‏إظهار الرسائل ذات التسميات حضارة عربية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات حضارة عربية. إظهار كافة الرسائل

لماذا الترجمة، وكيف؟

من الأرشيف - عام 2005: 

 
استفتاء إيلاف - (4):

كيف يترجم الشاعرُ شاعرا؟ 

يكاد أن يُجمع جل المترجمين العرب على مقولة صلاح الصفدي، كما وردت في كشكول العاملي: "للترجمة في النقل طريقتان إحداهما أن يُنظر إلى كل كلمة مفردة من الكلمات الأجنبية وما تدل عليه من المعنى فيأتي الناقل بلفظة مفردة من الكلمات العربية ترادفها في الدلالة على ذلك المعنى فيثبتها وينتقل إلى الأخرى حتى يأتي على جملة ما يريد تعريبه... الطريق الثاني: أن يأتي الجملة فيحصل معناها في ذهنه ويُعبّر عنها من اللغة الأخرى بجملة تطابقها سواء ساوت الألفاظ أم خالفتها".

الجامعة العربية بين الإنترنت والإعراب

أرشيف: الحياة - فبراير 2004:


قد تكون ثورة الإنترنت، على سبيل المثال، سلاحًا ذا حدّين. فبوسع هذه الشبكة العالمية أن تشكّل مصدرًا معرفيًّا يصل أطراف العالم ببعضه البعض من خلال وجود حاسوب بسيط في أماكن نائية من العالم. لكن، من جهة أخرى وإذا لم يتمّ استخدام الشّبكة بما تتيحه من إمكانات، فقد تتحوّل الشّبكة إلى أداة لإشاعة الجهل والذّوق السّوقي.

نكتة الربيع العربي



الخروج من السّبات لا يأتي بالعودة إلى تعدّد الزوجات، بل بتحديد النّسل وبتزاوج العرب مع المدنية المعاصرة...

سلمان مصالحة


نكتة الربيع العربي


سارع الكتاب والمحلّلون العرب،
مثلما هي الحال دائمًا، إلى تبنّي مصطلح الربيع العربي الذي أشاعته الصحافة الأجنبيّة بخصوص الانتفاضات التي ضربت بعض الأقطار العربية، دون سواها. والحال هذه ليست جديدة، فكثيرًا ما تقع عين المرء حتّى على ترجمات للجغرافيا العربية والتاريخ العربي والأسماء العربية من اللغات الأجنبية منشورة مشوّهة بالأخطاء في الصحافة العربية على طول العالم العربي وعرضه. فالكتّاب والمحرّرون لا يكلّفون أنفسهم عناء الفحص والتدقيق فيما يكتبون وينشرون وهكذا يختلط حابلهم ونابلهم بحابل ونابل القرّاء الذين يمرّون على كلّ هذه الأخطاء مرّ الكرام.

هذه هي أيضًا حال هذا
”الرّبيع العربي“، كما يسمّونه، والذي ملأ الشّاشات، أجنبية وعربية، دون أن يتفكّر أحد فيما هو جارٍ في الحقيقة على الأرض. مرّة أخرى يترجم العرب توصيف أحوالهم دون أن يكلّفوا هم أنفسهم النّظر إلى ما هو جارٍ في ساحاتهم. إنّها حال مضحكة مبكية حقًّا. إذ كيف يتبنّى مثلاً كلّ هؤلاء الطائفيّين في بلدهم الحديث عن ربيع عربيّ بينما هم غارقون حتّى أخمص قدميهم في وحل الطائفيّة، كما هي حال لبنان، على سبيل المثال لا الحصر؟ بل وأكثر من ذلك، كيف يتحدّث كلّ هؤلاء عن ”ربيع عربي“، في الوقت الذي تتحوّل فيه هذه الانتفاضات إلى حرق للكنائس، كما حصل في مصر؟ وكيف يمكن الحديث عن ”ربيع عربيّ“ عندما يخرج عبد الجليل في ليبيا وبعد مقتل العقيد بتصريح أوّل يكشف أنّ كلّ همّه هو إعادة العمل بالشريعة وبتعدّد الزّوجات؟

ولكي لا يُفهَم من كلامي
كما لو أنّي أقلّل من أهميّة هذه الانتفاضات، أقول إنّ جميع أنظمة الاستبداد العربيّة، على شتّى تنويعاتها الملكية والجمهورية، يجب أن تذهب إلى الجحيم. كما أودّ التأكيد على أنّ الخروج ضدّ الاستبداد، كلّ استبداد مهما كان منبعه، هو بلا شكّ خروج مبارك. إنّه مبارك على وجه الخصوص في الحال العربية التي لم تعرف في يوم الأيّام عيشًا خارج الاستبداد. لكن، يبقى السؤال الذي لا مناص من طرحه حول ما يجري في هذا العالم العربي التي تذرو فيه الرّياح الغربيّة كثبان هذه الشّعوب العربيّة فتتحرّك هذه الكثبان في هذه البقعة الشاسعة من الأرض دون أن يعرف أحد أين ستحطّ الرّحال.

فهل هذا هو الرّبيع العربيّ؟
من الملاحظ أنّ هذه الانتفاضات قد نشبت بالذّات في البلاد التي تتّبع أنظمة حكم ”جمهوريّة“. وهي جمهورية شكليّة طبعًا لم تنبن على أيّ أسس جمهورية أصلاً. بل وأكثر من ذلك، لقد ضربت هذه الانتفاضات تلك الأنظمة التي أشبعت النّاس شعارات كاذبة حول العروبة والوحدة والاشتراكية والصمود والتصدّي والمقاومة والممانعة وما إلى ذلك من بلاغة بليدة تدغدغ عواطف العامّة من النّاس، في الوقت الذي كان ينصبّ فيه جلّ اهتمامها على تخليد السلطة القبلية والطائفية حاكمة مستبدّة بالحديد والنّار.

بكلمات أخرى، يمكننا القول إنّ هذه الانتفاضات هي في الحقيقة ضدّ هذه العروبة الزّائفة التي لم تزرع شجرًا، لم تبنِ حجرًا ولم تخلق بشرًا أحرارًا. لقد وضعت هذه الأنظمة نصب أعينها وطرًا واحدًا هو تلقُّف الحكم والاستفراد به إلى أبد الآبدين. إنّها تسير في ذلك على هدي السّلف السالح، منذ أن ظهر هذا السّلف على مسرح التاريخ. يكفي العودة إلى هذا التاريخ العربي لمعرفة ما آلت إليه حال هؤلاء الخلفاء، إذ أنّ الغالبيّة العظمى من هؤلاء الخلفاء قد لقوا مصيرًا كمصير القذّافي من القتل والسحل والتمثيل بجثثهم.

يكفي هنا أن نورد هذه الرواية
عن خطبة أبي سفيان لبني أميّة، مشبّهًا السّلطة بالكرة، إبّان خلافة عثمان بن عفّان: ”يا بني أميّة! تلقّفوها تلقُّف الكرة. فوالّذي يحلف به أبو سفيان: ما من عذاب ولا حساب، ولا جنّة ولا نار، ولا بعث ولاقيامة“. هذه هي حقيقة الصّراع على السّلطة في هذا التاريخ العربي والإسلامي. وهو التاريخ الذي يتبجّح به الإسلامويون على اختلاف مشاربهم في محاولة لدغدغة عواطف العامّة. يعرف الجميع ماذا كان مصير عثمان في نهاية المطاف. إنّه مصير شبيه بمصير القذّافي بعد قرابة ألفية ونصف من السنين.

حتّى هذه اللّحظة، لا نرى
بشائر حقيقية لربيع عربيّ. لا نرى برامج وخططًا تهدف إلى إخراج هذه الأمّة من سباتها. الخروج من السّبات لا يأتي بالعودة إلى تعدّد الزوجات، بل بتحديد النّسل وبتزاوج العرب مع المدنية المعاصرة. يجب التأكيد على أنّه لن يحصل تزاوج عربي مع المدنية دون تطليق الماضي العربي بالثّلاثة.

لقد كنت ذكرت في الماضي إنّ العرب هم أكثر شعوب الأرض احتياجًا إلى ثورة أتاتوركية تفصل الدين عن الدولة. إذ أنّه فيما يخصّ العرب، فليس أبو سفيان وأمثاله، بل إنّ أتاتورك بالذّات هو الحلّ.
***
نشرت:
”إيلاف“، 21 نوڤمبر 2011
_________________

العقل في الرأس زينة

سلمان مصالحة

العقل في الرأس زينة

"الإنسانُ - كائنٌ يَبحثُ عن معنى" (أفلاطون)

أمّا بعدُ،
فقد درجَ العامّةُ لدينا، حينما لحظوا شخصًا ينفّذ عملاً يشوبه بعض الغباء، على إطلاق المقولة الشّعبيّة "العقل في الرّأس زينة". لقد قالوها تفكُّهًا على ما آل إليه صنيع ذلك الشّخص وتهكُّمًا به وبغبائه. والمقولة، على ما فيها من دعابة شعبيّة بريئة، تحمل في طيّاتها قولاً حكيمًا ينهلُ من موروث مغرق في القدم. فمثلما ذكر التّراث المشرقي القديم أنّ الإنسان هو تاج الخليقة، كذا هي الحال مع العقل في هذا التّاج، فالعقل هو درّة هذا التّاج المنصوب على رأسه، وهو، إذن، زينة هذا الرأس في نهاية المطاف.

وقد آن أوان أن ننظر قليلاً في هذه المسألة لما فيها من عون لذوي الألباب في فتح الأبواب أمامهم للوصول إلى سواء السّبيل. وما مرادي من هذا الكلام سوى شحذ الهمّة لدى بعض نفر هذه الأمّة ابتغاء الخير لها، ورفع ما ربخَ على أكتافها من غمّة.

في البدء نسألُ،
لماذا سُمّيَ هذا الجوهرُ اللّطيف، الكامن في الرأس الكثيف، عقلاً أصلاً؟ وللإجابة على السؤال حريّ بنا الذّهاب أوّلاً إلى الدّلالة اللّغويّة لهذا التّعبير. فالعقلُ، كما هي الحال مع الكثير من المصطلحات العربيّة مردّها إلى الصّحراء، وإلى البعير على وجه التّحديد، فقد قيلَ: "العقلُ مأْخوذٌ من عِقَال البعير" (عن: لسان العرب)، وَ"عقلَ البعيرَ: شَدَّ وظيفَهُ إلى ذراعه." (عن: القاموس المحيط)، وكذا هو رأي ابن الأنباري: "رَجُلٌ عاقِلٌ: وهو الجامع لأَمرِه ورَأْيه. مأْخوذٌ من عَقَلْتُ البَعيرَ، إِذا جَمَعْتَ قَوائمَهُ." (عن: محيط المحيط). أي أنّ العقل، في النّهاية "مشتقّ من العقل، بمعنى الرّبط والإحكام، كما قال بعض الحكماء." (عن: لسان العرب). فالعقل إذن هو الرّبط، أي النّظر في ما يُحدق بالإنسان من أمور شَتّى، المُجسَّدَة منها والمُجرَّدَة، ابتغاء الوصول إلى مفاهيم علميّة، ثقافيّة، اجتماعيّة وغيرها من أمور تواجه الإنسان في مسيرته على هذه الأرض وفي هذا الكون. فقد قيل إنّه: "جوهر مُجرَّد يُدرِك الغائِيَّات بالوسائِط والمحسوسات بالمشاهدة." (عن: لسان العرب).

هذا من ناحية الاشتقاق اللّغوي للتّعبير. أمّا من ناحية التّعريف، فقد قيل الكثير الكثير عنه. من بين ذلك ما ذكره الفيروزاباذي، ناقلاً عن الرّازي، أنّ العقل هو: "العِلْمُ بِصفاتِ الأَشْياءِ من حُسْنِها وقُبْحِها وكَمَالِها ونُقْصانِها." (عن: القاموس المحيط). أمّا ابن منظور فيقتبس، في معرض تعريفه للعقل، من تعريفات الجرجاني أنّ العقل هو: "جوهرٌ مُجرَّدٌ عن المادَّة في ذاتهِ، مقارنٌ لها في فعلهِ." (عن: لسان العرب).

غير أنّ الفقهاء
الّذين يعتبرون هذه الملكة نورًا روحانيًّا يقصرونها على الأمر والزّجر، أو الأوامر والنّواهي فحسب: "والمراد من العقل، ملكةٌ وحالةٌ في النّفس تدعو إلى اختيار الخيرات والمنافع واجتناب الشّرور والمضارّ، وبها تقوى النفسُ على زجر الدّواعي الشّهوانية والغضبية والوساوس الشيطانية." (عن: محمّد باقر المجلسي، مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول). أو كما يذكر سريّ السّقطي: "العقل: ما قامت به الحجة على مأمور ومنهي". كما أنّهم خلطوا بين النّفس والذّهن والعقل، واختلفوا في محلّ تواجد هذه الملكة: "وقيل العقلُ والنّفسُ والذّهنُ واحدة إلا أنّها سُمِّيَت عَقْلاً لكونها مُدرِكةً. وسُمِّيَت نفسًا لكونها مُتصرِّفةً وسُمِّيَت ذهنًا لكونها مستعدّة للإدراك. وقال أيضًا العقلُ ما يعقل بهِ حقائِق الأشياءِ. قيل مَحلُّهُ الرأس. وقيل محلُّهُ القلبُ." (عن: لسان العرب).

وبسبب الاشتغال بهذه المسائل، فقد ترك لنا التّراث الإسلامي أيضًا أحاديث نبويّة تتعلّق بهذا الجسم اللّطيف الّذي يُسمّى العقل. مثال على ذلك ما رواه عبد الله بن مسعود: "عن عبد الله بن مسعود -رض-، قال: قال رسول الله -صلعم-: لمّا خلقَ اللهُ العقل قال له : أقبل فأقبل، وأدبر فأدبر، فقال له : ما خلقتُ خلقًا أحبّ إلي منك، ولا أركبك إلا في أحبّ الخلق إلي." (عن: إبن الأثير، جامع الأصول من أحاديث الرّسول). وهذا الحديث ينتقل ويتكرّر بروايات مختلفة واختلافات طفيفة في كثير من المصادر (أنظر مثلاً: إبن حنبل، كتاب الزّهد؛ الطّبراني، المعجم الكبير؛ البيهقي، شعب الإيمان؛ الغزالي، إحياء علوم الدّين؛ التّبريزي، مشكاة المصابيح؛ السّيوطي، الدّرّ المنثور، وغيرها). لقد ثار جدل بشأن صحّة هذا الحديث أصلاً، وبشأن أوّليّة خلق العقل، فقد قال الحافظ ابن حجر: "والوارد في أوّل ما خلق الله حديث أوّل ما خلق الله القلم، وهو أثبتُ من حديث العقل." (عن: الشّافعي، كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة النّاس).

مهما يكن من أمر،
أكانَ الحديث موضوعًا أم لا من وجهة النّظر الإسلاميّة، فإنّه يشير إلى انشغال العلماء في فترة لاحقة من التّاريخ الإسلامي بقضايا بدأت تظهر على السّاحة مع التقاء المجتمع البدوي الخارج من جزيرة العرب بالحضارات الأخرى وظهور النّزعات الفلسفيّة عبر ترجمات من الحضارات الّتي انشغلت بالتّجريد، بخلاف الحضارة العربيّة الّتي عرفت التّجسيد ليس إلاّ. في الحقيقة، لا يمكن أن تكون الأحاديث الّتي جمعت ودوّنت بعد قرنين من الزّمان على الدّعوة إلاّ موضوعة بالقوّة وبالفعل. لكن، لسنا بصدد هذه المسألة، غير أنّ ما يلفت الانتباه هو أنّنا نسمع صدى هذا الجدل الفقهي مع الفلسفة، أي الحكماء، من خلال ما أورد الشّافعي: "إن العقول عند الحُكماء أوّل المخلوقات، وإنّ العقلَ عندهم أعظمُ الملائكة وأوّل المبدعات." (عن: الشّافعي، كشف الخفاء).

في نهاية المطاف، ليس فقط أنّ العقل هو ما يفرق بين الإنسان وسائر المخلوقات فحسب، بل هو الحدُّ الفردانيّ للمخلوق البشريّ الّذي يفرق بينه وبين سائر أبناء جنسه من هؤلاء البشر، أو "هو الوصف الذي يفارق الإنسان به سائر البهائم"، أي أنّ العقل هو الـ"أنا" على الإطلاق، كما يذكر الجرجاني بالنّسبة للعقل، فيقول: "وهي النّفسُ الناطقةُ التي يشيرُ إليها كلُّ أحدٍ بقولهِ: أنا." (عن: الجرجاني، التّعريفات).

من هذا المنطلق،
عندما ندعو إلى تفعيل العقل وإعلاء شأنه لدى أبناء جلدتنا فنحن إنّما ندعو إلى إعلاء شأن الإنسان، كلّ إنسان، في نهاية المطاف. فهذه الدّعوة هي دعوة إلى إعلاء شأن حدِّ بشريّته بوصفه كائنًا يبحث عن معنى. والبحث عن معنى، أي البحث عن معارف. والمعارف لا يمكن أن تُقتنَى بالإكراه، ومثلما ذكر أفلاطون فإنّ "المعرفة الّتي تُقْتنَى بالإكراه لا تَعلقُ بالعقل، كما أنّ المعرفة تتحوّل شرًّا إنْ لم تكن غايتُها أخلاقيّة".

لهذا السّبب، نرى على مرّ تاريخنا العربيّ أنّ الأوامر والنّواهي لا تصمد أمام الواقع. إنّها لا تصمد لأنّها تأتي بالإكراه ولذلك فهي لا تعلق بعقول البشر. وربّما خير مثال على ذلك ما يُنشر من إحصاءات في شبكة الإنترنت، فقد نشر أكثر من مرّة أنّ العرب هم أكثر شعوب الأرض بحثًا عن مفردة "جنس" ومشتقّاتها في الشّبكة. أليس في ذلك عبرة لذوي الألباب؟

لذلك، ليس فقط أنّ العقل في الرأس زينة، بل نواصل التّأكيد على الخير الكامن في هذه الملكة المسمّاة العقل، ففي نهاية المطاف فإنّ العقلَ وليّ التّوفيق.

وبهذه المناسبة نتمنّى للبشر أجمعين: كلّ عام وأنتم بعقل.
*
نشر في: ”إيلاف“، 22 ديسمبر 2007
________________

نعم، إنّها مؤامرة - ولكنّها حميدة




سـلمان مصـالحة


نعم، إنّها مؤامرة - ولكنّها حميدة


أنظمة العروبة المستبدّة،
على اختلاف تشكيلاتها الطائفيّة والقبليّة، تسارع إلى وسم كلّ من لم يعد يطيق وجودها رابخة رابضة مرخية على صدور البشر كلاكلها، بصنوف التعابير المشتقّة من ذهنيّة التآمر. إنّها تصف كلّ من يرفع صوته ضدّ الاستبداد ناشدًا الحريّة بالـ“مُندسّ“ والـ“متآمر“، وما إلى ذلك من مفردات هذا القاموس الجديد القديم الّذي أتت عليه الأرضة.

وعلى كلّ حال فالـ“مؤامرة“ في العربيّة ليست بهذه المعاني الرديئة التي أضفاها عليها المتآمرون الحقيقيّون في هذا الزّمان العروبي البليد. فلقد ورد في لغة العرب: ”آمَرْتُه في أَمْري مُؤامَرَةً إِذا شاورتُه... وكلُّ من فَزَعْتَ إِلى مشاورته ومُؤَامَرَته، فهو أَمِيرُكَ. ومنه حديث عمر: الرجال ثلاثةٌ - رجلٌ إِذا نزل به أَمْرٌ ائْتَمَرَ رَأْيَه أَي شاور نفسه وارْتأَى فيه قبل مُواقَعَة الأَمر. وقيل: المُؤْتَمِرُ الذي يَهُمُّ بأَمْرٍ يَفْعَلُه... ويقال لكل من فعل فعلاً من غير مشاورة: ائْتَمَرَ، كَأَنَّ نَفْسَه أَمرته بشيءِ فأْتَمَرَ، أَي أَطاعها. ومن المُؤَامَرَةِ المشاورةُ. في الحديث: آمِرُوا النساءَ في أَنْفُسِهِنَّ أَي شاوروهنّ في تزويجهنّ“، (عن لسان العرب، مادّة ”أمر“).

نعم، الانتفاضات التي أطاحت
بالطغاة، وتلك التي ستطيح بمن تبقّى منهم، هي مؤامرة. لا يجب الاستحياء من قول الحقيقة، إذ أنّها مؤامرة حميدة على كلّ حال. لقد ارتأى النّاس في هذه المؤامرة أن لا صمت بعد اليوم على جرائم كلّ هؤلاء الحكّام المتآمرين الحقيقيّين على حياة بني البشر. وأعني بهؤلاء كلّ صنف الحكّام الذي طغوا واستبدّوا. فها هم النّاس على اختلاف أطيافهم، وبعد عقود من الظّلم، لم يعد من خروج النّاس على استبداد هؤلاء بُدُّ.

ولماذا أقول هذا الكلام الآن؟
منذ أيّام لا يفارقني مشهد واحد من مشاهد الانتفاضة السّوريّة ضدّ طواغيت البعث القبليّ المتوحّش. ولكن، فحتّى استخدام نعت ”المتوحّش“ هذا ليس بوسعه أن يفي المشهد المذكور حقّه من القرف والاشمئزاز. إنّ هذا الشّريط هو المثال الأوضح لما يمكن أن يطلق عليه ”جريمة ضدّ الإنسانية“، وهو مصطلح يُلزم بتدخّل من مجلس الأمن الدّولي ويلزم باستخدام القوّة، نعم استخدام القوّة، ضدّ مرتكبي هذا النوع من الجرائم.

والشريط الذي لا يزال موجودًا
في شبكة الإنترنت هو شريط تظهر فيه دبابة سورية يقودها ”جنود“ من صنف أولئك الذين طالما أطلقوا عليهم نعت ”البواسل“ في الإعلام العربي البليد وخاصة من صنف إعلام البعث الفاشي. نعم، هؤلاء الـ“بواسل“ يدهسون بدبّابتهم مواطنًا سوريًّا. ليس هذا فحسب، بل وبعد أن دهست الدبّابة المواطن على الشارع، يقوم جنود آخرون من صنف هؤلاء الـ ”بواسل“ الموجودين في الساحة بسحب الجثّة لوضعها تحت الجنازير لتمرّ عليها الدبّابة مرّة أخرى ولتمزّقها ولتتناثر الأشلاء وتعلق بجنازير دبّابة الـ“بواسل“.

منذ أيّام لا يفارقني هذا المشهد الهمجيّ. ولن أتحدّث الآن عن العالم وعن مجلس الأمن، بل سأتحدّث عمّن ينتمون إلى هذه الـ“أمّة“ التي تسمّى نفسها عربًا. لا أدري كيف ينام من ينتمي إلى هذا الجنس العربي قرير العين إزاء هذه المشاهد المقزّزة؟ بل، كيف يمكن أصلاً أن ينام بشريّ في هذا العالم المفتوح على مصاريعه، أيًّا كان انتماؤه، قرير العين وهو يشاهد على شاشة حاسوبه هذا المنظر القادم من سورية؟

إنّ هذا المشهد الهمجيّ
يختزل في الحقيقة طبيعة هذا النّظام البعثي القبليّ الفاشي. هذه هي حقيقة هذا النّظام منذ أن ظهر على الساحة. كذا كانت حال هذا البعث في العراق وكذا هي الحال في سورية الآن. لقد وجدت نفسي في الأيّام الماضية أتفكّر وأتساءل بشأن هؤلاء ”الجنود البواسل“ الذين يرتكبون هذه الجريمة البشعة. هنالك أمر لا يمكن التهرّب منه. يجب القول على الملأ: إنّ هذا الصنف من الجنود لا يمكن أن يتّصفوا بصفة الجنديّة، لا هم ولا قياداتهم أو آمريهم من زبانية النظام. إنّ هذا الصنف من الجنود وقياداتهم وآمريهم لا يمكن أن يتّصفوا أصلاً بالآدميّة. إنّ هذا الصنف من الجنود ينتصرون فقط على النّاس العُزّل. إنّه صنف لا ينتمي إلى شعب أو إلى بشر. إنّه صنف من الجنود المهزومين في جوهرهم، لأنّهم ليسوا جنودًا وليسوا بشرًا أصلاً، لأنّ صفة البشريّة لا يمكن أن تُدنّس بأمثال هؤلاء.

أتفكّر قليلاً في الأمر، وأتساءل: لا شكّ أنّ لهؤلاء الـ“بواسل“ أهل؛ آباء وأمهات، أشقاء وشقيقات، زوجات وأبناء. فماذا يقولون لأهلهم بعد عودتهم إلى أهلهم، مدنهم وقراهم؟ كيف يتناولون وجباتهم بعد هذه الجرائم؟ كيف ينامون؟ كيف يستيقظون؟ كيف يطرحون التحيّة على جيرانهم؟ كيف يدعونهم إلى فنجان قهوة؟ عمّا يتحدّثون في الجلسات؟ وماذا يخطّطون لأبنائهم وبناتهم؟ هل يذكرون أمام كلّ هؤلاء ماذا فعلوا في ”الجنديّة“؟ هل يحدّثون عن جريمتهم - بطولتهم بنظرهم - أم يبقون ذلك سرًّا؟ وماذا يجيبهم من يسمع أحاديثهم؟ إنّها أسئلة تراودني ولا أجد إجابة عليها.

غير أنّ هنالك شيئًا آخر
لا بدّ من قوله أيضًا وعلى الملأ. إنّ هذه الأمّة الصّامتة أفعالاً والصّائتة أقوالاً هي التي ترعرع في كنفها وعلى تراثها أمثال هؤلاء. إنّ هذا المشهد في الشريط المذكور يختزل أمّة بأسرها، بتراثها وبحضارتها. فكلّ من يغوص قراءة في مصادر تراث وتاريخ هذه الأمّة العربية والإسلامية يعلم علم اليقين أنّ تراث هذه الأمّة مليء بالجرائم ضدّ الإنسانية، فالجرائم مدوّنة بتراث هذه الأمّة العربية وبلغة العرب، وفي الكثير من الأحيان بنوع من التفاخر بها.

إنّ هذا الشّريط المذكور وأشرطة كثيرة مثله، مع ما تثيره من تقزّز واشمئزاز في نفس كلّ بشريّ، تدفع المرء إلى الخجل من الانتماء إلى هذه الأمّة. إنّي أجد نفسي بعد مشاهدة هذا الشريط غيري.

ولهذا يجب أن يرفع الشعار: تعيش، تعيش مؤامرة الناس البسطاء على كلّ أصناف المستبدّين!

والعقل وليّ التوفيق!
*

رابط الشّريط في الـ“يوتيوب“: (الرجاء إبعاد الأطفال عن مشاهدة الشريط حفظًا لسلامتهم وصحّتهم النفسيّة).
***
نشر في: إيلاف“، 20 مايو 2011
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ذكر فذكروه

سلمان مصالحة

"ذكـرٌ فذكّرُوه"


(عن الذَّكْرَنَة العربيّة)

ما من شكّ في أنّ القارئ يعرف حال المجتمعات العربيّة الّتي تفضّل الذكر على الأنثى في الإنجاب. وقد ينسب علماء الاجتماع والأناسة وغيرهم من المهتمّين هذه الظاهرة إلى طبيعة الخلفيّات الإثنيّة والمعيشيّة للمجتمعات ويعزون هذا الميل إلى تفضيل الذكور إلى البحث عن وسائل إنتاج، أو ابتغاء إنتاج محاربين في صراع بقاء المجتمع في أطواره الأولى وما إلى ذلك من هذا الكلام المعهود. وكلّ هذه الإجابات وما شابهها، وإن كانت تشتمل في بعض الأحايين على بعض الحقيقة، فهي لا تفي الموضوع حقّه.

يمكن القول إنّ الرّغبة في إنجاب نسل ذكريّ هي رغبة الذّكر في الأساس، والقضيّة لها علاقة بصراع بقاء الذّكر. تنبع هذه الرّغبة من طموح الذكر إلى استنساخ الذّات الذكوريّة في الطّبيعة الّتي تتّسم فيها حاله بالهشاشة، وقد يكون مردّ ذلك إلى حقيقة طبيعيّة وهي كون الأمّ معروفة دائمًا، فالجنين محمول في رحمها. فالأمّ الحاملة للجنين في رحمها، معروفة قطعًا، بينما الأب، الذَّكَر الذي يُشارك ماؤه في تشكّل الجنين، يقع دائمًا في خانة الشكّ. فكلّ المواليد لهم أمّهات معروفات، بينما الآباء تحوم الشّكوك أبدًا حولهم. ومردّ هذا الشكّ إلى حقيقة كون الإخصاب قد يحصل، بطريق الصدفة أو لأسباب أخرى كثيرة، من منيّ لا يُعرَف مصدره. من هنا فإنّ الرغبة في إنجاب عدد أكبر من الذكور تنبع من الرغبة الغريزيّة للذّكر في رفع نسبة احتمالات الاستنساخ الذاتي في الطبيعة.

ولمّا كانت هذه هي حال الذكر في الطّبيعة، فقد قامت الحضارة البشريّة، وبصورة عامّة، وعلى مرّ العصور بإلحاق النَّسَب إلى الذّكر. وقد يكون هذا النّسق النَّسَبِيّ الذّكري قد تطوّر على مرّ التاريخ البشري بوصفه شكلاً من أشكال التّعويض للذّكر على هشاشة وضعه في الطّبيعة. وهكذا نرى أنّ العرب القدماء، بوصفهم جزءًا من هذه الحضارة البشريّة، قد انتسبوا إلى الآباء، ولم ينتسبوا إلى الأمّهات إلاّ فيما ندر: "قد ذكر الجوهري أن القبائل هي بنو أب واحد. وقال ابن حزم: جميع قبائل العرب راجعة إلى أب واحد سوى ثلاث قبائل وهي تنوخ والعتق وغسان فإن كل قبيلة منها مجتمعة من عدة بطون... نعم الأب الواحد قد يكون أبا لعدة بطون ثم أبو القبيلة قد يكون له عدة أولاد فيحدث عن بعضهم قبيلة أو قبائل فينسب إليه من هو منهم ويبقى بعضهم بلا ولد، أو يولد له ولم يشتهر ولده فينسب إلى القبيلة الأولى." (نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب للقلقشندي: ج 1، 8؛ أنظر أيضًا: الصحاح للجوهري: ج 2، 60؛ المخصص لابن سيدة: ج 1، 265؛ مقاييس اللغة لابن فارس: ج 5، 44؛ لسان العرب لابن منظور: ج 11، 534؛ تهذيب اللغة للأزهري: ج 3، 230؛ خزانة الأدب للبغدادي: ج 4، 210).

وبكلمات أخرى، فإنّ النّسب القبلي إلى الأب الواحد هو الأصل في هذه الحضارة العربيّة، وحينما تتباعد الأنساب تتحوّل القبائل إلى شعوب وتأخذ في التشعّبات: "قال الماوردي: إذا تباعدت الأنساب صارت القبائل شعوبًا، والعمائرُ قبائلَ. يعني: وتصير البطونُ عمائرَ، والأفخاذُ بطونًا، والفصائلُ أفخاذًا، والحادث من النّسَب بعد ذلك فصائل." (نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب للقلقشندي: ج 1، 8). ونظرًا لطبيعة الحياة الاجتماعيّة العربيّة فقد أضحى النّسب، الذّكوري بصورة عامّة، جزءًا هامًّا من علوم العرب منذ قديم الزّمان لما له من أبعاد اجتماعيّة وسياسيّة تتعلّق بالأحلاف القبليّة، ولاحقًا لما لهذا النّسب من تأثير اجتماعيّ كبير في إضفاء شرعيّة سلطويّة في الذهنيّة العربيّة والإسلاميّة. وقد يقول قائل، ها هم الفاطميّون قد انتسبوا إلى أنثى، فنقول إنّه حتّى هذا الانتساب إلى فاطمة، بغية البحث عن شرعيّة في حكم المسلمين، فلم يكن انتسابًا إلى الأنثى بقدر ما هو انتساب إلى الذكر، والد فاطمة، وذلك لانقطاع النّسب الذّكَري من الوالد. أي أنّ الانتساب الفاطمي هو انتساب ظاهريّ للأنثى، بينما هو في قرارته انتساب ذكري إلى والدها، بغية إضفاء شرعيّة سياسيّة تتعلّق بخلافة المسلمين. وحتّى هذا الانتساب الظاهري لم يصمد في التاريخ العربي الذكري في الأساس. فعلى سبيل المثال، بوسعنا أن نلاحظ هذا البحث المستمرّ عن الانتساب، الذكري بالذّات، لإضفاء شرعيّة سلطويّة من خلال النّظر إلى كلمات السّلام الملكي الأردني: "يا مليكَ العرب / لك من خير نبي / شرفٌ في النّسب / حدّثتْ عنه بُطون الكُتب". بينما نرى كيف يتمّ الإنتساب إلى الذكورة في المغرب العربي بحثا عن الشرعيّة من خلال انتساب الملكيّة إلى "العرش العلوي".

إنّ تفضيل الذكر على الأنثى متجذّر في الحضارة العربيّة ومنذ القدم. ويكفي النّظر إلى دلالات الأصل "ذكر" في اللّغة العربيّة لنرى مدى هذا التجذُّر، فالذّكر في العربيّة يشمل معاني الشدّة، فيقال يومٌ مُذكَّر "إِذا وُصِفَ بالشِّدّةِ والصعوبة وكثرة القتل." (لسان العرب: مادة "ذكر")، ويحمل معاني القوّة والشجاعة والأنفة والشّهامة والإباء، والمطر الشّديد الوابل، كما إنّ: "الذَّكَرُ والذَّكِيرُ من الحديد: أَيْبَسُه وأَشَدُّه وأَجْوَدُه، وهو خلافُ الأَنِيثِ، وبذلك يُسمّى السيف مُذَكَّرًا." (أنظر مادّة "ذكر" في: الصّحاح للجوهري؛ لسان العرب؛ القاموس المحيط؛ مقاييس اللّغة). ليس فقط أنّ الإسلام قد أبقى على هذه النّظرة الدونية تجاه الأنثى، بل قد ذهب أبعد من ذلك ووصل إلى شيطنتها، كما روي في الحديث: "إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان." (صحيح مسلم: ج 2، 1021؛ أنظر أيضًا: صحيح أبي داود: ج 2، 404؛ سنن البيهقي: ج 7، 80؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 1، 9079؛ العجم الكبير للطبراني: ج 24، 50). ولهذا أيضًا، فقد ذهب أبعد من ذلك، فها هي جهنّم أكثر أهلها من النّساء، كما روي في حديث آخر: "ورأيتُ النّار فلم أر كاليوم منظرًا قط، ورأيتُ أكثرَ أهلها النساء" (صحيح البخاري: ج 17، 307؛ أنظر أيضًا: سنن النسائي: ج 5، 398؛ صحيح ابن حبان: ج 16، 460؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 10، 307؛ إحياء علوم الدين للغزالي: ج 1، 407). لقد بلغ تفضيل الذكر على الأنثى في الإسلام درجة أضحى ينعكس حتّى في اختلاف القراءات القرآنية، فقد ذكر القدماء بهذا الشأن تفضيل القراءة بالياء (= مذكّر) على القراءة بالتاء (= مؤنّث): "عن الشعبي عن علقمة عن عبد الله قال: إذا شككتم في الياء والتاء فاجعلوها ياءً، فإنّ القرآنَ ذكرٌ فَذَكِّروه." (مصنف ابن أبي شيبة: ج 7، 202). فالذّكرُ في العربيّة هو الجليل الخطير، أو هو "النّصل المطبوع من خلاصة الحديد، فالمعنى: أن القرآن نبيهٌ خطيرٌ فاعرفُوا له ذلك وصفوا به." (الفائق للزمخشري: ج 2، 13؛ أنظر أيضًا: سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 1، 450). ولا تقتصر الذكورة على وصف القرآن، بل تتعدّاه أيضًا إلى الحديث، فقد ذكر الزّهري: "الحديثُ ذكرٌ يحبّه ذكورُ الرّجال ويكرَهُه مُؤنّثوهم. وأراد الزهري أنّ الحديثَ أرفعُ العلم وأجَلُّه خطرًا، كما أنّ الذكور أفضل من الإناث، فأَلِبّاءُ الرّجال وأهلُ التمييز منهم يحبّونه، وليس كالرّأي السخيف الذي يحبه سُخفاء الرجال، فضربَ التذكير والتأنيث لذلك مثلاً..." (غريب الحديث لابن قتيبة: ج 2، 229؛ أنظر أيضًا: المجالسة وجواهر العلم لأبي بكر الدينوري: 228؛ النكت على مقدمة ابن الصلاح للزركشي : ج 1، 16). وحتّى العطور والطّيوب الّتي كان يتطيّب بها العرب قد تمّ تقسيمها إلى مذكّر ومؤنّث، ووصلت الكراهية العربيّة الإسلاميّة إلى العطور والطّيوب المؤنّثة، حيث فضّلوا عليها المذكّرة: "كانوا يكرهون المُؤَنّثَ من الطّيب ولا يَرَوْنَ بِذُكْورَتِه بأْسًا." (الفائق للزمخشري: ج 1، 64؛ لسان العرب: مادة "أنث"؛ تهذيب اللغة للأزهري: ج 5، 112؛ غريب الحديث لابن الجوزي: ج 1، 362).

وهكذا نرى بوضوح تلك النّظرة السّلبيّة العربيّة للأنثى ومنذ القدم، حيث يظهر تفضيل الذكر على الأنثى في كافّة مجالات الحياة في الحضارة العربيّة، قديمها وحديثها. وربّما كان من أبرز مظاهر تفضيل الذكر على الأنثى في هذه الحضارة المشرقيّة على العموم، ما نراه في الأصل اللّغوي، حيث تمّ ربط البقاء الحضاري بصورة عامّة بالذّكر دون الأنثى. يظهر ذلك جليًّا من خلال هذا الرّبط البنيوي في اللّغة بين "الذّكَر" من جهة، وبين "الذّاكرة" من جهة أخرى، فكلاهما يعودان إلى ذات الأصل اللّغوي.

والعقل ولي التوفيق!

*** المقالة نشرت في: الأوان - منبر رابطة العقلانيين العرب

سلمان مصالحة - فهم المنطوق

سلمان مصالحة || فهم المنطوق

مسائل تراثية وأبعاد راهنة


إصدار جديد يضم مجموعة مختارة من المقالات التي نشرت في إيلاف خلال الأعوام 2004-2008.

محتويات الكتاب
ماذا يستترُ وراءَ الأكَمَة؟................................7
هل يمكن تنقية التراث من الشّوائب؟................17
كيف نقرأ سورة الفاتحة؟..............................24
هل حقًّا لا إكراه في الدّين؟...........................37
عن الإله الصحراوي، العنف والسيف ...............41
سيف الله المسلول...................................... 51
لماذا الهوس العربي بالعنف؟...........................56
هل ثَمّ خللٌ بنيوي في ثقافتنا؟.........................66
ماذا يعني المصطلح "شعب" في الذهنية العربية؟...70
الرجل العربي هو المشكلة، المرأة هي الحلّ..........76
هل البطون والأفخاذ عورة؟ ...........................83
لماذا يقتل الرّجل العربي المرأة؟ .......................88
سفينة نوح وصراع الحضارات؟ .....................96
سؤال الإسلام والسلام.................................103
هل حوار الأديان ممكن؟...............................109
هل بعض المؤمنين كفّار؟...............................114
هل الكراهية عقيدة توحيديّة؟..........................119
هل نتعلّم الضّحك على أنفسنا؟.......................154
فهم المنطوق ممّا رُويَ عن الفاروق....................159
بشرى سارّة - فتوى علمانية...........................165
هل ينتصر اليقين على الدين؟.........................173

للحصول على نسخة إلكترونية  انقر هنا.

ــــــــــــــــــــــــ

هل تعلّم الرّسول اللّغة العبريّة؟



لعلّ في العودة إلى الرّوايات التي دوّنها وحفظها لنا السّلف ما قد يُضيء بعض هذه الجوانب وقد يجلو بعض أوجه الغرابة عن هذا السؤال.

"إيلوهيم" في الإسلام

سلمان مصالحة

"إيلوهيم" في الإسلام


قبل أن نمضي قدمًا في هذا المبحث دعونا نقرأ أوّلاً الرواية التالية: "أخبرنا إسماعيل بن عبد الله بن أبي أويس المدني قال: حدّثني أبي... عن عُقبة بن بشير أنّه سأل محمد بن عليّ: مَنْ أوّل من تكّلم بالعربيّة؟ قال: إسماعيل بن إبرهيم، صلّى اللّه عليهما، وهو ابن ثلاث عشرة سنة. قال، قلتُ: فما كانَ كلامُ النّاس قبل ذلك يا أبا جعفر؟ قال: العبرانيّة. قال، قلت: فما كانَ كلامُ اللّه الّذي أنْزلَ على رُسُله وعباده في ذلك الزّمان؟ قال: العبرانيّة." (الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1، 50؛ أنظر أيضًا: الدر المنثور للسيوطي: ج 5، 517؛ الرد على الجهمية للدارمي: ج 1، 181).

إذن، بحسب هذه الرواية، فقد كان كلام الله الأوّل الّذي أنزل على الرسل باللّسان العبراني. ليس هذا فحسب، بل وبحسب ما تذكره الرّوايات الإسلاميّة أيضًا، فعلى ما يبدو، فقد كانت الكتابة العبريّة هي الأكثر شيوعًا في جزيرة العرب قبل الإسلام. فها هو ورقة بن نوفل كما دوّن لنا السّلف: "كان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب." (صحيح البخاري: ج 1، 5؛ أنظر أيضًا: البداية والنهاية لابن كثير: ج 3، 3؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 1، 15؛ أحكام القرآن لابن عربي: ج 8، 86؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 8، 561). بل ويمكننا المضيّ قدمًا في القول أكثر من ذلك، حيث ذُكر أنّ التّفسير والترجمة أيضًا من العبرانية إلى العربية قد شاعا جدًّا في جزيرة العرب في بداية ظهور الإسلام، كما روي عن أبي هريرة، حيث قال: "كان أهلُ الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسّرونها بالعربية لأهل الإسلام." (صحيح البخاري: ج 24، 425؛ أنظر أيضًا: سنن البيهقي: ج 2، 279؛ تفسير ابن كثير: ج1، 256؛ تفسير الثعالبي: ج 3، 193؛ تفسير القرطبي: ج 13، 351؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 1، 7792؛ جامع الأحاديث للسيوطي: ج 16، 194؛ فتح القدير للشوكاني: ج 1، 231).

غنيّ عن القول إنّ علاقة الإسلام بأهل الكتاب وباليهوديّة في جزيرة العرب هي علاقة وثيقة جدًّا، كما تشهد عليها أيضًا كثرة السّور والآيات القرآنية، بالإضافة إلى الأحاديث النبويّة التي تتطرّق إلى بني إسرائيل وأهل الكتاب بعامّة. لقد ذكر الرّواة أيضًا أنّ الرّسول ذاته قد حاول منذ بداية الدّعوة جاهدًا السّير على خطى اليهود واليهوديّة، ليس فيما يتعلّق بالإيمان التّوحيدي فحسب، بل في الطّقوس والفرائض. فمن ذلك على سبيل المثال، ما يتعلّق بصوم عاشوراء وهو يوم الكفّارة، أي الغفران، فقد أخرج البخاري في الصّحيح عن ابن عبّاس، قال: "قدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصومُ يوم عاشوراء، فقال ما هذا، قالوا: هذا يومٌ صالحٌ، هذا يوم نجّى اللّه بني إسرائيل من عدوّهم، فصامَه موسى، فقال: أنا أحَقُّ بموسى منكم، فصامَه وأمرَ بصيامه". (صحيح البخاري: ج 2، 704؛ أنظر أيضًا: مسند الصحابة: ج 27، 325؛ فتح الباري لابن حجر: ج 4، 247؛ عمدة القاري للعيني: ج 17، 144؛ كنز العمال للمتقي الهندي: ج 8، 575؛ اللؤلؤ والمرجان لعبد الباقي: ج 1، 331).

وفي هذه المقالة
أريد التوقّف عند أحد المصطلحات المركزيّة في الثّقافة الإسلاميّة. إنّه مصطلح ذو أهميّة بالغة، فقد ورد في القرآن وفي الأحاديث النّبويّة، كما إنّه شائع على ألسن المؤمنين وكثيرًا ما يُستعمل في التلبيات والأدعية والصّلوات الإسلاميّة على مرّ العصور، وأعني به مصطلح "اللّهُمّ".

في الظّاهر نرى أنّ المصطلح مركّب من الاسم "الله" وقد أضيفت إليه ميم مشدّدة في آخره، وهذه هي صيغة فريدة من نوعها واقتصرت في العربيّة على اسم الجلالة لا غير. لهذا السّبب فقد شغلت هذه الصيغة الفريدة والخاصّة بهذا الاسم بال المفسّرين واللّغويين منذ القدم. فقد أشار الطبري إلى هذه المسألة بالقول: "واختلف أهل العربية في نصب ميم (اللّهُمَّ)... وفي دخول الميم فيه، وهو في الأصل (الله) بغير ميم." (تفسير الطبري: ج 6، 295). ولو تتبّعنا أثر ما قاله الأقدمون في هذه المسألة، فإنّنا نرى أنّ ثمّة اختلافًا بيّنًا بينهم، فهنالك من قال إنّ الميم التي في آخر "اللّهمّ" هي بمنزلة "ياء" النّداء، وقد جاءت عوضًا عن هذه الياء التي طُرحت منه. وهنالك من قال إنّ معنى اللهمّ هو "يا أللّه أُمّنَا بخير"، أي أنّهم فسّروا ذلك بالقول، إنّ ميم اللّهمّ أصلها من "أُمَّ"، وبعدما أسقطت الهمزة انتقلت ضمّتها إلى الهاء في اللّه. لقد لخّص ابن منظور الكلام حول الخلاف في هذه القضيّة: "قال الفرّاء: معنى اللّهُمَّ: يا أللّه أُمَّ بخيرٍ. وقال الزّجّاج: هذا إقدام عظيم، لأنّ كلّ ما كان من هذا الهمز الّذي طُرح فأكثر الكلام الإتيان به، يُقال ويلُ أُمّه وويل امّه، والأكثر إثبات الهمز... وقال الزّجّاج: وزعم الفرّاء أنّ الضّمّةَ، الّتي هي في الهاء، ضمّةُ الهمزة الّتي كانت في أُمّ. وهذا مُحالٌ أنْ يُترَك الضّمُّ الّذي هو دليل على نداء المُفرد، وأنْ يُجعلَ في اسم اللّه ضمّةُ أُمَّ، هذا إلحاد في اسم اللّه... قال أبو إسحق، وقال الخليل وسيبويه وجميع النّحويين الموثوق بعلمهم: اللّهمّ، بمعنى يا أللّه. وإنّ الميم المُشدّدة عوضٌ من يا." (لسان العرب: ج 13، 470؛ بغية التوسّع في هذا الخلاف الدّائر حول هذا المصطلح يمكن العودة إلى: تفسير الطبري: ج 6، 295-298؛ تفسير القرطبي: ج 4، 53-54؛ تفسير الرازي: ج 4، 159-160؛ تفسير النيسابوري: ج 2، 234).

وهكذا، فنحن نقرأ ونسمع
في هذه الروايات أصداء هذا الخلاف الّذي أثاره مصطلح "اللّهم" منذ القدم. غير أنّ حقيقة المصطلح هي شيء آخر مختلف تمامًا، على ما يبدو. ومن أجل الوقوف على هذه الحقيقة، حريّ بنا أن نقتفي أوّلاً أثر انتقال هذا المصطلح إلى العربيّة. إذ أنّ هذا الاقتفاء المُتّئِد سيضع في أيدينا مفتاحًا نستطيع بواسطته فتح مغاليق هذه المسألة. وذلك، لكي يضع قولنا النّقاط على الحروف المبهمات، ويكون في نهاية المطاف قولاً فصلاً في الخلاف الذي دار منذ القدم.

من الملاحظ أنّ الرّوايات العربيّة التي تتطرّق إلى المصطلح "اللهمّ" تحيلنا إلى كونه ذا علاقة وثيقة بالشّاعر أميّة بن أبي الصّلت بالذّات، حيث رُوي: "ويُقال إنّ أميّة قدَّمَ على أهل مكّة (باسْمِكَ اللّهُمَّ) فجعلوها في أوّل كُتبهم مكانَ (باسم اللّه الرّحمن الرّحيم)." (الأغاني للأصفهاني، ج 4، 130؛ أنظر أيضًا: مروج الذهب للمسعودي: ج 1، 25؛ صبح الأعشى للقلقشندي: ج 1، 480). وهكذا شاع استعمال هذه الصيغة لدى قريش في الحجاز في افتتاح الرسائل، حتّى إنّ الرسول ذاته قد افتتح رسائله بها: "وبلغنا أن رسول الله - صلعم - كتب في بدء الأمر على رسم قريش: (باسمك اللهم) حتى نزلت: {وقال اركبوا فيها باسم الله} فكتب: (بسم الله)، حتى نزلت: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان}، فكتب: (بسم الله الرحمن)، حتى نزلت: {إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم}، فكتب مثلها." (الكشف والبيان للثعلبي: ج 1، 16؛ أنظر أيضًا: صبح الأعشى للقلقشندي: ج 1، 480؛ المفصل لجواد علي: ج 1، 4889). فإذا كان أميّة بن أبي الصّلت هو الّذي أدخل هذا المصطلح إلى مكّة، على ما تفيد الرّوايات العربيّة، فمن أين استقى أميّة هذا المصطلح، وما هي مصادر ثقافته؟

وللإجابة على ذلك، نعود مرّة أخرى إلى الرّوايات العربيّة للاستعانة بها. لقد أورد الأصفهاني حكاية الإتيان بهذا المصطلح من الشّام. فقد رُوي أنّ أميّة كان قد أخذه عن دَيّار في كنيسة في طريق عودة وفد ثقيف من الشّام في حكاية المرأة اليهوديّة المتمثّلة بعظاية التي نفّرت الإبل، حيث تضيف الرواية أنّ أميّة نزل على ديّار في كنيسة واستعان به، فأشار عليه الدّيّار أن يقول: "سبع من فوق وسبع من أسفل باسمك اللهم فلن تضركم."، وهكذا كان. وبعد عودتهم إلى مكّة "ذكروا لهم هذا الحديث فكان ذلك أول ما كتب أهل مكة باسمك اللهم في كتبهم." (الأغاني للأصفهاني، ج 4، 133-134). وبغض النّظر عن هذه الخرافة الشعبيّة، إلاّ أنّ الملاحظ فيها هي ارتباط شخوصها بأميّة بن أبي الصّلت، بامرأة يهوديّة متمثّلة خرافيًّا بعظاية، وبراهب أو كاهن في كنيسة. غير أنّ الزمخشري يضيف بشأن خلفيّة أميّة الثّقافيّة، حيث يذكر: "كان داهية من دواهي ثقيف... ولذلك درسَ الكتبَ، وكان طَلاّبةً للعلم عَلاّمةً، معروفًا بالجولان في البلاد، راويةً." (ربيع الأبرار للزمخشري: ج 1، 126)، وبراوية أخرى: "وكان أمية بن أبي الصلت قد قرأ الكتبَ واتّبعَ أهلَ الكتاب." (البدء والتاريخ لابن المطهر: ج 1، 103). ليس هذا فحسب، بل إنّ أميّة هذا قد بلغ من علم أهل الكتاب مبلغًا كبيرًا: "وكان بعض العلماء يقول: لولا النبي - صلعم - لادّعت ثقيف أن أمية نبي، لأنه قد دارسَ النصارى وقرأ معهم، ودارسَ اليهودَ، وكلَّ الكتب قَرأ." (الاشتقاق لابن دريد: ج 1، 97؛ أنظر أيضًا: البدء والتاريخ لابن المظهر: ج 1، 103). بل وأكثر من ذلك، فهنالك روايات تذهب أبعد من ذلك حول الخلفيّة الدينيّة الّتي نشأ فيها أميّة بن أبي الصّلت، حيث تذكر هذه الروايات إنّه كان ينتمي إلى طائفة من اليهود الّذين تنصّروا: "وزعم الكلاباذي أنّه كان يهوديًّا." (فتح الباري لابن حجر: ج 11، 158؛ أنظر أيضًا: فيض القدير للمناوي: ج 1، 57).

وعلى ما يبدو، فقد كان هذا هو السّبب من وراء عدم احتجاج العلماء بشعر أميّة، كما روى الأصفهاني: "عن عبدالله بن مسلم، قال: كان أميّة بن أبي الصّلت قد قرأ كتاب الله عزّ وجلّ الأوّل، فكان يأتي في شعره بأشياء لا تعرفُها العربُ...، وقال ابن قتيبة: وعلماؤنا لا يحتجّون بشيء من شعره لهذه العلّة." (الأغاني للأصفهاني: ج 4، 128-129). فما معنى القول، إنّ أمية كان يأتي في شعره بأشياء لا تفهمها العرب؟ والجواب على ذلك واضح، ويمكن اختصاره في أنّه كان يأتي بمفردات ومصطلحات من أصول غير عربيّة، وعلى وجه الخصوص من الأصول التي كان قرأها في "كتاب اللّه عزّ وجلّ الأوّل"، أي من كتاب أهل الكتاب، وهو التّوراة المكتوبة باللّغة العبريّة. كما إنّ مقولة "عدم احتجاج العلماء بشعره" مردّها إلى هذا السّبب. ولهذا السّبب بالذّات فقد احتار القدماء واختلفوا بشأن مصطلح "اللهم" الّذي أدخله أمية بن أبي الصّلت إلى مكّة، فطفق أهل اللّغة يبحثون عن تعليل لهذه الصّيغة الشّائعة والفريدة.

والحقيقة هي أنّهم لو كانوا يعرفون
اللّغة العبريّة، لهان الأمر عليهم كثيرًا. ولكي لا أبقي مجالاً للشكّ في ما أرمي إليه من أنّ هذه المفردة هي مفردة عبريّة، دعونا نذهب ونقرأ ما ذكره سيبويه بشأن "اللّهمّ"، فقد أشار إليها سيبويه في كتابه: "وقال الخليل رحمه اللّه: اللّهمّ نداء والميمُ ها هنا بدلٌ من يا، فهي ها هنا فيما زعم الخليل رحمه اللّه آخر الكلمة بمنزلة يا في أوّلها. إلاّ أنّ الميم ها هنا في الكلمة، كما أنّ نون المسلمين في الكلمة، بُنيت عليها." (الكتاب لسيبويه: ج2، 196-197). لقد ذكر الفرّاء أيضًا أنّ الميم في آخر الاسم قد تأتي مخفّفة بغير شدّة: "وقد كثرت اللهم فى الكلام حتى خُفّفت ميمها فى بعض اللغات." (معاني القرآن للفراء: ج 1، 184)، كما أشار ابن منظور إلى أنّ الأصل في ميم "اللهم" هو التسكين لا التّحريك: "والميمُ مفتوحةٌ لسُكُونها وسُكُون الميم قبلها." (لسان العرب: ج 13، 470).

إذن، المفتاح الّذي نفتح به مغاليق هذا المصطلح هو في هذه الإشارات إلى الميم المضافة في آخر "اللهم"، بدءًا بما ذكره سيبويه بشأنها، حيث قال: "إلاّ أنّ الميم، ها هنا في الكلمة، كما أنّ نون المسلمين في الكلمة، بُنيت عليها". فما هي نون المسلمين هذه؟ هذه النّون، كما يعلم الجميع، هي نون جمع التّسليم في العربيّة، وهي نون مبنيّة. إذن، فالميم في مصطلح "اللهم" هي ميم مبنيّة شبيهة بنون المسلمين، أي هذه النّون الّتي تفيد الجمع في العربيّة. ومثلما أنّ نون المسلمين تفيد جمع المسلم في العربية، كذا هي الحال مع هذه الميم بالذّات في "اللهم"، فهي أيضًا ما يفيد الجمع، لكن في اللّغة العبريّة بالذّات. فعلى سبيل المثال، كلمة يهودي تُجمع في العبريّة: يهوديم، وكلمة عربي تُجمع: عربيم، وسعودي تُجمع: سعوديم، وعراقي تجمع: عراقيم، وكذا هي الحال أيضًا في جمع إله في العبريّة، حيث تُجمع وتُكتب: "إلهيم" (بالحرف العبري = אלהים) وتلفظ إيلوهيم، أيضًا بتخفيف وتسكين الميم في هذا الاسم في الأصل العبراني.

من هنا نصل إلى الاستنتاج الّذي لا مفرّ منه وهو أنّه وبعد أن أدخل أميّة بن أبي الصّلت، اليهودي الأصل الّذي "قرأ كتاب الله عزّ وجلّ الأوّل" بحسب الرواية الإسلاميّة، ومن كثرة استعمال كلمة "إلهيم" العبريّة في جزيرة العرب، فقد بقي هذا الاسم العبراني على ما هو عليه، عبرانيًّا في نطقه، أي "إلهيم" بصيغة الجمع العبريّة. ثمّ تحوّل مع مرور الزّمن حتّى رسا الاسم على هذه الصّورة "اللّهم" في العربيّة، وبقيت معه ميم الجمع العبريّة شاهدةً بالتّسكين والتّخفيف، لغةً ونطقًا، على أصله العبراني.

وخلاصة القول هي أنّ تعبير "اللهم" في العربيّة هو ذاته "إلهيم" في العبريّة، بتصحيف وتحريف خفيف. لكن، ونظرًا لغرابة هذه الصيغة الفريدة المقتصرة على اسم الجلالة، فقد اختلف أهل التّفسير واللّغة فيه. وهكذا يمكننا القول، مرّة أخرى، إنّهم لو كانوا على علم باللغة العبريّة لكان أمر المصطلح "اللهم" [= إلهيم] جليًّا واضحًا، ولما كان التبس عليهم إلى هذا الحدّ.

والعقل ولي التوفيق
***

المقالة نشرت في: الأوان - منبر رابطة العقلانيين العرب

***
أنظر أيضًا:

المقالة الأولى: "يهوه" التوراتي في الإسلام
المقالة الثانية: كيف انتقل :يهوه" إلى الإسلام؟
المقالة الثالثة: "إهيه أشر إهيه" في التراث الإسلامي

"إهيه أشر إهيه" في التراث الإسلامي


سلمان مصالحة

"إهيه أشر إهيه" في التراث الإسلامي


سنقتفي في هذا البحث
أثر المصطلح التّوراتي الآخر الّذي ذكره "يهوه" لموسى في سفر الخروج اسمًا له، وسنرى كيف ظهر هذا المصطلح لفظًا ومعنًى في التّراث الإسلامي. وهذا المصطلح الّذي نعنيه هو المصطلح المركّب "إهْيِهْ أَشِرْ إهْيِهْ" (= أكون الّذي أكون)، وهو مشتقّ أيضًا من ذات الجذر العبري الّذي يدلّ على معنى الكون، كما ويُعتبر مرادفًا للاسم الأعظم للّه في العقيدة اليهوديّة.

كيف انتقل "يهوه" إلى الإسلام؟


سلمان مصالحة

كيف انتقل "يهوه" إلى الإسلام؟


صيغة "يهوه" التّوراتيّة:
لقد رأينا، استنادًا إلى ما ورد في التّوراة، أنّ ثمّة إجماعًا في التّراث الدّيني اليهودي على أنّ المصطلحات العبريّة "إهْيِهْ"، و"إهْيِهْ أَشِرْ إهْيِهْ"، ثمّ الصّيغة الأكثر شيوعًا ألا وهي صيغة "يهوه"، هي الاسم الصّريح، الاسم الأعظم والأقدس للّه، ولذلك فهو لا يُلْفظ كما هو بل يُلفظ "أدوناي"، وذلك حذر الانتقاص من هذا الاسم الأعظم. وعلى ما يبدو، يستند هذا الحظر على التّلفُّظ بالاسم الصّريح "يهوه" إلى ما ورد في الكلمة الثالثة، من بين الكلمات (= الوصايا) العشر، الّتي ذكرها اللّه في التّوراة: "لا تَنْطِقِ اسْمَ يهوه إلهكَ سَوْءًا: فَلَنْ يُبَرِّئَ يهوه الَّذِي يَنْطِقُ اسْمَهُ سَوْءًا." (خروج، فصل 20: 6).

لقد لعب يهوه دورًا كبيرًا على مرّ التاريخ اليهودي، واستنادًا إلى ما ورد في التّوراة هنالك من يذهب بعيدًا في التّفسير الأسطوري فيقول إنّ الاسم "يهوه" كان منقوشًا على سيف الملك داود لدى لقائه مع جوليات: "فَقَالَ دَاوُدُ للفلِسْطِيّ: أنْتَ تَأْتِي إلَيَّ بِسَيْفٍ وَبِقَنَاةٍ وَبِرُمْحٍ، وَأَنَا آتِي إلَيْكَ بِاسْمِ يهوه صباؤوت [= الأجْناد]، إلهِ مَعَاركِ إسْرائيلَ الّذِي جَدَّفْتَهُ." (صموئيل الأول، فصل 17: 45)، أو أنّ الاسم كان منحوتًا حتّى على عصا موسى، بحسب الأسطورة.

من الجدير بالذّكر أنّ اللغة العبرية، على غرار العربيّة، تشتمل على حركات تُثبت على الحروف، وهي حركات قد تغيّر من لفظ الكلمات ودلالاتها. ولهذا السّبب لا يوجد إجماع على حركات تشكيل الاسم "يهوه" في الموروث اليهودي. هنالك من قال إنّ الاسم يُلفَظ "يِهْوِهْ"، وهنالك من قال بأنّ الاسم يُلفَظ "يِهُوَهْ"، غير أنّ الأبحاث المعاصرة تقول إنّ اللّفظ الدّقيق للاسم في الماضي كان "يَهْوِهْ"، وذلك استنادًا إلى ورود الاسم المُقدّس بصورة مختصرة "يَهْ"، والّذي يُعتَقَد بأنّه اختصارٌ للاسم الصّريح للّه. فقد ورد في المزامير على سبيل المثال: "مُبَارَكٌ يهوه إلهُ إسْرائيلَ، مُنْذُ الأَزَلِ وَإلَى الأَبَدِ -- فَقَالَ كُلُّ الشَّعْبِ: أَمِنْ، هَلِّلُوا يَهْ." (مزامير 106: 48). يُشار هنا إلى أنّ عبارة "أَمِنْ، هَلِّلُوا يَهْ" هذه، هي أصل عبراني توراتي وتعني: آمَنْتُ [= لَبَّيْكَ]، الحَمْدُ لِلّهِ. وقد شاعت كتابتها ولفظها "آمين، هَلِّلُويَا"، كما وردت في الأصل العبري، وكذا تظهر في الترجمات العربيّة، وغير العربيّة، للتّوراة.

أمّا من ناحية الدّلالة
المعزوّة للمصطلح "يهوه" في اليهوديّة، فقد أشار راشي في تفسيره، إلى أنّ هذا الاسم فيه ما يدلّ على الجوهر الحقّ للإله. وذكر مُفسّرون آخرون أنّ هذا الاسم ينماز عن سائر الأسماء بأنّه خاصّ بالله ولا يشاركه فيه أحد، وهو بمثابة اسم شخصيّ يتفرّد به الإله، ولهذا السّبب أيضًا فقد أُطلق عليه مصطلح "الاسم الصّريح"، أو الاسم الأقدس. بالإضافة إلى ذلك، يُشار هنا أنّ الصيغة العبريّة التّوراتيّة للاسم "يهوه" هي صيغة فريدة بذاتها، وهي صيغة خاصّة بالإله الّذي لا شريك له، مثلما أنّ الصيغة أيضًا فريدة ولا شريك آخر لها في اللّغة.

إنّ هذه الصيغة للاسم "يهوه" مشتقّة من الجذر العبريّ "هاء واو هاء" وهو الجذر الّذي يحمل معنى "الكون" [= مصدر الفعل كان، يكون]. فالفعل الماضي منه في اللّغة العبرية هو: "هَيَهْ" [= كان]، والحاضر: "هُوِهْ" [= كائن]، والمستقبل: "يِهْيِهْ" [= يكون]، والمستقبل بضمير المتكلّم هو: "إهْيِهْ" [= أكون]. من هنا فإنّ التّعبير التّوراتي "إهْيِهْ أَشِرْ إهْيِهْ"، والذي ورد على لسان الله لدى تكليمه موسى من جوف العوسجة المحترقة، يعني: أكُونُ الّذِي أكُونُ. وهكذا فإنّ المصطلح "يهوه"، أي الاسم الصّريح الأعظم لله الّذي يرد في التّوراة، هو صيغة عبريّة مُركّبة من الماضي والحاضر والمستقبل، وهو يشير بحسب العقيدة اليهوديّة إلى طبيعة هذا الإله، ألا وهي الكون، أي الوجود، في الماضي منذ القدم -الأزل-، والكائن في الحاضر، والّذي يكون في المستقبل إلى الأبد.

كيف انتقل هذا الاسم إلى الإسلام؟
من أجل الإجابة على هذا السؤال دعونا نعود إلى التراث الإسلامي لنستقرئ ما دوّنه لنا السّلف بهذا الخصوص. فلنبدأ ولنقرأ معًا هذا الحديث: "عن أنس بن مالك، قال: كنت جالسًا مع النبي صلعم في المسجد، ورجل يصلي فقال: اللهم إنّي أسألك بأنّ لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم أسألك. فقال النبي صلعم: هل تدرون ما دعا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى." (شرح السنّة للبغوي: ج 2، 390؛ إنظر أيضًا: صحيح أبي داود: ج 1، 279؛ الأسماء والصفات للبيهقي: ج 1، 340؛ الدعاء للطبراني: ج 1، 123؛ مشكل الآثار للطحاوي: ج 1، 181).

بعد قراءة هذا الحديث يعلو السؤال: ما هو، إذن، هذا الاسم الأعظم للّه الّذي يذكره النبيّ في الحديث؟ هل هو اللّه، أم المنّان أم البديع، أم ذو الجلال والإكرام، أم الحي أم القيوم؟ إذ أنّ الحديث المذكور آنفًا يشتمل على أكثر من صفة أو اسم للّه، كما أنّه لا يُفصح عن هذا الاسم الأعظم من بين هذه الأسماء الحسنى الواردة في دعاء الرّجل.

من أجل الوصول إلى إجابة واضحة على هذا التّساؤل، نحن مضطرّون إلى مواصلة البحث واستقراء المأثورات الإسلاميّة. وها هي الرّوايات التّالية تدفع بنا قدمًا نحو الإجابة على السؤال: "عن أسماء بنت يزيد: أن النبي صلعم قال: اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم}، وفاتحة آل عمران {الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم}." (سنن الترمذي: ج 5، 517؛ أنظر أيضًا: شرح السنة للبغوي: ج 2، 392؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 17، 417؛ أنظر أيضًا: مسند ابن حنبل: ج 6، 461؛ مصنّف ابن أبي شيبة: ج 6، 47؛ الدر المنظّم في الاسم الأعظم للسيوطي: ج 1، 2)، وفي رواية أخرى: "عن أبي إمامة عن النبي صلعم، قال : إنّ اسم الله الأعظم لفي سور من القرآن ثلاث: البقرة وآل عمران وطه." (الكشف والبيان للثعلبي: ج 2، 62؛ أنظر أيضًا: معارج القبول للحكمي: ج 1، 208؛ مشكل الآثار للطحاوي: ج 1، 184؛ الدر المنظّم للسيوطي: ج 1، 2).

فماذا يوجد في هذه السّور الثّلاث؟ وما هي المصطلحات التي ترد فيها وتدلّ على اسم اللّه الأعظم، وليست موجودة في غيرها؟ على هذا السؤال تجيب الرّواية التي يوردها الطحاوي: "... قال أبو حفص: فنظرت في هذه السور الثلاث، فرأيتُ فيها أشياء ليس في القرآن مثلها: آية الكرسي {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}، وفي آل عمران: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}، وفي طه: {وعنت الوجوه للحي القيوم}... فثبتَ بذلك أن اسم اللّه الأعظم هو: الحيّ القيّوم." (مشكل الآثار للطحاوي: ج 1، 184؛ أنظر أيضًا: تفسير القرطبي: ج 3، 271؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 2، 62؛ بحر العلوم للسمرقندي: ج 1، 238؛ فتح القدير للشوكاني: ج 1، 510؛ الدر المنظّم في الاسم الأعظم للسيوطي: ج 1، 2).

من أين، إذن، جاء
هذا المفهوم القائل بأنّ هذا المصطلح، "الحيّ القيّوم"، هو الاسم الأعظم للّه؟ قبل الإجابة على السؤال، من الجدير بالذكر أوّلاً أنّ تعبير الـ"قيّوم" هذا هو صيغة عربيّة إسلاميّة مُستَحدَثَة، وليست من التّراث اللّغوي العربي الجاهلي. والصّيغ المستحدَثَة ابتغاء إفادة معانٍ ودلالات جديدة في اللّغة عادة ما تأتي وتتطوّر بتأثير الاتّصال بلغات وحضارات أخرى. ومنذ القدم أثارت هذه الصيغة المُستحدَثة الكثير من التّساؤلات اللّغويّة: "قال ابن كيسان: القيّوم فَيْعُول من القيام وليس بفَعُّول، لأنه ليس في الكلام فَعُّول من ذوات الواو، ولو كان ذلك لقيل قَوُّوم. والقَيّام فَيْعَالٌ أصله القَيْوَام، وأصلُ القَيُّوم القَيْوُوم." (معاني القرآن للنحّاس: ج 1، 260-261؛ أنظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 6، 155-159؛ التبيان في إعراب القرآن للعكبري: ج 1، 106؛ تفسير اللباب لابن عادل: ج 3، 243؛ الدر المصون للحلبي: ج 1، 932).

ولكن، وقبل المضيّ قدمًا في بيان هذا الجانب، حريّ بنا أن نذكر أنّ ثمّة قراءات أخرى مختلفة للنّصّ القرآني، فـ"القيّوم" ليست هي القراءة الوحيدة للنّصّ. فهنالك قراءة أخرى هي "قَيِّم"، وهنالك قراءة أخرى ثالثة مختلفة وهي "قَيّام" كما قرأ عمر بن الخطّاب وابن مسعود: "قرأ عمر وابن مسعود (القيّام) وقرأ علقمة (القَيِّم) وكلّها لغات بمعنى واحد." (تفسير البغوي: ج 1، 312؛ حول اختلاف القراءات، أنظر أيضًا: صحيح البخاري: ج 6، 2709؛ أنظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 6، 155؛ الكشف والبيان للثعلبي: 2، 62؛ معاني القرآن للفراء: ج 1، 172؛ تغليق التعليق لابن حجر العسقلاني: ج 4، 4؛ فتح الباري لابن حجر العسقلاني: ج 13، 430؛ عمدة القاري للعيني: ج 36، 117؛ الدر المصون لـلحلبي: ج 1، 932؛ المسند الجامع لأبي المعاطي النوري: ج 19، 179؛ معاني القرآن للنحّاس: ج 1، 260).

وبشأن هذه الاختلافات في قراءة النصّ القرآني فإنّي أميل إلى الاعتقاد بأنّ قراءة عمر بن الخطّاب وابن مسعود هي الأقرب إلى الصّواب على ما يبدو. فمثلما أنّ مصطلحات أخرى انتقلت من العبريّة إلى القرآن، كذا هي الحال بخصوص قراءة "الحيّ القيّام"، إذ أنّها هي الأخرى على ما يبدو منقولة من العبريّة. فهذه الصّيغة "حيّ وقيّام" هي صيغة عبريّة قديمة، وقد وردت في التلمود في أوصاف الإله، إذ نقرأ بشأن الإله: "مَلِكٌ إلهٌ حيّ وَقَيّام، جَلّ وَتَعالَى..." (التلمود البابلي، باب الاحتفال: صفحة 13 أ، چماراه)، كما نقرأ أيضًا: "مَلِكُ مُلُوكِ المُلوكِ القدُّوس المُبارَك الّذي هو حَيّ وَقَيّام إلَى الأبَد وإلَى أبَد الآبدين..." (التلمود البابلي، باب البركات: ص 28 ب، چماراه؛ ص 32 أ، چماراه؛ أنظر أيضًا: التلمود الأورشليمي: باب سنهدرين، ص 30 أ، فصل 6). وفي هذا السّياق، يُشار هنا إلى أنّ المفردة العبريّة "قيّام" الواردة في هذه النّصوص القديمة معناها: قائمٌ، كائنٌ، موجودٌ.

يمكننا العثور على تعزيز لهذا التصوّر
فيما دوّنه لنا السّلف من نصوص: "والقيّوم مبالغة من القيام، وهو الثباتُ والوجود. وهذا دليل على اتصافه بالوجود في جميع الأحوال وأنّه لا يجوز وصفه بالعدم بحال، وذلك حقيقة القدم." (التبصير في الدّين للإسفراييني: ج 1، 155). أو أنّه، بكلمات أخرى، كما يروى: "هو الحي القيوم الذي لا يموت ولا يزول أبدا. ويقال الحي الذي لا بادىء له... وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال: الحيّ قبل كل حيّ، والحيّ بعد كل حيّ، الدائم الذي لا يموت." (بحر العلوم للسمرقندي: ج 1، 238؛ أنظر أيضًا: معاني القرآن للنحّاس: ج 1، 259). أي أنّ صفة القيّوميّة هذه قائمة منذ الأزل وإلى الأبد: "فصفات الخالق الحي القيوم قائمة به، لائقة بجلاله، أزلية بأزليته، دائمة بديموميته، لم يزل متّصفًا بها ولا يزال كذلك، لم تُسبق بضدّ ولم تعقب به، بل له تعالى الكمالُ المطلق أوّلا وأبدًا، ليس كمثله شيء." (معارج القبول للحكمي: ج 1، 211؛ أنظر أيضًا: قوت القلوب لأبي طالب المكّي: ج 1، 492). كما تذكر الرّوايات الإسلاميّة أنّ اسم الحيّ القيّوم متضمّنٌ لجميع الصّفات الفعليّة للإله: "ولهذا ورد أنّ الحيّ القَيُّوم هو الاسم الأعظم." (التّنبيهات اللّطيفة للسعدي: 23).

وهكذا يتّضح لنا أنّ دلالة الاسم "الحيّ القيّوم"، أو "القيّام" بحسب القراءة الأخرى للنصّ القرآني، هي ذات الدّلالة لـ"يهوه" التوراتي، كما نجدها في المأثورات اليهوديّة. ليس هذا فحسب، بل يمكننا القول إنّ مصطلح "الحيّ القيّوم" هو استنساخ ونقل وترجمة إسلاميّة لمصطلحات عبريّة توراتيّة وتلموديّة تتعلّق بـ"يهوه"، الاسم الصّريح والأعظم لله في اليهوديّة، كما تتعلّق أيضًا بالمصطلح التّوراتي المركّب "إهْيِهْ أشرْ إهْيِهْ" الّذي ذكره اللّه لموسى في البريّة: "فَقَالَ اللّهُ لِمُوسَى: (إهْيِهْ أشِرْ إهْيِهْ)، وَقَالَ: كَذَا تَقُولُ لِبَنِي إسْرائيلَ: (إهْيِهْ) أَرْسَلَنِي إلَيْكُمْ... هذا اسْمِي إلَى الأَبَدِ، وَهذا ذِكْرِي إلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ." (سفر الخروج، فصل 3: 10-15). وحول هذه المسألة بالذّات، ولكي تكتمل الصّورة وتتضّح بجميع جوانبها، سأفصّل الحديث في المقالة القادمة.

والعقل ولي التّوفيق.
***


***
أنظر المقالة الأولى: "يهوه" التوراتي في الإسلام.

هل نتعلّم الضّحك على أنفسنا؟


سلمان مصالحة

هل نتعلّم الضّحك على أنفسنا؟

ليست الصّورة الكاريكاتوريّة
الّتي يرسمها فنّان هي صورة طبق الأصل للشّخص المرسوم. فمن أجل أخذ صورة طبق الأصل لشخص ما، هنالك آلات أخرى تقوم بهذه العمليّة على أفضل وجه، كالكاميرات مثلاً. أمّا الصّورة الكاريكاتوريّة فهي رسمة تُركّز على سمة معيّنة ظاهرة في الشّخص، يقوم الرّاسم كما يحلو له بإبرازها والتّركيز عليها بمقاييس غير طبيعيّة بغية التّنبيه إليها. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فالأنف الطوّيل والمعقوف في الرّسوم الكاريكاتوريّة الشّهيرة ليس هو أنف الشّخص في الحقيقة. ومثلما هي الحال في الأمور الجسديّة، كذلك هي الحال في الرّسوم الكاريكاتوريّة الّتي تتطرّق إلى فكرة ما، أو وضع ما، أو موضوع ما إلى آخره.

وإذا ما ابتغينا الولوج في هذه المسألة، فالرّسم الكاريكاتوري، على العموم، لا يأتي من فراغ. إنّما هو تصوّر شائع في ذهنيّات النّاس حول شخص، أو فكرة أو موضوع. أمّا قوّة الكاريكاتير فقد تزيد أو تنقص، وهي منوطة بمهارة الفنّان الّذي يقوم بتنفيذ هذا الرّسم ووضعه أمام القارئ المشاهد في الصحيفة أو في الكتاب أو على الشّاشة. والقوّة المنوطة بالكاريكاتير هي قوّة مردّها إلى اختزال ما يدور في خلد أكبر عدد من النّاس من أمور تشغل بالهم، وذلك من خلال لفتة ما، أو في جملة ما تصنعها ريشة الفنّان.

وعلى العموم، يمكننا القول
إنّ اللّغة البشريّة هي أساس معرفتنا بالعالم المحيط بنا. لا توجد معارف بدون هذه اللغة، أي مجموع الأصوات الّتي يُجمع البشر على ما ترمز إليه هذه الأصوات الّتي تشكّل اللّغات البشريّة على اختلافها. فمثلاً، لا نستطيع أن نفهم مصطلح "شجرة" عندما نمرّ عليه في كتاب أو صحيفة، دون أن تتصوّر في ذهننا تلك الصّورة القريبة منّا والّتي صارت هذه الحروف والأصوات ترمز إليها. كذلك الأمر في ما يخصّ مصطلحات مثل: بيت، أو بحر، أو سفينة إلى آخر ما تحمله لغات البشر من أصوات المفردات المختلفة. وبكلمات أخرى، فإنّنا عندما نسمع أو نقرأ مصطلحات لغويّة فإنّنا نقوم بتصويرها في ذهننا على شاكلة ما أجمع عليه النّاس في لغتنا البشريّة على اختلاف رموزها وأصواتها، منذ طفولتنا المبكّرة وحتّى المراحل المتقدّمة في مسيرة حياتنا. واللّغات الّتي تختزل المعارف البشريّة، لو تفكّرنا فيها قليلاً لوجدناها مليئة بهذه الرّسومات والتّصاوير الذّهنيّة. ولولا قدرتنا العقليّة على تصوّرها وتصويرها في ذهننا لما وصلنا إلى المدارك والمعارف أصلاً، ولما قامت اللّغة البشريّة بوظيفتها في دفع الشّعوب قدمًا في فهم العالم وفي اعتلاء ركب العلم والتّطوّر.

من هذه النّقطة بالذّات،
دعونا ننظر في ما تحمله لنا بعض الرّوايات من تراثنا العربي. لنقرأ معًا هذه الرّواية، كما يوردها ابن كثير: "لما فتح الله على نبيه صلى الله عليه وسلم خيبر أصابه من سهمه أربعة أزواج بغال وأربعة أزواج خفاف، وعشر اواق ذهب وفضة، وحمار أسود، ومكتل، قال: فكلم النبي صلى الله عليه وسلم الحمار فكلمه الحمارُ، فقال له: ما اسمُك؟ قال: يزيد بن شهاب، أخرج الله من نَسْل جَدّي ستين حمارًا، كُلّهم لم يركبهم إلا نبيّ، لم يبقَ من نَسْل جَدّي غيري، ولا من الأنبياء غيرك، وقد كنتُ أتوقّعُك أن تركبني. قد كنتُ قبلك لرجلٍ يهودي، وكنت أعثرُ به عمدًا، وكان يُجيعُ بَطْني ويَضْربُ ظَهْري، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سمّيتك "يعفورًا". يا يعفور! قال: لبيكَ، قال: تشتهي الإناثَ؟ قال: لا. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يركبه لحاجته، فإذا نزل عنه بعثَ به إلى باب الرجل فيأتي الباب فيقرعه برأسه، فإذا خرج إليه صاحبُ الدّار أومأ إليه أن أجبْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، يعني إلى الإسلام (عن البداية والنّهاية لابن كثير. ويمكن مراجعة الخبر باختلافات طفيفة في: تاريخ دمشق لابن عساكر، إمتاع الأسماع للمقريزي، قصص الأنبياء للرّاوندي، بحار الأنوار للمجلسي، الشّفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض، وغيرهم).

ولنقرأ معًا على سبيل المثال
رواية أخرى من تراثنا العربيّ، ألا وهي رواية الأعرابي والضبّ الّذي يتحدّث بلسان عربيّ مُبين، كما يوردها الطّبراني في المعجم الصّغير: "عن عبد الله بن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في محفل من أصحابه إذ جاء أعرابي من بني سليم قد صاد ضبًّا وجعله في كمّه يذهب به إلى رحلة، فرأى جماعةً فقال: على من هذه الجماعة فقالوا على هذا الذي يزعم أنه نبي فشقّ الناس. ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمّد، ما اشتملت النساءُ على ذي لهجة أكذب منك وأبغض إليّ منك... فقال واللات والعزّى، لا آمنتُ بك أو يُؤْمنَ بك هذا الضبّ. فأخرج الضبّ من كمّه وطرحه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن آمنَ بك هذا الضب آمنتُ بك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ضبّ! فتكلمَ الضبُّ بلسان عربيّ مُبين يفهمُه القومُ جميعًا: لبّيكَ وسَعْدَيْك يا رسول رب العالمين! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تعبد؟ قالَ الذي في السماء عرشُه وفي الأرض سلطانُه وفي البحر سبيلُه وفي الجنة رحمتُه وفي النار عذابُه. قال: فمَنْ أنا، يا ضبّ؟ قال: أنتَ رسولُ رب العالمين وخاتم النبيين، قد أفلح من صدقك وقد خاب من كذبك". (عن: الطبراني، المعجم الصغير، وكذلك يرد هذا الخبر لدى أبي نعيم الأصبهاني في دلائل النّبوّة).

كما يمكننا أن نذكر
ما رواه البخاري مثلاً في صحيحه: "عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: التثاؤُب من الشّيطان فإذا تثاءبَ أحدُكم فليردّه ما استطاعَ. فإنّ أحدَكم، إذا قالها ضحكَ الشيطان"، أو ما روي مثلاً في سنن أبي داود في كتاب الطّهارة عن وفد الجنّ الّذي قدم إلى رسول الله وطلب منه أن ينهى أمّته أن يستنجُوا بالعظام لأنّ الله تعالى "جعلَ لنا فيها رزقًا"، فنهى رسول الله عن ذلك.

إذن، وبعدما عرضنا هذه الرّوايات العربيّة التّراثيّة،
فإذا ما قام الواحد منّا مثلاً بقراءة هذه النّصوص فما من شكّ، ولطبيعة التّصوير الّتي تفرضها علينا اللّغة كما أشرنا لها آنفًا، أنّ حقيقة هذه الرّوايات لن تصل مداركه إلاّ من خلال تصويرها في ذهنه. وهذا التّصوير هو بلا أدنى شكّ أيضًا أشدّ وقعًا وأسوأ بكثير من من تلك التّصاوير الكاريكاتوريّة الدّنمركيّة الّتي أثارت العرب والمسلمين. فإذا كانت تلك الرّسوم الكاريكاتوريّة تستثير هؤلاء، كيف ذا لا تستثيرهم هذه الرّوايات التّراثيّة الكاريكاتوريّة الّتي يصوّرونها في أذهانهم لدى قراءتها.


إذن، وبعد عرض هذا النّزر اليسير من روايات تراثيّة، وتراثنا يعج بمثلها، لنذهب إلى قراءة تراثنا قراءة ثاقبة، ولنضحكْ قليلاً. وليضحكْ العالم معنا، وعلينا، أيضًا.

أليس كذلك؟

***

نشر: إيلاف، 24 فبراير 2006

"سبحان الذي أسرى"


سلمان مصالحة ||

"سبحان الذي أسرى"

لا شكّ أنّ حدث الإسراء  
كما ورد ذكره في الآية: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله" والتي تفتتح السورة القرآنية التي سُمّيت به، هو أحد أهمّ الأحداث التي رافقت بدايات نشوء الدّعوة الإسلاميّة. كما أنّه يندرج في صلب التّصوّرات الّتي انبنت عليها هذه الدّعوة منذ البداية في جزيرة العرب. فمثلما كنّا أسلفنا من قبل، في معرض حديثنا عن القبلة والتوجّه بالصّلاة نحو بيت المقدس، والوقوف على أنّ هذا التوجّه نحو بيت المقدس كان بهدف استمالة قلوب اليهود، لأنّ محمّدًا كان يعتقد في قرارة نفسه أنّه هو النبيّ الأمّي - المسيح اليهودي المنتظر - الّذي يؤمن اليهود بأنّه سيعود في آخر الزّمان. يمكننا القول أيضًا، إنّ قصّة الإسراء من مكّة إلى بيت المقدس تندرج ضمن هذه المحاولات التي هدفت إلى التأكيد على هذه الرؤيا الإسلاميّة، وتشير إلى عمليّة البحث الحثيثة عن شرعيّة يهوديّة لدعوته، في الوقت الّذي رفض فيه اليهود القبول به بوصفه هذا "النبيّ الأمّي" التّوراتي، بحسب الرواية الإسلامية.

لقد جاءت رحلة الإسراء إلى بيت المقدس بالذّات، التي هي "قبلة اليهود" كما أشار إليها محمّد نفسه، مثلما فصّلنا الحديث في هذه المسألة من قبل، للتأكيد على شرعيّة هذه الدعوة التي كانت ستضفيها عليها رحلة الإسراء إلى "قبلة اليهود" على وجه التّحديد.لقد نزلت سورة الإسراء بمكّة كما تذكر الروايات، كما أنّ اسمها الأصلي يعكس تلك التوجّهات الأوليّة، إذ يذكر المفسّرون بشأن هذه السّورة أنّ اسمها هو "سورة بني إسرائيل"، كما أنّها تُسمّى بأسماء أخرى: "تسمّى الإسراء وسبحان أيضًا" (روح المعاني للألوسي: ج 14، 238؛ أنظر أيضًا: تفسير القرآن للصنعاني: ج 4، 3؛ تفسير النسفي: ج 2، 277؛ فتح القدير للشوكاني: ج 3، 293؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 5، 181). ليس هذا فحسب، بل وكما تفيد الرّوايات فإنّه حتّى بعد أن خُتمت "سورة بني إسرائيل"، فقد نزلت بضع آيات في المدينة لها علاقة بالموضوع، وألصقت بهذه السّورة لتصبح جزءًا منها، ما يشير إلى عمق هذا التوجّه الإسلامي باستجداء الاعتراف اليهودي بنبوّة محمّد. حيث يذكر الرّواة بشأن الآية 76 من سورة الإسراء {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا}، أنّها نزلت بعد أن قال بعض اليهود للنّبي: "إنّ أرض الأنبياء أرض الشّام وإنّ هذه ليست بأرض الأنبياء"، أو كما ورد في رواية أخرى أنّهم قالوا له: "إن كنت نبيا فالحَقْ بالشام، فإن الشام أرض المحشر وأرض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام". وتضيف الرّواية أنّ هذه الأقوال كانت السّبب من وراء غزوة تبوك لأنّ محمّدًا كان ينوي الوصول إلى الشّام جريًا وراء ما قالت له اليهود من أنّ الشّام هي أرض الأنبياء، فقد ذكرت الرّوايات: "فصدّق رسول الله صلعم ما قالوا، فغزا تبوك لا يريد إلا الشام، فلما بلغ تبوك أنزل الله عليه آيات من سورة بني إسرائيل بعد ما ختمت السورة... فأمره بالرجوع إلى المدينة وقال: فيها محياك وفيها مماتك وفيها تبعث." (الدر المنثور للسيوطي: ج 5، 320؛ أنظر أيضًا: تفسير الثعالبي: ج 2، 354؛ زاد المسير لابن الجوزي: ج 5، 69-70؛ فتح القدير للشوكاني: ج 3، 293).أمّا بشأن سورة بني إسرائيل - الإسراء - فيُروى عن ابن عبّاس أنّه قال: "إن التّوراة كلّها في خمس عشرة آية من بني إسرائيل، ثمّ تلا: ولا تجعلْ مع الله إلهًا آخر." (تفسير الطبري: ج 17، 590؛ أنظر أيضًا: الدر المنثور للسيوطي: ج 5، 287؛ روح المعاني للألوسي: ج 15، 2). وهذه الآية التي تلاها ابن عبّاس بحسب الرّواية، "{ولا تجعلْ مع الله إلهًا آخر}"، ليست سوى ترجمة من اللغة العبريّة لإحدى الوصايا العشر التّوراتية: "لا يَكُنْ لكَ إلهٌ آخرُ سِوَاي!" (سفر الخروج، فصل 20، 3). وعلى ما يبدو، فلم يكن ابن عبّاس ليصرّح بأنّ التّوراة كلّها في سورة الإسراء ثمّ يتلو هذه الآية لولا علمه ويقينه بأنّ هذه الدعوة الجديدة إنّما هي دعوة يهوديّة توراتيّة في الأساس.
 مهما يكن من أمر، فإنّ قصّة الإسراء تشير إلى تلك الرحلة التي اقتاد بها جبريل محمّدًا، بحسب الروايات الإسلاميّة، على ظهر تلك الدابّة الأسطوريّة المُجنّحة، البراق، من مكّة إلى بيت المقدس ومن ثمّ التّعريج به للسموات ولقاء الأنبياء السابقين، وإيحاء الله له بما أوحى له به. حتّى أنّ هذه الدّابّة الأسطوريّة، البراق، كما تفيد الرّواية الإسلاميّة هي دابّة سليمان بن داود: "كان سليمان بن داود، عليه السلام، يغدو عليها مسيرة شهر." (تفسير مقاتل: ج 2، 247)، وذلك من أجل إضفاء شرعيّة يهوديّة نبويّة عليها من خلال ركوبه على دابّة سليمان بن داود الّذي تنظر إليه الرّواية الإسلاميّة بوصفه نبيًّا بخلاف النّظرة اليهوديّة الّتي تراه ملكًا ليس إلاّ. يشار هنا إلى أنّ كون الدّابّة مُجنّحة يندرج أيضًا ضمن الخرافات الإسلاميّة التي تفيد بأنّ سليمان بن داود كانت له خيول مُجنّحة، قيل إصابها وقيل ورثها عن أبيه داود، وقيل أخرجت له من البحر: "عن عوف رضي الله عنه قال : بلغني أن الخيل التي عقر سليمان عليه السلام كانت خيلا ذات أجنحة أخرجت له من البحر لم تكن لأحد قبله ولا بعده." (الدر المنثور: ج 7، 177؛ أنظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 21، 193؛ تفسير البغوي: ج 7، 88؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 11، 386؛ تفسير القرطبي: ج 15، 193؛ تفسير الألوسي: ج 17، 331). 
قصّة الإسراء: يذكر مقاتل في تفسيره بشأن الإسراء: "أنّ النبى صلعم أصبح بمكة ليلة أسرى به من مكة، فقال لأم هانئ ابنة أبى طالب، وزوجها هبيرة بن أبى وهب المخزومى: لقد رأيت الليلة عجبًا، قالت: وما ذلك بأبي أنت وأمي؟ قال: لقد صليت فى مصلاي هذا صلاة العشا، وصلاة الفجر، وصليت فيما بينهما فى بيت المقدس، فقالت: وكيف فعلت؟ قال: أتاني جبريل، عليه السلام، وقد أخذت مضجعى من الفراش قبل أن أنام، وأخذ بيدى وأخرجنى من الباب وميكائيل، عليه السلام، بالباب ومعه دابّة، فوق الحمار ودون البغل، ووجهها كوجه الإنسان، وخدها كخد الفرس، وعرفها كعرف الفرس... لها جناحان، ذنبها كذنب البقر، وحافرها كأظلاف البقر، خطوها عند منتهى بصرها، كان سليمان بن داود، عليه السلام، يغدو عليها مسيرة شهر، فحملاني عليها، ثم أخذا يزفان بي حتّى أتيت بيت المقدس، ومُثّل لي النبيون، فصلّيت بهم، ورأيت ورأيت..." (تفسير مقاتل: ج 2، 247-248؛ أنظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 17، 332-333؛ تفسير البغوي: ج 5، 55-62؛ تفسير القرآن للصنعاني: ج 4، 3؛ تفسير القرطبي: ج 10، 180؛ تفسير ابن كثير: ج 5، 5-7؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 5 ص 182).

وعندما روى محمّد على مسامع قريش عن رحلته هذه حاولت قريش استجوابه حول أمور تتعلّق ببيت المقدس، لم يعرف الإجابة عليها فاغتمّ لذلك كثيرًا، حتّى مثّل اللّه له بيت المقدس أمامه فطفق محمّد يصفه لهم بالتّفصيل: "روى الصحيح عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلعم: لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربتُ كربًا ما كربت مثله قط. قال فرفعه الله لي أنظرُ إليه فما سألوني عن شيء إلا أنبأتهم به." (تفسير القرطبي: ج 10، 180؛ أنظر أيضًا: تفسير البغوي: ج 1، 57). 
وكالعادة، فيما يتعلّق بالأحداث الإسلاميّة، هنالك اختلاف حول حيثيّات الرّحلة كما تظهر في الرّوايات. فمن خلال النّظر في الرّوايات الإسلاميّة لا نستطيع الجزم بتاريخ الإسراء ولا الموقع الّذي انطلقت منه هذه الرّحلة الأسطوريّة ولا أين نزل وحلّ في الطّريق، إلى آخر هذه القضايا التي عادة ما تثير الكثير من الاختلافات.لقد شهدت الرّوايات على كلّ تلك الاختلافات في تاريخ ونقطة انطلاق الإسراء: "وقد اختُلف أيضًا في تاريخ الإسراء فروي أنّ ذلك كان قبل الهجرة إلى المدينة بسنة، وروي أنّ الإسراء كان قبل الهجرة بأعوام." (فتح القدير للشوكاني: ج 3، 295؛ حول اختلاف الروايات بشأن تاريخ الإسراء، انظر تفسير البغوي: ج 1، 57؛ تفسير مقاتل: ج 2، 247؛ تفسير القرطبي: ج 10، 180؛ تفسير الألوسي: ج 10، 356-357). كما أنّ ثمّة روايات تذكر أنّ الإسراء حدث من بيت أمّ هانئ ابنة أبي طالب، وهنالك روايات تقول إنّ الإسراء قد حدث من المسجد الحرام (تفسير الطبري: ج 17، 331-332؛ أنظر أيضًا: الكشاف للزمخشري: ج 1، 673-674؛ تفسير البيضاوي: ج 1، 429). وهنالك خلاف أيضًا حول ما إذا كان الإسراء قد تمّ بالجسد أم بالرّوح، أم بكليهما، وقد وقف القدماء على هذه القضايا الخلافية: "وقد اختلف أهل العلم هل كان الإسراء بجسده صلعم مع روحه أو بروحه فقط؟ فذهب معظم السلف والخلف إلى الأول وذهب إلى الثاني طائفة من أهل العلم منهم عائشة ومعاوية والحسن وابن إسحاق... وذهبت طائفة إلى التفصيل فقالوا: كان الإسراء بجسده يقظة إلى بيت المقدس وإلى السماء بالرّوح." (فتح القدير للشوكاني: ج 3، 295؛ أنظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 17، 348-351؛ تفسير القرطبي:ج 10، 180؛ شرح البخاري لابن بطال: ج 20، 187؛ تفسير الرازي: ج 9، 494).ولا تتوقّف الاختلافات عند هذا الحدّ، بل تتعاظم بحسب الرّوايات حيث نشهد اختلافات فيما إذا كانت الرحلة مباشرة إلى بيت المقدس أمّ أنّه كانت له محطّات نزل فيها في الطّريق. فبينما الروايات القديمة تذكر الإسراء من مكّة إلى بيت المقدس مباشرة، تأتي روايات لاحقة فتذكر محطّات أخرى يهوديّة ومسيحيّة على الطّريق، نزل فيها وصلّى بأمر من جبريل: "فأتاني جبريل عليه السّلام بدابّة... ثم حملني عليها. فانطلقت تهوي بنا... حتى بلغنا أرضا ذات نخل فأنزلني فقال: صلِّ، فصليت. ثم ركبنا فقال: أتدري أين صليت؟ قلت: الله أعلم. قال: صليت بيثرب صليت بطيبة. فانطلقت... ثم بلغنا أرضًا فقال: انزل، فنزلت. ثم قال: صلِّ، فصليت. ثم ركبنا، فقال: أتدري أين صليت؟ قلت: الله أعلم. قال: صليت بمدين، صليت عند شجرة موسى. ثم انطلقت... ثم بلغنا أرضًا، بدت لنا قصور، فقال: انزل. فنزلت، فقال: صلِّ، فصليت. ثم ركبنا فقال: أتدري أين صليت؟ قلت: الله أعلم. قال: صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى المسيح ابن مريم. ثم انطلق بي حتى دخلنا المدينة من بابها اليماني، فأتى قبلة المسجد، فربط فيه دابته ودخلنا المسجد من باب فيه تميل الشمس والقمر، فصليت من المسجد حيث شاء الله." (تفسير ابن كثير: ج 5، 26؛ أنظر أيضًا: الكشف والبيان للثعلبي: ج 7، 452؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 5، 185-186؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 3، 80-81).حتّى مسألة الصّلاة في المسجد لا يوجد إجماع عليها. فبينما تذكر الرّوايات دخول الرسول المسجد الأقصى والصّلاة فيه، إلاّ أنّ ثمّة من يرفض هذه الأقاويل استنادًا إلى القرآن ذاته، كما رُوي عن هزء حذيفة بن اليمان بمن يقول بدخول الرسول المسجد والصلاة فيه: "عن زر بن حبيش، قال: أتيت على حذيفة بن اليمان وهو يحدث، عن ليلة أسري بمحمد صلعم، وهو يقول: فانطلقنا حتى أتينا بيت المقدس. فلم يدخلاه. قال: قلت: بل دخله رسول الله صلعم ليلتئذ وصلّى فيه. قال: ما اسمُكَ يا أصْلَع، فإني أعرفُ وجهك ولا أدري ما اسمُك؟ قال: قلت: أنا زر بن حبيش. قال: فما علْمُك بأنّ رسول الله صلعم صلّى فيه ليلتئذ؟ قال: قلت: القرآنُ يخبرني بذلك. قال: من تكلم بالقرآن أفلح، اقرأ. قال: فقلت: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى}، قال: يا أصلع، هل تجد "صلّى فيه"؟ قلت: لا. قال: والله ما صلّى فيه رسول الله صلعم ليلتئذ. ولو صلّى فيه لكتب عليكم صلاة فيه، كما كتب عليكم صلاة في البيت العتيق. والله ما زايَلا البراقَ حتّى فتحت لهما أبواب السماء، فرأيا الجنة والنار ووعد الآخرة أجمع، ثم عادَا عودهما على بدئهما. قال: ثم ضحك حتى رأيت نواجذه." (تفسير ابن كثير: ج 5، 21؛ أنظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 17، 349).وفي رواية أخرى يهزأ حذيفة أيضًا من الرّواية القائلة بأنّ الرسول ربط الدابّة في الحلقة التي كانت تربط بها الأنبياء. إذ عندما قيل لحذيفة إنّ الرسول ربط البراق بالحلقة التي كانت تربط بها الأنبياء، قال حذيفة: "أوَكانَ يخاف أن تذهب وقد آتاه الله بها؟" (مصنف ابن أبي شيبة: ج 7، 335؛ أنظر أيضًا: مسند أحمد بن حنبل: ج 51، 58؛ مسند الصحابة في الكتب التسعة: ج 35، 1؛ أخبار مكّة للفاكهاني: ج 3، 296؛ الردّ على الجهمية للدارمي: 62؛ المسند الجامع لأبي المعاطي النوري: ج 11، 215؛ الإسراء والمعراج للألباني: ج 1، 63).***
في المقالة القادمة سنتطرق إلى المسجد الأقصى وسنجيب على السؤال، ما هو هذا المسجد؟والعقل ولي التوفيق
***

المقالة في "شفاف الشرق الأوسط"

***

مقالات هذه السلسلة:المقالة الأولى: "هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟"
المقالة الثانية: "لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟"
المقالة الثالثة: "لماذا استقبال قبلة اليهود بالذّات؟"
المقالة الرابعة: "من هو النّبي الأمّي؟"

 المقالة الخامسة: "لماذا حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟"
 المقالة السادسة: "المصير الذي آل إليه يهود جزيرة العرب"
 المقالة السابعة: "إكسودوس بني النضير"
 المقالة الثامنة: "محرقة بني قريظة 1"
 المقالة التاسعة "محرقة بني قريظة 2" 
المقالة العاشرة: "ماذا جرى مع يهود خيبر؟"
 المقالة الحادية عشرة: "إجلاء اليهود من جزيرة العرب"

إجلاء اليهود من جزيرة العرب


سلمان مصالحة


إجلاء اليهود من جزيرة العرب


لقد شهد افتتاح حصون خيبر
قتالاً شديدًا بين محمّد وأتباعه وبين اليهود الذين تصفهم الرّواية الإسلاميّة بالمشركين: "فقاتل رسول الله صلعم المشركين، قاتلوه أشدّ القتال وقتلوا من أصحابه عدة، وقُتل منهم جماعة كثيرة، وفتحها حصنًا حصنًا." (طبقات ابن سعد: ج 2، 106). وكان ابتداء افتتاح حصون خيبر بفتح حصن ناعم من حصون النّطاة: "وبدأ رسول الله صلعم بالأموال يأخذها مالاً مالاً ويفتتحها حصنًا حصنًا، فكان أول حصونهم افتتح حصن ناعم." (تاريخ الطبري: ج 2، 135؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 4، 300؛ سيرة ابن حبان: ج 1، 293؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 278؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 179؛ تاريخ خليفة بن خياط: ج 1، 10). وبعد أن أفتتح محمّد حصن ناعم وقسم الغنائم على أصحابه، جاءه بنو سهم من بني أسلم وطلبوا منه أن يعطيهم شيئًا من تلك الغنائم، فلم يجدوا عنده شيئًا، إذ كان قد وزّعها على أصحابه. فوعدهم بأن تكون غنائم حصن الصعب بن معاذ لهم عند افتتاحه، كما يروي عبد الله بن أبي بكر: "أنّه حدّثَه بعضُ أسلم أنّ بني سهم مِنْ أسلمَ أتوا رسول الله صلعم فقالوا: يا رسول الله، والله لقد جهدنا وما بأيدينا شيء، فلم يجدوا عند رسول الله شيئًا يعطيهم إياه فقال النبي: اللهمّ إنّك قد عرفتَ حالَهم وأنْ ليست بهم قوة، وأنْ ليس بيدي شيء أعطيهم إياه، فافتحْ عليهم أعظمَ حصونها أكثرَها طعامًا وودكًا." (تاريخ الطبري: ج 2، 135؛ أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 267؛ سيرة ابن هشام: ج 4، 302؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 366؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 277). وكان اليهود الذين سلموا من فتح حصن ناعم قد انتقلوا إلى حصن الصّعب بن معاذ، فلاحقهم المسلمون وفتحوا حصن الصّعب قبل مغيب الشمس: "وكان من سلم من يهود حصن ناعم انتقل إلى حصن الصعب من حصون النطاة، ففتح الله حصن الصعب قبل ما غابت الشمس من ذلك اليوم." (عون المعبود: ج 6، 492)، ويُعدّ حصن الصعب هذا من أغنى حصون خيبر، حيث تذكر الرّوايات: "وكان حصن اليهود فيه الطعام والودك والماشية والمتاع." (مغازي الواقدي: ج 1، 267؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 135؛ سيرة ابن هشام: ج 4، 302؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1، 319؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 277؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 366)، وذكرت أنّه: "لم يكن بخيبر حصن أكثر طعامًا وودكًا وماشية ومتاعًا منه." (سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 5، 121؛ أنظر أيضًا: دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 306؛ الخصائص الكبرى للسيوطي: ج 1، 425؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 137).

ثمّ تحوّل من نجا من اليهود إلى حصن قلّة المنيع، وهو: "حصن بقلة جبل... وهو آخر حصون النطاة." (عون المعبود للعظيم آبادي: ج 6، 492). فحاصرهم الرسول ثلاثة أيّام حتّى جاء إليه أحد اليهود ووشى له بمكان مصدر مياههم لكي يقطع الماء عنهم بشرط أن يؤمنّه على حياته وأهله وماله: "فجاء رجل من اليهود يقال له غزال، فقال: يا أبا القاسم، تؤمنني على أن أدلّك على ما تستريح من أهل النطاة وتخرج إلى أهل الشقّ... قال: فأمّنه رسول الله صلعم على أهله وماله، فقال اليهودي: إنّك لو أقمت شهرًا ما بالوا، لهم دبول تحت الأرض يخرجون بالليل فيشربون منها ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمتنعون منك. فإن قطعت مشربهم عليهم أصحروا لك. فسار رسول الله صلعم إلى دبولهم فقطعها، فلما قطع عليهم مشاربهم خرجوا فقاتلوا أشدّ القتال وقتل من المسلمين يومئذ نفر وأصيب من يهود ذلك اليوم عشرة، وافتتحه رسول الله صلعم." (دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 307؛ أنظر أيضًا: زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 283؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 376؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 5، 122-123). وبعد أن افتتحت حصون النّطاة انتقل المسلمون إلى حصار منطقة الشقّ وحصونها: "ثم صار المسلمون إلى حصار حصون الشقّ فكان أول حصن بدأ به من حصني الشق حصن أبي، فقاتل أهله قتالاً شديدًا، وهرب من كان فيه ولحق بحصن يقال له حصن البريء وهو الحصن الثاني من حصني الشقّ. فحصون الشق اثنان حصن أبي وحصن البريء." (عون المعبود للعظيم آبادي: ج 6، 492؛ أنظر أيضًا: دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 308).

صلح خيبر:
بعد افتتاح حصون النطاة والشق التجأ من سلم من اليهود من هذه الحصون إلى حصون الكتيبة، وهي القموص والوطيح والسلالم. فانتقل المسلمون إلى حصارها فافتتحوا القموص وهناك وقعت صفيّة بنت حيي بن أخطب في السبي، كما أسلفنا من قبل. فانتقل من نجا من اليهود إلى الوطيح والسلالم وتحصّنوا هناك أشدّ التحصّن، فأطبق المسلمون الحصار على الوطيح والسّلالم أيّامًا وليالي: "ولمّا افتتح رسول الله صلعم من حصونهم ما افتتح وحاز من الأموال ما حاز انتهوا إلى حصنيهم الوطيح والسلالم." (تاريخ الطبري: ج 2، 135؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 2، 333؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 277؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 211؛ معجم ما استعجم للبكري: ج 1، 149؛ تاريخ خليفة بن خياط: ج 1، 10؛ عون المعبود للعظيم آبادي: ج 6، 492).

وبعد أن أُطبق الحصار على الوطيح والسلالم وأيقن اليهود، بعد أن استمرّ الحصار بضعة عشر يومًا، أنّهم لن يصمدوا أمام حصار المسلمين لهم، أرسل ابن أبي الحُقيق إلى الرسول طالبًا الصّلح: "وحاصر رسول الله صلعم أهل خيبر في حصنيهم الوطيح والسلالم حتّى إذا أيقنوا بالهلكة سألوه أن يسيّرهم ويحقن لهم دماءهم، ففعل." (تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 2، 337؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 309؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 375؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 139؛ الروض المعطار للحميري: ج 1، 490؛ معجم ما استعجم للبكري: ج 1، 149؛ البدء والتاريخ لابن المطهر: ج 1، 253؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 283). لقد تمّ ذلك بعد أن أرسل زعيمهم ابن أبي الحقيق إلى محمّد طالبًا أن يكلّمه: "وأرسل ابن أبي الحقيق إلى رسول الله صلعم: أنزل فأكلمك؟ فقال رسول الله صلعم: نعم. فنزل ابن أبي الحقيق فصالح رسول الله صلعم على حقن دماء من في حصونهم من المقاتلة وترك الذرية لهم ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم." (زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 283؛ أنظر أيضًا: دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 309؛ عون المعبود للعظيم آبادي: ج 6، 492؛ الرحيق المختوم للمباركفوري: ج 1، 342).



وبالإضافة إلى الجلاء
عن أرضهم ومنازلهم فقد أضاف محمّد شرطًا آخر، وهو أن لا يُخفوا شيئًا من أموالهم عنه. إذ أنّه، على ما يبدو، كان يبحث عن شيء ما: "فصالحوه على أن يجلوا منها ولهم ما حملت ركابهم... فاشترط عليهم أن لا يكتموا ولا يغيّبوا شيئًا، فإن فعلوا فلا ذمّة لهم ولا عصمة." (صحيح ابن حبان: ج 11، 562؛ أنظر أيضًا: طبقات ابن سعد: ج 2، 110؛ صحيح أبي داود: ج 2، 583؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 1، 1160؛ سنن البيهقي: ج 2، 62؛ فتح الباري لابن حجر العسقلاني: ج 12، 29؛ الأوسط لابن المنذر: ج 10، 263؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 283؛ عون المعبود للعظيم آبادي: ج 6، 492). لقد كان يبحث، كما يُستشفّ من الرّوايات، عن كنز حيي بن أخطب. وهو كنز يحتوي على الأموال والحلي التي كان حيي حملها معه عندما تمّ إجلاء بني النّضير إلى خيبر: "فغيّبوا مسكًا فيه مال وحلي لحيي بن أخطب كان احتمله معه الى خيبر حين أُجليت النضير."(صحيح ابن حبان: ج 11، 562؛ أنظر أيضًا: صحيح أبي داود: ج 2، 583؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 1، 1160؛ سنن البيهقي: ج 2، 62؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 377؛ فتح الباري لابن حجر: ج 12، 31؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 283؛). لقد حاول محمّد الاستفسار عن كنز حيي: "فقال رسول الله صلعم لعمّ حيي: ما فعل مسْكُ حيي الذي جاء به من النضير؟ فقال: أذهَبَتْه النفقات والحروب، فقال صلعم: العهدُ قريبٌ والمالُ أكثر من ذلك." (صحيح ابن حبان: ج 11، 562-563؛ أنظر أيضًا: جامع الأصول لابن الأثير: ج 1، 1160؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 283؛). أي أنّه يعني أنّ الكنز يحتوي على الكثير من الأموال ولم يمض وقت طويل منذ الجلاء فمن غير المعقول أن يكون المال قد نفد.

تعذيب زوج صفيّة:
كما تذكر الرّوايات كيف تمّ اقتياد كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، زوج صفيّة، إلى محمّد للتّحقيق معه حول الكنز: "قال ابن إسحاق: وأُتي رسول الله صلعم بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وكان عنده كنز بني النّضير، فسأله فجحد أن يكون يعلم مكانه. فأُتي رسول الله صلعم برجل من يهود فقال لرسول الله صلعم: إني قد رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة فقال رسول الله لكنانة: أرأيتَ إنْ وجدناه عندك أأقتلك؟ قال: نعم. فأمر رسول الله صلعم بالخربة فحُفرت فأخرج منها بعض كنزهم، ثم سأله ما بقي، فأبَى أن يؤدّيه." (تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 2، 336؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 12، 220؛ تفسير البغوي: ج 7، 309؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 374؛ الرحيق المختوم للمباركفوري: ج 1، 343). وبعد أن رفض كنانة الإفصاح عن مخبأ سائر الكنز فقد دفع به محمّد إلى الزّبير بن العوام قائلاً له: "عَذّبْهُ حتّى تستأصلَ ما عنده! فكان الزبير يقدحُ بزنده في صدره حتى أشرفَ على نفسه، ثم دفعه رسول الله إلى محمد بن مسلمة فضربَ عنقَه بأخيه محمود بن مسلمة. (تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 2، 336؛ تفسير البغوي: ج 7، 309؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 12، 220؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 374؛ الرحيق المختوم للمباركفوري: ج 1، 343). وبرواية أخرى ذُكر أنّ ابن عمّ كنانة كشف عن مكان الكنز: "فاعترف ابن عمّ كنانة عليهما بالمال حين دفعه رسول الله صلعم إلى الزبير يُعذّبه. فدفع رسول الله صلعم كنانة إلى محمد بن مسلمة فقتله." (زاد المعاد لابن قيم الجوزية:ج 3، 283).

بعد ذلك أراد أن يجلي اليهود عن ديارهم فطلبوا منه أن يبقيهم في أرضهم قائلين له إنّهم أعلمُ وأكثر دربة من أصحابه برعاية الأرض والنّخل: "وقالوا: نحن أعْلَمُ بها منكم، وأعْمَرُ لها." (معجم ما استعجم للبكري: ج 1، 149؛ البلدان لياقوت: ج 2، 195؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 283)، فأقرّهم على أن أن يدفعوا له النّصف من ثمر الأرض، كما ورد في الرّوايات: "وأراد ان يجليهم منها، فقالوا: يا محمد دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها، ولم يكن لرسول الله صلعم ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها فكانوا لا يتفرغون أن يقوموا. فأعطاهم خيبر على أنّ لهم الشطر من كل زرع ونخل وشيء ما بدا لرسول الله صلعم." (صحيح ابن حبان: ج 11، 563؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 4، 329؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 1، 1160؛ سنن البيهقي: ج 6، 114؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 124؛ نيل الأوطار للشوكاني: ج 8، 132؛ الأوسط لابن المنذر: ج 10، 263؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 213؛ تاريخ خليفة بن خياط: ج 1، 10)، فوافق محمّد على الاقتراح وأقرّهم على ذلك.

***
يهود فدك
في ذات الوقت الذي خرج فيه محمّد وأتباعه إلى غزو خيبر، قام أيضًا بإرسال محيصة بن مسعود إلى أهل فدك لدعوتهم إلى الإسلام، مهدّدًا إيّاهم، أنّهم سيكونون هم أيضًا عرضة للغزو مثل أهل خيبر إذا لم يستجيبوا لدعوته: "لما أقبل رسول الله صلعم إلى خيبر فدنا منها، بعث محيصة بن مسعود إلى فدك يدعوهم إلى الإسلام ويخوفهم أن يغزوهم كما غزا أهل خيبر ويحلّ بساحتهم." (مغازي الواقدي: ج 1، 706؛ أنظر أيضًا: سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 5، 138). لقد حاولوا في البداية رفض ما يُعرض عليهم ظنًّا منهم أنّهم يستطيعون الصمود أمام هذا الغزو: "قال محيصة جئتهم فأقمتُ عندهم يومين وجعلوا يتربّصون ويقولون: بالنّطاة عامر وياسر وأسير والحارث وسيد اليهود مرحب، ما نرى محمّدًا يقرب حرّاهم، إنّ بها عشرة آلاف مقاتل." (مغازي الواقدي: ج 1، 706).


غير أنّ الأخبار التي وصلت بشأن القتل والسبي وما جرى في حصون خيبر، كما تذكر الروايات، قد فتّت من عزائمهم: "حتى جاءهم قتلُ أهل حصن ناعم وأهل النّجدة منهم، ففَتّ ذلك أعضادهم." (مغازي الواقدي: ج 1، 706؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 5، 138). وعلى أثر أخبار الغزو والقتل هذه قرّروا أن يرسلوا مع محيصة رجالاً منهم يطلبون الصّلح: " قال محيصة: وقدم معي رجل من رؤسائهم يقال له نون بن يوشع، في نفر من اليهود... ويقال عرضوا على النبي صلعم أن يخرجوا من بلادهم ولا يكون للنبي صلعم عليهم من الأموال شيء، وإذا كان جذاذها جاءوا فجذّوها. فأبى النبي صلعم أن يقبل ذلك." (مغازي الواقدي: ج 1، 706). وقد استقرّ الصلح في نهاية المطاف على مثل صلح خيبر: "وقع الصلح بينهم أنّ لهم نصف الأرض بتربتها لهم، ولرسول الله صلعم نصفها. فقبل رسول الله صلعم ذلك... فأقرّهم رسولُ الله صلعم على ذلك ولم يبلّغهم." (مغازي الواقدي: ج 1، 706؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 140؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 213؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 375؛ تاريخ خليفة بن خياط: ج 1، 10؛ معجم ما استعجم للبكري: ج 1، 149).

***
يهود وادي القرى
بعد الانتهاء من خيبر تحوّل محمّد وأتباعه إلى وادي القرى، حيث حلّوا على مقربة من منازل لليهود فاستقبلهم اليهود برمي السّهام من حصونهم، حسبما روى أبو هريرة، قال: "خرجنا مع رسول الله صلعم من خيبر إلى وادي القرى.... فلما نزلوا بوادي القرى انتهينا إلى اليهود وقد ضَوَى إليها أناسٌ من العرب... وقد استقبلتنا اليهود بالرمي حيث نزلنا، ولم يكن على تعبية، وهم يصيحون في آطامهم." (مغازي الواقدي: ج 1، 289؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ البدء والتاريخ لابن المطهر: ج 1، 254). فأسرع محمّد إلى إجراء الاستعدادات لقتال اليهود ودعوتهم إلى الإسلام لأجل حقن دمائهم: "فعبّى رسول الله أصحابه للقتال وصفّهم،... ثم دعاهم إلى الإسلام وأخبرهم إنْ أسلموا أحرزوا أموالهم وحقنوا دماءهم وحسابهم على الله. قال: فبرز رجل منهم، فبرز إليه الزبير بن العوام فقتله، ثم برز آخر فبرز إليه علي فقتله، حتى قتل منهم أحد عشر رجلاً، كلّما قتل منهم رجلاً دُعي من بقي منهم إلى الإسلام... وقاتلهم حتى أمسى، وغدا عليهم فلم ترتفع الشمس قيد رمح حتّى أعطوا بأيديهم، وفتحها عنوةً وغنّمهم الله أموالَهم وأصابوا أثاثًا ومتاعًا كثيرًا. وأقام رسول الله صلعم بوادي القرى أربعة أيام، فقسم ما أصاب على أصحابه، وترك الأرض والنخيل في أيدي اليهود وعاملهم عليها." (سيرة ابن كثير: ج 3، 412-413؛ أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 710-711؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 313؛ سبل الهدى وارشاد للصالحي الشامي: ج 5، 149).


وعندما علم يهود تيماء بما جرى مع سائر اليهود فقد أيقنوا أن لا سبيل أمامهم وقرّروا طلب الصّلح من الرّسول على الجزية: "فلما بلغ يهود تيماء ما وطئ به رسول الله صلعم خيبر وفدك ووادي القرى، صالحوا رسول الله صلعم على الجزية، وأقاموا بأيديهم أموالهم." (مغازي الواقدي: ج 1، 711؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 366؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 413؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3 313)، وقد ذكرت الرّواية أنّ محمّدًا كتب لهم كتابًا بذلك: "هذا كتاب محمد رسول الله لبني عاديا، أنّ لهم الذمة، وعليهم الجزية، ولا عداء ولا جلاء." (الرحيق المختوم للمباركفوري: ج 1، 351؛ طبقات ابن سعد: ج 1، 279).

***
تسميم محمّد:
وبعد أن انتهى محمّد وأتباعه من إخضاع اليهود في خيبر وفي سائر أماكن تواجدهم في فدك ووادي القرى وتيماء والاستيلاء على أموال المواقع التي كان افتتاحها حربًا وتوزيعها على المسلمين وإقرار بعضها على النصف صلحًا وإبقاء بعضهم يعملون في الأرض، عاد إلى المدينة: "ثم انصرف رسول الله صلعم راجعًا إلى المدينة بعد أن فرغ من خيبر ووادي القرى وغنّمه الله عزوجل." (سيرة ابن كثير: ج 3، 413؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 366؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 5، 149).

وكان من بين اليهود من أسلم، ومنهم من بقي في أرضه، يعمل في الأرض ويدفع للمسلمين نصف ثمر الأرض. ومن بين السبايا اللّواتي أسلمن، على ما ذكرت الرّوايات، زينب بنت الحارث اليهوديّة، ابنة أخي مرحب وامرأة سلام بن مشكم. وبعد أن اطمأنّ الرّسول إلى إخضاع اليهود، جاءت إليه زينب هذه وقدّمت له شاةً مسمومة: "عن جابر وأبي هريرة وغيرهما أن رسول الله صلعم لمّا افتتح خيبر واطمأنّ جعلت زينب بنت الحارث وهي بنت أخي مرحب وامرأة سلام بن مشكم سمًّا قاتلاً في عنز لها، ذَبحَتْها وصَلَتْها وأكثرت السمّ في الذراعين والكتف. فلمّا صلّى النبي صلعم المغرب انصرفَ وهي جالسة عند رحله، فقالت: يا أبا القاسم هدية أهديتها لك، فأمر بها النبي صلعم. فأُخذت منها، ثم وُضعت بين يديه وأصحابه حضور، منهم بشر بن البراء بن معرور، وتناول رسول الله فانتهشَ من الذراع وتناول بشر عظمًا آخر فانتهش منه، وأكل القوم منها. فلما أكل رسول الله صلعم لقمةً قال: ارفعوا أيديكم، فإنّ هذه الذّراع تخبرني أنها مسمومة". وتذكر الرّوايات أنّ بشر بن البراء قد مات من تلك الأكلة الّتي أكلها من الشاة المسمومة الّتي أهدتها زينب: "فلم يقم بشر حتّى تغيّر لونُه وماطله وَجَعُهُ سنةً ومات. وقال بعضهم: لم يرمْ بشر من مكانه حتّى توفي." (تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 143؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ تفسير البغوي: ج 7، 310؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 394؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 213؛ أسد الغابة لابن الأثير: ج 1، 13؛ البدء والتاريخ لابن المطهر: ج 1، 253؛ تاريخ ابن خلدون: ج 2، 39).

سبب التّسميم:
ولمعرفة ملابسات التّسميم، تذكر الرّوايات أنّ محمّدًا طلب أن يتمّ إحضار اليهود أمامه وسؤالهم عن ذلك: "فقال رسول الله صلعم: اجمعوا لي من كان ها هنا من يهود. فجمعوا له، فقال النبي صلعم: ... هل أنتم صادقي عن شيء إذا سألتكم عنه؟ قالوا: نعم ... فقال رسول الله صلعم: مَنْ أهلُ النار؟ فقالوا: نكون فيها يسيرًا ثم تخلفونا فيها، فقال لهم رسول الله صلعم: والله لا نخلفكم فيها أبدًا. ثم قال لهم:... هل جعلتم في هذه الشاة سمًّا؟ فقالوا: نعم. قال: ما حملكم على ذلك؟ قالوا: أردنا، إنْ كنتَ كاذبًا أن نستريح منك، وإنْ كنتَ نبيًّا لم يَضُرّك." (سيرة ابن كثير: ج 3، 394؛ أنظر أيضًا: صحيح البخاري: ج 11، 291؛ شرح السنّة للبغوي: ج 7، 40-41؛ مصنّف ابن أبي شيبة: ج 5، 435؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 354؛ مشكاة المصابيح للتبريزي: ج 3، 290؛ الخصائص الكبرى للسيوطي: ج 1، 430).

كما تذكر الرّوايات إنّه دعا زينب بنت الحارث، المرأة اليهودية ذاتها، الّتي وضعت السمّ في الشّاة واستجوبها حول الموضوع: "فدعاها فقال: ما حملك؟ قالت: نلتَ من قومي وقتلتَ أبي وعمّي وزوجي، فقلت: إنْ كان نبيًّا فستخبره الذراع وإن كان ملكًا أسترحنا منه." (تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 143؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ تفسير البغوي: ج 7، 310؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 12، 221؛ تفسير ابن كثير: ج 7، 211). أمّا بخصوص مصير زينب هذه فهنالك اختلاف بما آل إليه مصيرها: "واختلفت الروايات في التجاوز عن المرأة وقتلها، وجمعوا بأنه تجاوز عنها أوّلا، فلما مات بشر قتلها قصاصا." (الرحيق المختوم للمباركفوري: ج 1، 347؛ شرح سنن ابن ماجة للسيوطي: ج 1، 254؛ سبل الهدى والرشاد للصاحلي الشامي: ج 5، 155). أو أنّه "لم يقتلها لإسلامها حينئذ، على ما قيل." (تاريخ ابن خلدون: ج 2، 39؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 12، 221؛ تاريخ الطبري: ج 2، 303؛ )، غير أنّ هنالك روايات تؤكّد على أنّه أمر أولياء بشر بقتلها: "فدفعها إلى أولياء بشر يقتلونها. وهو الثبت." (تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 143؛ طبقات ابن سعد: ج 2، 107؛ عون المعبود للعظيم آبادي: ج 10، 32؛ سمط النجوم للعصامي: ج 1، 328؛ شرح سنن ابن ماجة للسيوطي: ج 1، 254؛ سبل الهدى والرشاد للصاحلي الشامي: ج 5، 155).

محمّد يشير إلى مفعول السمّ:
ويروى أنّ الرّسول ذكر ذلك السمّ، الّذي وضعته له زينب بنت الحارث، في مرضه الّذي توفّي فيه مشيرًا إلى سريان مفعوله فيه: "عن محمد بن إسحاق عن مروان بن عثمان بن أبي سعيد بن المعلى قال، وقد كان رسول الله صلعم قال في مرضه الذي توفي فيه، ودخلت عليه أم بشر بن البراء تعوده: يا أم بشر، إن هذا الأوان وجدتُ انقطاعَ أبهري من الأكلة التي أكلتُ مع ابنك بخيبر." (تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ أنظر أيضًا: الكشف والبيان للثعلبي: ج 12، 221؛ تفسير البغوي: ج 7، 312). ويروى أيضًا عن عائشة أنّها قالت: "كان النبي صلعم يقول في مرضه الذي مات فيه: يا عائشة، ما أزال أجد ألَم الطعام الذي أكلتُ بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السمّ." (تفسير البغوي: ج 7، 310؛ أنظر أيضًا: شرح سنن ابن ماجة للسيوطي: ج 1، 254؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 213)، وبرواية أخرى فيها إقرار بمفعول السمّ: "ما زالت أكلة خيبر يعاودني ألَمُ سمّها." (تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 143؛ أنظر أيضًا: تفسير النيسابوري: ج 1، 265؛ تفسير الرازي: ج 2، 212؛ جامع الأحاديث للسيوطي: ج 19، 27؛ فيض القدير للمناوي: ج 5، 572).

إجلاء اليهود من جزيرة العرب:
بعد أن توفّي الرسول ووقع الاختيار على أبي بكر أن يكون خليفة للمسلمين بعد محمّد واصل أبو بكر التّعامل مع اليهود الباقين في جزيرة العرب بحسب المبادئ التي كان أقرّها الرسول عليهم في اتّفاقيّات الصّلح التي عقدوها معه: "فلما توفّى الله نبيه صلعم أقرّها أبو بكر رض بعد رسول الله صلعم بأيديهم على المعاملة التي عاملهم عليها رسول الله صلعم حتى توفي." (سيرة ابن هشام: ج 4، 329؛ تاريخ الطبري: ج 2، 307؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 415). وبعد أن توفّي أبو بكر وخلفه عمر بن الخطّاب استمرّ عمر على ذات النّهج فترة من الزّمن حتّى وصل إلى مسامعه قولٌ منسوب إلى الرّسول في مرضه الّذي قُبض فيه: لا يجتمعنّ بجزيرة العرب دينان: "ففحص عمر عن ذلك حتّى بلغه الثبت. فأرسل إلى يهود، أنّ الله قد أذن في اجلائكم، فقد بلغني أن رسول الله صلعم قال: لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان، فمن كان عنده عهد من رسول الله فليأتني به أنفذه له، ومن لم يكن عنده عهد من رسول الله من اليهود فليتجهز للجلاء." (تاريخ الطبري: ج 2، 307؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 2، 356؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 415).

غير أنّه، وعلى ما يبدو، فإنّ ثمّة أسبابًا أخرى لإجلاء اليهود. فمثلما أشرنا من قبل فقد أُبقي اليهود في البداية لمعرفتهم وعلمهم في تدبير وعمارة الأرض، ولم يكن المسلمون آنئذ على دراية بهذه الأمور. فلمّا كثرت الأموال في أيدي المسلمين، وتعلّموا أمور الزّراعة والاعتناء بالأرض والنّخيل قرّروا الاستيلاء على أراضي اليهود. كذا يُستشفّ من الرّواية التالية بهذا الشأن: "حتّى كان عمر، فكثر المال في أيدي المسلمين، وقووا على عمل الأرض، فأجلى عمر اليهود إلى الشام وقسم الأموال بين المسلمين إلى اليوم." (الأموال للهروي: ج 1، 144؛ البلدان لياقوت: ج 2، 410). وعلى كلّ حال، لقد أجلى عمر يهود خيبر وفدك، ولم يخرج يهود تيماء ووادي القرى لأنّ مناطق تيماء ووادي القرى تعتبر من بلاد الشام وليست داخلة في جزيرة العرب، على ما روي: "فلما كان زمن عمر بن الخطاب رض أخرج يهود خيبر وفدك ولم يخرج أهل تيماء ووادي القرى لأنهما داخلتان في أرض الشام، ويرى أن ما دون وادي القرى إلى المدينة حجاز وأن ما وراء ذلك من الشام" (زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 313؛ أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 706؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 366؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 213).

وعلى ما يبدو فقد بقي هناك من أسلم من اليهود في جزيرة العرب وفي المدينة، وظلّوا يعملون في الأرض ويهتمّون بالنّخيل: "بيت الخيبري - نسبة إلى خيبر بلدة قديمة مشهورة. وإليها ينسب كثير بالمدينة المنورة. وحرفتهم حفر الآبار وضرب اللبن. ويقال: إن أصلهم من يهود خيبر الذين أجلاهم النبي صلعم من المدينة. وقيل: إنهم مواليد لعبيد عنزة، لأن خيبر أملاك لهم إلى اليوم. ويحضرون فيها أيام الصيف مقدار عشرين يومًا ويجذّونها قبل استواء ثمارها. وهذا دأبهم في كل عام." (تحفة المدنيين لابن الفقيه: ج 1، 52).

كما أنّ ثمّة من اليهود الّذين أجلاهم عمر إلى الشّام قد ظلّوا يحنّون إلى ديارهم في جزيرة العرب، وفي أقوالهم تُسمع أصداء ما جرى لليهود في الحجاز:"عن عمرو بن أبي عمرو، قال: نزلت بأريحا زمن سليمان بن عبد الملك فإذا حيّ من اليهود، وإذا رجل يهدج من الكبر. فقال: ممن أنتم؟ فقلنا: من الحجاز، فقال اليهودي: واشوقاه إلى الحجاز! أنا ابن الحارث اليهودي فارس خيابر. قتله يوم خيبر رجل من أصحاب محمد يقال له أبو دجانة، يوم نزل محمد خيبر. وكنا ممّن أجلى عمر بن الخطاب إلى الشام. فقلت: ألا تسلم؟ قال: أما إنّه خيرٌ لي لو فعلت، ولكن أُعيّر. تعيرني اليهود، تقول: أبوك ابنُ سيّد اليهود، لم يترك اليهودية، قُتل عليها أبوك وتخالفه؟" (مغازي الواقدي: ج 1، 265).

***



في المقالة القادمة سنتطرق إلى قصّة الإسراء والمسجد الأقصى.

والعقل وليّ التوفيق.



***
المقالة في "شفاف الشرق الأوسط"
***

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقالات هذه السلسلة:
المقالة الأولى: "هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟"
المقالة الثانية: "لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟"
المقالة الثالثة: "لماذا استقبال قبلة اليهود بالذّات؟"
المقالة الرابعة: "من هو النّبي الأمّي؟"
المقالة الخامسة: "لماذا حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟"
المقالة السادسة: "المصير الذي آل إليه يهود جزيرة العرب"
المقالة السابعة: "إكسودوس بني النضير"
المقالة الثامنة: "محرقة بني قريظة 1"
المقالة التاسعة "محرقة بني قريظة 2"
المقالة العاشرة: "ماذا جرى مع يهود خيبر؟"
المقالة الحادية عشرة: "إجلاء اليهود من جزيرة العرب"

قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!