شعب واحد أم تشعّبات؟

أرشيف (1995) - وذكّر إن نفعت الذكرى

عن شعارات الشعب الواحد وما شابه ذلك من بلاغة عربية:

 

سلمان مصالحة ||

شعب واحد أم تشعّبات؟


قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته. ربّما كانت جميع هذه الشّعارات تعبّر عن مطمح ما لرافعيها، لكنّ إطلاق الشّعار شيء وما يجري على أرض الواقع هو شيء آخر مغاير تمامًا إن لم يكن يقف في نقيض مدلولات هذه الشّعارات.

كما نستطيع، نحن العرب، على سائر مللنا ونحلنا، التّرويج إلى ما لا نهاية لهذه المقولات الّتي تنفع لوسائل الإعلام مستندين إلى دعامة البلاغة العربيّة الواضحة. غير أنّ البلاغة وحدها لا تكفي ولم تكن في أيّ آن لتكفي من أجل بلورة مجموعة سكّانيّة تُطلق على نفسها اسم الشّعب الواحد.

ثمّ، هل بوسعنا، نحن أصحاب الأقلام العرب تطليق النّهج القديم من التّفكير الّذي كان همّه الوحيد تملّق الرأي العام وتملّق الشّارع بغية الرّكوب على موجة مؤقّتة ما تلبث أن تتحطّم على شواطئ الواقع الّذي نعيش فيه. هل بوسعنا إثارة التّساؤلات الحقيقيّة وعرض الأمور كما هي دون محاولة تجميلها بوسائل مصطنعة. ثمّ هل تكفي تلك المساحيق ومستحضرات التّجميل للتّستّر على وجهنا الدّميم إلى حدّ الشّناعة. ثُمّ ألم يأت الأوان لكي ننظر كلّ في قرارة نفسه إلى كلّ هذه الأوبئة الّتي تنخر عظامنا دون أن نجد ما يكفي من الشّجاعة لكشف هذه الشّناعة.

ومجتمعنا هذا مليء بالأوبئة الاجتماعيّة غير أنّنا لا نزال ندسّ رؤوسنا في الرّمال ظانّين أن العالم لا يرى ولا يعي ما يجري بين ظهرانينا. فالعنف ضدّ الأولاد وضدّ النّساء يكاد يملأ كلّ حارة وكلّ بيت، والاعتداءات الجنسيّة داخل العائلة الواحدة بدأت تتكشّف رويدًا رويدًا. وبدل البحث في الجذور الّتي توصل إلى هذه الأوضاع، نستمرّ في رفع شعارات الشّهامة الزّائفة. قد يظنّ البعض أنّ الاحتلال هو السّبب لكلّ هذه الظّواهر، غير أنّ الحقيقة غير ذلك. كلّ من يلقي مسؤوليّة هذه الأمور على عاتق الاحتلال وعلى عاتق الإمپرياليّة وعلى عاتق التّلفزيون هو في الحقيقة لا يريد النّظر إلى قرارة نفسه، كما لم يعقد النيّة على تغيير شيء من مفاهيمه الزّائفة الّتي لا ترتكز على شيء سوى البلاغة، وفي الحقيقة فإنّ الصّمت المطبق حول كلّ ما يتعلّق بهذه الظّواهر هو في النّهاية ينصبّ في خانة المسؤوليّة عن هذا الوضع.

لقد حاول الإسلام منذ نشأته القضاء على العقليّة القبليّة المتجذّرة في الذّهن العربيّ، ولفترة ما قصيرة أفلح في الوصول إلى مجتمع ودولة بلغت من الازدهار مبلغًا كبيرًا، ولكن ومع مرور عقود قليلة من الزّمن، وفي الحقيقة منذ اللّحظة الأولى لوفاة الرّسول العربيّ، ثارت من جديد تلك النّوازع القبليّة الأمر الّذي أدّى في النّهاية إلى انحطاط الدّولة.

لم يتغيّر شيء في الذّهن العربيّ منذ الجاهليّة الجهلاء. فالوحدة السياسيّة الفاعلة في هذا المجتمع لا تزال إلى يومنا هذا هي وحدة القبيلة، والعشيرة، والحمولة والعائلة. أيّ أنّ ما يميّز العلاقات بين النّاس هو ذلك الرّباط القبليّ الّذي لم يستطع المجتمع العربيّ الفكاك منه حتّى الآن. وإذا كانت هذه هي الحال فكيف بنا إذا نظرنا إلى تلك التّشعّبات المرتكزة على أساس مذهبّي ديني.

خلال عقود من الزّمن يعيش العرب الفلسطينيّون داخل إسرائيل، ودون النّظر إلى الوضع الّذي يعيشون فيه، لكن هنالك إشارة لا بدّ منها. وهي أنّ هؤلاء استمرّوا في العيش ضمن هذه الحدود القبليّة والطّائفيّة، وما تلك النّزاعات الطّائفية والعائليّة القائمة في القرى والبلدات العربيّة داخل إسرائيل سوى مؤشّر على أنّ القبليّة هي جزء من هذا الذّهن الّذي شلّ أصحابه.

وإذا ظنّ البعض أنّ الوضع في المناطق المحتلّة أفضل من ذلك فهو على خطأ فادح. إنّ من يتصفّح الصّحف الفلسطينيّة الصّادرة في المناطق المحتلّة لا شكّ أنّه يلاحظ تلك الإعلانات العشائريّة الّتي تملأها. والسّؤال الّذي يتبادر إلى الأذهان لماذا لم تستطع الانتفاضة خلال عقد من الزّمن خلق مجتمع واحد. ثمّ أليس من حقّنا أن نتساءل كيف آل الوضع لدى هذا الشّعب إلى إفراز عشرات الآلاف من العملاء، وهي ظاهرة فريدة لم تحصل لدى شعوب أخرى وبهذه النّسبة.

السّبب في ذلك هو أنّنا نفهم معنى الشّعب على أنّه القبيلة ليس إلاّ، ولذلك فالتّضامن مع القبائل الأخرى هو بمثابة تضامن مع شعوب أخرى. وهذا التّضامن يخضع فقط للمصالح القبليّة الضيّقة. فكيف بنا إذن، إذا تحدّثنا عن طوائف دينيّة مختلفة.

خلال عقود طويلة قدّم ”الشّعب“ الفلسطيني قافلة طويلة من الشّهداء على مذبح نضاله من أجل حرّيته. وهؤلاء الشّهداء جاؤوا من جميع القبائل والطّوائف الّتي يتألّف منها الشّعب الفلسطينيّ. وعلى الرّغم من هذه الحقيقة لم يُفلح الشّعب حتّى في لحظات الموت في خلق هويّة جديدة تعبّر عن هذه الفسيفساء التّعدديّة، بل وبدل ذلك كان يُدفن كلّ شهيد في مدافن القبيلة والطّائفة.

ولهذا أريد أن أؤكّد هنا أنّه قد آن الأوان إلى إيجاد مقبرة للشّهداء تضمّ الشّهداء دون فرق وتمييز في المعتقد الدّيني، وفقط من خلال ذلك يمكن الوصول إلى شعب واحد متجانس. وإن لم يحصل ذلك فسنظلّ في الطّور القبليّ ولن تغيّر الشّعارات الطنّانة شيئًا من هذا الواقع.

إنّ طبيعة الشّعب الفلسطيني المتكوّن من طوائف وملل مختلفة تفرض طريق العلمانيّة عليه، وبغير هذه الطّريق لن يصل إلى سواء السّبيل. وفوق كلّ ذلك يجب وضع الفرد في مقدّمة الأولويات، ذلك الفرد الخارج عن الإطار القبليّ والطّائفي.

هذه فقط هي طريق الشّعوب الّتي سيكتب لها البقاء.

*

نشرت في: ”الحياة الجديدة“، رام اللّه، 9 يناير 1995

***




مشاركات



تعليقات فيسبوك:


تعليقات الموقع: يمكن إضافة تعليق هنا. لا رقابة على التعليقات مهما كانت مخالفة للرأي المطروح، بشرط واحد هو كون التعليقات وصيلة بالموضوع.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!