‏إظهار الرسائل ذات التسميات ذاكرة المكان. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات ذاكرة المكان. إظهار كافة الرسائل

بيروت ودمشق قبل قرن من الزمان

 

سلمان مصالحة ||

بيروت ودمشق قبل قرن من الزمان


هوغو برغمان (1883-1975) فيلسوف إسرائيلي، من مواليد براغ. درس الفلسفة في جامعة براغ وفي برلين وفي العام 1920 هاجر إلى فلسطين، حيث عُيّن مديرًا للمكتبة الوطنية. لاحقًا أشغل منصب رئيس الجامعة العبرية في القدس.

قبل قرن من الزمان بالضبط، في شهر آب 1925، قام برحلة إلى لبنان ودمشق بغية التعرّف على أحوال هذه المنطقة. لقد نشر هذه الرسالة التي تكشف لنا أجواء المناطق التي زارها، كما يعرض مقارنة بأحوال بيروت والشام من جهة وبين أحوال فلسطين في ذلك الأوان.

يتّضح من كلامه أنّه كان منبهرًا ممّا شاهده في لبنان إذ يُصرّح بأنّ لبنان في ذلك الأوان كان متقدّمًا على أرض-إسرائيل - فلسطين بقرن من الزمان.

وها نحن الآن بعد مضيّ قرن على رحلته تلك، ولا يسعنا سوى القول بأنّ الآية قد انقلبت الآن إذا ما أجرينا مقارنة بين حال إسرائيل وحال لبنان والشام.

نقدّم هذه الرسالة-الرحلة للقارئ العربي لما تتضمّنه من اهتمامات شخصيات صهيونية بالمنطقة وما تكشفه من أجواء زمان مضى وانقضى.
 





هوغو برغمان | إلى دمشق

(رسالة رحلة)


”إنّه لأمر غريب، كم هي ضئيلة معارفنا بالبلدان المجاورة لأرض إسرائيل. فمصر رأتها غالبيّتنا فقط بطريق الصدفة. سورية مجهولة لنا تقريبًا، لكن من الجدير أن نراها. لست خبيرًا بقضايا الاقتصاد والسوق لكي أصدر حكمًا إن كان بإمكان أرض إسرائيل أن تكون في يوم من الأيام كما هي حال لبنان في هذا الأوان. فهذان البلدان، على ما يبدو، لا يختلفان عن بعضهما البعض، وعلى الرغم من ذلك هما كذلك. إذ يبدو وكأنّ لبنان قد سبقنا بقرن من الزمان.

حين تسافر إلى هنا عبر حيفا تسحرك بيروت: طوال ساعة يسير الموبيل بين غابات التوت، ترى لبنان قرية بجانب أخرى. كلّ القرى مبنية بالقرميد بطراز أوروبي، سطوح بيضاء، وحمراء وثمة انطباع وكأنّك موجود في سويسرا وليس في الشرق. كم هي نظيفة هذه القرى، مستجمّات صيفية هي حقًّا. في الكثير منها توجد كهرباء. حين تسافر بعد الظهر بالموبيل أو بقطار الجبال إلى إحدى تلك القرى وتشاهد غروب الشمس على ميناء بيروت، تشاهد أيضًا سلسلة طويلة من أنوار الموبيلات التي تتقاطر خلف بعضها البعض من بيروت. 
 

انصبّ جلّ اهتمامي على جامعتي بيروت. الأولى پروتستانتية أنشأها أميركيون سنة 1866، والثانية كاثوليكية فرنسية أنشأها اليسوعيّون. لم أجدهما في أوان عملهما، إذ كان ذلك في نهاية آب، وهو أوان العطلة. على الرغم من ذلك، كان بالإمكان مشاهدة شيء ما: المساحة الواسعة للجامعة الأميركية بمبانيها الصغيرة والكثيرة والتي تتحلّق حول بيت المحاضرات. الطلّاب يأكلون ويعيشون هنا. في الأسفل مقابل الشاطئ - ملعب كبير للتنس محاط كلّه بالحدائق الجميلة. المكتبة على ما فيها من 20 ألف كتاب ليست مهمّة جدًّا؛ فمكتبتنا في أورشليم تبزّها بما لا يقاس، غير أنّها مرتّبة وغنية وفيها قاعة جميلة للمطالعة. 
 


ولكن الجامعة اليسوعية تُظهر تلك التقاليد العريقة لحكماء أوروبا التي أُحضرت إلى هذه البقعة البعيدة على أيدي اليسوعيين. المكتبة ليست كبيرة من ناحية كمية الكتب، ولكنها مكتبة مثالية. فبوسعك العثور هنا على كلّ دور النشر الكبرى للكتب الكلاسيكية بجميع المجالات العلمية، وهي التي تنقصنا في أورشليم لقلّة الموارد لاقتنائها، السلاسل الكاملة للدوريات العلمية، الموسوعات الكبرى والباهظة الثمن؛ والقسم الفلسطيني غنيّ جدًّا.

هنالك غرفة خاصة تحتوي على كلّ الكتب التي طُبعت في المطبعة العربية التابعة للجامعة. هنا أيضًا تصدر مجلتان تابعتان للجامعة: “المشرق” بالعربية و “Mélanges” بالفرنسية.

المجلة الفرنسية تشكّل أنبوبًا يمرّ عبره كلّ ما يظهر من جديد في مجال الاستشراق، إذ إنّ كلّ ما يُنشر من جديد بهذا المجال يجد طريقه إلى هذه المجلة. عميد المكتبة، العلّامة العربي الكبير، لويس شيخو، يستعرض أمامي كلّ كنوزها. توجد هنا مئات المخطوطات العربية التي اقتناها شيخو خلال خمسين سنة من جميع أنحاء العالم العربي. يعمل الآن على نشر قائمة بالمخطوطات بمجلته الفرنسية.

النشاط الذي يقوم به اليسوعيون هنا في بيروت ليس مجرّد سياسة تبشيرية، وإنّما هو نشاط ثقافي عربي كبير.

لقد وصل إلى أسماعهم هنا أمر اقتنائنا لمكتبة چولدتسيهر لصالح مكتبتنا المقدسية، وعمّا قريب سيأتي إلينا أحد الپروفيسوريين من هناك للعمل لدينا هنا.

الرحلة بقطار الجبال في ربوع لبنان والبقاع هي رحلة ساحرة. فالحجرات نظيفة وصغيرة في هذا القطار بخلاف “القاعات” في القطار الفلسطيني التي يُزجُّ فيها بالمسافرين قُطعانًا قُطعانًا. وفي منتصف الطريق بين بيروت ودمشق تقع رياق. وهناك أنشأ الفرنسيون معسكر الطيّارين، قاعدة رياق الجويّة.

في الثامن عشر من آب وصلنا إلى دمشق. الأوضاع في المدينة مستقرّة. فقط كثرة الجنود الفرنسيين، وللعلم فإنّ غالبيّتهم من ”فيلق المجنّدين الأجانب“، يُذكّرون بالحرب. الفنادق ممتلئة بالزائرين والسوّاح الصائفين من مصر. كم تبدو المدينة جميلة بإشرافك عليها من مقبرة الصالحية، إنّه جمال لا يُصَدّق؛ خضرة، خضرة تكسو كلّ شيء، واحة في الصحراء بكلّ معنى الكلمة.

جئنا نحن من القدس، هناك الفقر والفاقة وبالكاد تحصل على مياه الشرب، وهنا الماء يتدفّق في كل زاوية. لقد قام الألمان ببحث القيمة الفنية للمدينة في فترة الحرب بصورة جذرية. نذكر بهذا الصدد الكتاب: “دمشق المدينة الإسلامية” من تأليف كارل وولتسينغر وكارل واتسينغر، الذي أصدرته الجمعية الألمانية التركية للحفاظ على التراث (برلين، والتر غرويتر، 1924). إنّ التعرّف على هذا الكتاب في غاية الأهمية وهو زاد لكلّ مسافر.

القادم من فلسطين لا تثير اهتمامه تقاليد مداولات البيع والشراء الشرقية في أسواق المدينة، مع أنّها أكبر وأوسع حجمًا. 


 
المسجد الأموي يثير الانتباه أوّلا وقبل كل شيء لردهاته الكبرى ولكونها لا تستخدم فقط للصلوات، وإنّما لكونها تقوم بوظائف اجتماعية. ففي زاوية يقع نظرنا على خمسة مواقع وبها مجموعات من المصلين، ولكن نرى هنا وهناك مجموعات أخرى واقفة أو مستلقية على السجاجيد وغارقة في محادثة بينها.

العمارة الفريدة بنوعها في دمشق تنعكس بالأبنية المُقَبّبة التي لا صلة لها بالدين وبالمباني المتعدّدة الشقق. كما تشدّ أنظارك مشاهد المخازن الكبيرة التي تعجّ بالسلع، والخان بقبابه المتعددة، شاهد على السلطان والعظمة، وإضافة إلى ذلك هنالك المباني الوظيفية التي أنشئت لتقوم بوظيفتها العملية وتفي بغرض ما. إنّها تذكّرنا بالمتاجر الأوروبية، غير أنّها ينقصها الناس. إنّها تحتوي على السلع فقط: توابل، معادن، سجاجيد - مكدّسة في تلك المخازن الكبيرة، أو يمكن القول “المساجد”  لكثرة قبابها… الخانات تتجه دائمًا نحو الداخل، ومن الخارج يمكن بصعوبة رؤيتها، كذلك من الصعب العثور عليها.

هذا الميل بالتوجّه نحو الداخل هو أيضًا ما يميّز البيوت الخاصّة. فالبيت يفخر بساحته الرحبة وبحوض الماء. هذا الحوض يُطلق عليه العرب اسم “بحر”، كما هي الحال في اسم الحوض بهيكل سليمان. وعلى أطراف الساحة - ثلاثة أروقة مسقوفة درءًا لأشعة الشمس في موسم الصيف. وبهذه الأروقة تتصل كافة الغرف، لكلّ منها أدراج تنقسم إلى أقسام داخلية مرصوفة تكسوها السجاجيد. الجدران مغطاة بخشب ورسومات جميلة، نُقشت فيها أمثال عربية، أو عبرية - في بيوت اليهود من علية القوم - تملأ فضاء الغرفة. أمّا أجمل البيوت في دمشق فقد اقتنته الحكومة الفرنسية وحوّلته إلى متحف أثريّ.

ننتقل إلى حارة اليهود. يقوم فتى بإرشادنا. إنّه يتكلّم عبريّة مُكَسَّرة وفرنسية بليغة. إنّ وضع اليهود مُزرٍ، فهم يعيشون بين طرفين متصارعين، المسيحيين والمسلمين.

لا يوجد هنا من يأخذ على عاتقه تنظيم الشبيبة. كثيرون منهم يهاجرون إلى أميركا، والبعض منهم إلى أرض إسرائيل. حينما كانت هنا المدرسة الكبيرة التي أنشأها الصهيونيون كان الوضع أفضل بكثير، ولأنّهم تعلّموا العبرية فكانت أرض إسرائيل أقرب إليهم. في هذا الأوان لم تعد هذه المدرسة قائمة.

المدرسة العبرية التي أسستها لجنة التربية أُغلقت قبل مدّة نظرًا لقلّة الموارد. فقط حينما تمكث هنا فإنّك ترى بأمّ عينيك قصر النظر بهذه الخطوة. هؤلاء الشبّان الذين يترعرعون في بيئة عربية، هم أفراد من أهل البيت في الشرق، وكان بوسعهم تثقيف جمهرة من الناشطين الصهيونيين، وكانوا سيبنون جسرًا إلى اليهود الشرقيين والعرب. لقد فضّلت الإدارة الصهيونية أن تُخلي المكان للـ"أليانس". من السهل تقدير ما هي الروح التي تقوم فيها الأليانس بتربية أجيال شبيبتنا في هذا البلد الذي يحتلّه الفرنسيون.“

18 سبتمبر 1925


أحمد بيضون || ”دكتور أخمد أنا أيضًا شيوعي“

 مختارات -


أحمد بيضون

توجّهنا إلى بيتِ أختي زينب في البلدةِ لأنّ بيت أهلي كان مهدومًا جزئيًا من جرّاءِ القصفِ في 1977- 1978 ثمً من جرّاءِ النسفِ الذي أودى بمبنَيينِ كبيرينِ مجاورَينِ لهُ في أيّامِ الاحتلالِ الأولى. وكانَ ما تبقَى من الطابقِ السُفْلِيِّ فيه محتاجًا إلى إصلاحٍ ليعودَ صالحًا للسّكَن.

شاهد عيان على هجوم الطليان

بيروت، ربيع 1912-


قصف عون الله 1912

سلمان مصالحة ||

شاهد عيان على هجوم الطليان


قبل نصف عام هزّ انفجار ضخم ميناء بيروت فاهتزّت منه المدينة بأَسْرِها وبكُلّ أُسَرِها، إذ لقي الآلاف مصيرًا من الموت والجراح، كما ضرب الهدم العمارات على امتداد مساحات واسعة. 

ولمّا كنت اعتدت منذ زمن على ترك أخبار هذا الأوان لدى سماعي خبرًا ما يهزّني في هذا العالم الواسع، وعلى وجه التحديد في هذا العالم العربي القابع في دهاليز لا يستطيع فيها رؤية بصيص من أمل، فقد ذهبت باحثًا عن أحداث من الماضي تعيدني إلى تلك الأماكن في أزمان غابرة. 

وبينما أنا غارق في أوهام وآلام الحاضر، رحت أحث النّفس على ركوب دفاتر الماضي بلغات الآخرين الذين كتبوا عن أحوال هذا الشرق. وهكذا سرعان ما وجدت نفسي قبل أكثر من قرن من الزمان، وفي فبراير من ربيع العام 1912 شاهدًا على انفجارات أخرى في ميناء بيروت، حين قصفت السفن الطليانية ميناءها وشاطئها. 

وهذه المرّة، أقرأ تفاصيل أخبار ذلك الزمان بصحيفة عبرية صادرة في تلك الأيام. ولكي تعمّ المنفعة على قرّاء لغة الضاد، فها أنذا أرويها عليكم مجدّدًا لما تحويه من أجواء تلك الأيام، وما تحويه من معلومات قد تكون مفيدة لمن ينوي الغوص في ملابسات تلك المرحلة.

لقد وردت هذه الأخبار في صحيفة ”هحيروت“ العبرية الصادرة في الأول من مارس سنة 1912. 
 

***
الخبر التي نشرناه في عددنا السابق بشأن الأحداث الأخيرة في بيروت أثار مشاعر المقدسيين لأنّ لدى الكثيرين منهم عائلات، أبناء وإخوان، أصدقاء ومعارف في بيروت، ولهذا كان القلق كبيرًا. كما نُشرت إشاعات مبالغ بها بخصوص محاولات هجوم جديدة من طرف العدوّ على سكان المدينة، وكذلك بخصوص محاولات قصف عكّا وحيفا وصيدا، وذكرت الإشاعات أنّ الجنود الطليان نزلوا إلى بيروت ، كما وصلت خمس سفن فرنسية من مرسيليا إلى بيروت، ووصلت إلى ميناء سعيد [بور سعيد] عشر سفن مدرّعة إنكليزية وهي تنتظر الأوامر من القيادة العليا... بالطبع لا نستطيع تصديق كلّ هذه الإشاعات قبل الحصول على تفاصيل رسمية من كلّ هذه الأماكن.

في هذه الأثناء، وصلتنا بالبريد الأخير أخبار لافتة من مراسلنا الخاصّ في بيروت، السيد يروشلمي [المقدسي]...


الرسالة الأولى من مراسلنا البيروتي:

(1)
”منذ يومين وصلت إلى لبنان، اليوم بعد الظهر خرجت للتنزّه مع بعض أصدقائي في السفوح الثلجية لجبال لبنان الجميلة والاستمتاع بالمناظر الطبيعية الخلابة التي تكسو جبل لبنان.
فجأة، شاهدنا مجموعات من الناس تسرع في الطريق الصاعدة من بيروت إلى الجبل. ماذا جرى؟ ماذا حدث؟ لم نعرف شيئًا وفقط سمعنا الصراخ هنا وهناك والضجيج يملأ الأجواء. غذذنا الخطو وأسرعنا نحو الناس المذهولين.
”شو هادا“؟ سألت أحد العرب الذي وقف بجانب بيت-قهوة نصراني.
”حرب!، الطليان في بيروت“، أجاب.
ذُهلت، واضطرب جسدي وتصبّبت قطرات عرق باردة على جبيني. لم أصدّق ما سمعته أذناي، وفي خضمّ هذا الانفعال الذي يصعب وصفه أسرعت إلى الفندق بدل الوقوف بانتظار الهاربين من بيروت، أخذت مسدّسي وخرجت. حثثت أصدقائى للذهاب إلى الشرطة اللبنانية لمعرفة حقائق الأخبار. جئنا إلى الشرطة، وكان الشرطيّون هناك مذهولين ويتهامسون بنبرات غاضبة. تقدّمت إلى أحدهم وسألته بلطف، ماذا جرى في بيروت. نظر إليّ مُحدّقًا وقال: ”لا تخف! أسرع واجلس في بيتك لئلّا يهجم عليك الهاربون في ساعة غضبهم وانفعالهم...“. اضطررت لسماع نصيحة الشرطي وذهبت إلى الفندق بفرائص مرتعدة.  مرّت ساعتان بدتا بنظري طويلتين كما الأبد. كانت روحي مستعرة وفؤادي مضطربًا. كانت لدي رغبة بالتواجد في بيروت لأرى ما يحدث هناك بأمّ عيني... فجأة سمعت طلقات نارية... شحب وجهي وارتعد جسدي. هممت بالخروج غير أنّ أصدقائي منعوني من ذلك. وقفنا في الشرفة وشاهدنا مركبات وعربات كثيرة مليئة بالرجال والنساء والأطفال والعفش والأواني البيتية. لقد كانت وجوههم كوجوه الموتى، لقد انتحبت النساء، وشاهدتُ امرأة نصرانية يُغمى عليها في أحضان ابنتيها... أحد المسلمين، بيروتي، مرّ وكان جريحًا... بين هؤلاء اللاجئين كان يهود كثيرون، أغلبهم بيروتيون وحلبيّون. أحدهم، من معارفي، شاهدني من بعيد فصاح...
”اصعد، اصعد إلى غرفتي!“ قلت له، وأسرعت هابطًا لاستقباله. لقد كان وجهه شاحبًا كالكلس وارتعدت فرائصه خوفًا. صافحته فكانت يداه باردتين، صعدنا وبصوت مرتعد أخبرنا ما جرى في بيروت هذا الصباح.
وهذا ما رواه على مسامعنا الصديق الذي كان شاهد عيان على فظاعة الحدث في بيروت:
”... يوم السبت صباحًا كان كلّ شيء هادئًا في بيروت. في الشاطئ كانت هناك سفن تجارية وبعض السفن الأخرى التي أخبرت عن قدوم سفينتين حربيّتين من بعيد. أسرع كثير من الناس إلى الرصيف وفجأة سُمع صوت رعد هائل وانفجار أذهل المارّة االذين كانو في طريقهم لفتح أبواب حوانيتهم. لقد تعاظم الانفعال إثر الإشاعة بأنّ الطليان أطلقوا القذائف على بيروت، غير أنّ الطلقة الأولى كانت على التورپيد التركي «أنقرة» وعلى السفينة العثمانية «عون الله»، لقد دُمّر التورپيد وغرق فورًا، بينما السفينة كادت تتحطّم. في الساعة السابعة صباحًا كان الميناء فارغًا. كلّ السفن التجارية التي كانت راسية هناك هربت من العدوّ وأبحرت بطرق شتّى. في الساعة الثامنة أُغلقت كلّ الحوانيت وأسرع كثيرون إلى الرصيف، لمشاهدة السفن الحربية الطليانية التي حضرت مرّة أخرى ورست مقابل المدينة. لقد قام الوالي ورئيس المأمورين بإصدار الأوامر لإدارة الميناء لإيجاد حلول مع الأميرال الطلياني، فطلب هذا الأخير أن تُسلّم له الأسلحة. لقد رفض الوالي بالطبع هذا الطلب، إذ إنّه يتناقض مع القوانين. مع استلام الأميرال هذه الإجابة أمر بالقصف. فأطلق النيران على السفينة التركية وأُغرقت على من فيها من قوّادها وملّاحيها، كما أُطلقت النيران على مبنى الميناء الجديد، على البنك السالونيكي وعلى البنك العثماني. لقد قُتل وجرح الكثيرون. لقد عمّت الفوضى وتراكض الآلاف من الناس في الشوارع لا يعرفون إلى أين يهربون، وهم يسمعون أزيز الرصاص المتطاير فوق رؤوسهم ويصمّ الآذان. الصراخ والعويل ملأ الأجواء وكلّ يبحث عن إنقاذ نفسه وأبناء عائلته. لقد كانت المخازن مغلفة الأسواق مهجورة، وفقط في بعض الأماكن كان هناك بعض العرب البسطاء وبعض الشبّان الذين حملوا البنادق، المارتينات والسيوف؛ إذ إنّ الحكومة استجابت لطلب الشعب ووزّعت البنادق. بالإضافة إلى الحكومة فإنّ اثنين من العرب، هما عبودي وبيضون، والمعروفين في المدينة كلصّين كبيرين قد فرّقا البنادق على رجالهما، كما قاما بتحطيم أبواب الحوانيت التي تبيع البنادق وأخذوا منها البنادق. لقد أرسلت الحكومة فرقًا من الجنود إلى الشاطئ ليكونوا على أهبة الاستعداد عندما ينزل الطليان. كلّ بيت يمكث فيه أناس من الرعايا الأجانب علّق على البيت علمه القومي لكي لا يُصاب بيته بأذى. لقد هرب المئات راجلين وعلى عربات إلى جبال الدروز، وإلى سائر لبنان في عرض البحر، إذ إنّ العربات الكهربائية توقّفت عن المسير، كما إنّ العربات قلّت وكان من الصعب العثور عليها. الكثير من اليهود هربوا وجاووا إلى هنا، بينهم أحد معارفي الذي روى لي تفاصيل هذه الأحداث.
إنّه لمن الصعب وصف المخاوف التي دبّت في قلوبنا لسماعنا التفاصيل على فظاعتها. لقد اقترحت على أصدقائي أن نسافر إلى بيروت ... ”ماذا؟ هل جُننت؟“ أجابوني، ”لن نسمح لك أبدًا بالسفر إلى بيروت!...“. أمّا أنا فقد أصررت على الذهاب إلى هناك لرؤية ما جرى بأمّ عيني، ولمعرفة ما جرى لأصدقائي، غير أنّ أصدقائي حثّوني على البقاء حتّى الصباح، وهكذا بقيت حتّى اليوم التالي.
لقد قضينا الليلة والخوف يخيّم علينا، وأنا استغللت فرصة بقائى في المدينة لكتابة هذه التفاصيل لقراء ”هاحيروت“.
***
(2)
... ها أنا في بيروت. دقّات قلبي تتسارع. فرائصي ترتعد وعيناي تسرحان لمشاهد المدينة المهجورة. في البداية خفت من الذهاب، غير أنّ قوّة مجهولة دفعتني للتجوال في الشوارع. توجّهت إلى محطة الشرطة الأولى التي صدفتها في الشارع، عند المستشفى البلدي. لقد فرحت بوجود شرطي هناك، من زملائي، فسألته فورًا عن الشهداء الذين سقطوا إبّان الهجوم. لقد سلمّني قائمة الأسماء لكلّ القتلى والجرحى. لقد كانت غالبيتهم من المسلمين. المسيحيون واليهود كانوا قلّة. وها هي بعض أسماء القتلى: عمر شمالي، عبد الرحيم شعبان، الحاج سعيد مصطفى باشا، محمد أبو سليم الحملي، سليم يوسف صباغ، رؤبين بن سلومون (يهودي)، محمد شاني (شرطي)، جميل دريان (كوميسار)، يوسف واكد، إلياس أبو الماع، وغيرهم كثيرون. ستّة عشر من القتلى المجهولين أُحضروا إلى المستشفى العسكري. في البحر قُتل عشرون ملّاحًا وموظّفًا، عشرون آخرون اختفوا وعلى ما يبدو فقد غرفوا في البحر. ثمانية موظّفين قُتلوا وأربعة عشر ملّاحًا جُرحوا. من سكّان المدينة جُرح كثيرون وها هي بعض أسمائهم: خالد بن غفور آغا، نجيب متري بربور، يشعيا بن يوسف (يهودي)، رفيق بك وابنه (صيدليان)، جواد بك (طالب في كلية الطبّ)، إبراهيم أفندي (ملازم)، الحاج يوسف الحلبي، فهمي أفندي (كاتب محكمة الاستئناف)، وغيرهم كثيرون.

لقد روى لي الشرطي أيضًا أنّ الحكومة قد اتّخذت جميع الاحتياطات بغية الحفاظ على أمن الشعب، وقد قام الوالي بإرسال برقية إلى وزير الداخلية ووزير الحربية للوزارة العليّة والباب العالي وينتظر الجواب.
لقد عمّت الفوضى في المدينة أمس. عندما ذهبت السفن الطليانية بدأ المئات من أفراد االشرطة بالسير في الشوارع والأسواق للحفاظ على النظام. لقد دبّ الخوف في قلوب المواطنين من الشبّان الغوغائيين الذين حملوا المسدّسات واستخدمونها لمآربهم الدنيئة عندما شاعت الفوضى. الضحية الأولى التي سقطت كان يهوديًّا، الأدون شتاينهارد، كان واقفًا في الصباح عند باب المتجر الكبير «أوروزدي باك» حين مرّ أحد الأتراك مشهرًا مسدّسه ودون أن يشعر به السيد شتاينهارد أطلق الحقير النار عليه فسقط اليهودي المسكين مضرّجًا بالدماء. إنّه يرقد الآن في المستشفى والأطبّاء فقدوا الأمل من إنقاذه. لم يكتف الحقيرون بذلك، وحين لقوا صهر السيد شتاينهارد أطلقوا النار عليه أيضًا، لكن لحسن حظّه أُصيب بيده بجرح بسيط. أيضًا على أحد اليهود السفراديم أطلقوا النار بالخطأ، إذ كانوا يصوّبون نحو أحد العرب والذي قُتل بعد أن سقط اليهودي أرضًا. لقد أثارت هذه الأحداث مشاعر اليهود.
لدى هبوطي الآن إلى الشاطئ اقتربت من السفينة المحطّمة الغارقة في البحر. جزء من البناية الجميلة للبنك العثماني القريب من مكان رسو السفينة المحطّمة قد انهار، وتحطّم الزجاج والأبواب. مبنى بيت الجمرك الجديد الذي بني منذ سنة تحطّم كلّه تقريبًا. كما تضرّر جدًّا مبنى «بنك دي سالونيك» الذي يقع مقابل الشاطئ. فقد اخترقت قذيفة أحد الحيطان ولو أنّها اخترقت الحائط الثاني لتهدّم البيت كليًّا.
الخوف يخيّم على المدينة. ثمّة خوف من حصول تمرّد في المدينة أو حدوث مناوشات بين المسلمين والنصارى، إذ إنّ الكراهية بين الطرفين شديدة. النصارى يخشون من المسلمين لأنّ هؤلاء غاضبين جدًّا ويرغبون في ضرب كلّ من يضع قبّعة على رأسه. وهكذا جرى مع أخينا السيد بارزل إذ تقدّم نحوه هؤلاء الشبّان الغوغائيين ظانّين أنّه طلياني، وبعد أن وعدهم بالمضيّ معهم حيثما يريدون تركوه وأطلقوا سراحه. وهكذا، فإنّ غالبية الذين كانوا يعتمرون القبّعات يلبسون الآن الطرابيش. في الحيّ الرئيسي الذي يسكنه نصارى كثيرون يخافون جدًّا من المسلمين، ممّا حدا بمدير الجامعة الأميريكية بالسماح للنصارى  بالدخول وبالاختباء في الجامعة حتّى تمرّ هذه الغمامة.
لقد أثرت الأحداث بالطبع على الحركة التجارية فكانت غالبية المخازن مغلقة في اليومين الأخيرين.
***
(3)
أخينا المسكين، السيد شتاينهارد، الذي هاجمه الغوغائيون، توفي صباح اليوم في المستشفى.
من دمشق وصل جنود وفرسان. أمس وطوال الليل مرّ الـ«طرامواي» في كلّ المدينة مليئًا بالعساكر ورجال الشرطة، وهكذا حافظوا على النظام فلم يحدث شيء. كلّ المؤسسات الأجنبية كانت محاطة برجال العسكر لحراستها.
أمس وصلت برقية من وزير الحربية في القسطنطينية بإعلان حالة الحرب في بيروت. لقد فرح السكّان بهذا الأمر الذي يُهدّئ القلوب ويعزّز الحراسة جدًّا، فلن يستطيع الزعران مواصلة أفعالهم الدنيئة في الشوارع. في جميع الأسواق يتواجد الآن أفراد الشرطة بالعشرات، ووحدات من الجندرمة والپوليس تجوب الشوارع إضافة إلى الشرطيين الثابتين في مواقعهم.
لقد بعث الوالي إلى الصحافة المحلية بيانًا رسميًّا بخصوص إعلان حالة الحرب في المدينة. وفقًا لهذا البيان يُحظر حمل السلاح دون إذن من الحكومة، يُحظر الخروج في الليل بعد الساعة الثامنة مساءً، يُحظر حمل بنادق الصيد بدون إذن خاصّ، كلّ من بحوزته سلاح عليه تسليمه للحكومة؛ كلّ من يخالف هذه الأوامر سيلقى أشدّ العقاب.
حتّى هذه اللحظة نحن متأكّدون بعض الشيء من أنّ السفن الطليانية لن تعود ثانية، إذ ساعة قصف الطليان ظهيرة يوم السبت للسفينة التركية، وصلت سفينة خديويّة، وأعلمتها السفينة الطليانية أنّها تاركة المدينة وأنّ بإمكان السفينة الخديويّة أن تدخل دون خطر إلى الشاطئ. بعض الأشخاص الذين كانوا ينظرون إلى البحر بالنواظير يقولون إنّهم شاهدوا سفنًا حربية أخرى كثيرة. لقد رافقت السفينتين الحربيّتين اللتين قصفتا المدينة سفينة أخرى حملت الطعام للجنود. غير أنّ هذه لم تقترب ووقفت بعيدًا من المدينة.
هذا، إذن، مافعله الطليان بمدينتنا. باستثناء الملّاحين الذين كانوا في السفينة وأشخاص آخرين قتلوا بينما كانوا على الشاطئ لم يُقتل سوى مائة وخمسين. من اليهود قتل اثنان فقط وهما اللذين ذكرتهما في رسالتي. وبالطبع على المقدسيّين ألْا يقلقوا على أقربائهم. الطلّاب اليهود الذين يدرسون هنا كانوا واثقين من أنّ مدير الجامعة الأميركية سيتيح لهم المبيت في الجامعة.
***
(4)
أمس كان كلّ شيء هادئًا. غير أنّ حوانيت كثيرة كانت مغلقة، وتلك التي كانت مفتوحة أُغلقت في الساعة الرابعة بعد الظهر. لم تصدر الصحف يوم أمس لأنّ العمّال لم يحضروا للعمل لأنّ غالبيّتهم ذهبوا إلى جبل لبنان.  اليوم بعد الظهر صدر الصحيفة العربية المحلية ”لسان الحال“.
أمس حضر الوالي والقنصل الروسي إلى متجر ”أوروزدي بك“ وحقّقوا في مقتل اليهودي الأدون شتاينهارد الذي كان يحمل جنسية روسية.
يُقال إنّ القنصل الروسي أبرق إلى بطرسبورغ كي ترسل الحكومة الروسية سفنًا حربية بسبب مقتل المواطن الروسي وبسبب الإشاعة التي انتشرت في المدينة بأنّ الأتراك يريدون قتل نائب القنصل الروسي.
الآن، الساعة الثانية بعد الظهر، وصلت سفينة حربية فرنسية واسمها مارسيليير Marseilleuse.  
حتّى يوم أمس قاموا في الأسواق بإعلام الناس بألّا يخافوا من سماع إطلاق الرصاص لأنّ سفنًا حربيّة أجنبية من المتوقّع أن تصل إلى مدينتنا.
الوضع الآن هادئ، غير أنّ القلوب لا زالت مضطربة. غالبية أصحاب الحوانيت يغلقون حوانيتهم مبكّرًا والنساء والصبايا لا يخرجن من بيوتهن من الخوف.  الحراسة في المدينة ممتازة.
إذا حدث شيء جديد، سأسارع إلى إخبار قراء ”هحيروت“.

جريدة ”هحيروت“ 1.3.1912

***


حفاوة عربية بالزعيم الصهيوني

كذا كان قبل قرن من الزمان - 


الكولونيل كيش في الوسط وشيوخ العرب

سلمان مصالحة ||

حفاوة عربية بالزعيم الصهيوني


بين فينة وأخرى أحبّ العودة إلى الصحف والمجلات العربية القديمة، إذ إنّي كثيرًا ما أعثر فيها على روايات وأخبار تُضيء أمورًا مُظلّلة في هذا الأوان. إنّها بمثابة مصباح فَتّاشٍ من الماضي يكشف لنا ما لم يفلح بصرنا في الوقوف عليه في هذه الأيام.

ناصر خسرو || أبو العلاء المعرّي



مختارات تراثية:

ناصر خسرو || أبو العلاء المعرّي




”وَفِي الحَادِي عشر من رَجَب سنة 43 (11 يناير 1047) خرجنَا من حلب، وعَلى مَسَافَة ثَلَاثَة فراسخ مِنْهَا قَرْيَةٌ تُسَمّى جند قنسرين. وَفِي اليَوْم التّالِي سرنا سِتّة فراسخ، وبلغنا مَدِينَة سرمين الّتِي لَا سور لَهَا. وَبعد مَسيرَة سِتّة فراسخ أُخْرَى بلغنَا معرة النُّعْمَان.

وَهِي مَدِينَة عامرة وَلها سور مَبْنِيّ وَقد رَأَيْت على بَابهَا عمودًا من الحجر، عَلَيْهِ كِتَابَةٌ غير عَرَبِيّة. فَسَأَلتُ مَا هَذَا؟ فَقيل: إِنّه طِلَّسْمُ العَقْرَب، حَتّى لا يكون فِي هَذِه المَدِينَة عقربٌ أبدًا، وَلَا يَأْتِي إليها. وَإِذا أُحْضر من الخَارِج وَأُطلق بهَا، فَإِنّهُ يَهرُبُ وَلَا يَدخُلهَا. وَقد قِسْتُ هَذَا العمود فَكَانَ ارتفاعُه عَشْرَ أَذْرُعٍ.

وَرَأَيْتُ أسواقَ معَرّة النُّعْمَان وافرةَ العمرَان. وَقد بُني مَسْجِدُ الجُمُعَة على مُرْتَفعٍ وسطَ المَدِينَة، بِحَيْثُ يَصْعدُون إليه من أَيّ جَانب يُرِيدُونَ، وَذَلِكَ، على ثَلَاث عشرَة دَرَجَة. وزراعةُ السّكان كُلّهَا قَمحٌ، وهو كثير. وفيهَا شجرٌ وفيرٌ من التِّين وَالزّيْتُون والفستق وَالعِنَب. ومياهُ المَدِينَة من المَطَر والآبار. وَكَانَ بِهَذِهِ المَدِينَة رجلٌ أعْمَى، اسْمُه أَبُو العَلَاء المعرّي، وهو حاكِمُها. وَكَانَ وَاسعَ الثّراء، عِنْدَهُ كثيرٌ من العَبيد، وَكَانَ أهلَ البَلَد خَدَمٌ لَهُ.

أمّا هُوَ، فقد تَزهّدَ، فَلبسَ الكلتمَ وَاعْتَكف فِي البَيْت. وَكَانَ قوتُه نصفَ من مِنْ خُبز الشّعير، لَا يَأْكُل غَيره. وَقد سَمِعت أَنّ بَاب سرايه مَفْتُوحٌ دَائِمًا وَأَنّ نوّابَه ومُلازميه يُدبّرون أَمرَ المَدِينَة، وَلَا يرجعُونَ إِلَيْهِ إِلَّا فِي الأمور الهامّة. وَهُوَ لَا يمْنَعُ نعْمَته أحدًا. يَصُوم الدّهْرَ وَيقومُ اللّيْل وَلَا يشغل نَفسَه مُطلقًا بِأَمْر دُنْيَوِيّ.

وَقد سما المعرّي فِي الشّعْر وَالْأَدب إِلَى حدّ أَن أفاضل الشّام وَالْمغْرب وَالْعراق يقرّونَ بِأَنّهُ لم يكن من يُدانيه فِي هَذَا العَصْر، وَلَا يكون. وَقد وضع كتابا سَمّاهُ الفصول والغايات، ذكرَ بِهِ كَلِمَات مرموزة وأمثالا فِي لفظ فصيح عَجِيب، بِحَيْثُ لَا يقف النّاس إِلّا على قَلِيل مِنْهُ. وَلا يفهمهُ إِلّا من يقرأه عَلَيْهِ. وَقد اتّهَمُوهُ بـ “أنّك وضعتَ هَذَا الكتاب مُعَارضَةً لِلقُرْآنِ”.

يجلس حوله دَائِما أَكثرُ من مِائَتي رجل، يحْضرُون من الأَطْرَاف يقرَءُون عَلَيْهِ الأَدَب وَالشعر. وَسمعتُ أَنّ لَهُ أَكثرَ من مائَة ألف بَيت شعر. سَأَلَهُ رجلٌ: لمَ تُعطِي النّاس مَا أَفَاءَ اللهُ تبَارك وَتَعَالَى عَلَيْك من وافر النّعَم، ولا تَقُوتُ نَفسَك؟ فَأجَاب: إِنِّي لا أمْلكُ أَكثرَ مِمّا يُقيم أوَدي.

وَكَانَ هَذَا الرّجلُ حَيًّا وَأَنا هُنَاكَ.
*

نقلاً عن: ناصر خسرو (ت: 481 هـ)، سفر نامه

خيوط دخان


ذاكرة - كذا كان:


سلمان مصالحة ||

خيوط دخان


البحث عن المكان هو بحث عن ساكن المكان، صائتًا كان أم صامتًا، رائدًا كان أم جامدًا. الصّامت صائتٌ من حيث هو يُخبر عن حاله بصمته، والرّائد يبحثُ عن أصوات جمدت أصداؤها في حجر، في أثرٍ باقٍ رغم تبدُّل السّنين والأعوام. هكذا كان وهكذا سيكون إلى يوم يبعثون ما دامت عجلات هذه الآلة الغريبة تدور وتدور. ما هي هذه الآلة التي شاعت تسميتها بالذّاكرة؟ هل هي من صنف الآلات التي يجب تشحيمها بين فينة وأُخرى؟ ماذا يعلق بها، وماذا يتناثر من بين دواليبها فتذروه الرّياح ليحطّ في أركان خافية عن الذّهن والعيان؟ ها هي هذه الأسئلة تراودك وأنت قابع في مكتبك بعيدًا بعيدًا عن سنوات تصنيع ذاكرتك الأُولى. وحين تنظر إلى خيوط الدّخان المتسامية في فضاء الغرفة، تحاول جاهدًا أن تُمسك بطرف خيط منها الآن في هذه اللّحظة، مثلما كنتَ تمسك بطرف خيط طيّارة ورقيّة في ساعة عصر مرحة من ساعات ذاكرة بعيدة هناك في الشّمال القريب البعيد في آن. هل تُقاس المسافات بالأمتار، بالأميال وبالفراسخ، أم أنّها تُقاس بوحدات أُخرى لم تنكشف بعد أسرارها؟

حين تدلف هذه التّساؤلات إلى الذّهن من مخابئها وتحملك على المضيّ معها قدمًا، ترى مِنْ عجبٍ أنّك لا تمضي قدمًا، بل تأخذك الهواجس في رحلة إلى وراء. وهذا الوراء البعيد يصير قريبًا حتّى يُشَبَّهَ لك أنّك تملك أنْ تمدَّ يدك فتمسك به. يا لها من آلة غريبة! إنّها تختزل الزّمان والمكان برمشة عين.

المسافات ليست جغرافيا ولا حركة أفلاك ومجرّات. المسافات شيء آخر لا علاقة له بالجبال والوديان والبحار. المسافات هي تلك العتمة الّتي تحجب عن العينين تضاريس الشّيء. لا حاجة أن يكون هذا الشّيء بعيدًا مئات الكيلومترات والسّاعات لكي تشعر كما لو أنّه يقع وراء سبعة بحور. قد يكون هذا جارًا لا تعرف عنه سوى طلعته العابرة حينما تلتقيه في الدّرج. تحيّة منك أو منه تُلقَى لمجرّد الحفاظ على آداب الجيرة، ثمّ يمضي كلّ في حال سبيله إلى حيث تقوده رجلاه. المسافات هي تلك العتمة الّتي لا يملك الفردُ أن يرى عبرها غير الأوهام. والأوهام غيب والغيب بعيد.

ها هي خيوط الدّخان المتسامية من سيچارتك تلتفّ حول رأسك المُثقَل بذكريات أُولى من مكان أوّل، لا أوّل له ولا آخر. إنّها هي هي البحيرة الّتي ارتاحت على مرمى النّظر في التّلال الّتي رأيت فيها النّور. والنّور هذا كنت تراه يخرجُ من ذلك السّتار المُسدَل خلفها نَصيفًا شفّافًا، حتّى يتشكّلَ كرةً كبيرةً من ذهب تتهادى فوق البحيرة. كان الشّيوخُ الكبار يُشيرون بأصابعهم نحو الكرة السّائرة على مهل في عرض السّماء ويقولون للصّغار إنّ اسمَها القمرُ. ثُمّ يدورون رافعين رؤوسهم نحو الغرب حتّى تقع أبصارهم على نجم مشعّ في الأُفق الغربيّ حيث اختفت وراءه الشّمس معلنةً نهاية يوم آخر. في تلك اللّحظات كنت تدير برأسك المُثقَل بأوهام هذا الكون المترامي الأطراف، وها أنت الآن في مكتبك، وها هي ذات الأوهام لم تتغيّر. لقد تغيّرتَ أنت فقنعت بأنّها خالدة معك، وصرت ترى فيها جَمالاً ومتعةً ونشوة. نعم، الوهم حلم فكيف تكون الحياة بلا أوهام!

في سنوات الطّفولة تكون الأوهامُ والأحلامُ كبيرة، ومع دوران الأفلاك ومرور الأعوام تأخذ تلك الأوهام بالانكماش. وهذا هو الخطر الدّاهم الّذي يُحْدق بكلّ من اتّخذ الحروف والكلمات سميرًا له في وحدته. الكلمات منبع دافق للأوهام، عينٌ ساهرة لا ينضب أبدًا دمعها. إذا جفّت الكلمات تُركت على قارعة الطّريق فلا تصل مع الرّيح إلى الأرواح. وها أنت والكلمات نديمان مدمنان على المسير في رحلة انتحاب على ما كان، وعلى ما لن يكون إلاّ في لحظة من هذه اللّحظات المحمولة على مركبة غريبة إلى تخوم الغيب الحاضر فيك أبدًا.

تعتلي دفّة المركب، الزّورق الشّراعي الّذي حفظته في رُكن من أركان ذاكرتك، وتنتظر هبوب الرّياح الّتي تقودك إلى حيث تشتهي أنتَ، لا ما يشتهي لك غيرُكَ. وبين تلاشي دوائر الدّخان في فضاء الغرفة وتشكّل دوائر أُخرى تتعقّبها في حركات متغنّجة، تهبّ عليك بعض نسائم عليلة من أُفق خفيّ فتنبسط أشرعتك ويتحرّك الزّورق في بحر هادئ الموج نحو جزيرة بعيدة لا تزال روائحها تعبق في ذاكرتك.

في سنوات السّتين من القرن المنصرم قادتك رجلاك، أو بالأَحرى قادتك مركبة على عجلات، إلى قرية الرّامة الجليليّة. لم يكن في قريتك، المغار، مدرسة ثانويّة، فكان عليك وعلى أمثالك، ممّن كُتبَ له أن يفكّ الحرف، البحث عن مفاتيح فكّ الحروف في مدرسة ثانويّة في بلد قريب أو بعيد. كان هناك من ذهب بعيدًا، وكان هناك من ذهب قريبًا.

أنت ذهبت قريبًا، أوّلاً إلى عيلبون، تلك القرية الوادعة المقابلة للمغار جنوبًا، وبعد عام آخر إلى الرّامة الّتي اختفت وراء الجبل في الشّمال الغربيّ. في سنوات طفولتك الأُولى كنت تصعد الجبل مع رفاق لك تغيرون على تينة هنا، أو لوزة هناك، أو تقتطفون قطفًا عنبًا قبل موسم نضوجه، فتتلذّذون على مذاقه. أحيانًا كنتم تعتانون ببعض الملح لتخفيف حموضة ذلك الحصرم. كانت البحيرة في الجنوب الشّرقيّ تمتدّ أمام أعينكم فتسرحون وتمرحون وتحلمون بالوصول إليها في يوم من الأيّام.

هل للشّقاوات نكهة خاصّة في ما يتشكّل من ذاكرة على مرّ الزّمن؟ لا شكّ في أنّ كثيرًا من ذاكرة الطّفولة يتشكّل من تلك المشاهد الّتي تختفي وتظهر كما لو كانت شريطًا مسجّلاً على جهاز خفيّ يعمل من تلقاء نفسه في لحظات غريبة. تنتقش الشّقاوات في الذّاكرة كما لو كانت نقشت في حجر يبقى أثرًا تستطيع العودة إليه فتنتشله من هذه البئر فتُلقيه في بركة هادئة لتبدأ دوائر الماء تتسارع أمام ناظريك. تشعر الآن بنوع من الإرتياح لأنّ هذه النّقوش لم تختفِ من ذاكرتك، رغم دورات كثيرة من غروب الشّمس وشروقها.

تقول لنفسك، فكم بالحري إذا كانت هذه الذّكريات قد نُقشت في ذهنك من مرحلة ثانويّة حيث بدأ نبات خفيّ يعلو بشرتك الّتي اعتدت على كونها غضّة. حاولتَ، قطعةً من الزّمن، أن تغضّ الطّرف عمّا يتنامى سرًّا دون أن يستأذنك، ولكن سرعان ما تكتشف سرًّا آخر من أسرار الحياة كنت ظننت أنّه لك وحدك.

ها هي خيوط الدّخان الصّاعدة إلى حيث تتلاشى بعد أن تتقاذفها نسمة خفيفة تهبّ من شرفة مفتوحة على حديقة وادعة في شارع وادع في القدس الغربيّة من شتاء العام 2003. الهدوء هذا يذكّرك بهدوء القرية الّتي نشأت وترعرعت فيها. لقد هجر هذا الهدوء القرية وجاء معك إلى المدينة. لقد ارتبطتَ بالهدوء مثلما ارتبط بك، فذهب معك أنّى رحلتَ وأنّى حللتَ.

السّاحة الّتي انبسطت أمام بناية المدرسة الثّانويّة في الرّامة كانت مسرحًا لبعض المرح. كان الطّلاّب القادمون من قرى مختلفة يختلطون فيما بينهم، أو يسارعون فيتجمهرون حول بائع المناقيش الّذي كان يعرف ساعة الإستراحة فيأتي بسيّارته محمّلاً بهذه العجينة بعد أن تكون لفحتها النّار مع الزّيت والزّعتر. كذا كان يفعل الطّلاّب، بينما الطّالبات القلائل اللّواتي وصلن إلى المدرسة الثّانويّة في تلك الأعوام فلم يكنّ ينزلن إلى السّاحة، بل كنّ يبقين فوق في الشّرفة الّتي كانت ممرًّا يوصل بين غرف التّدريس. كنّ يتمشّين ذهابًا وإيابًا وبين الفينة والفينة يُلقين نظرة خاطفة على الهرج والمرج في السّاحة.

النّظرات والبسمات الخاطفة الّتي كانت تُلقى من فوق كان يتلقّفها البعض، أو جميع من ينتبه إليها وكانوا كثرًا، كما لو كانت حُبًّا خاطفًا، أو هكذا خُيّل لهؤلاء المتوهّمين الهائمين. أمّا أنت فلم تكن بأحسن حالاً من هؤلاء الحالمين. وها أنت لا زلت حالمًا هائمًا على وجهك في رحاب ذاكرة تتراكم أمام عينيك كالسّراب. كلّما حاولت الاقتراب من شاطئها قادتك رجلاك إلى بقعة أُخرى، فلا يستكنّ هبوب الرّيح ولا تستريح.

خيوط الدّخان تتعالى في فضاء الغرفة الآن وترسم لوحة من زمان ومكان بعيدين. في الطّرف الشّرقي من السّاحة كان درج يصعد ثمّ يتّجه يمينًا نحو جناح جديد أُضيف إلى البناية. كان هذا الجناح مؤلّفًا من غرفتين-صفّين في بناء موقّت لتسارع أعداد المنتسبين للدّراسة الثّانويّة. كنتَ تجلس هناك في طرف الغرفة وتنتظر درس الأدب العربيّ الّذي كان يمليه عليكم الأُستاذ شكيب جهشان. كانت الحشرجات في صوته، وكان السّعال بفعل الدّخان. لم تكن السّيچارة تفارق أصابعه حتّى في أثناء إملاء الدّرس. أمّا الطّلاّب الّذين يدّخنون فكانوا يدلفون في الإستراحات إلى المراحيض لاقتناص سيچارة هنا وسيچارة هناك.

في دروس العربيّة وصل إلى أسماعك أنّ الورد واللّيث والأسد واحدٌ رغم أنّ أصولها مختلفة، كأن تقول محمودًا ومحمّدًا وحميدًا، أو حسنًا وحسينًا من أصل واحد. ورويدًا رويدًا بدأت تعشق هذه اللّغة وأدبها. وكم سُررتَ حين عرفت أنّ المتنبّي ذكر البحيرة إيّاها الّتي حلمت طفلاً بالوصول إليها:

وَرٌد إذا وَرَدَ البُحيرةَ شاربًا
وَرَدَ الفُراتَ زئيرُهُ والنّيلا

فحفظت البيت عن ظهر قلب، وكنت كلّما رأيت البحيرة ذكّرتك هذه بالشّعر العربيّ فأنشدتَ بيت المتنبّي لنفسك. ولمّا كانت البحيرة تختفي عن الأنظار، كنت تنشد بيت الشّعر فتتشكّل البحيرة أمام ناظريك من جديد. وكم كنتَ تُسحرُ عندما كان الأُستاذ شكيب يحاول تمثيل جرس الألفاظ الدّالة على المعنى في صوته الأجشّ حين يُنشدُ في فضاء الصّفّ بيتًا آخر للبحتري. كان يخطو بضع خطوات نحو شبّاك الغرفة، ينفخ دخان سيچارته في الهواء الطّلق ثمّ يعود بطيئًا إلى مركز الصّفّ فيُنشدُ مؤكّدًا مشدّدًا على كلّ حرف:

يُقَضْقضُ عُصلاً في أَسرّتها الرّدى
كَقَضْقضةِ المقرورِ أَرْعدَهُ البَرْدُ

فكانت القافات والرّاءات تملأ الصّفّ فتنجلي الصّورة أمام الطّلاّب دون حاجة إلى إطالة في الشّرح أو إطناب.

حُبّ اللّغة العربيّة والشّعر العربيّ دفعك إلى محاولات الإدلاء بدلوك، ومحاولة نظم أبيات هجائيّة فيها نوع من الدّعابة. كنت تقرأها على زملائك فيتلقّفونها ويحفظونها ويردّدونها في السّاحة ساعة الاستراحة. الطّالب الّذي كان يحظى ببعض الأبيات الهجائيّة من جعبتك يصير ذائع الصّيت بين طلاّب المدرسة، فتنتقل الأبيات بين الصّفوف كالنّار في الهشيم، فتتعالى الضّحكات ويكثر المرح والمزاح. فحين كَنّيتَ أحد الفسّائين بأبي الرّياحين سمع الزّملاء الشّعر وتناقلوه حتّى ذاع اسمه في المدرسة فصار يتجنّب الظّهور في السّاحة. كان هنالك من ينكبُّ بعد أن أصابته سهام الهجاء مهمومًا حزينًا، ثم يحاول الإفلات من هذه الشِّباك محاولاً نظم ردّ، غير أنّ القريحة واللّغة لم تكونا تسعفانه، فيتعاظم الضّحك منه وعليه.

نصيب المعلّمين من هذه الأبيات المنظومة لم يتأخّر عن الشّيوع في السّاحة على ألسنة الطّلاّب. لقد انضمّ الأُستاذ نبيه القاسم بقامته النّحيفة إلى سلك التّدريس معلّما للّغة العربيّة، فتعرّفت عليه مدرّسًا وتعرّف عليك دارسًا، وسرعان ما تعرّف عليه سائر الطّلاّب بعد أن حبوتَه ببيتين من نظمك:

أهلاً نَبيهُ، بأرْضِ رامَةَ نَوَّرَتْ
مِنكَ اللّيَالِي السُّودُ نُورَ المَشرِقِ
يَا مَنْ يَجُودُ عَلَى الأنامِ بِلَحْمِهِ
وَيَظَلُّ مَهْزُولاً بِأرْجُلِ لَقْلَقِ

ولمّا لم تكن من الممتازين في الرّياضيّات والهندسة، بل كنتَ متوسّطًا، فقد استعنت بالنّظم لتخفيف وقع هذه الدّروس عليك. أُستاذ الرْياضيّات، الأستاذ نافذ حنّا، كان دمثًا خلوقًا مبعثرًا على غرار كلّ المدرّسين لهذه المادّة، فالقوانين والمعادلات وخباياها تذهب بهم كلّ مذهب. فلم تتمالك في أن تقول:

عَجبًا لِنافِذَ، مَا تَراهُ وَاجِمًا
دَوْمًا يُغَنِّي للغَوَانِي النَّاعِمَهْ
وَإذَا تَوَانَى فِي غِناءٍ مَرَّةً
فَلأنَّهُ ذَكَرَ الزَّوايَا القَائِمَهْ

وكان أن وصلت الأبيات مسامع المعلّمين، بمن فيهم الأُستاذ نبيه والأستاذ نافذ. وكنت تخشى من عقاب شديد سيُنزل بك لهذه الشّقاوات المنظومة والشّائعة على الألسن في المدرسة. غير أنّ العقاب لم يأت، بل فهمت أنّ المعلّمين يتقبّلونها بروح من الدّعابة، فراقت نفسك لذلك وحفظت لهم هذه الرّوح على مرّ الزّمن.

والآن حين تتفحّص هذه الذّاكرة مع خيوط الدّخان تفطن إلى أنّك لم تنظم في تلك الأيّام الغابرة شعرًا في الأُستاذ شكيب جهشان. هل أنت نادمٌ على هذه الغفلة بعد أن فارق هذه الدّار إلى دار قرار؟ رُبّما. لكنّك، ولكي لا تنسى ولكي لا ينسى زملاء قد يقرأون هذا الكلام في مكان ما عن تلك الأعوام، تُحاول الآن أن تتمّ العهد وتفي بالوعد:

قِفْ للمُعلّمِ وَارْسمِ الإكْلِيلا
فِي هَالَةٍ مِلْءَ الدُخَانِ جَمِيلا
لَوْ كُنْتَ تَنْقُشُ ذِكْرَهُ فِي رُقْعَةٍ
لَنَقَشْتَهُ، مِنْ أَفْعَلٍ، تَفْضِيلا

وحين تفرغ من هذه الكلمات، تنظر إلى الطّاولة، فترى أنّ السّيچارة قد خبت في المنفضة، وتلاشت خيوط الدّخان من فضاء الغرفة. لقد حملتها نسمة خفيفة إلى الفضاء الأرحب خارج البيت، خارج الشّعر.
*
نشر النصّ في: مجلة “مشارف”، عدد 20 ، حيفا 2003، ص 222-227

مدينة الزّهرة الماشية

سلمان مصالحة

مدينة الزّهرة الماشية

هنا، بين الواقع والخيال، بين الأرض والسّماء، تتهادى القدس في التّلال غير بعيد عن مفرق الرّوح. تخطو على حبل ممدود بين وادي جهنّم وبين زهرة تهيم على وجهها فوق ثرى المدينة. في خيالاتي الطّفوليّة ارتبطت القدس بخرافات سمعتُها عن أشراط السّاعة. في ذلك السّيناريو المرعب لا مجال لارتجال يقوم به الممثّلون. لقد أعدّ لهم المُخرج الأكبر المتربّع في عليائه تفاصيل الأدوار: سيهدم اليهود الحرم القدسيّ، فتبدأ عقب ذلك سلسلة من ردود الفعل، فيقوم المسلمون بهدم الكنائس المسيحيّة ردًّا على دعم الغرب المسيحي لإسرائيل. وعقب ذلك يسارع الغرب إلى هدم المقدّسات الإسلاميّة في أرض الحجاز. هكذا تبدأ الحرب الكبرى الّتي تنذر بقيام السّاعة.

كل الطيور تؤدي إلى روما


سلمان مصالحة || 

كلّ الطّيور تُؤَدّي إلى روما


كنت لا أزال طفلاً يافعًا في نهاية الخمسينات من القرن المنصرم، ولم تكن تنقصني سذاجة من سذاجات تلك الأيّام الغابرة. آنذاك لم يخطر أبدًا على بالي العربيّة الغضّة طرفُ خيط أمسك به، أو فكرة تحملني على معرفة النّوايا الخفيّة لأسراب الطّيور الّتي كانت تحطّ في حقول الزّيتون لقرية المغار الجليليّة المطلّة على بحيرة طبريّة مع اقتراب موسم القطاف. عندما كانت غمامةٌ سوداء من الطّيور تعبر الأفق وتحطّ في الحقول مع نهايات الخريف، كان أهالي البلد يخرجون مهرولين حاملين كلّ ما تطاله أيديهم من أطباق معدنيّة، أو أغطية طناجر أو كلّ ما يمكّنهم من أن يعزفوا عليه لحن ضجيجهم، ليس فرحًا باستقبال الطّيور، بل عزمًا على طردها من الحقول المثمرة الّتي كانت تشكّل مصدر رزق أساسي معيلاً لهم. ولكن، ما أنْ كان الأهالي يصلون إلى الحقول في أطراف القرية حتّى كانت الطّيور، في هذا الوقت الضائع، تكونُ أفلحت بالفوز بما لذّ وطاب من هذا الثّمر الزّيتي. ثمّ ما تلبث أن تطير حاملة معها زادًا للطّريق.

كانت غمامةُ الطّيور تنسلخ عن ذرى أشجار الزّيتون، تتسلّق الهواء أعلى التلّة، تحوم في السّماء قليلاً ثمّ سرعان ما تختفي وراء الأفق. وهكذا، حَوْلاً بعد حول، موسمًا بعد موسم عادت الأسرابُ لعادتها القديمة، تناولت ما يسدّ رمقها وعادَ الأهالي هم أيضًا إلى صنوجهم وضجيجهم. بين فينة وأخرى كانوا يمهرون أصوات الصّنوج بفرقعات من جفت، وهو بندقيّة مزدوجة القصبات يستخدمونها عادة للصّيد، غير أنّها كثيرًا ما استُخدمت لأغراض أخرى غير ما أنيط بها، فكان لها دور وخيم العواقب في حال حصول مناوشات بين القبائل. في مواسم القطاف تلك، كنّا نحن الأطفال أيضًا نحظى بفرصة المحافظة على دورة الغذاء في الطّبيعة، وكثيرًا ما سددنا رمقنا من لحوم تلك الطّيور السّوداء الّتي كانت تقع فرائس سائغة في فوهات البنادق المزدوجة القصبات.

مواسم قطاف كثيرة مضت وانقضت ومعها أسراب كثيرة حطّت في الحقول وانسلخت عنها، حتى ترعرعتُ ووضعتُ نصب عينيّ فكرة الارتحال إلى القدس لمواصلة الدّراسة العليا والتزوُّد بزاد الحكمة من جامعتها العبريّة. ولكن، ومع اقتناء الحكمة طارت تلك السّذاجة إلى بقاع بعيدة ولـَمّا تَعُدْ أبدًا. وها أنذا، بعد سنوات غير قليلة، أجدني مُبحرًا مرّة تلو أخرى في رحلات بحث عن تلك السّذاجة، عن تلك الجنّة المفقودة.

أقول لنفسي مُبحرًا، ولكنْ من الصّعب على ساكن القدس استعمال تعبير مُعارٍ من عالَم البحار. القدس تبعد عن البحر المتوسّط ساعةً سَفَرًا، والإبحار منها لا يمكن أن يتأتّى إلاّ على أجنحة الإستعارة. ورغم ذلك، فالّذي يصرّ على الإبحار، فبوسع أوراق الكتب أن تكون له كما الأشرعة. روائح الأوراق المصفرّة في الكتب القديمة مثلها مثل الرّوائح الّتي تعلو من البحر، وفي كلّ تقليب صفحة منها تنشأ ريح. الكلمات أمواج بحر مترامي الأطراف، وكلّما قلّبت الصفحات أكثر فأكثر كلّما اشتدّت عليك الرّيح فتحملك إلى أصقاع نائية وعوالم ساحرة.

كم كانت كبيرةً دهشةُ مارك طوين الّذي جاء من أطراف العالم القصيّة في منتصف القرن التّاسع عشر وحلّ زائرًا حاجًّا في هذه المدينة. لقد جاء مارك طوين إلى هذه الأصقاع المشرقيّة وإلى هذه المدينة ودوّن كلّ مشاهداته في صفحات كتاب له نشره بعد عودته: "يبدو لي أنّ كلّ الأجناس، الألوان والألسنة الموجودة على وجه البسيطة قد وَجَدتْ تمثيلاً لها بين أربعة عشر ألف نسمة تعيش في القدس. الأسمال البالية، البؤس والفقر ... هي علامات شاهدة على حضور السّلطة الإسلاميّة فيها... الجُذْمُ، المجانينُ، العُميانُ وذوو العاهات الّذين تلتقي بهم في كلّ ركن منها يعرفون كلمةً واحدةً فحسب، بلغة واحدة فحسب، هي الكلمة الأبديّة: بقشيش. القدس مدينة حزينة، تثير الاكتئاب ولا روح فيها. ما كنتُ أرغبُ العيش هُنا"، لخّص مارك طوين حال هذه المدينة في ذلك الأوان.

غير أنّي، خلافًا لمارك طوين، أعيش هنا في مدينة القدس إيّاها منذ ثلاثة عقود. وها هو ليلٌ كئيبٌ حالك آخر يهبط الآن على المدينة. لكن، يبدو لي الآن أنّ هذه الحلكة الّتي تكتنف المدينة في بداية الألفيّة الثّالثة قد هبطت عليها من زمان آخر ومن عالَم آخر. فقد رُوي عن عبد اللّه عبّاس، ابن عمّ الرّسول العربيّ أنّه قال: "حليةُ بيت المقدس أُهبِطَتْ من الجَنّة، فأصابتها الرُّوم فانطلقتْ بها إلى مدينةٍ لهم يُقال لها روميّة، قالَ وكان الرّاكبُ يسيرُ بضوء ذلك الحليّ مسيرةَ خمس ليالٍ".

خمسَ ليالٍ بالتّمام والكمال يسير الرّاكبُ في روميّة، لا يعثر في طريقه، إذ يطرد بريق حليّ بيت المقدس الظّلام في البلاد الرّوميّة. وها أنذا أتساءل في هذا اللّيل المقدسيّ، كيف ذا يُروَى في القرن السّابع عن الحليّ الّتي حُملتْ من بيت المقدس إلى روما لتنشر فيها أنوارها مسافة خمس ليالٍ؟ فلا أملك الفرار من التّفكير في أنوار مقدسيّة أخرى. أليست هذه هي كلّها أصداء لروايات تناقلَ رجعُها في المشرق عن الجواهر والحليّ الّتي كانت في بيت المقدس في العام ٠٧ للميلاد وكانَ أنْ سلبتها الرّوم؟ وما هو هذا الضّوء الّذي ينفضُ الظّلام عن الرّاكب مسيرةَ خمس ليالٍ؟ أليس هو ضوء ذلك الشّمعدان الذّهب الّذي أُنير بالزّيت في هيكل سليمان، والّذي لا يزال نقشُهُ مخلّدًا على بوّابة طيطوس في روما؟

ألفان من الأعوام مرّا هُنا، وها أنا جالس الآن، على بعد سنوات ضوئيّة من تلك الحليّ الّتي حُملتْ من بيت المقدس لتضيء مدينة الرّوم. وها هو الخريف يهبط الآن مرّة أخرى، ويهبط معه موسم قطاف جديد، وموسم زيت جديد يطرق الباب. في ليل مقدسيّ أَحلكَ ممّا عهدنا منذ زمنٍ أوّلَ، أحاولُ أن أشقّ طريقي في ثنايا الماضي السّحيق. نعم الماضي، لأنّنا نحن في المشرق دائمًا نبحث عن الآتي في الماضي. نحنُ نفعل ذلك رُبّما لأنّنا نملك مواضيَ كثيرةً، بل رُبّما لأنّنا نملك من المواضي أكثر ممّا يحتاج له المرء على هذه الأرض. نعم، نحن في المشرق نخطو إلى الأمام غير أنّ عيوننا مثبتة في أقفية رؤوسنا. وهكذا نتعثّر، نقع ونقوم ثمّ نتعثّر ونقوم ونمضي دون أن نتوقّف للحظة ونفكّر في تحويل رؤوسنا وعيوننا إلى الأمام.

ها أنا أجلسُ في القدس وأبحر إلى أصقاع بعيدة باحثًا عن ذلك النّور المكنون والمسلوب. ربّما أفلح هذه المرّة، ربّما يحالفني الحظّ فأعيد ولو بصيصًا من ذلك النّور السّماويّ الّذي اختفى من ربوعنا وحطّ منذ ذلك الوقت في الشّاطئ الآخر من البحر المتوسّط.

كثيرون جابوا الآفاق راحلين بين المشرق والمغرب عَبْرَ التّاريخ، في أوقات الحرب وفي أوقات السّلام. ومثلما شدّ الشّرق أنظار أهل الغرب وسحرهم بعد أن وطأت أرجلهم هذه البلاد، اقتبسوا أنواره وحملوها إلى بلادهم (بخلاف مارك طوين طبعًا)، كذا وجد أهل المشارق الّذين حلّوا في الجانب الآخر من المتوسّط سحرًا كثيرًا.

في القرن التّاسع الميلادي يروي الوليد بن مسلم الدّمشقي، مولى بني أميّة، عن أحد التّجار الّذين أبحروا من المشرق بحثًا عمّن يتّجرون معه، فيروي على لسان التّاجر: "ركبنا البحر وألقتنا السّفينةُ إلى ساحل روميّة. فأرسلنا إليهم، إنّا إيّاكم أردنا، فأَرْسَلوا إلينا رسولاً فخرجنا معه نريدها. فَعَلَوْنا جبلاً في الطّريق فإذا بشيءٍ أَخْضَرَ كهيئة اللّجِّ، فَكَبَّرْنا. فقال الرّسول: لِمَ كَبَّرْتُم؟ قلنا: هذا البحرُ، ومن سبيلنا أن نُكبِّر إذا رأيناهُ". وها أنذا أحاولُ اقتفاء أثر هؤلاء التّجّار إلى الوراء، لعلّي أعرفُ كيف ذا من سبيل العرب أن يكبّروا إذا رأوا البحر، ومن أين جاء هذا التّكبير؟

قبل أن يجتمع أمرُ الشّام كلّه إلى معاوية بن أبي سفيان حدّثته نفسه في أن يغزو البحر، فكان كثيرًا ما يلحّ على الخليفة عمر بن الخطّاب في أن يأذن له في تجييش الجيوش وتسفين السّفن عامدًا إلى ركوب البحر وغزو الممالك البحريّة. وبينما كان معاوية في حمص كتب إلى الخليفة في شأن قبرص: "إنّ قرية من قرى حمص يسمع أهلها نباحَ كلاب قبرص وصياحَ دجاجهم". لم يشأ عمر بن الخطّاب أن يُعطي الأمر دون سماع آراء أخرى، "فكتب عمرُ إلى عمرو بن العاص: صف لي البحر وراكبه. فكتب إليه: هو خَلْقٌ كبير يركبه خَلْقٌ صغير، ليس إلاّ السّماء والماء، إن ركدَ فلقَ القلوبَ وإن تحرّكَ أزاغ العقولَ". بعد سماع هذا الوصف للبحر، أعاد الخليفة النّظر في أمر غزو البحر، "فكتب عمر إلى معاوية: والّذي بعث محمّدًا بالحقّ لا أحملُ فيه مسلمًا أبدًا، وقد بلغني أنّ بحر الشّام يُشرف على أطول شيء من الأرض فيستأذنُ اللّهَ كلّ يوم وليلة في أن يُغرقَ الأرضَ، فكيف أحملُ الجنودَ على هذا الكافر"!

هذا الكافر؟ أقرأ الخبر فتحضرني صيحة أرخميدس، فأقول لنفسي: أويريكا أويريكا - وجدتها وجدتها. إذن، هو ذا الكفرُ البحريُّ ما يدعو العربَ إلى التّكبير إذ يقع نظرهم عليه، كما لو كانوا يغزون "الكفّار". فمن عادتهم أن يكبّروا ساعة بدء الغزو والسّلب. غير أنّ هؤلاء الّذين يروي عنهم الوليد بن مسلم الدّمشقي لم يأتوا إلى روما هنا غازين، بل جاؤوا تجّارًا ألقت بهم السّفينة على شاطئ روميّة. إلاّ أنّ التّكبير عادة متوارثة ولا بدّ من السّير على هديها. ولكن، عندما سمع رسول أهل روميّة ما أطلقه التّجّار من تكبيرات، وبعد أن سمع شرحًا وافيًا عن عاداتهم وتقاليدهم إذ يرون البحر، قهقهَ مليًّا وبعد أن هدأ قال: ليس ما ترون هو البحر، إنّما "هذه سقوفُ روميّة، وهي كُلّها مُرَصَّصَة".

عندما يذكر المؤلّفون العرب الرّوم فإنّما هم يقصدون في الواقع سواحل البحر الرّوميّ الشّمالية، أي البلاد والممالك النّصرانيّة الّتي على سواحله، إذ أنّ "أرض الرّوم غربيّة دبوريّة، وهي من أنطاكية إلى صقلية... والرّوم كلّهم نصارى".

لكن، ليست سقوف روما فحسب هي ما سحر أهل المشرق حتّى حسبوها لجّة البحر فكبّروا ثلاثًا. حين دخل هؤلاء روما وجالوا في طرقاتها وأسواقها، قصورها وكنائسها وشاهدوا ما تحويه هذه المدينة من الفنون والتّصاوير عادوا ليقصّوا على سامعيهم ما رأته عيونهم، أو دوّنوا مشاهداتهم لتبقى لنا على مرّ الدّهر. فقد روي عن جُبير بن مطعم أنّه قال: "لولا أصواتُ أهل روميّة وضَجّهم لسمعَ النّاسُ صليلَ الشّمس حيثُ تطلع وحيث تغرب، وروميّة من عجائب الدّنيا بناءً وعظمًا وكثرة خلق". فها هي مدينة روميّة تنكشف أمامي وها هم أهلها الّذين تصفهم الرّوايات العربيّة بأنّهم "أهل صناعات وحكم وطبّ، وهم أحذقُ الأمّة بالتّصاوير، يُصوِّرُ مصوّرهم الإنسان حتّى لا يُغادرُ منه شيئًا. ثُمّ لا يرضى بذلك حتّى يُصيِّره شابًّا وإن شاء كهلاً، وإن شاء شيخًا. ثُمّ لا يرضى بذلك حتّى يجعله جميلاً ثُمّ يجعله حلوًا. ثُمّ لا يرضى بذلك حتّى يصيّره ضاحكًا وباكيًا. ثُمّ يفصلُ بين ضحك الشّامت وضحك الخَجِل، وبين المستغرق والمبتسمِ والمسرور، وضحك الهاذي".

مضت قرون طويلة منذ أن كبّر التّجّار المشارقة لمشاهدتهم سقوف روما. حقب من السّلام وحقب من الحروب مضت وانقضت حتّى وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم للحديث عن البحر المتوسّط بوصفه بحرًا تلتقي فيه الحضارات تقتبس الواحدة من الأخرى. غير أنّنا كلّما طرحنا هذا الموضوع وتدارسناه أكثر فأكثر، كلّما كشفنا عن حقيقة عميقة تستتر وراء هذه الكلمات والتّعابير الجميلة. إنّ الكلام المتزايد عن هذا الموضوع يكشف تلك الهوّة العميقة الّتي تفصل بين المشرق والمغرب، بين الشّمال والجنوب.

وهذا الشّرخ ليس جديدًا. يجب طرق أبواب الأسطورة ومحاولة سبر أعماقها وأغوارها للتّعرّف على العلاقات المتبادلة بين حضارات المتوسّط. الأسطورة العربيّة الّتي شاعت في القرون الوسطى تحدّثنا أنّه في الزّمان القديم، لم يكن هذا البحر الّذي نجلس حول شواطئه اليوم قائمًا أصلاً. لقد تكوّن هذا البحر نتيجة للصّراع بين الشّمال والجنوب. يروي لنا مؤلّف عربيّ في القرون الوسطى قائلاً: "قرأتُ في غير كتاب من أخبار مصر والمغرب، أنّه ملك بعد هلاك الفراعنة ملوك من بني دلوكة، منهم دركون بن مَلُوطِس وزَمِطْرَة، وكانا من ذوي الرأي والكيد والسّحر والقوّة. فأراد الرّوم مغالبتهم على أرضهم وانتزاع الملك منهم، فاحتالا أنْ فَتَقَا البحرَ المحيط من المغرب، وهو بحر الظّلمات، فغلب على كثير من البلدان العامرة والممالك العظيمة، وامتدّ إلى بلاد الشّام وبلاد الرّوم وصار حاجزًا بين الرّوم وبلاد مصر".

وهكذا، وبعد أن افترقت طريقا الشّمال والجنوب جغرافيًّا وصار البحر حاجزًا بينهما، افترقت على مرّ الدّهور عقائدهما ومفاهيمهما. البحر المتوسّط هذا الّذي يحجزُ بين الوجهين، صار يحجز الآن بين الفرد وبين القبيلة، بين حريّة الفرد في البلاد الديمقراطيّة وبين الاستبداد القبليّ الّذي لا يترك متنفّسًا للأفراد. وفي المكان الّذي يختفي فيه الفرد يختفي فيه التّنوُّع ويفارقه الجمال. لقد صار هذا البحر حاجزًا بين الأعناب والتّمور، بين الخمور وبين الدّثور، بين ما يجودُ مع مرور الوقت وبين التّمر الّذي يعيش الآن ولا يبقي معه أثرًا.

هذا الصّراع بين الشّمال والغرب وبين الجنوب والشّرق خلق في الماضي أسطورة عربيّة أخرى تُفسّر صمود الرّوم أمام أعدائهم. الرّوايات العربيّة تحكي لنا: "ومجلس الملك المعروف بالبلاط تكون مساحته مائة جريب وخمسين جريبًا، والإيوان الّذي فيه مائة ذراع وخمسين ذراعًا مُلبّس كلّه ذهبًا، وقد مُثّل في هذه الكنيسة مثالُ كلّ نبيّ منذ آدم عليه السّلام إلى عيسى بن مريم عليه السّلام لا يشكّ النّاظر إليهم أنّّهم أحياء.... وحول مجلس الملك مائة عمود مموّهة بالذّهب على كلّ واحد منها صنم من نحاس مُفرّغ، في يد كلّ صنم جرسٌ مكتوب عليه ذكرُ أمّة من الأمم، وجميعها طلسمات. فإذا همّ بغزوها ملك من الملوك تحرّك ذلك الصّنم وحرّك الجرس الّذي في يده فيعلمون أنّ ملك تلك الأمّة يريدهم فيأخذون حذرهم". غير أنّ مملكة روما، بوصفها رمزًا للعالم الغربي، لم تكتف بالدّفاع عن نفسها بواسطة أصنام الإنذار المسبق هذه فحسب، بل خرجت لاحتلال واستغلال الجنوب والشّرق خلال قرون طويلة.

شهادة تكشف تعامل الغرب مع الشّرق وردت على لسان چرايمس الّذي يقتبسه مارك طوين: "لم أدع الفرصة تفوتني لخلق الإنطباع الشّديد لدى العرب، مُستعينًا بالأسلحة الأميركيّة والإنكليزيّة، من أجل أن يفهموا الخطر من وراء مهاجمة الفرنجة المسلّحين. وأعتقد أنّهم فهموا الدّرس". هل تغيّر شيءٌ من هذه النّظرة منذ ذلك الوقت؟

خريف 2003 يهبط على القدس، وها هو موسم قطاف الزّيتون على الأبواب. أقلب صفحة ثمّ صفحة بعد أخرى مُبحرًا على ظهر الكتب حتّى أكتشف أنْ ليس الحليّ والنّور فحسب حُملا إلى روما. الآن أكتشفُ أن حبّات الزّيتون من قرية المغار في أيّام السّذاجة الطّفوليّة البعيدة تلك قد حُمِلَتْ هي الأخرى إلى روما. ها هي الأسطورة العربيّة تجلو لي ما التبس عليّ في أيّام الطّفولة وتكشف لي نوايا العصافير الّتي حطّت في حقول الزّيتون وطارت محمّلة زادًا للطّريق: "وبين يدي الكنيسة صحنٌ يكون خمسة أميال في مثلها. في وسطه عمود من نحاس ارتفاعه خمسون ذراعًا وهذا كلّه قطعة واحدة مفرّغة، وفوقه تمثال طائر يُقال له السّوداني من ذهب. على صدره نقشُ طلسم وفي منقاره مثال زيتونة، وفي كلّ واحدة من رجليه مثال ذلك. فإذا كان أوانُ الزّيتون لم يبقَ طائرٌ في الأرض إلاّ وأتى وفي منقاره زيتونة وفي كلّ واحدة من رجليه زيتونة، حتّى يطرح ذلك على رأس الطلسم. فزيتُ أهل روميّة وزيتونهم من ذلك. وهذا الطلسم عمله لهم بليناس صاحب الطلسمات. وهذا الصحنُ عليه أُمناء وحَفَظَة من قِبَل الملك، وأبوابه مختومة. فإذا امتلأ وذهبَ أوانُ الزّيتون اجتمع الأُمناءُ فعصروه. فيُعطى الملك والبطارقة ومن يجري مجراهم قسطهم من الزّيت، ويُجعلُ الباقي للقناديل الّتي للبِِيَع. وهذه القصّة، أعني قصّة السّوداني مشهورة، قلّما رأيت كتابًا تُذكر فيه عجائب الدّنيا إلاّ وقد ذُكرت فيه. وقد رُوي عن عمرو بن العاص أنّه قال: من عجائب الدّنيا شجرة بروميّة من نٌحاس عليها صورة سودانيّة في منقارها زيتونة فإذا كان أوانُ الزّيتون صَفَرَتْ فوقَ الشّجرة فيُوافي كُلُّ طائر في الأرض من جنسها بثلاث زيتونات في منقاره ورجليه حتّى يُلقي ذلك على تلك الشّجرة، فيعصر أهلُ روميّة ما يكفيهم لقناديل بيعتهم وأكلهم لجميع الحَوْل".

لم آت من المشرق إلى هذا المنتدى حول البحر المتوسّط، لكي أطالب بإعادة الزّيت والزّيتون والنّور إليّ. بوسع روما ومدن أخرى على السّواحل الشّمالية للبحر المتوسّط أن تمنح قليلاً من النّور الّذي يشعّ فيها، للمناطق الواقعة على سواحله الجنوبية والشرقية، تلك المناطق الّتي بقي الظّلامُ والجوع يخيّمان عليها قرونًا طويلة. وحين أقول تمنح، فلست أتكلّم بمصطلحات اقتصاديّة لشركات عالميّة عابرة للحدود في عصر العولمة الباحثة عن زيادة أرباح لها، إنّما أتحدّث بمصطلحات الرّوح والحريّة، الإزدهار والديمقراطيّة. بوسع أوروپا هذه، أن تقوم بدور إيجابيّ جدًّا في إحلال السّلام في الشّرق الأوسط الّذي ينزف دماءً منذ تهديم حدوده بصورة مصطنعة، وخلق كيانات سياسيّة لا تأخذ بالحسبان المصالح الإجتماعيّة، الإثنيّة والإنسانيّة لشعوب المنطقة. لقد فعل الإستعمار ذلك في الماضي من أجل مواصلة اللّعب بالخيوط كما يحلو له ابتغاء تحقيق مصالحه الّتي لا تتمشّى مع مصالح شعوب المنطقة. واليوم، يبدو أنّ أوروپا قد نفضت أيديها من هذه اللّعبة مُبقيةً هذه المهمّة للقطب الأوحد الّذي ظلّ في العالم. مسؤوليّة أخلاقيّة ملقاة على كاهل أوروپا فيما يتعلّق بالمنطقة، وعليها أن تقوم بها، لأنّ شعوب المنطقة بحاجة إلى أوروپا مثلما هي أوروپا بحاجة إلى شعوب المنطقة.

في الماضي البعيد تعاقد الغرب والشّرق على السّلام، وفي تلك الأثناء منح الغرب هداياه للشّرق. لكنّ تلك الهدايا كانت من نوع آخر، كانت تلك هدايا بقيت آثارها قرونًا طويلة من الزّمن: "ولمّا توادع قُباذُ وقيصر ملك الرّوم أهدى إليه قيصرُ هدايا كثيرة، فكان فيما أهدى إليه تمثال جارية من ذهب، كانَ إذا كانَ وقتًا من اللّيل يُسْمَعُ لها تَرَنُّمٌ لا يَطنُّ على أُذن أحد إلاّ أَرْقَدَهُ".
يبدو لي أنّ هذا الرّقاد الّذي نزل على المشّرق لا يزال مخيّمًا عليه لا يستطيع منه فكاكًا. وها أنذا أقف أمامكم الآن هنا، في روما، ليس تمثالاً لجارية مغنّية، بل تمثال من نوع آخر، من لحم ودم. وحتّى لا تُنزل عليكم كلمتي هذه سباتًا طويلاً، فقد جلبت معي جرسًا وناقوسًا للحريّة، قبل أن تهبط محنة كبرى على رؤوسنا أجمعين.



***

هذا النّصّ مؤسّس على محاضرة في مؤتمر حول الهويّة المتوسطيّة والعولمة، والذي انعقد في روما في نوڤمبر 2003.

______
نشر في فصليّة "مشارف"، عدد 24، 2004
*
للصيغة العبريّة، اضغط هنا.مقالة مختصرة بالإيطاليّة، اضغط هنا.

قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!