من هو "النّبيّ الأمّي"؟


فإذا كانت هذه هي الحال بشأن هذا النّبي الموعود، بحسب ما تذكره الرّواية الإسلاميّة، فمن هو هذا "النّبيّ الأمّي" الّذي بشّرت به أسفار التّوراة وبشّر به الإنجيل؟

لماذا استقبال "قبلة اليهود" بالذّات؟



سلمان مصالحة ||


لماذا استقبال "قبلة اليهود" بالذّات؟

بعد أن أسلفنا فيما مضى،
في مقالة "لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟"، من كون القدس - بيت المقدس - على التعميم، أو الصخرة بالتحديد، هي "قبلة اليهود" كما نستخلص من الروايات الإسلامية بشأن القبلة، سننظر فيما يلي في مسألة لا تقلّ عواصةً، ألا وهي: لماذا يتوجّه الرسول والمسلمون الأوائل إلى قبلة اليهود بالذّات بدل التوجّه إلى الكعبة، وهي محجّة العرب الجاهليّة منذ القدم ومن ثمّ المحجّة الإسلاميّة لاحقًا؟

وللإجابة على هذه الأسئلة لا مناص من النّظر في بعض الخلفيّات الّتي على ضوئها يمكننا أن نتحسّس طريقنا للوصول إلى صورة واضحة تجلو ما التبس من أمور في هذه القضيّة.
وبشأن هذه الخلفيّة، نبدأ فنقول: إنّ من أهمّ القضايا المتعلّقة بنبوّة محمّد يمكن الإشارة إلى مسألة الصفة التي أُضفيت عليه في القرآن في سورة الأعراف من المرحلة المكّيّة، حيث نعثر في هذه السّورة على التّعبير الضّبابيّ "النبيّ الأميّ" (الأعراف: 157-158)، وما يثيره هذا التّعبير من تساؤلات. إنّ هذه الصفة، كغيرها من الأمور المبهمة التي عادة ما تشتمل عليها النّصوص المقدّسة، ولا يشذّ القرآن عن هذه القاعدة، قد فتحت أيضًا الأبواب الواسعة لتفسيرات واجتهادات مختلفة.

فما هو المراد بـ"الأمّي" في هذه الآية؟
لقد ذهب أهل التّفسير إلى أنّ تعبير "الأمّي" في هذه السّورة هو إشارة إلى أمّة محمّد مستندين إلى ما تقدّم من سياق ذُكر في الآية التي سبقتها من قوله تعالى: "ورحمتي وسعتْ كلّ شيء"،(الأعراف: 156). وعلى ما يبدو فقد أثارت هذه الآية جدلاً كبيرًا بوسعنا أن نسمع أصداءه فيما يرويه لنا المفسّرون. إذ، مع نزول هذه الآية، تنطّح إبليس مستندًا إلى منطق الكلام الّذي يُفهم من نصّ الآية، بمعنى: إذا كان الأمر كذلك بشأن الرّحمة الّتي تسع كلّ شيء، فلكونه لا يخرج هو لآخر عن كونه جزءًا من الشيء، فقد "قال إبليس: أنا من كُلّ شيء، فنزعها اللّه من أبليس"، وذلك بواسطة إضافة قول جديد إلى القول السّابق، والقول الآخر الجديد هو: "فسأكتبها للذين يتّقون ويؤتون الزّكاة". فلمّا أضاف تعالى ذلك، قال اليهود مستندين هم أيضًا إلى منطق الكلام في النصّ المنسوب إليه تعالى: "نحنُ نتّقي ونؤتي الزّكاة ونؤمن بآيات ربّنا"، فلذلك لم يجد تعالى بدًّا من إضافة جملة أخرى لكي ينزع هذه الرّحمة من اليهود أيضًا بقوله: "الّذين يتّبعون الرّسول النبيّ الأمّي"، وهكذا تستمرّ الرّواية فتقول: "فنزعها الله من إبليس ومن اليهود وجعلها لهذه الأمّة، أو وجعلها لأمّة محمّد." (تفسير الطبري: ج 6، 78؛ أنظر أيضًا: تفسير مقاتل: ج 2، 10؛ تفسير الثعالبي: ج 2، 57؛ تفسير القرطبي:ج 7، 261؛ تفسير البغوي: ج 1، 287).

وأمّة محمّد هذه
الّتي يذكرها المفسّرون إنّما المراد بها أمّة العرب، كما يُفهم من إشارات المفسّرين إلى معنى تعبير "الأميّين" الّذي ورد في سورة الجمعة: "هو الذي بعث في الأمّيين رسولاً منهم" (سورة الجمعة: 2)، وكذا قال مجاهد وسفيان وقتادة وابن عباس وغيرهم من أهل التّفسير، (تفسير الطبري: ج 12، 88؛ تفسير القرطبي: ج 18، 81؛ تفسير البغوي: ج 1 ، 113؛ تفسير البيضاوي: ج 1، 337؛ الوجيز للواحدي: ج 1، 1095).
أي أنّ محمّدًا، الرّسول المبعوث، ينتسب إلى هؤلاء "الأميّين" العرب على اختلاف قبائلهم وأفخاذهم. ولكي لا يُفهم الكلام تعميمًا على العرب بالإطلاق فقد تمّ استثناء النّصارى منهم، إذ: "ما من حيّ من العرب إلاّ ولرسول الله صلعم فيهم قرابة وقد ولدوه، قال ابن إسحاق: إلا حيّ تغلب فإن اللّه تعالى طَهّرَ نَبيَّه صلعم منهُ لنصرانيّتهم، فلم يجعل لهم عليه ولادة." (تفسير القرطبي:ج 18، 81؛ تفسير اللباب لابن عادل: ج 15، 270؛ المحرر الوجيز لابن عطية المحاربي: ج 2، 40).

غير أنّ البلبلة لدى المفسّرين
تظهر جليّة عندما ينتقلون للحديث عن صفة "الأمّي" الّتي وردت في الآية {الّذين يتبعون الرّسول النبيّ الأمّي}، فقد اختلف أهل التّفسير في المعنى المراد به من صفة الأُمّيّة الّتي أضيفت إلى الرّسول. فقد قال البعض إنّ الأميّ هنا تعني عدم معرفة القراءة والكتابة، وقالوا إنّ الأمّي نسبة إلى أمّ القرى - مكّة -، وقالوا إنّ الأمّي هي نسبة إلى الأمّ. وقد أجمل هذه التّفسيرات البهاء العاملي فقال: "الأمّي من لا يكتب، منسوب إلى أمّة العرب، المشهورين بعدم الخطّ والكتابة، ووصف نبينا صلعم بالأمّي لذلك، أو لنسبته إلى أمّ القرى، لأن أهلها كانوا أشهر بذلك. ويجوز ان يكون الأمّي نسبة إلى الأم. أي، هو كما ولدته أمه، أي باقٍ على حاله، لم يتعلّم الكتابة. فهذه ثلاثة أوجه في قولنا: النبي الأمّي." (الكشكول للبهاء العاملي:ج 1، 340؛ العقد الفريد لابن عبد ربه: ج 2، 35-36).

غير أنّ الغالبيّة تذهب إلى ترجيح دلالة عدم معرفة القراءة والكتابة، مستندين في ذلك إلى حديث نبويّ: "عن النبي صلعم قال: إنّا أمّة أمّية لا نكتب ولا نحسب..." (صحيح مسلم: ج 2، 759؛ تفسير الطبري: ج 2، 257؛ تفسير ابن كثير: ج 1، 723؛ تفسير البغوي: ج 3، 288؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 1، 4450؛ أحكام القرآن للجصاص: ج 5، 335؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 8، 152). وها هو النّووي يضيف شرحًا للحديث مُجملاً أقوال العلماء حول معنى أمّة أميّة في الحديث السابق قائلاً: "قال العلماء: (أمّية) باقون على ما ولدتنا عليه الأمهات لا نكتب ولا نحسب، ومنه النبي الأمّي، وقيل: هو نسبة إلى الأم وصفتها؛ لأن هذه صفة النساء غالبًا." (شرح النووي على مسلم: ج 4، 50). من هنا فإنّ معنى النبيّ الأمّي، كما ورد في الآية يدلّ على "الأمّي الذي لا يقرأ الكتاب ولا يخطّ بيمينه..." (سنن البيهقي الكبرى: ج 7، 42)، أو المنسوب إلى: "الأمّة الأمّية التي هي على أصل ولادتها لم تتعلم الكتابة ولا قراءتها... وقال ابن عباس: كان نبيّكم صلعم أميًّا لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب." (تفسير القرطبي: ج 7، 262؛ للاستزادة في هذه المسألة يمكن العودة إلى: تفسير مقاتل: ج 2، 10؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 3، 574؛ تفسير القشيري: ج 2، 449؛ معاني القرآن للنحاس: ج 3، 89؛ أحكام القرآن للجصاص: ج 5، 335).

إنّ ما يزيد المسألة تعقيدًا
هو ما يذكره ابن كثير في معرض حديثه تفسيرًا لـ "النبيّ الأمي" فيذكر: "وهذه صفة محمد صلعم في كتب الأنبياء بَشّروا أممهم ببعثه، وأمروهم بمتابعته، ولم تزل صفاته موجودة في كتبهم يعرفها علماؤهم وأحبارهم." (تفسير ابن كثير: ج 3، 483)، ولذلك وردت أيضًا الآية: فآمنوا بالله ورسوله النبيّ الأمّي... أي: الذي وُعدتم به وبُشرتم به في الكتب المتقدمة. فإنّه منعوت بذلك في كتبهم..." (تفسير ابن كثير: ج 3، 491). وهذا ما يُروى عن قتادة بشأن الآية: يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون، قال: "تشهدون أن نعت نبي الله محمد صلعم في كتابكم ثم تكفرون به وتنكرونه ولا تؤمنون به وأنتم تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل النبي الأمّي." (الدر المنثور للسيوطي: ج 2، 240؛ تفسير الطبري: ج 6، 503؛ فتح القدير للشوكاني: ج 1، 531؛ تفسير ابن أبي حاتم: ج 13، 226).

ومعنى هذا الكلام
أنّ مصطلح "النبيّ الأميّ"، وبحسب الرّوايات الإسلاميّة ذاتها، هو مصطلح مأخوذ أصلاً من أسفار أهل الكتاب، أي بني إسرائيل، ومن معتقداتهم. جدير بالذكر هنا أنّ مصطلح بني إسرائيل في هذا السياق هو مصطلح يجمع عادة اليهود والنصارى، إذ أنّ "بني إسرائيل وهم حملة التوراة والإنجيل." (تفسير ابن كثير: ج 3، 497)، وهذا ما يُفهم من كلام ابن كثير عن عيسى: "فعيسى، عليه السلام، وهو خاتم أنبياء بني إسرائيل، وقد أقام في ملأ بني إسرائيل مبشرا بمحمد، وهو أحمد خاتم الأنبياء والمرسلين،" (تفسير ابن كثير: ج 8، 109). أي أنّ أهل الكتاب، بحسب الرؤيا الإسلاميّة، هم أمّة واحدة، هي أمّة بني إسرائيل التي اختلفت فيما بينها: "إن أهل الكتاب اختلفوا فيما بينهم فصاروا أحزابًا يطعن بعضهم على بعض فنزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه" (تفسير البغوي: ج 1، 175).

من هنا نخلص إلى النّتيجة
الّتي مفادها أنّ النّبيّ الأمّي، في نهاية المطاف، هو ما بشّر به الأنبياء السّابقون في التوراة والإنجيل. لقد شاعت هذه الرؤيا في أوساط المسلمين الأوائل، كما تشير إليه الرواية التّالية: "وقال الثعلبي قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وأخرج عبد بن حميد من طريق قتادة ومن طريق مجاهد يوم بدر أنّ يهود أهل المدينة قالوا لما هزم رسول الله المشركين يوم بدر هذا والله النبي الأمي الذي بشرنا به موسى ونجده في كتابنا بنعته..." (العجاب في بيان الأسباب - إبن حجر العسقلاني: ج 2، 665-666)، أو الرواية التّالية: "وقال مقاتل: إن اليهود أقرّوا ببعض صفه محمد صلعم وكتموا بعضًا." (الكشف والبيان للثعلبي: ج 1، 122)، أو التّالية: "وقال الضحاك: إن اليهود كانوا يقولون للملوك إنا نجد في كتابنا أن الله يبعث نبيا في آخر الزمان يختم به النبوة." (تفسير القرطبي: ج 4، 297).

وكانت هذه الرؤيا من بين الحجج التي ساقها المسلمون في دعوتهم سائر الأمم المحيطة وخاصّة أهل الكتاب الذين كانوا يحيطون بالمسلمين إلى اعتناق الإسلام. وهكذا، عندما دخل دحية الكلبي موفدًا إلى قيصر يدعوه للإسلام، قال دحية لقيصر: "فإنّي أدعوك إلى من كان المسيح يصلي له،... وأدعوك إلى هذا النبي الأمّي الذي بشّر به موسى وبشّر به عيسى ابن مريم بعدَه..." (الروض الأنف: ج 1، 424). وها هو شرحبيل بن حسنة يردّ على روماس بطريق الرّوم في بصرى، عندما خرج هذا الأخير إليه وسأله من أنتم، قال شرحبيل: "من أصحاب محمد صلعم النبي الأُمّي القرشي الهاشمي المنعوت في التوراة والإنجيل." (فتوح الشام للواقدي: ج 1، 17).

من هذا المنطلق نخلص إلى أنّ مصطلح "الأمّي" لا علاقة له بما اصطلح عليه العلماء المسلمون منذ القدم وحتّى الآن من كونه يدلّ على عدم معرفة القراءة والكتابة أو التّفسيرات الأخرى، وإنّما هو ذو أبعاد ومدلولات أخرى سنشرحها في المقالة القادمة.

والعقل وليّ التّوفيق!
***

المقالة في "شفاف الشرق الأوسط"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقالات هذه السلسلة:
 المقالة الأولى: "هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟"
المقالة الثانية: "لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟"
المقالة الثالثة: "لماذا استقبال قبلة اليهود بالذّات؟"
المقالة الرابعة: "من هو النّبي الأمّي؟"
المقالة الخامسة: "لماذا حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟"
المقالة السادسة: "المصير الذي آل إليه يهود جزيرة العرب"
المقالة السابعة: "إكسودوس بني النضير"
المقالة الثامنة: "محرقة بني قريظة 1"
المقالة التاسعة "محرقة بني قريظة 2"
المقالة العاشرة: "ماذا جرى مع يهود خيبر؟"
المقالة الحادية عشرة: "إجلاء اليهود من جزيرة العرب"
المقالة الثانية عشرة: "سبحان الذي أسرى"
المقالة الثالثة عشرة: "إلى المسجد الأقصى"
المقالة الرابعة عشرة: "سبحان الذي أسرى بعبده إلى الهيكل اليهودي"

***

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟



سلمان مصالحة

لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟


أيًّا ما كان الشأن في مسألة قبلة  
بيت المقدس، أكانت هي القبلة الأولى أم الثانية، كما نوّهت في المقالة السابقة "هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟" وأيًّا ما كان الشأن في مسألتها، أكانت أمرًا إلهيًّا أم تخييرًا من لدن اللّه، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح في هذا السياق هو: لماذا استقبال بيت المقدس، أو لماذا أصلاً استقبال صخرة بيت المقدس بالذات دون غيرها في الصّلاة؟مرّة أخرى، ومن أجل الإجابة على هذه التّساؤلات ما علينا إلاّ أن نشدّ رحالنا إلى تضاعيف التّراث الإسلامي ذاته لنتبيّن سبيلنا، من خلال ما دوّنه لنا السّلف، ابتغاء الوصول إلى إجابة واضحة.

 قبلة اليهود:
 فلو أنعمنا نظرنا في هذا التّراث الإسلامي نرى أنّ ثمّة إجماعًا فيه على أنّ "صخرة بيت المقدس" هذه هي قدس أقداس اليهود، ولو حاولنا في هذا السياق استخدام التّعبير الإسلامي بخصوصها فقد أطلق عليها المسلمون بدءًا من الرسول اسم "قبلة اليهود"، كما يتّضح ذلك من الحديث النبوي: "وددتُ أنّ ربّي صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها" (طبقات ابن سعد: 1ج، ص 241؛ تفسير مقاتل:ج 1، 92; تفسير الطبري:ج 2، ص 3؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 1، 343؛ بحر العلوم للسمرقندي: 1، 126)، إذ أنّ بيت المقدس كما تذكر الرّوايات والمأثورات الإسلاميّة المختلفة هي "قبلة اليهود"، على وجه الخصوص (تفسير ابن كثير: ج 1، 265؛ تفسير القرطبي:ج 8، 837؛ زاد المسير لابن الجوزي، ج 4، 55؛ الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي:ج 1، 117)، أو هي "قبلة أهل الكتاب..." تعميمًا (تفسير البغوي:ج 1، 162). وها هو ابن قيم الجوزية، عندما يتطرّق إلى قدسيّة الصّخرة يقول ذلك صراحة: "وأرفعُ شيءٍ في الصخرة أنها كانت قبلة اليهود" (المنار المنيف لابن قيم الجوزية: ج 1، 88)، ولا يشذّ عن هذه النّظرة المفكّر الإسلامي المعاصر سيّد قطب الذي يصرّح هو الآخر بذلك أيضًا: "بيت المقدس - قبلة اليهود ومُصَلاّهم." (في ظلال القرآن: ج 1، 72).

فمن جميع هذه الروايات نفهم أنّ ثمّة تداخُلاً بين بيت المقدس والصخرة في المنظور الإسلامي. وبكلمات أخرى فإنّ مصطلح "بيت المقدس" الذي شاع في التّراث العربي هو في الواقع مصطلح مرادف لـ"الصخرة" التي هي قبلة اليهود كما أجمع عليها المفسّرون والمفكّرون المسلمون منذ القدم وحتّى العصر الحديث. كما يتّضح جليًّا، ممّا أوردنا سالفًا، هذا الإجماع الإسلامي على أنّ الصخرة وبيت المقدس هي أقدس بقعة لدى اليهود، أو هي "قبلة اليهود"، كما ذكرت الرّوايات الإسلاميّة، مثلما هي الكعبة ومكّة قبلة للمسلمين. ولمّا كانت هذه حال هذه البقعة المحدّدة من الأرض، أكانت هي أولى القبلتين أو هي الثانية كما بيّنا من قبلُ في المقالة السّابقة، فلا مناص من إثارة السؤال المُلحّ، لماذا إذن يتوجّه إليها الرّسول والمسلمون الأوائل بالصّلاة؟


من المعلوم أنّ الكعبة 
الكائنة في مكّة، ومنذ عصور قديمة، هي مكان عربيّ مقدّس وهي محجّة العرب منذ قديم الزّمان. من هنا فإنّ الإسلام العربيّ كان موجّهًا في بداية أمره إلى القبائل العربيّة في شبه الجزيرة العربيّة، غير أنّ معارضة قريش وسائر العرب الجاهليّين في البداية لرسالة محمّد الجديدة هذه قد دفعتاه إلى البحث عن مكان آمن لأتباعه. هكذا كانت هجرة الحبشة بعد أن اشتدّ التّضييق على أتباعه، بينما بقي هو ولم يهاجر بسبب الانتماء القبلي، فالنّعرة القبليّة للبيت الذي ينتمي إليه هي التي حمته من الأذى كما تذكر الرّواية الإسلامية: "وكان رسول الله صلعم في منعة من قومه وعمّه، لا يصل إليه شيء ممّا يكره، ممّا ينال أصحابُه. فقال لهم رسول الله صلعم: إنّ بأرض الحبشة ملكًا لا يُظلم أحدٌ عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا ممّا أنتم فيه، فخرجنا إليها أرسالا حتى اجتمعنا بها." (السيرة النبوية لابن اسحاق: ج 1، 74، 194؛ سيرة ابن هشام: ج 2، 164؛ سنن البيهقي: ج 2، 268؛ سيرة ابن كثير: ج 2، 16؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 3، 85).

ولذلك أيضًا بدأ الرسول صلعم يبحث عن دعم لرسالته يأتيه من مكان آخر. وهكذا بدأ البحث عن قبلة أخرى بدل الكعبة ومكّة، وقد يكون هذا هو السّبب من وراء الهجرة إلى المدينة، لذا يذكر الرّازي: "إنّ أصل أمرك أن تسقبل الكعبة وأنّ استقبالك بيت المقدس كان أمرًا عارضًا لغرض..." (تفسير الرّازي - مفاتيح الغيب: 2، 396؛ تفسير اللّباب لابن عادل: 2، 160)، أو أنّ هذا الاستقبال قد كان "لفائدة"، كما ورد في روايات أخرى (تفسير النيسابوري: ج 1، 355). أي أنّ أصل الرّسالة هو التوجّه إلى مكّة والكعبة، غير أنّ ما جرى مع الرّسول قد دفعه إلى استقبال صخرة بيت المقدس، وقد كان هذا التحوُّل أمرًا طارئًا لأسباب تتعلّق بمجريات الأحداث التي ألمّت به وبصحابته في بداية الرسالة، وقد كان استقبال بيت المقدس بدل استقبال الكعبة ومكّة لغرض معيّن، أي لأهداف معيّنة سنشرحها فيما يلي.
 

فما هو هذا الغرض، إذن؟
مرّة أخرى، لا تترك الرّوايات التي حفظها لنا السّلف مجالاً للشكّ في أهداف هذا التّحوُّل. فمن هذه الرّوايات يتّضح جليًّا أنّ الغاية من وراء استقبال صخرة بيت المقدس، أكان ذلك الاستقبالُ قد حصل قبل أو بعد الهجرة، قد كانت لهدف واحد ومحدّد، وهذا الهدف هو التقرّب إلى اليهود واستمالتهم إليه إثر المعارضة التي واجهها من عرب الجاهليّة في مكّة، كما تذكر بعض الروايات الإسلامية: "لأن رسول الله صلعم كان يصلي بمكة إلى الكعبة ثم أُمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة تألفا لليهود..." (الكشاف للزمخشري: ج 1، 100؛ تفسير البيضاوي: ج 1، 416؛ تفسير النيسابوري: ج 1، 355؛ إعراب القرآن لابن سيدة: ج 1، 310؛ فتح القدير للشوكاني: ج 1، 234). وبرواية الثعلبي: "أمره تعالى أن يصلي نحو الصخرة ببيت المقدس ليكون أقربَ إلى تصديق اليهود إياه إذا صلّى إلى قبلتهم..." (الكشف والبيان للثعلبي:ج 1، 259).

ولذلك كان اليهود يعجبهم أنّ محمّدًا يتوجّه بالصلاة نحو بيت المقدس الذي هو قبلة اليهود: "وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قِبَلَ المقدس..."، كما يورد البغوي (تفسير البغوي:ج 1، 162)، حيث كان أكثر أهل المدينة من اليهود الذين فرحوا بتوجّهه نحو قبلتهم: "ولما هاجر إلى المدينة كان أكثر أهلها اليهود أمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فكان رسول الله صلعم يصلي نحو بيت المقدس..." (سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: 370).
 

إذن، لقد فعل الرسول ذلك
ابتغاء استمالة قلوب اليهود في جزيرة العرب، كما تصرّح به الروايات الإسلامية. فقد قام بهذه الخطوة بحثًا عن دعم لرسالته من أناس آخرين، واليهود منهم بخاصّة، وذلك "ليُؤمنوا به ويتبعوه."، كما يورد الطبري (تفسير الطبري: ج 2 ص 3). وها هو القرطبي يورد رواية تشرح هذا التّوجّه قولاً صريحًا: "وذلك أن النبي صلعم لما قدم المدينة أراد أن يستألفَ اليهود فتوجه إلى قبلتهم ليكون ذلك أدعَى لهم." (تفسير القرطبي: ج 2، 150).
وخلاصة القول في هذه المسألة أنّ الرّسول والمسلمين الأوائل تحوّلوا إلى "قبلة اليهود" كما يسمّونها هم صراحة، وذلك لكي يستميل إلى جانبه اليهود الذين يتّجهون في صلواتهم نحو بيت المقدس الّتي هي قبلتهم منذ قديم الزّمان. وهذا ما تقوله لنا الرّوايات الإسلاميّة ذاتها كما عرضناها هنا بلسانها. أليس كذلك؟
والعقل وليّ التّوفيق!
***

في المقالة القادمة سأتطرّق إلى السؤال، لماذا التوجّه بالصلاة نحو "قبلة اليهود" بالذّات؟
نشرت المقالة في: "شفاف الشرق الأوسط"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقالات هذه السلسلة: 
المقالة الأولى: "هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟"
المقالة الثانية: "لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟"
المقالة الثالثة: "لماذا استقبال قبلة اليهود بالذّات؟"
المقالة الرابعة: "من هو النّبي الأمّي؟"
المقالة الخامسة: "لماذا حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟"
المقالة السادسة: "المصير الذي آل إليه يهود جزيرة العرب"
المقالة السابعة: "إكسودوس بني النضير"
المقالة الثامنة: "محرقة بني قريظة 1"
المقالة التاسعة "محرقة بني قريظة 2"
المقالة العاشرة: "ماذا جرى مع يهود خيبر؟"
المقالة الحادية عشرة: "إجلاء اليهود من جزيرة العرب"
المقالة الثانية عشرة: "سبحان الذي أسرى"
المقالة الثالثة عشرة: "إلى المسجد الأقصى"
المقالة الرابعة عشرة: "سبحان الذي أسرى بعبده إلى الهيكل اليهودي"

***

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!