محن الهوى

سلمان مصالحة || محن الهوى

الحُبُّ، هذا الَّذِي فِي القَلْبِ
يُخْتَزَنُ، مَا كَانَ لَوْلا الَّتِي
فِي لَحْظِهَا شَجَنُ.

لو كان بي أمل

سلمان مصالحة || لو كان بي أمل

لَوْ كَانَ بِي أَمَلٌ،
لاخْتَرْتُ أَنْ أَمْشِي
إِلَى الحُقُولِ الَّتِي نَامَتْ
عَلَى رِمْشِي.

سرب غيم


سلمان مصالحة || سرب غيم


تَقَلَّبَ نَاظِرِي فِي
سِرْبِ غَيَمٍ، تَنَاثَرَ مِنْ
سُلالاتِ الغُرُوبِ.

فَوَافَقَ نَبْضُهُ نَغَمًا
بِقَلْبِي، تَبَعْثَرَ فِي
التُّرَابِ عَلَى الدُّرُوبِ.

حوارات من أجل الغد


أرشيف (يوليو 2008): 

مقابلة تحوّلت إلى عراك

حوارات من أجل الغد


قبل سنوات اتّصل بي الدكتور أفنان القاسم مستفسرًا عن بعض القضايا. ثمّ لاحقًا طلب إجراء حوار يكون كتابيًّا ليتمّ تعميمه نشرًا في موقعه. ولمّا كنت أنشر آرائي على الملأ معبّرًا عن قناعاتي دون البحث عن شعبويّة عابرة، فقد وافقت على إجراء الحوار ونشره. ثمّ فوجئت بنشر المقابلة مع تقديم الدكتور أفنان القاسم يسبغ فيه عليّ نعوتًا مثل ”ضحية الفكر السائد“، وما إلى ذلك. فكتبت ردًّا على كلامه وتقديمه ونشرته في حينه أيضًا.

ها أنذا أعيد نشر الحوار والتقديم حرفيًّا، منقولاً عن جريدة “مصر الحرّة”، كما أعيد نشر مقالتي في الردّ على د. أفنان القاسم. وحينما أفعل ذلك فإنّما أفعله توثيقًا للكلام، ولكي يكون عقل القارئ النبيه هو الفصل في هذه القضايا التي لا زالت راهنيّة بعد مرور كلّ هذه السنوات.

عن الفتن النائمة وعن موقظيها

لقد آن الأوان أن نكفّ عن إبداء الاندهاش والاستغراب ممّا يجري في ربوعنا. لقد آن الأوان أن نغيّر ما بأنفسنا من مسبّبات الفتن. حقيقتنا المرّة هي أنّنا لن نصل إلى سواء السبيل ما لم نسأل أنفسنا السؤال الأكبر: من نحن؟

سلمان مصالحة ||


عن الفتن النائمة وعن موقظيها


بداية، لا مناص من طرح السؤال: لماذا نحن العرب نحبّ السبات؟ والجواب: لأنّنا إذا استيقظنا ونظرنا حولنا وجدنا أنّنا أكوامًا مكدّسة من الشراذم لا يجمع بيننا شيء، اللّهمّ سوى كلام الشعراء المعسول عن كوننا ننتمي إلى أمّة وحضارة واحدة. غير أنّ الحقيقة المرّة هي خلاف ذلك قطعًا. فكلّما هبّت ريح في الأصقاع العربية وحرّكت الرمال الهامدة كشفت تحت هذه الرّمال جمرًا متّقدًا. وهكذا، يكفي أن يلقي البعض منّا عودًا من أعواد ثقافتنا اليابسة والغارقة في السبات لكي تشتعل نيران الفرقة والشرذمة من جديد لتطال ألسنة هذه النيران الأخضر واليابس الذي ينوجد في جوارها.

لذلك، ومنذ القدم ورد وشاع في اللغة العربية قول منسوب للرسول العربي: ”الفتنة نائمة، لعن الله من أيقظها“. فماذا يعني هذا القول؟ لو تفكّرنا فيه مليًّا لوجدنا أنّنا، ومنذ أن شاع هذا القول على ألسنة الناس، نعرف أنّ هذه الفتنة كامنة بين ظهرانينا وهي فقط في حالة من السبات، ليس إلاّ. وبدل أن ننظر في الحيثيّات والمسبّبات لهذه الفتنة، وبدل أن نبحث عن إيجاد السبل للخروج من هذا المأزق البنيوي الذي نحن فيه، فإنّنا نفضّل الهرب من مواجهة هذه الحقيقة، ولا نملك غير الدعوة إلى العودة الـ”مباركة“ إلى هذا السبات المزمن. إنّه السّبات ذاته الذي يفسح المجال لحاملي رايات البلاغة العربية التليدة والبليدة، من صنف أولئك الذين يصمّون الآذان بكلام منشور، منثور ومقفّى، والّذي كثيرًا ما يعجّ بشعارات تدغدغ العواطف وتكرّس العيش في حالة الوهم العربي.

وهكذا، وعندما تنتشر هذه الشرارات في ربوعنا وتزداد معها حدّة النيران التي تبدأ بالتهام البشر والشجر والحجر في بلادنا، فإنّ بلاغة البلادة تزداد معها انتشارًا. وهكذا يسارع تجّار البلاغة إلى الإفصاح عن مفاجآت هذا الاكتشاف الذي ينخر عظام قُطّان هذه الديار. وفي غمرة الاكتشاف الجديد يضيفون شعارًا قديمًا-جديدًا إلى جعبة توصيفاتهم، فيصرخون على الملأ: ”الدين لله والوطن للجميع“.

يظنّ الّذين يرفعون هذا النوع من الشعارات، واهمين بالطبع، أنّهم بمجرّد رفعهم هذه الشعارات العاطفيّة فإنّ الفرج سرعان ما سيأتي على جناح هذه البلاغة العربية بعد كلّ هذه الشدائد المزمنة والمغرقة في القدم.

وسؤال آخر: هل عرف القرآن حقيقة العرب؟ هذا السؤال يتبادر إلى الذهن لدى النّظر في الآية الحادية عشرة من سورة الرعد، حيث ورد فيها: ”إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم“. فإذا جنحنا إلى وضع تفسير جديد لهذا القول، وذلك عملاً بمفهوم الصّلاح لكلّ زمان ومكان، فإنّ التفسير الجديد سيُحيلنا إلى استحالة التغيير في المجتمعات العربيّة دون أن يجنح الأفراد إلى النظر في دواخلهم بغية إصلاحها من الأدران الكامنة فيها. إنّ هذه الأدران الاجتماعية هي ذاتها تلك الفتنة النائمة التي ورد ذكر اللعنة على من يوقظها. فهل كلّ فرد منّا هو مشروع كامل متكامل من هذه الفتن النائمة في دواخلنا؟

وعلى هذه الخلفية، فإنّي وبخلاف الذين يدعون إلى الإبقاء على الفتنة نائمة، فإنّي أدعو بالذات إلى إيقاظها. نعم، أدعو إلى إيقاظها، ليس بمعنى تعزيز سلوكيات العداوة بين البشر، بل بمعنى الكلام صراحة عن هذه المحنة، الكامنة في دواخلنا. لأنّنا، إذا لم نجد في أنفسنا ما يكفي من الجرأة للحديث عن مشاريع الفتن هذه التي تنخر في دواخلنا، فلن نجد حلولاً لهذه المعضلات.

علينا أن نعترف أوّلاً، بيننا وبين أنفسنا، أنّ ثمّة أكثر من فتنة في دواخل مجتمعاتنا. حريّ بنا، أفرادًا، قبائل، طوائف ومجتمعات، أن نضع كلّ هذه الفتن تحت المساءلة اليومية. إنّ الميل العربي إلى الهرب من مواجهة الحقائق لن يوصلنا إلى سواء السبيل. لننظر إلى أنفسنا، ولننظر إلى أين أوصلتنا محاولاتنا الدائمة في الركون إلى السبات الدافئ في حضن شعاراتنا المدغدغة لعواطف هذه الأمّة المراهقة.


*

نشر: ”الحياة“، 20 نوڤمبر 2014

***




في أوسلو راحت القدس


أرشيف (1994): وذكّر إن نفعت الذكرى

*
خلال عقود طويلة من الزّمن لم تشكّل القدس سوى ضريبة كلاميّة على ألسنة الزّعماء العرب، وعلى ألسنة الزّعماء المسلمين.


سلمان مصالحة ||

في أوسلو راحت القدس



لا شكّ أنّ الملك حسين حينما يمرّ بطائرته فوقنا هنا ميمّمًا نحو أوروپا ينظر من شبّاكه إلى ما يجري تحته. ولا شكّ أنّه حينما حلّق فوق القدس ليلقي نظرة على الملايين الّتي صرفها لترميم قبّة الصّخرة قد شاهد، بين ما شاهده، كلّ المعالم الجديدة لهذه المدينة المحتلّة. لا شكّ أنّه شاهد جميع المستوطنات الّتي أقيمت حول القدس لتحدق بها من جميع الجهات بغية فرض الأمر الواقع على هذه المدينة الّتي تصرّ إسرائيل على أنّها خارج المفاوضات. لقد شاهد كيف تحوّلت هذه المدينة المحتلّة تحت سياسة التّعمير والاستيطان إلى مدينة إسرائيليّة كبيرة، بحيث تحوّل الفلسطينيّون فيها إلى أقليّة. ولم تعد القدس العربيّة المحتلّة سوى حارة صغيرة ضمن حدود المدينة الكبرى.

خلال عقود طويلة من الزّمن لم تشكّل القدس سوى ضريبة كلاميّة على ألسنة الزّعماء العرب، وعلى ألسنة الزّعماء المسلمين. وإن لم يكن الأمر كذلك فكيف تفسّرون عدم اهتمام العرب والمسلمين بالقدس، فلم يقوموا بالبناء المكثّف في المدينة، ولم يقوموا بتطويرها لتصبح محجّة مزدهرة من النّاحية الحضاريّة والسكّانيّة. وهكذا ظلّت بعيدة عن أنظار النّاس، اللّهمّ إلاّ فيما ندر، وحتّى هذا النّادر كان نادرًا أيضًا.

ألا تلاحظون أنّ المصطلح الّذي يُطلق على القادة في العالم العربيّ، أعني، لقب »الزّعماء العرب« قد اشتقّ من الزّعامة الّتي اشتقّت من الزّعم. فهؤلاء الزّعماء في الحقيقة يزعمون أنّهم يمثّلون الجماهير العربيّة، ويزعمون أنّهم يسهرون على مصالحها. وهم يزعمون أيضًا، مثلما زعموا دائمًا، أنّهم يهتمّون بمدينة القدس. والحقيقة كما يعلم ذوو البصائر هي غير ما يزعمون.

لقد مضى عام على اتّفاق أوسلو بين منظّمة التّحرير وبين إسرائيل، وكانت مسألة القدس من أهمّ النّقاط الّتي استثناها هذا الاتّفاق، بين ما استثناه من نقاط جوهريّة أخرى. لم تكن ثمّ طريق أمام الزّعامة الفلسطينيّة سوى طريق الاختيار بين الانهيار التّام، أو إنقاذ نفسها إلى أجل مسمّى والوقوع في الفخّ الّذي نُصب لها في غزّة وأريحا.

وهكذا، اكتملت خيوط اللّعبة الإسرائيليّة مع الأردنّ، وربّما مع دول عربيّة أخرى. ألا تذكرون كيف كان رابين وپيرس يحثّان عرفات على القدوم إلى غزّة بعد أن تباطأ الأخير في تونس. فقد كان الفخّ منصوبًا وحاضرًا للإطباق عليه. وهكذا أسرع الملك حسين بعد ذلك لالتقاط عظمة الإشراف على الأماكن المقدّسة في القدس العربيّة المحتلّة، لأنّ هذه العظمة هي الّتي تهمّه، وذلك لأسبابه الخاصّة التّاريخيّة مع العائلة المالكة في شبه الجزيرة العربيّة.

وبالنّسبة لإسرائيل، على الرّغم من بعض الأصوات الّتي ندّدت بمنح الأردن حقّ الإشراف على الحرم القدسيّ، فلم يتغيّر شيء على أرض الواقع وبقيت هي المسيطرة على القدس بكاملها.

والآن، ستحاول الحكومة الإسرائيليّة بكلّ ما أوتيت من حنكتها السياسيّة أن تُنهي جميع بنود الاتّفاق مع الأردن، وربّما مع دول أخرى مرجئة قضيّة القدس مرّة أخرى إلى أجل آخر. وبعد أن يتمّ كلّ ذلك، هل سيبقى أمام الزّعامة الفلسطينيّة أيّ وسيلة للضغط على إسرائيل بالتّراجع عن مواقفها المتزمّتة بشأن القدس؟ في الواقع، أشكّ في ذلك كثيرًا.

هنالك جانب آخر لعدم الاهتمام بالقدس، ليس فقط على الصعيد السياسيّ بل على الصّعيد الثّقافي والحضاري الجماهيري. في الآونة الأخيرة بدأت تنتقل النّشاطات الثّقافيّة إلى رام اللّه، وقلّما تجري أيّ فعاليّات ثقافيّة في القدس العربيّة المحتلّة. قد يكون ذلك قد نشأ بسبب الطّوق الّذي فرضته إسرائيل على القدس المحتلّة أمام سكّان الضّفة والقطاع، لكن أليس من حقّنا أن نتساءل عن هذا القبول بالأمر الواقع الإسرائيلي. ثمّ أليس من واجب الفنّانين والمثقّفين ورجال الفكر الفلسطينيّين أن يجعلوا من القدس عاصمة ثقافيّة للشّعب الفلسطيني.

إنّ انعدام النّشاطات الثّقافيّة في القدس العربيّة المحتلّة الّتي من شأنها أن تستقطب جماهير كثيرة ووضع القدس في سلّم الأولويات الحضاريّة لهو مسمار آخر يدقّ في تابوت القدس العربيّة المحتلّة. وإن لم يتمّ تدارك ذلك الآن ستتحوّل القدس العربيّة المحتلّة إلى حارة مهملة في مدينة إسرائيليّة، على غرار يافا، وعكّا، أو ربّما أكثر من ذلك. هل تتذكّرون غرناطة؟

فليكتب الشّعراء القصائد العصماء.
*
نشرت: كل العرب، 16 سبتمبر 1994





أپرتهايد



كأنّنا يا بدر لا رحنا ولا جينا.

قبل أن يستفيق الـ”مفكّرون” والـ”منظّرون” ومن لفّ لفّهم واقتفى خُفّهم أو ضربَ دَفّهم، كنت قد أشرت إلى حالنا هنا، وحاولت التنبيه إلى ما يُحاك لنا في هذه البلاد.

أرشيف: مقالة نشرت في 10 ديسمبر 1993

*

عن الأدب وعن قلّته

أرشيف- قبل ربع قرن تقريبًا:


أعيد نشر هذه المقالة التي كانت قد نشرت قبل عقدين ونصف تقريبًا، وقد أثارت في ذلك الوقت جدلاً حادًّا. لعلّ ما ورد فيها لا يزال يسري على هذه الساحة الأدبية في الوقت الحالي أيضًا.

سلمان مصالحة || عن الأدب وعن قلّته


هل هنالك مخرج من المآزق العربيّة؟


فإذا كانت العروبة جامعة لأطياف ومذاهب ومعتقدات دينية مختلفة، فما معنى أن يكون المرء عربيًّا، إذن؟ إنّ من يؤمن بوحدة هذه الأمّة وبحضارتها لا يمكن أن يكون إلاّ علمانيًّا، أو لا دينيًّا. إذ أنّه بدون ذلك ستفقد عروبته كلّ معانيها...

سلمان مصالحة ||

هل هنالك مخرج من المآزق العربيّة؟


الكتابة في الشأن السياسي العربي هي عمليّة محبطة للغاية. إذ إنّ حال من يمارس الكتابة في هذه الأمور شبيهة بحال من يدور في حلقة مفرغة. فلقد قيل كلّ شيء عن الدولة وعن المواطنة وعن الثورة وعن الاشتراكية. لقد قيل وكتب كلّ شيء عن الاستعمار، وعن الشيطان الأكبر والشيطان الأصغر. لقد قيل وكتب كلّ شيء عن العروبة وعن الإسلام. لقد قيل وكتب كلّ شيء وتمّ اجترار كلّ هذا الكلام على طول العالم العربي وعرضه. ولكن، ويا للعجب، لم يأت كلّ هذا الكلام بأيّ نتيجة. فيا للعجب، ما هو السبب؟

في الواقع، هنالك قوى كبرى وحقائق ضاربة جذورها في هذه البقعة من الأرض تُسيّر المجتمعات العربيّة بعيدًا عن أوهام وشعارات الكتّاب. ومن الملاحظ أنّ الكتّاب العرب قلّما يتطرّقون إلى هذه الحقائق، وبدل ذلك يختارون السباحة في وهم شعارات برّاقة تدغدغ العواطف في المجتمعات الذكوريّة العربية. إنّ ارتفاع نبرة ووتيرة الكلام عن الأمجاد الماضويّة وطوال عقود طويلة كان أكبر شاهد على عقم وعياء الحال العربيّة الرّاهنة. لقد شكّل الهرب إلى الماضي في كتابات العروبيّين أو الإسلامويّين هربًا من مواجهة التحدّيات التي تواجه الجماهير في هذا العصر.

ففي غمرة الانتشاء بالشعارات البرّاقة، لم ينتبه هؤلاء إلى أنّهم يناقضون أنفسهم في طروحاتهم. لم ينتبه هؤلاء إلى أنّهم يقفون في خندق يتناقض مع شعاراتهم الشعبويّة الّتي طالما اجترّوها. وما من شكّ في أنّ أكبر هذه الشعارات الشعبويّة، التي شكّلت كواتم عقول على رؤوس رافعيها ومنذ عشرات السنين، كان شعار فلسطين.

”مجنون يحكي وعاقل يسمع“، كما يقال في لهجتنا. فالوحدوي العروبي الذي يتحدّث، على سبيل المثال، عن تحرير فلسطين. على ماذا يستند في دعواه هذه؟ عن حقّ الشعوب في تقرير المصير؟ حسنًا. إذا كان الأمر كذلك، فماذا تعني الوحدويّة والعروبة، إذن؟ ولماذا تقرير مصير لشريحة هي جزء من كيان أكبر، أي العروبة؟ ولماذا، والحال هذه، لم يتوقّف ذلك العروبي والوحدوي عن الإصرار على خاصيّته المصرية، السورية، العراقية، التونسية وغيرها من الهويّات الإقليمية. وإذا كان مؤمنًا بحقّ بما يتلفّظ به، فلماذا لا يطالب بحلّ وتفكيك كلّ تلك الدول وصهرها في كيان عروبي واحد؟ وإذا لم يفعل ذلك ويرفع شعار تفكيك دولته الوطنيّة بغية الوصول إلى الوحدة، فإنّ كلّ شعاراته عن فلسطين مستقلّة تفقد معناها، إن لم نقل إنّها كانت كاذبة أصلاً جملة وتفصيلاً.

وإذا انتقلنا إلى شعارات الإسلامويّين، فماذا نجد؟ إنّ حال هؤلاء هي على ذات المنوال. فالإسلاموي الذي يقول: ”طزّ في مصر“، على سنّة مرشد الإخوان، فإنّ هذا الـ ”طزّ“ لا شكّ ينسحب على سائر البلدان، بدءًا بفلسطين وانتهاءً بالعراق، سورية أو لبنان والسّودان. وإذا كان يؤمن بذلك حقًّا، فليصرّح بذلك علانية، وعليه أن يتحمّل كامل المسؤوليّة عن عواقب شعاراته.

الحقيقة المرّة هي أنّنا، نحن العرب، كثيرًا ما نتهرّب من مواجهة الأسئلة الحقيقية التي يتوجّل علينا الإجابة عليها. إنّ السؤال الأكبر الذي يجدر بنا الإجابة عليه هو: ماذا يعني أن تكون عربيًّا في هذا الأوان؟

لا مناص من طرح السؤال، ولا مناص من القيام بمحاولة جدّية للإجابة عليه. فكُلّ من يدّعي الانتماء لهذه الشريحة البشرية المسمّاة عربًا، لزامٌ عليه أن يشرح لنا بصراحة معنى هذا الانتماء كما يراه. إذ أنّنا، وإزاء ما نشاهد في الأعوام الأخيرة في البقاع التي يقطنها العرب، نُصدم من رؤية الشعارات الجوفاء التي شببنا وترعرعنا عليها وشبعنا من ترديدها قد فقدت كلّ معانيها. كلّ هذه الشعارات لم تعد تنطلي على أحد من أبناء هذه البقعة من الأرض.

لا بدّ من وضع علامات الاستفهام حول معنى المصطلحات الدارجة على ألسننا في هذا السياق. فمنذ أن نشأنا وجدنا أنفسننا أمام هذه الثنائية الوجودية المشطورة بين ”عرب“ من جهة، و”مسلمين“ من جهة أخرى. غير أنّ ”العربيّ“ سابقٌ وجودًا وحضارةً لوجود ”المسلم“ وحضارته.

صحيح أنّ الإسلام طغى على بقاع واسعة من الأرض غير أنّه لم يستطع صهر الأقوام والأمم في بوتقة واحدة جامعة للهويّات الإثنية الحضارية. فقد ظلّ الفارسيّ فارسيًّا، والتركيّ تركيًّا، والكرديّ كرديًّا والهنديّ هنديًّا بلغاتهم وحضاراتهم، رغم إسلام كلّ هؤلاء وأمثالهم. وكذا هي الحال مع الـ”عرب“ بوصفهم قومًا في بقعة جغرافية واحدة. فلم تكن العروبة في يوم من الأيّام جامعة لكلّ تشعّبات هذه الشرائح البشرية العربية التي يُفترض أنّها تنتمي لهوية واحدة. إذ أنّ العصبيّة القبليّة هي التي تُحدّد مسير ومصير الأفراد ضمن المجموعة وتحدّد مسيرها ومصيرها تجاه المجموعات القبلية الأخرى.

فإذا كانت العروبة جامعة لأطياف ومذاهب ومعتقدات دينية مختلفة، فما معنى أن يكون المرء عربيًّا، إذن؟ إنّ من يؤمن بوحدة هذه الأمّة وبحضارتها لا يمكن أن يكون إلاّ علمانيًّا، أو لا دينيًّا. إذ أنّه بدون ذلك ستفقد عروبته كلّ معانيها. فإذا كانت عقيدته الدينيّة، المذهبيّه والطائفيّة تقف في الصّدارة، فلا معنى للعروبة التي يتشدّق بها. إذ إنّ الذي ينتمي لمذهب وطائفة مختلفة سيجد نفسه خارج هذه الهويّة المتصدّرة. هكذا يحدث الشّرخ ويبدأ الانشقاق في هذه المجتمعات. إنّ أنظمة الاستبداد في العالم العربي لم تُعط إجابات على هذه الأسئلة الوجوديّة. إنّها فقط كنست هذه المآزق ووضعهتا تحت بساط الاستبداد. لذلك، فعندما يتضعضع الاستبداد قليلاً تطفو كلّ هذه القضايا على السطوح العربيّة. وفي الحقيقة هذا ما نلمسه جميعًا من تفسّخ مجتمعي على طول وعرض العالم العربي بأسره في السنوات الأخيرة.

لهذا السبب، وبغية الخروج من المآزق العربيّة، لا مناص من مواجهة هذه الأسئلة المستعصية بعقول منفتحة وبالنّظر إلى حقائق هذه المجتمعات وعدم الهرب إلى شعارات بائتة واتّهام العالم أجمع بالمآسي العربيّة، دون النّظر ولو مرّة واحدة إلى أنفسنا في المرآة.


*

نشر: ”الحياة“، 5 نوفمبر 2014

***




مسؤولية العرب عن النظرة النمطية إليهم

أرشيف: مقالة نشرت في صحيفة الحياة، سنة 2001

كثيرا ما يقال ان أذرع الصهيونية الطويلة قد طالت كل مراكز القوى الاعلامية الغربية حتى بات من العسير اختراقها أو تحويل وجهتها العدائية.
 
سلمان مصالحة ||
مسؤولية العرب عن النظرة النمطية إليهم
قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!