عن الأدب وعن قلّته

أرشيف- قبل ربع قرن تقريبًا:


أعيد نشر هذه المقالة التي كانت قد نشرت قبل عقدين ونصف تقريبًا، وقد أثارت في ذلك الوقت جدلاً حادًّا. لعلّ ما ورد فيها لا يزال يسري على هذه الساحة الأدبية في الوقت الحالي أيضًا.

سلمان مصالحة || عن الأدب وعن قلّته


منذ زمن طويل تتخبّط الحركة الأدبية المحلية في قضايا هي أبعد ما تكون عن صميم الأدب. لقد مرّ زمن طويل من المناوشات التي تتسم بالحزازات الشخصية بين مجموعات هي في الغالب ذات طابع سياسي في أحسن الأحوال. إنّ ما يمرّ على المجتمع العربي في البلاد هي حالة من ضياع الطريق. وهذا الضياع يفرض طابعه على جمهور الكتاب من شعراء وقاصّين.

الشعر المحلّي ما هو؟
يصعب على المتابع للحركة الأدبية المحلية انتشال بعض اللآلئ من هذه البحور غير الخليلية، ليس فقط لعدم خبرة الناقد والقارئ في استجلاء خبايا هذا البحر الشعري، إنّما الحقيقة هي أنّ هذا البحر يفتقر في الغالب إلى اللآلئ.

منذ مدّة طويلة لا يوجد اتّحاد عامّ للكتاب العرب في البلاد، والسبب من وراء ذلك هو المنازعات غير الأدبية التي تعترض طريق العاملين في الأدب. وأنا أقول العاملين في الأدب ولا أقول الأدباء عن سبق إصرار، وسأتحمّل على عاتقي مسؤولية هذا الحكم.

بعد أن قامت على الساحة السياسية حركات ومجموعات مثل الحركة التقدمية، ثم الحزب الديمقراطي العربي جرّت معها هذه الحركات صراعات سياسية مع الجبهة الديمقراطية وقوى سياسية أخرى عاملة في المجتمع العربي المحلّي. تلك كانت صراعات مشروعة في العمل السياسي، لكنّ الأمر لم يتوقّف عند ذلك، بل تمخّض عنه منازعات ومناوشات بين متأدّبين ينتمون في الواقع إلى تيارات مختلفة سياسيًّا. لم يكن الخلاف بين هؤلاء خلافًا حول طريق أدبيّ ولا جماليّات الإبداع الفنّي. لقد أدّى هذا النزاع إلى إقامة ما يسمّى اتّحاد كتّاب، أو رابطة كتّاب أو غير ذلك. كلّ منها تتبع لحركة سياسية معيّنة ممّا دفع بالسياسيين المتأدّبين إلى الإسراع بجمع تواقيع وأسماء لا تمتّ إلى الأدب بصلة. لقد صبّوا جلّ اهتمامهم في تعداد حُمّال العصي ”الأدبية“، وإدخالهم تحت كنف قبيلتهم دُخلاء، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم. في الكثير من الحالات كنت ترى أسماء، ربّما كتب الواحد منهم شيكًا، فأصبح في عرف الاتّحاد أو الرابطة أديبًا يُشار إليه. وهكذا كثرت وتعاظمت قلّة الأدب حتّى آلت هذه الاتّحادات والروابط إلى السقوط في متاهات غير أدبية عملاً بالقول ”من يودّ معاشرة الشاعر أو الأديب فليتحمّل خرابيشه”.

والخرابيش كثيرة !
كثر من الأسماء التي يتمّ الترويج لها على صفحات الصحف المحلية هي أسماء لم تأت بشعر جديد ولا بأدب جديد، وإنّما لها ندّابات من قبيل الحكّ المتبادل، كما إنّ غياب النقد الموضوعي المتمرّس أدّى إلى تفاقم هذه المحنة. وهي محنة حقًّا.

كسدوم صرنا، عامورة شابهنا
ما الّذي حدث حتّى آل بنا المصير إلى ما نحن فيه؟ الإجابة على هذا السؤال ليست بالأمر السهل كما قد يتبادر إلى الأذهان. لقد مرّت الحركة الأدبية عندنا في مراحل عديدة منذ انفجار الدولة هنا وتشتّت الغالبية العظمى من الشعب الفلسطيني، على قياداته السياسية، وما يهمّنا هنا، على روّاده في مجالات الأدب المختلفة.

ومع كلّ الذي حدث قامت هنا حركة أدبية من تحت الأنقاض وأخذت في الظهور أسماء وقفت على رجليها من خلال إشاعة روح الأمل لدى الذين بقوا هنا في الوطن، الذين عاشوا الحصار الفكري والانقطاع عمّا يجري على الساحة العربية. لقد مرّت هذه المرحلة منذ زمن وتطوّر المجتمع العربي في البلاد وتطوّرت معه أذواقه الأدبية والفنية. لكنّ محنة الأدب المحلّي هي أنّه بقي في تلك الفترة، ولم يتطوّر اللّهمّ إلاّ فيما ندر. وهكذا، وعلى سبيل المثال، لم يعد الشعر المحلّي يجاري هذه الروح العربية الجديدة، إنّما بقي في جاهليّته الجهلاء.

والجاهلية الأدبية التي تعيشها حركتنا هي الجهل الحقيقي لمعنى الشعر والأدب. الإبداع هو ابتداع عالم جديد، أي هو عملية خلق دائمة لا تهدأ ولا تركن إلى طمأنينة مزيّفة تبسطها عليها أقلام جاهلة لا تفهم الأدب ولا تفقه الشعر. وحتّى لا أتّهم بأنّي ألقي الكلام على عواهنه دون الإشارة إلى ما أرمي إليه، فها إنّي قائل لكم قولاً لن يروق لكثير منكم في أحسن الأحوال.

قبل فترة من الزمن انعقد في “بيت الكرمة” في حيفا اللقاء السنوي لأدباء عرب ويهود ضمن إطار شهر الثقافة العربية. لقد طلب منّي المنظّمون أن أشترك في ندوة تبحث في ترجمة الأدب والشعر بين اللغتين العربية والعبرية. خلال الندوة سمعت ادّعاءات من بعض الحاضرين عن افتقاد ساحات النشر العبرية لترجمات من نتاج الشعراء المحلّيين، ولكنّ هذا البعض لم يُشر بأيّ حال إلى افتقاد الساحة العربية من ترجمات للأدب العبري، إنّ شكوى هؤلاء تعود في الأساس إلى لوم المترجمين بسبب عدم ترجمة ما يُسمّى بأشعارهم. ربّما كان هذا الادّعاء صحيحًا في الماضي، غير أنّ الحقيقة أنكى من ذلك وأمرّ. ففي نظري، وقد عبّرت عن ذلك ضمن الندوة، أنّ القضية ليست افتقاد الساحة إلى ترجمات، إنّما هي افتقار الساحة إلى نتاج ذي مستوى أدبي لائق للترجمة. لقد قلت إنّ ثمّ كثيرًا من المتشعّرين، لكنّ الشعراء قليل ما هم. هنالك كثير من الشعراء الذين يُتّهَمون بالشعر ظلمًا، ليس فقط لهم وإنّما، والأهمّ من ذلك، ظلمًا للشعر وتجنّيًا على حركتنا الأدبية. لقد أسميت الكثير منهم في تلك الندوة بشعراء الكاسيتات والمحطات المركزية أو بشعراء الرعاع والسوقة. إنّهم لا يتكلّمون من ذاتهم، بل الشارع يتكلّم من أفواههم. الشارع هو الـ”نحن”، مثلهم في ذلك مثل شعراء القبائل. وحيثما تسكن الـ”نحن” في النتاج ينزح الأدب ويغيب الشعر.

لقد أثارت هذه الأقوال حفيظة بعض الحاضرين الذين تنطّحوا بالقول إنّ في ذلك تجريحًا لكثير منهم. ربّما كان الكثير من الحاضرين ومن غير الحاضرين هم الذين أعنيهم حقًّا في قولي، غير أنّي لم أقصد بأيّ حال السقوط في مهاوي التجريحات. لقد قصدت وضع النقاط على الحروف المبهمات مبتغيًا الإشارة إلى الخلل الأدبي الذي نعيشه، وإبراز الزلل الذي يعترض الطريق بهدف الترهيب والترغيب. الترهيب من مغبّة ما يجري من إسفاف والترغيب إلى ما يجب أن يحدث في النتاج الأدبي المحلّي.

لقد حضر إليّ بعد الندوة “شاعر” صابًّا اللوم عليّ على أقوالي هذه، فتعزّز لديّ الإيمان بصدق ما أقول. لقد قال لي بالحرف الواحد إنّه كيف لي أن أقول ذلك باللغة العبرية وأضاف أنّه لو كان الحديث في ندوة مغلقة بين الأدباء العرب لكان يحقّ لي قول كلّ ما أفكّر به. يعني، بكلمات أخرى، كيف أنشر هذا الغسيل الوسخ علانية باللغة العبرية، أي أنّ:

لكلّ مقام مقال
هذا القول العربي الذي تأصّل في المفاهيم العربية أوصلنا إلى حياكة الكثير من المؤامرات، ليس هنا فحسب، بل على الساحة العربية قضّها بقضيضيها، محيطها بخليجها. غير أنّ هذا مجال لن نتطرّق إليه في هذه العجالة المحلّية. أريد أن أصرّح هنا بالقول بأنّ التعامل مع الحقيقة غير محدود الحدود، وليس ثمّ مقام لقول الحقيقة ومقام آخر لنشر الأكاذيب. فكلّ مكان، وكلّ زمان، هما مكان وزمان الحقيقة. والحقيقة، والحقيقة فقط، هي الزمان والمكان في آن.

ولكي لا يتّهمني أحد بنشر الغسيل الوسخ في رحاب غريبة، فها أنا ناشره على مسامعكم بلغتكم، لغتي العزيزة على روحي، لكي يحكم الناس ولكي يتعوّد القرّاء على قراءة الحقائق بكاملها.

إنّ المسؤولين عن هذا الوضع المزري هم أولئك المحررون وأصحاب المجلات والنشرات الذين يقومون بالترويج لأنفسهم ونشر صورهم هم وأخبارهم، وصور وأخبار مقرّبيهم دون الاحتكام إلى أدنى موازين التقييم الأدبي. إنّهم هم ومن دار في مدارهم المسؤولون عن هذا الدرك الأدبي. وفي غياب النقد السليم تخلو الساحة لكلّ من يمسك قلمًا ويخطّ بعض الخرابيش.

قبل أكثر من عام قامت السلطة الغبيّة بمحاكمة “شاعر” بحجّة التحريض بشعره، وكان من جرّاء هذه الخطوة السخسفة أن اتّهمته بالانتماء للشعر. ومنذ ذلك الحين وهو يظهر مع من يظهر في تلك الشلل التي ليس لها ما تقوله سوى امتهان الأدب وتوسيخ سمعته. أمّا الأدب الحقيقي فمنهم وممّن لفّ لفّهم براء.

خُذوا على سبيل المثال هذا “الدكتور” الذي يروّج لشعره المترجم، ولكن وما العمل في أنّه متطفّل على الشعر ولا يعتبره أحد. مع ذلك قهو يتناحر ويتزاحم على الساحة الأدبية. هل لديه ما يقوبه في هذا المجال؟ بالطبع لا. لكنّ انشغال هذه الزّمر الأدبية التي تُطلق على نفسها اسم الروابط والاتحادات تدفعها إلى تجنيد أكبر عدد من المتأدّبين لكي يتفاخر كلّ منهم باحتوائه أكبر عدد من الأسماء. أو خذوا على سبيل المثال، دكتورًا آخر، طالما قصّد قصائد المناسبات للزعامات السياسية، أهو شاعر أم مراهق شعر، رغم السنوات الطويلة التي يحاولون الترويج له؟ هل لديه ما يقوله غير تلاعب ببلاغة عربية مشلولة؟ لكنّ الزمر الأدبية نهجل طريق “عدّي رجالك عدّي”.

كنت درست في المرحلة الثانوية لدى أستاذ اللغة العربية فحبّب إليّ في حينه اللغة العربية والأدب العربي، وأنا شاكر له هنا هذا العمل الجليل طوال سنين. لكنّ تدريس الأدب واللغة شيء، والكتابة والإبداع شيء آخر. قبل حوالي سنة التقيت أستاذًا جامعيًّا قدّم لمجموعة شعرية من نتاج أستاذ اللغة العربية، فسألته كيف يقوم بعمل ذلك، فقد يُخطئ البعض ويصل إلى الظنّ أنّ الحبّة تحوّلت قبّة. فكان ردّه لي أنّه ما العمل والحال هذه في الأدب المحلّي، وأنّه يفعل ذلك من قبيل التشجيع للمحاولات الأدبية. وفي كثير من الأحيان حينما نتطرّق في أحاديث خاصّة عن وضع الشعر والأدب كان يقول لي إنّه كثيرًا ما يوافقني الرأي فيما أرمي إليه. غير أنّ نظرته إلى ما يجري تظلّ نظرة الباحث الفاحص للحركة المتتبّع لما يجري فيها. وأكثر من مرّة قال لي، إنّه في الغالب لا يريد التطرّق إلى التقييم الأدبي. ربّما كان ذلك من حقّه، لكن من حقّنا أيضًا أن نقوم بعملية تقييم جذرية لما يجري في ساحتنا الأدبية، لكي نخرجها من هذه المطبّات التي سقطت فيها فأسقطت معها الأذواق الأدبية وشوّهت معها نكهة الآداب العربية الأصيلة.

هنالك الكثير من الأبقار التي خرجت للرعي في حقول الأدب المحلّي، فتلحس كلّ ما يلوح لها، لكنّها لا تجترّ إلاّ الزؤان. كثيرًا ما يميل البعض إلى الظنّ أنّها بقرات مقدّسات. لكن، آن الأوان إلى تصريح القول بالحقيقة علانية لكي تتمّ تنقية الساحة الأدبية من الدخلاء عليها. لتكن هذه المقالة فاتحة خير لسنّ المديّ واللحاق بكثير من البقرات اللواتي تقدّسن لا لشيء إلاّ لانتماءاتها الشللية والفئوية. وبذلك نشفي حركتنا من الشَّلَل الذي تجذّر فيها. فكم من أديب وشاعر من بين المواهب الشابّة التي تفضلها مرّات لا يصل إلى الأسماع بسبب احتكار هذه الزعامات التقليدية للمخترة الأدبية. لن يطول الوقت وسنضع هذه المخترات الزائفة عند حدّها.

إنّي قد بلّغت، اللهمّ فاشهد!
(المغار)
---
نشر: كلّ العرب - 2 يوليو 1993

مشاركات



تعليقات فيسبوك:


تعليقات الموقع: يمكن إضافة تعليق هنا. لا رقابة على التعليقات مهما كانت مخالفة للرأي المطروح، بشرط واحد هو كون التعليقات وصيلة بالموضوع.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!