هروبنا من مواجهة الحقائق

سلمان مصالحة ||


هروبنا من مواجهة الحقائق




منذ ارتكاب المجزرة في مكاتب الصحيفة الفرنسية الساخرة ”شارلي إيبدو“ وفي متجر الـ”كاشير“ اليهودي في باريس بأيدي من ينتمون دينيًّا إلى الإسلام، كُتب الكثير وسيُكتب الكثير حول هذه العملية، وحول موضوع الإرهاب بصورة عامّة.

إنّ من يتابع ردود الفعل العربية والإسلامية التي أعقبت ذلك يجد نفسه مضطرًّا إلى وضع بعض النقاط على ما ابتهم من الحروف، وذلك ابتغاء تنقية الأجواء وإجلاء الزؤان من الطريق التي ستفضي بنا إلى برّ الأمان.

لا شكّ أنّ هنالك الكثيرين من الّذين يعبّرون عن إداناتهم الصريحة لهذه الجرائم التي تُرتكب بحقّ الأبرياء، ليس لمجرّد أنّها تَصِمُ عموم المسلمين والعرب بوصمة الإرهاب، بل تخرج إداناتهم لها من موقف مبدئيّ واضح.

ولكن، من جهة أخرى، فهنالك الكثيرون. نعم، هنالك الكثيرون أيضًا، من فئة الذين، بالإضافة إلى التعبير ودفع ضريبة الإدانة الكلامية لمثل هذه الجرائم التي يرتكبها مسلمون وعرب، فقد يُشتمّ من كتاباتهم نوعٌ من التبرير المُبطّن لهذه الجرائم ولمرتكبيها. لذلك، لزام علينا أن نتطرّق إلى أمثال هؤلاء المُبطّنين، وإلى مواجهتهم علانية إذ لا يمكن أن يكون أمثال هؤلاء جزءًا من حلّ هذا المأزق، بل على العكس هم جزء من المأزق ذاته.

فماذا يقول هؤلاء لقرّائهم؟ بعضهم ينحي باللائمة على فرنسا ويجعل منها السبب لهذه الجريمة، فيستعيد ذكريات الاستعمار الذي لم يعد له وجود منذ عشرات السنين. والبعض يحيل الموضوع برمّته إلى تهميش هؤلاء في المجتمع الفرنسي وأنّ ”إسلام“ هؤلاء هو إسلام فرنسي داخلي لا علاقة له بالإسلام الحقيقي. وهنالك من يذهب بعيدًا بالقول إنّه لا يمكن الإساءة للرموز الدينية، وأنّه لولا نشر مثل هذه الإساءات لما كان حصل ما حصل.

في الحقيقة، إنّ من يطرح مثل هذا الكلام يرغب في الإمساك بالحبل من طرفيه، أو يحاول الرقص في حفلتي زفاف في الآن ذاته. فمن جهة، يدفع الضريبة الكلامية بالتنديد بالجريمة، ومن الجهة الأخرى يستعطف الخلفيات الدينية والثقافية التي نشأ فيها مرتكبو الجرائم، وهي ذات الخلفية لصاحب الكلام.

لننظر في أنواع تلك التبريرات المبطّنة:
إنّ الذي يذهب إلى الماضي القريب ويستعيد ذاكرة الاستعمار الفرنسي أو ذلك الذي يذهب إلى الماضي البعيد ويستعيد ذاكرة الحروب الصليبية يتوقّف فجأة عن التذكّر حيث لا يجرؤ على المضي خلفًا في الذاكرة لأنّها ستضعه أمام الحروب الاستعمارية العربية والإسلامية، أي تلك الحروب التوسّعية الاستعمارية التي يُطلق هو عليها تحبُّبًا مصطلح ”فتوحات“. فإذا كانت ذاكرته انتقائية فللشعوب الأخرى ذاكرتها أيضًا التي نُقش فيها الكثير من المواضي. إنّ الحفر في الماضي لن يُجدي نفعًا، بل قد يتكشّف عن أمور ليست لصالح من يفتح كلّ تلك الملفّات.

ثمّ إنّ الذين يرفعون مبرّرات تحيل إلى التهميش الاجتماعي لكلّ هؤلاء المهاجرين في المدن الغربية ينسون أو ربّما يفضّلون أن يتناسوا أنّ هنالك مهاجرين بالملايين من شعوب، إثنيّات ومعتقدات دينية أخرى في تلك المدن الغربية، كالهنود والصينيين والفيتناميين وغيرهم الكثيرون من أماكن شتّى كانت هي الأخرى مستعمرة من قبل هذا الغرب ذاته. غير أنّنا لا نسمع أحدًا من كلّ هؤلاء يتباكى بشأن التهميش وما إلى ذلك من دعاوى. كما إنّنا لا نسمع أنّ أحدًا من كلّ هؤلاء يجنح إلى الإرهاب وإلى ارتكاب الجرائم على هذه الخلفية.

وإذا انتقلنا إلى مسألة التبرير التي تكمن في دعوى المسّ بالرموز الدينية، فإنّ هذه الحضارة الغربية التي تكفل حرية التعبير والتفكير تفسح المجال لنقد كلّ المقدّسات، وعلى رأسها مقدساتها هي قبل مقدسات الآخرين. يجب أن يكون واضحًا أنّ حرية التفكير هي التي تدفع المجتمعات قدمًا، كما إنّنا نستطيع القول إنّ الحضارة التي لديها ثقة بالنفس هي تلك التي تكون فيها حرية التفكير والتعبير واسعة ومكفولة في الدساتير، مهما تعرّضت هذه لكلّ الأبقار المقدّسة.

وخلاصة القول، إنّ هنالك شيئًا من المحظورات التي يهرب أولئك المبرّرون من الولوج في حيثيّاتها. فكما ذكرنا، إذا كان المهاجرون من الإثنيات والمعتقدات الأخرى غير العربية وغير الإسلامية يشاركون العرب والمسلمين في ذاكرة الاستعمار، وكثيرًا ما يشاركونهم أيضًا في التهميش وفي خلفيات لها علاقة بالعالم الثالث، فلماذا لا نرى هؤلاء يشاركون العرب والمسلمين في ارتكاب جرائم الإرهاب ضدّ مواطني الدول المستعمرة ذاتها؟

إذن، والحال هذه، هل هنالك أسباب أخرى لها علاقة بنا نحن؟ وبكلمات أخرى، هل هنالك أمور تتعلّق بمعتقداتنا، بمقدّساتنا وبخلفيّاتنا الحضارية والدينية تجعل من الصدام مع الآخر جوهرًا من ذهنيّاتنا التي لا نستطيع منه فكاكًا. واللبيب من الإشارة يفهم، كما يقال.

هذه الأسئله يجب أن تُطرح على الملأ، وعلينا نحن مسؤولية الإجابة عليها، إذا رغبنا في دفع مجتمعاتنا قدمًا لأجل مشاركة البشرية في مسيرة التطوّر. إن لم نفعل ذلك، فسنظلّ نهيم على أوجهنا في صحارينا القاحلة، نتّهم الآخرين بفشلنا ولا نملك الجرأة للنظر إلى أنفسنا في المرآة.

وإذا استمرّت الحال على هذا المنوال، فلن نصل إلى سواء السبيل.
*
نشر: ”الحياة“، 20 يناير 2015


 

عن الشياطين التي فينا

دون مساءلة من نظام أو من أحد. لقد أضحى هذا النوع من الكتابة بمثابة عظمة يتلهّى بها الكتاب العرب، لأنّهم يخشون الاقتراب من المحظورات السياسية، الاجتماعية والدينية.


سلمان مصالحة || 

عن الشياطين التي فينا

قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!