كان يصلي بمكة إلى الكعبة ثم أُمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة تألفا لليهود..." (الكشاف للزمخشري: ج 1، 100؛ تفسير البيضاوي: ج 1، 416؛ تفسير النيسابوري: ج 1، 355؛ إعراب القرآن لابن سيدة: ج 1، 310؛ فتح القدير للشوكاني: ج 1، 234). وبرواية الثعلبي: "أمره تعالى أن يصلي نحو الصخرة ببيت المقدس ليكون أقربَ إلى تصديق اليهود إياه إذا صلّى إلى قبلتهم..." (الكشف والبيان للثعلبي:ج 1، 259).

ولذلك كان اليهود يعجبهم أنّ محمّدًا يتوجّه بالصلاة نحو بيت المقدس الذي هو قبلة اليهود: "وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قِبَلَ المقدس..."، كما يورد البغوي (تفسير البغوي:ج 1، 162)، حيث كان أكثر أهل المدينة من اليهود الذين فرحوا بتوجّهه نحو قبلتهم: "ولما هاجر إلى المدينة كان أكثر أهلها اليهود أمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فكان رسول الله صلعم يصلي نحو بيت المقدس..." (سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: 370).
 

إذن، لقد فعل الرسول ذلك
ابتغاء استمالة قلوب اليهود في جزيرة العرب، كما تصرّح به الروايات الإسلامية. فقد قام بهذه الخطوة بحثًا عن دعم لرسالته من أناس آخرين، واليهود منهم بخاصّة، وذلك "ليُؤمنوا به ويتبعوه."، كما يورد الطبري (تفسير الطبري: ج 2 ص 3). وها هو القرطبي يورد رواية تشرح هذا التّوجّه قولاً صريحًا: "وذلك أن النبي صلعم لما قدم المدينة أراد أن يستألفَ اليهود فتوجه إلى قبلتهم ليكون ذلك أدعَى لهم." (تفسير القرطبي: ج 2، 150).
وخلاصة القول في هذه المسألة أنّ الرّسول والمسلمين الأوائل تحوّلوا إلى "قبلة اليهود" كما يسمّونها هم صراحة، وذلك لكي يستميل إلى جانبه اليهود الذين يتّجهون في صلواتهم نحو بيت المقدس الّتي هي قبلتهم منذ قديم الزّمان. وهذا ما تقوله لنا الرّوايات الإسلاميّة ذاتها كما عرضناها هنا بلسانها. أليس كذلك؟
والعقل وليّ التّوفيق!
***

في المقالة القادمة سأتطرّق إلى السؤال، لماذا التوجّه بالصلاة نحو "قبلة اليهود" بالذّات؟
نشرت المقالة في: "شفاف الشرق الأوسط"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقالات هذه السلسلة: 
المقالة الأولى: "هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟"
المقالة الثانية: "لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟"
المقالة الثالثة: "لماذا استقبال قبلة اليهود بالذّات؟"
المقالة الرابعة: "من هو النّبي الأمّي؟"
المقالة الخامسة: "لماذا حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟"
المقالة السادسة: "المصير الذي آل إليه يهود جزيرة العرب"
المقالة السابعة: "إكسودوس بني النضير"
المقالة الثامنة: "محرقة بني قريظة 1"
المقالة التاسعة "محرقة بني قريظة 2"
المقالة العاشرة: "ماذا جرى مع يهود خيبر؟"
المقالة الحادية عشرة: "إجلاء اليهود من جزيرة العرب"
المقالة الثانية عشرة: "سبحان الذي أسرى"
المقالة الثالثة عشرة: "إلى المسجد الأقصى"
المقالة الرابعة عشرة: "سبحان الذي أسرى بعبده إلى الهيكل اليهودي"

***

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟


سلمان مصالحة

هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟


في سلسلة المقالات التالية
سأعرض على القارئ الكريم ما أتوصّل إليه بشأن فلسطين كما تتبدّى في التّراث العربي والإسلامي. وقبل أن أبدأ أودّ أن أمهّد لذلك فأقول إنّي لن أتعرّض في هذه المقالات لكتابات استشراقيّة حول هذه المسائل حتّى لا أُتّهم بأنّني أشيع آراء غربيّة وغريبة وما إلى ذلك من مقولات واتّهامات جاهزة لدى بعض النّفر من العرب، من صنف أولئك الّذين لا يقرؤون ولا يفقهون ولا يعون ما يشتمل عليه هذا التّراث العربيّ والإسلاميّ. وهي، على كلّ حال، مقولات واتّهامات تُفسد على القارئ النّبيه إمكانية النّظر ببصيرة حادّة وجادّة في قضايا تهمّ القارئ العربيّ بعامّة والفلسطيني منه على وجه التّحديد. فكم بالحريّ إذا كان الحديث عن تراثنا، ونحن عرب ننتمي إلى هذه الأمّة. فنحنُ قيّمون على حضارتنا العربيّة والإسلاميّة، نعرف قراءة تراثنا المكتوب بلغتنا العربيّة، والّتي نعرفها جيّدًا مثلما نعرف هذا التّراث، تراثنا نحن. كما نعرف التّعامل معه بلساننا، ولسنا بأيّ حال من الأحوال بحاجة إلى أناس غرباء آخرين لقراءته ومساءلته.

في البداية،
لا بدّ من التّنويه إلى ما يلي: لمّا كانت فلسطين والقدس لم يرد ذكرهما في القرآن بتاتًا، وإنّما ورد ذكر بيت المقدس فقط، ليس نصًّا صريحًا في القرآن، بل ورد ذكرها في كتب التّفسير والتّاريخ وغيرها في سياق الحديث عن التوجّه بالصّلاة، أي القبلة، وفقط في سياق قصّة إسراء ومعراج الرّسول. ولذلك وجدت أنّه من المناسب أن أبدأ هذه السلسلة بمقالة حول القبلة.

فهل حقًّا القدس هي أولى القبلتين؟
تشيع في الكتابات العربيّة والإسلاميّة في هذا العصر مقولة إنّ القدس هي "أولى القبلتين"، أي أنّ الرّسول والمسلمين الأوائل، أي في المرحلة الأولى لظهور الإسلام، كانوا يستقبلون القدس، أي يتّجهون في صلواتهم نحو بيت المقدس. فهل كان ذلك حقًّا؟من أجل الإجابة على هذه التّساؤلات، دعونا ننظر فيما نقله لنا السّلف عن هذه القضيّة. فلقد ورد في صحيح مسلم عن أنس أنّ رسول اللّه "كان يصلي نحو بيت المقدس..." (صحيح مسلم: ج 1، 375؛ سنن أبي داود: ج 1، 340؛ مسند أحمد بن حنبل: ج 1، 325)، أو برواية الطبري: "كانوا يصلون نحو بيت المقدس، ورسول الله صلعم بمكة قبل الهجرة وبعدما هاجر رسول الله صلعم، نحوَ بيت المقدس ستة عشر شهرًا..." (تفسير الطبري: ج 1، 548؛ تاريخ الطبري: ج 2، 18؛ أنظر أيضًا الدر المنثور للسيوطي: ج 1، 343؛ سبل الهدى والرّشاد للصالحي الشامي: 370). أي أنّ بيت المقدس، وبحسب هذه الرّوايات، كانت هي القبلة الأولى للرّسول والمسلمين.

غير أنّنا لو واصلنا البحث
في هذه المسألة فسنرى أنّه لا يوجد إجماع حول هذه النّقطة، بل هناك رأيان بشأن القبلة الأولى. فهناك كثيرون يقولون إنّ القبلة الأولى هي الكعبة، ويذكرون أنّ رسول الله: "كان يصلي بمكة إلى الكعبة ثم أُمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة..." (الكشاف للزمخشري: ج 1، 100؛ تفسير البيضاوي: ج 1، 416؛ تفسير النيسابوري: ج 1، 355؛ فتح القدير للشوكاني: ج 1، 234). وها هو القرطبي يلخّص لنا هذا الخلاف: "واختلفوا أيضًا حين فُرضت عليه الصلاة أوّلاً بمكة، هل كانت إلى بيت المقدس أو إلى مكة، على قولين: فقالت طائفة: إلى بيت المقدس وبالمدينة سبعة عشر شهرا ثمّ صرفه الله تعالى إلى الكعبة، قاله ابن عباس. وقال آخرون: أوّل ما افتُرضت الصلاة عليه إلى الكعبة. ولم يزل يُصلّي إليها طول مقامه بمكة... فلما قدم المدينة صلى إلى بيت المقدس... ثم صرفه الله إلى الكعبة. قال أبو عمر: وهذا أصح القولين عندي." (تفسير القرطبي: ج 2، 150). وبكلمات أخرى، هنالك من يذهب إلى ترجيح هذا الرأي والقول إنّ الكعبة هي القبلة الأولى، وليس بيت المقدس. وكذا نستنتج أيضًا من رواية ابن عبّاس الّذي يذكر أنّ بداية الأمر كانت إلى البيت العتيق، ثمّ تحوّل إلى بيت المقدس وعاد بعدئذ إلى البيت العتيق: "استقبل رسول الله صلعم فصلّى نحو بيت المقدس وترك البيت العتيق، ثمّ صرفه إلى بيته العتيق ونسخَها..." (تفسير ابن كثير: ج 1، 218)، أي أنّ البيت العتيق كان هو السّابق، وقد تركه الرّسول، ثمّ عاد إليه. بل هنالك من يصف الكعبة وبكلام صريح على أنّها هي بالذّات "أقدمُ القبلتين." (تفسير البيضاوي: ج 1، 420؛ تفسير ابن عجيبة: ج 1، 115).إذن، يتّضح ممّا أوردنا من آراء السّلف أنّه لا يوجد إجماع بشأن أوّلية القبلة لبيت المقدس، رغم شيوع هذه المقولة على الألسن وفي الكتابات في هذا الأوان.

وإذا لم يكن ثمّ إجماع بشأن القبلة الأولى،
فليس ثمّ إجماع أيضًا على السؤال، إنْ كان التّوجّه بالصّلاة نحو بيت المقدس قد جاء بأمر من الله أم بتخيير من لدنه. فهنالك من يقول بالتّخيير، كما يذكر الطبري: "قال الربيع قال أبو العالية: إن نبي الله صلعم خُيّر أن يوجّه وجهه حيث شاء فاختار بيت المقدس..." (تفسير الطبري: ج 2، 3). لكن، وفي الوقت ذاته، ثمّ روايات أخرى تقول بأنّ الاتّجاه نحو بيت المقدس كان بأمر إلهي، كما يظهر من الرواية التالية: "أنّ رسول الله صلعم لما هاجر إلى المدينة... أَمَرَه اللهُ أن يستقبلَ بيت المقدس..." (تفسير ابن كثير: ج 1، 458 ؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 1، 343؛ لباب النّقول في أسباب النّزول للسيوطي: ج 1، 16). وقد أثارت هذه المسألة نقاشات واسعة لأنّ لها علاقة بأمور عقائديّة، ليس هنا المجال للدّخول فيها.

ليس هذا فحسب،
بل لو أمعنا النّظر مليًّا في الرّوايات الإسلاميّة سنرى أنّ الاتّجاه بالصلاة ليس هو نحو جهة بيت المقدس بصورة عامّة، وإنّما هو، في حقيقة الأمر، نحو نقطة بعينها، وهي نقطة محدّدة بدقّة في بيت المقدس. وهذه النّقطة المحدّدة هي الصخرة، كما نقرأ لدى الطّبري: "أن النبي صلعم كان يستقبل صخرة بيت المقدس... " (تفسير الطبري: ج 2، 3؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 1، 343؛ انظر أيضًا: الكشف والبيان للثعلبي: ج 1، 259). ومثلما نقرأ أيضًا: "لأن رسول الله صلعم كان يصلي بمكة إلى الكعبة ثم أُمرَ بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة..." (الكشاف للزمخشري: ج 1، 100؛ تفسير البيضاوي: ج 1، 416؛ تفسير النيسابوري: ج 1، 355؛ فتح القدير للشوكاني: ج 1، 234). بكلمات أخرى، فإنّ الاتّجاه بالصّلاة هو نحو نقطة بعينها في بيت المقدس، وهي الصّخرة.

مهما يكن من أمر،
فلا شكّ أنّ ثمّة إجماعًا في التّراث الإسلامي على أنّ القبلة قد تحوّلت إلى الكعبة بعد ستّة عشر أو سبعة عشر شهرًا من هجرة الرّسول إلى المدينة. وكان هذا التّحويل، على ما تذكر الرّوايات الإسلاميّة، هو بداية إبطال مفعول أوامر سابقة نصّ عليها الإسلام في بداية عهده، أو هو: "أوّل نسخ وقع في الإسلام" (سيرة ابن كثير: ج 2، 372؛ تفسير ابن كثير: ج 1، 218)، أو أنّ: "أوّل ما نُسخ في القرآن القبلة..." (تفسير الطبري: ج 2، 3؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 1، 343 ؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: 370).ممّا ذكرنا أعلاه، واستنادًا إلى الروايات التي حفظها لنا التّراث العربي والإسلامي، نرى كلّ هذا التّخبّط الواضح في مسألة جوهريّة، خاصّة وأنّها تتعلّق بمسألة أساسيّة، مسألة الصّلاة ووجهتها. وما من شكّ في أنّ هذا التّخبّط يدلّ على تناقُض واختلاف في الرّوايات، وهو أمر يشير في نهاية المطاف إلى تَطوّر في مجريات الأحداث والعبادات في المرحلة الإسلاميّة الأولى. أليس كذلك؟

والعقل وليّ التّوفيق!*
في المقالة القادمة سأتطرّق إلى السؤال، لماذا بيت المقدس ولماذا الصّخرة بالذّات؟ فانتظرون!

***
نشرت المقالة في: "شفاف الشرق الأوسط"

_________________________________________
مقالات هذه السلسلة: 

المقالة الأولى: "هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟"
المقالة الثانية: "لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟"
المقالة الثالثة: "لماذا استقبال قبلة اليهود بالذّات؟"
المقالة الرابعة: "من هو النّبي الأمّي؟"
المقالة الخامسة: "لماذا حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟"
المقالة السادسة: "المصير الذي آل إليه يهود جزيرة العرب"
المقالة السابعة: "إكسودوس بني النضير"
المقالة الثامنة: "محرقة بني قريظة 1"
المقالة التاسعة "محرقة بني قريظة 2"
المقالة العاشرة: "ماذا جرى مع يهود خيبر؟"
المقالة الحادية عشرة: "إجلاء اليهود من جزيرة العرب"
المقالة الثانية عشرة: "سبحان الذي أسرى"
المقالة الثالثة عشرة: "إلى المسجد الأقصى"
المقالة الرابعة عشرة: "سبحان الذي أسرى بعبده إلى الهيكل اليهودي"

***
***

قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!