هل سيُرسي مُرسي الديمقراطية المصرية؟





الآن، ومع انتخاب مرسي والإخوان، لم تعد هنالك ذرائع لدى هؤلاء. عليهم الآن إيجاد أماكن عمل لملايين المصريين، وإطعام الجائعين. هم المسؤولون الآن عن الأوضاع المصرية.

سلمان مصالحة

هل سيُرسي مُرسي الديمقراطية المصرية؟

مهما قيل في الماضي،
أو يقال الآن عقب الانتخابات المصرية، إلاّ أنّ هنالك أمرًا واحدًا لا يمكن أن يختفي عن الأنظار. لقد دخلت مصر مرحلة جديدة لا يمكن بعد اليوم أن تعود للوراء ولحكم الحزب الواحد والشخص الواحد الذي لا يتنازل عن السلطة. لقد ذهبت إلى غير رجعة، هكذا نأمل على كلّ حال، تجربة الاستفتاء ونسبة الـ %99 للرئيس. إنّ نسبة كهذه هي تعبير عن أحد أمرين، إمّا أنّ الشعب بأسره قطيع من الأغنام، وإمّا أنّ المشكلة هي مع فساد وطغيان النّظام. كلّ من يمتلك ذرّة من بصر وبصيرة يعرف أن الحقيقة هي الشقّ الثاني من التوصيف، أي أنّ المشكلة مع النّظام.

إنّ الانتفاضة المصرية، التي بدأت منذ أكثر من عام وأدّت في نهاية المطاف إلى الإطاحة بالنّظام، هي في الأساس ثورة ضدّ حكم العسكر الذي اغتصب السلطة من العام 1952. هذه هي حقيقة ما جرى في مصر. وهذه هي حقيقة ما يُسمّى بـ”الربيع العربيّ“ الذي ضرب تلك الدول ذات الأنظمة العسكرية المشابهة. فليس صدفة أنّ هذا الربيع لم يصل إلى العراق مثلاً. إنّه لم يصل إلى العراق لأنّ نظام السفّاح صدّام حسين قد أطيح به قبل نشوب انتفاضات هذا الربيع. ولو كان لا يزال موجودًا لكانت انتفاضات هذا الربيع بالتأكيد قد وصلت إلى العراق أيضًا، مثلما هو حاصل في سورية التي تنزف دمًا منذ عام ونيف.

إنّ التجربة المصرية الجديدة
هي تجربة جنينية، ولذلك يجب رعايتها لكي لا يُخذل الناس بهذا التحوُّل الديمقراطي. نتيجة الانتخابات جاءت معبّرة عن وضع طبيعي وعن حقيقة الحال المصريّة. ورغم ما قيل عن فلول وما إلى ذلك إلاّ أنّ نصف الناخبين المصريين تقريبًا قد صوّتوا لصالح أحمد شفيق. ومن الجهة لأخرى صوّت النصف الآخر لصالح محمد مرسي مرشّح الإخوان. ليس هذا فحسب، بل إنّ كثيرين من المنتمين إلى قوى معارضة النّظام السابق من العلمانيين ودعاة الدولة المدنية قد صوّتوا لمرسي، وذلك كتصويت احتجاجي على مخلّفات النّظام السابق، ليس إلاّ. بكلمات أخرى، على الرئيس المنتخب الجديد أن يعي هذه الحقيقة، لكي لا يدخل في أوهام مفادها أنّ كلّ هؤلاء من أتباع تيّاره.

ولهذا السبب أيضًا،
وبهدف تحصين هذه التجربة المصرية الجديدة، فإنّ مهمّة الذين ينكبّون على صياغة الدستور المصري الجديد أن يلتفتوا إلى عدّة مبادئ يجب التركيز عليها في هذا الدستور المُزمع صياغته.

المبدأ الأوّل: يجب أن يحمل عنصر تداول السلطة بالانتخاب الديمقراطي وعنصر المساواة بين المصريين في هذا الانتخاب. وبكلمات أخرى، كلّ مصري، أرجلاً كان أم امرأة، دون فرق بين الخلفية الدينية يحقّ له أن يَنتخب ويُنتخب لكلّ المناصب. هذا مبدأ أصل للمساواة بين المواطنين، إذ بدون ذلك لا يمكن الانتقال إلى مرحلة من الدولة المتقدّمة.

المبدأ الثاني: يجب عدم التنازل عن أنّ الانتخابات البرلمانية والرئاسية تتمّ كلّ أربع سنوات، وأنّ الرئيس المنتخب تنتهي ولايته بعد دورتين انتخابيتين، أي بعد ثماني سنوات في حال انتخابه لدورة ثانية. بعد هاتين الدورتين يُحال إلى التقاعد. فقط بالالتزام بهذا المبدأ يتمّ ضخّ دماء جديدة في السلطة، إذ بدون ذلك تتكلّس الشرايين ويعمّ الفساد والطغيان.

المبدأ الثالث: وهو مبدأ مركزيّ في الدولة المدنية. إنّه مبدأ فصل الدين، كلّ دين، عن الدولة. إنّ فصل الدين عن الدولة لا يعني إلقاء الدين عرض الحائط، وإنّما هو لصالح الدين في الأساس. فإذا دخل الدين في السياسة فسد هذا الدين وأفسد السياسة معه أيضًا. لهذا فإنّ الإبقاء على الدّين في خانة الفرد هو ما يُبقي الاحترام له ولصاحبه. أمّا السياسة فهي للدولة، لبناء الدولة وللعلاقات الدولية، وهي للبناء والعمران المادّي والبشري على جوانبه المختلفة والمتشعّبة.

فقط إذا تمّ الحفاظ على هذه المبادئ الكبرى بحذافيرها بوسعنا القول إنّ مصر بدأت تخطو في الاتّجاه السليم. إنّ الإصرار على هذه المبادئ والحفاظ عليها هي من مهمّة التيّارات المعارضة، بمن فيهم هؤلاء الذين صوّتوا احتجاجًا للرئيس المنتخب الجديد. إمّا بغير الحفاظ على هذه المبادئ، فإنّ مصر والمصريين سيواصلون التخبّط إلى أجل غير مُسمّى.

الآن، ومع انتخاب مرسي والإخوان، لم تعد هنالك ذرائع لدى هؤلاء. عليهم الآن إيجاد أماكن عمل لملايين المصريين، وإطعام الجائعين. هم المسؤولون الآن عن الأوضاع المصرية. فإذا لم يقدّموا ذلك للشعب المصري، فإنّ الشعب بانتظارهم، فالانتخابات الديمقراطية بعد أربع سنوات من أمامهم وميدان التحرير من ورائهم.

أليس كذلك؟
*
نشر في: ”إيلاف“، 26 يونيو 2012
******

جامعة فلسطينية تفضّل الجهل على المعرفة



هل تريد أسرة الجامعة المتخاذلة في هذه المسألة تذكير الجامعة، وإلغاء تاء التأنيث منها لتضحي جامعًا فقط؟


سلمان مصالحة

جامعة فلسطينية تفضّل الجهل على المعرفة

منذ شهر أو أكثر
يتعالى الجدل في الساحات الافتراضية الفلسطينية، وخلف الستار، حول قضيّة الأستاذ موسى البديري وجامعة بير زيت الفلسطينية. على ما يبدو هنالك من يخشى في وسائل الإعلام الفلسطينية، رسمية وغير رسمية، من الولوج في صلب هذه القضايا. وكأنّ لسان حالهم يقول: لأيش وجع الرأس؟

غير أنّ وجع الرأس هذا هو بالذّات ما يُفتَرض من الصحافة المسؤولة أن تتعامل معه، وأن تضعه على طاولة الحوار الشعبي. كما إنّ وجع الرأس هذا، أي إثارة حبّ الاستطلاع، والشكّ في كلّ المسلّمات، والتساؤل حول كلّ شيء هو ما يٌفترض أن تقوم به الجامعات التي تطمح إلى المعرفة، وإلى البحث والتقصّي في كافة المجالات. إنّ وجع الرأس هذا هو ما يُفترض أن يشيعه الكتّاب والمثقّفون وأن لا يركنوا إلى راحة الانضمام إلى جريان الرّيح بما لا تشتهيه سفن المعرفة. لأنّهم، إن لم يقفوا بوجه هذه التيارات فإنّهم يخونون المسؤولية التي من المفروض أن تكون ملقاة على عاتقهم.

كيف بدأت الحكاية؟
الدكتور موسى البديري يعمل في قسم الفلسفة والدراسات الثقافية في جامعة بير زيت الفلسطينية. لقد علّق الدكتور البديري منذ عام أو أكثر رسومات ساذجة على باب غرفته. والرسومات، على كلّ حال، مأخوذة من مصدر عربيّ أصلاً، ”أعدّه مواطن إماراتي حول مغامرات سوبرمان، وهي موجودة على موقع إلكتروني سعودي.“ كما يقول الأستاذ البديري.

ربّما رغب الأستاذ البديري أن تثير جمهور الطلبة في الجامعة طرح تساؤلات بشأن كثير من القضايا الاجتماعية المُحدقة بالجميع في هذا الأوان. غير أنّ ظنّ البديري قد خاب، إذ أنّ تلك الرسومات لم تثر أحدًا طوال عام وأكثر. وفي الحقيقة، ليس في هذه الرسومات ما يثير، إذ أنّها رسومات ساذجة. مثلاً: رسم لسوبرمان بجانبه امرأة تسأله: ”هل تتزوّجني؟“، فيجيبها: ”ما أقدر، الشريعة في كوكب كريبتون ما تسمح لي آخذ الخامسة“. وقد يكون هذا الرسم ترجمة للكثير من النكات الشائعة على ألسنة الكثيرين في هذا العالم العربي.

غير أنّ بعض الإسلاميين،
من صنف أولئك الذين قد عيّنوا أنفسهم حماة للإسلام ومتحدّثين باسم الإسلام دون غيرهم من سائر البشر من المسلمين، قد وجدوا على ما يبدو في ذلك فرصة مؤاتية للاصطياد في مياه فلسطين العكرة. وهي حقًّا عكرة. وهكذا فقد شنّوا حملة تحريضيّة ضدّ الأستاذ البديري يتّهمونه بالإساءة للإسلام، ويطالبون إدارة الجامعة بإقالته. هذا ناهيك عن التهديدات التي تصل الأستاذ البديري من بعض الأطراف وممّن هم على شاكلة تلك الأطراف.

غير أنّ إدارة جامعة بير زيت، وبدلاً من أن تقف سدًّا منيعًا أمام حملات التحريض هذه ضدّ الأستاذ البديري، فإنّها تتخاذل في القيام بواجبها، بل والأسوأ من ذلك أنّ هنالك ”أساتذة“ في الجامعة لا يخجلون من الانضمام إلى حملات التنديد بالأستاذ البديري. فهل هؤلاء حقًّا أساتذة جامعة؟ وما هي الأجواء المعرفية التي يريدون إشاعتها في أروقة الجامعة؟

لقد دفعت هذه الأجواء الأستاذ البديري إلى
تحرير رسالة شديدة موجّهة إلى أسرة الجامعة، وقد جاء فيها: ”إن تلكؤ إدارة الجامعة -حتى تاريخ كتابة هذه السطور - في اتخاذ إجراءات تأديبية ضد هذه المجموعة من الجسم الطلابي الذين قاموا بهذه الحملة التحريضية داخل الجامعة وخارجها، والذين نصَّبوا أنفسهم متحدِّثين رسميين باسم الإسلام، أدَّى إلى إدامة هذا المناخ التحريضي مترافقاً مع اتهامات غير معقولة تدَّعي أنها تعرف الأفكار والنوايا الحقيقية“. وقد أنهى الأستاذ البديري رسالته بـ: ”كلّي أمل أن تكون الجامعة ساحة يمارس فيها روادها السجال الفكري بروح النقد وقبول الفكر المغاير والشعور بالغنى الناجم عن التعدد بدلا من القلق من الاختلاف.“

في هذه الأثناء تجدر الإشارة إلى أنّ مجلس مؤسسات حقوق الإنسان الفلسطينية قد أصدر بيانًا يعبّر فيه عن: ”قلقه من لغة الخطاب التكفيري والتحريضي الذي شهدته ساحة جامعة بيرزيت مؤخرًا“. وقد أكّد البيان على أنّ: ”استخدام الدين عبر شعارات تحريضية وتشهيرية لقمع الرأي الآخر يشكل تعديًا خطيرًا على الممارسة الديمقراطية والإنسانية“.

وإلى جانب الإشادة ببيان
مؤسسات حقوق الإنسان الفلسطينية، لا بدّ من الإشارة إلى تخاذُل الآخرين إزاء هذه القضيّة. فالصحافة الفلسطينية تدسّ رأسها في الرّمال كما تفعل النعامات، وفي الوقت ذاته يهرب المثقّفون وأساتذة الجامعات إلى جحورهم ولا ينبسون ببنت شفة تنديدًا بهذه الحملات التكفيرية والتحريضية ضدّ أحد الأساتذة الفلسطينيين المتنوّرين.

فأيّ مجتمع فلسطيني يريد كلّ هؤلاء المتخاذلين؟ هل يريدون مجتمعًا يجري كالقطيع دون أن يكون فيه أفراد يشغّلون تلك الملكة الذهنية التي مُنحوها؟ وأيّ مؤسسة جامعية هي تلك التي لا تجعل الشكّ، والبحث والتقصي والسؤال في مقدّمة العناوين الكبرى التي تشتغل بها، وتحاول تجذيرها في المجتمع؟

هل تريد أسرة الجامعة المتخاذلة في هذه المسألة تذكير الجامعة، وإلغاء تاء التأنيث منها لتضحي جامعًا فقط؟ إنّ هذا التخاذل إزاء هذه الحملة التحريضية ضدّ الأستاذ البديري سيضع هذه الجامعة الفلسطينية في عداد الكتاتيب الإسلامية، ليس إلاّ. والكتاتيب لا تصنع علمًا، كما هو معلوم للقاصي والداني. ولهذا وجب التنويه.

والعقل ولي التوفيق!
*
نشر في: ”إيلاف“، 20 يونيو 2012

أيضًا في: "جدلية"
______

ميكروكوسموس

من الأرشيف (1994):



وفي الحقيقة، فإنّ الهويّة القوميّة العربيّة بحاجة إلى بحث مستفيض يعرض أمام القرّاء حقائقها كاملة غير منقوصة، حتى وإن كانت هذه الحقائق مؤلمة للغاية.

سلمان مصالحة || 

ميكروكوسموس


في بحر هذا العام
تطرّقت في أكثر من مناسبة إلى إشكاليّات الهويّة الّتي هي من نصيبنا نحن العرب في هذا المشرق. وقد ذكرت في مقالة سابقة حدّيْن اثنين هما من مميّزات الشّعب الواحد. الحدّ الأوّل هو حدّ الحياة، والحدّ الثّاني هو حدّ الممات.

أي أنّه حينما لا يقبل أبناء ما يُسمّى لدينا بـ”الشّعب الواحد لا الشّعبين“ بحدّ الحياة المشتركة بين أفراده من رجال ونساء، وإنّما تبقى هذه القضيّة منحصرة في أبناء الطّائفة الواحدة فلا يمكننا إلاّ أن نبدأ بالتّشكيك في هذه المقولات. حيث أنّ حدّ الحياة المشتركة يقتصر على أبناء الطائفة الواحدة على أساس دينيّ مذهبيّ. وإذا كُنّا نشهد في بعض الأحيان خروجًا على هذه القواعد فإنّ هذا الخروج ما زال هو الشّاذّ الّذي يؤكّد على القاعدة.

أمّا الحدّ الثاني، حدّ الممات، فهو أيضًا لا يختلفُ عن الحدّ الأوّل، بل ربّما هو مغلق بصورة أكثر إحكامًا وليس عنه خروج بأيّ حال من الأحوال. فهل يمكننا أن نتحدّث عن شعب واحد إذا كُنّا نفصل بين أفراد »الشّعب الواحد« بعد أن يقضوا نحبهم. هل هنالك مقبرة واحدة تجمع أبناء الشّعب الواحد دون النّظر إلى الخلفيّة الدينيّة الّتي ينتمي إليها الفقيد. الجواب معروف لديكم. كُنتُ قد أثرت هذه القضيّة في الماضي، ولكنّها لم تلاق أيّ ردود فعل، لأنّي أعتقد أنّ القائمين على اتّخاذ خطوات عمليّة لذلك يخشون حتّى من إدراج هذه المسألة على بساط البحث.

ولكنّ القضيّة أعمق
حتّى من ذلك بكثير. وفي الحقيقة، فإنّ الهويّة القوميّة العربيّة بحاجة إلى بحث مستفيض يعرض أمام القرّاء حقائقها كاملة غير منقوصة، حتى وإن كانت هذه الحقائق مؤلمة للغاية. وفي الكثير من الإحيان يتّضح أنّ التّعريفات المعهودة لا تنطبق على الشّعوب العربيّة، وهنالك حاجة إلى إعادة النّظر في كلّ هذه الطّروحات الّتي لم تفِ بما غاءت إليه. بل في الكثير من الأحيان نقرأ ونسمع عن أمور تقلب جميع هذه المفاهيم رأسًا على عقب. فهل نواجه هذه الحقائق بكلّ ما نملك من صراحة أم سنستمرّ في دسّ رؤوسنا في الرّمال؟ والمثال الّذي سأورده هنا هو الاستطلاع الّذي جرى في كفر برا قد جاء ليؤكّد كلّ ما أرمي إليه من طروحات.

فماذا جرى في كفر برا؟
نشرت صحيفة كلّ العرب في الأسبوع الفائت خبرًا مفاده أنّ المجلس المحلّي في كفر برا قد أجرى مؤخّرًا استفتاء لاستطلاع الرأي حول السّماح للسيّد عصام أبو حجلة، وهو من سكّان جلجوليّة ومتزوّج من امرأة من سكّان كفر برا، بالسّكن في قرية كفر برا على قطعة أرض كانت السيّدة المذكورة قد ورثتها من أهلها. لقد اشتمل الاستفتاء على الأسئلة التّالية الّتي سأعيد ذكرها هنا لأهميّة ما تنطوي عليه: فالسؤال الأوّل: هل توافق على دخول الغرباء لقرية كفر برا؟ والسؤال الثاني: هل توافق على عودة نساء كفر برا المتزوّجات خارج القرية مع أزواجهنّ؟ والسّؤال الثالث: هل يشمل هذا عصام أبو حجلة؟

أمّا النتائج فكانت كالتّالي: 188 صوتًا ضدّ السّماح له بالسكن في كفر برا، بينما صوّت تسعة أشخاص فقط لصالحه، وامتنع ثلاثة عن الادلاء برأيهم.

هل يمكننا أن نمرّ على كلّ هذا مرّ الكرام؟ أم أنّ واجبنا رفض جميع هذه الظّواهر واقتلاعها من جذورها. بنظرة أولى، يبدو أنّ المجلس المحلّي في كفر برا قد خرق القانون في تصرّفه هذا وما على السيّد عصام أبو حجله إلاّ أن يقدّم شكوى ويقاضي مجلس كفر برا أمام القانون.

ولكنّ القضيّة ليست قضيّة قانونيّة فحسب. وإنّما القضيّة الجوهريّة هي قضيّة الهويّة القوميّة بشكل عام. ولو كانت القضيّة محليّة لما تطرّقنا إلىها، ولكنّى أعتقد أنّ هذه المسألة هي مسألة جوهريّة تستقي من جذور عميقة ضاربة في التّاريخ العربيّ.

لذلك، فكفر برا في هذه القضيّة هي ميكروكوسموس يمكننا من خلاله النّظر بجديّة إلى هذه القضيّة وأبعادها العامّة الّتي تمكّننا من التّعرف على حقائق مزمنة في المشرق والمغرب العربيين. يتّضح ممّا جرى في كفر برا أنّه حتّى الخلفيّة الدّينيّة لا تكفي للهويّة، فلا شكّ أنّ السيّد عصام أبو حجلة مسلم دينًا، كما أنّه على ما أعلم فإنّ كفر برا هي قرية إسلاميّة كذلك، بل وأكثر من ذلك فإنّ رئيس مجلسها هو من الحركة الإسلاميّة على ما أظنّ.

ولكن وعلى الرّغم من ذلك،
لم تكفِ هذه الحقيقة لكي يتشكّل جمهور واحد، بل برزت إلى السّطح تلك النّعرات القبليّة المتحكّمة في الذّهن العربيّ والّتي لم يُفلح بعد منها فكاكًا. فإذا كانت هذه هي الحقيقة بين أفراد طائفة واحدة، فكم بالحريّ لو أنّ السيّد عصام أبو حجلة كان مسيحيّا أو درزيًّا. أنتم تعرفون الإجابة.

في الأسئلة الّتي طُرحت على سكّان كفر برا تكمن الإجابة على جميع ما أرمي إليه. فالهويّة الأكثر تجذّرًا في الذّهن العربيّ هي الهويّة القبليّة الّتي لم تقو المبادئ الدينيّة حتّى على اقتلاعها. فمصطلح »الغرباء« الّذي اشتمل عليه الاستطلاع في كفر برا ينسحب على كلّ من ليس مواطنًا من القبائل الّتي تتألّف منها قرية كفر برا بالولادة، حتى وإن كان من أبناء نفس الشّعب ونفس المعتقد الديني. والوجه الآخر لهذه العملة المهترئة هو أنّ جمهور النّساء بعد الزّواج يخرج خارج حدود القبيلة وبذلك يفقد حقّه في الانضواء تحت راية الشّعب الواحد والبلد الواحد. هكذا تتحوّل المرأة إلى قبيلة أخرى تفقد حقّها حتّى في العيش في مسقط رأسها مع زوجها وأولادها.

إزاء كلّ هذه الحقائق الآنفة الذّكر،
هل يمكننا أن نستمرّ في التّصريح بوحدة الشّعب. الحقيقة هي كما ترون. وكفر برا لا تختلف عن سائر القرى والمواقع في هذا المشرق العربيّ. بعد ما جرى في كفر برا فإنّ الحديث عن هويّة واحدة لشعب عربيّ واحد سيكون مجرّد هراء في هراء.

أمّا إن كان لديكم تفسير آخر فهاتوه.
*

نشرت المقالة في أسبوعية: كلّ العرب، الناصرة، 1994
***

راحت القدس


من الأرشيف (1998)


والحقيقة الّتي لا تخفى على ذوي البصر والبصيرة هي أنّ العربان لم يطوّروا القدس ولم يبنوها. لم يقوموا أبدًا بتشجيع القدوم إليها والسّكن فيها. لقد ظلّت القدس طوال قرون طويلة قريةً كبيرة، أو على الأصحّ كونفدراليّة من القرى والقبائل. ولم تتحوّل في يوم من الأيّام إلى حاضرة مدنيّة عربيّة

أبو الهول في خطر



ليس من السّهل الوقوف علنًا ضدّ هذه الثقافة وضدّ هذه التيّارات الجارفة، ولكنّي أرى أنّ هذا الوقوف ضدّ التيّار العنيف هو ما ينفع النّاس ويمكث في الأرض في نهاية المطاف.


سلمان مصالحة || أبو الهول في خطر

أوّلاً: ممّا لا شكّ فيه

أنّ الدولة العربية الكبرى التي درج أهلها على تسميتها بـ”أمّ الدنيا“ تمرّ الآن في مرحلة حرجة. فمن جهة يشهد هذا البلد العربي الكبير مخاضًا فريدًا من نوعه، ويمرّ بتجربة فريدة لم يشهد مثيلاً لها في تاريخه منذ أزمان طويلة طويلة.

في البداية، ورغم المشاكل العويصة العالقة التي يواجهها هذا البلد منذ عقود طويلة، لا يسعنا إلاّ أنّ نُحيّي أهل هذا البلد على سير العملية لانتخابية. في الحقيقة تفجّرت الانتفاضة المصرية ضدّ طبيعة الحكم التي سادت في هذا البلد منذ انقلاب يوليو 1952، الذي سُمّي خطأ ثورة. فلقد بدأ ذلك الانقلاب عهدًا جديدًا، ولكنّه كان على غرار الملكية السالفة، متمثّلاً في تأبيد الرئيس الواحد الأحد على هرم السلطة دون أيّ إمكانية للاختيار بين عدّة مرشّحين. وهكذا شكّل ذلك الانقلاب ”أسوة سيئة“ لسائر الأقطار العربيّة، الـ ”ميد إن سايكس-پيكو“.

تجدر الإشارة إلى أنّه ورغم الشعارات الثورية والاشتراكية والعروبية التي دغدغت العواطف وجيّشتها جاعلة منها طوال عقود طويلة كواتم عقول على رؤوس الأجيال العربية، وهي ذات الشعارات التي تسيّدت المشهد السياسي المصري منذ يوليو 52 ذاك، فإنّ المصريّين هؤلاء لم يذوقوا في الواقع حياة ديمقراطية حقيقية في يوم من الأيّام.

والآن، وبعد طول انتظار
ليس فقط أنّهم هبّوا وأجبروا الرئيس على الرّحيل، بل وصلوا إلى وضع ينتخبون فيه مرشّحًا للرئاسة من بين عدد لا بأس به من المرشّحين. بل، وأكثر من ذلك، فها هم يُقدّمون الرئيس السابق إلى محاكمة.

مهما قيل ويُقال عن هذه المحاكمة، فهي على الأقلّ تُحسب لصالح النّظام القضائي المصري، وللمصريّين على العموم. صحيح أنّ محاكمة من هذا الحجم ومن هذا النّوع لا يمكن أن تكتمل بهذه السرعة، إذ أنّ محاكمات من هذا النّوع، لو أريد لها أن تتأسّس على الأصول القضائية التي من المفروض أن تكون في جوهر العدل، فإنّّها ستستغرق أعوامًا. إذ، هنالك حاجة إلى عرض كلّ شيء على هيئة القضاة، بإرفاق الشهادات والبيّنات جميعها. وهذا لا يمكن أن يُستكمل خلال شهور معدودة.

على أيّ حال،
لا أستطيع أن أفهم كلّ هؤلاء الدّاعين إلى تنفيذ حكم الإعدام. وحول هذه المسألة يجب التمييز بين الدعوات الشعبية بهذا الخصوص، وبين الدعوات التي تأتي من صنف بعض الكتّاب العرب. إذ أنّ الثورة الحقيقيّة في نظري هي التي تحاول أن تضع حدًّا لثقافة الإعدامات أصلاً. لأنّ من ينشد الوصول إلى حالة مدنيّة متقدّمة، وإلى دولة مدنيّة معاصرة، يجب أن يقطع الحبل الذي يصله بثقافة عنيفة من هذا النّوع، الذي يشكّل الإعدام في الساحات العامّة أكبر مثال عليها.

ليس من السّهل الوقوف علنًا ضدّ هذه الثقافة وضدّ هذه التيّارات الجارفة، ولكنّي أرى أنّ هذا الوقوف ضدّ التيّار العنيف هو ما ينفع النّاس ويمكث في الأرض في نهاية المطاف.

مصر أدرى بشعبها وبشعابها
وعلى الرّغم ما قد يُقال عن طبيعة النّظام المصري الآفل، غير أنّه وبالمقارنة مع سائر الأنظمة العربية فقد كان يشتمل على هامش من الحرية التي تفتقر لها سائر الأنظمة العربية، باستثناء النّظام اللبناني الذي انبنى أصلاً على مقياس مسطرة طائفيّة ويعمل بموجب توازنات طائفيّة متجذّرة فيه منذ تأسيسه.

ولأنّ مصر أدرى بشعبها وشعابها، فقد أفرزت الانتخابات الرئاسية مرشّحين للانتخابات المعادة. وهكذا وجدت أهل مصر أنفسهم الآن على مفترق طرق. لا أدري كيف سيتعامل المصريّون مع هذه الحال الآن. ولكن، لا بدّ من الإشارة في هذا المأزق إلى ما قد يأتي به المستقبل من مخاطر على هذا الشعب.

أبو الهول في خطر:
في ثمانينيات القرن المنصرم زرت مصر مرّتين للسياحة وللتعرّف على أجوائها. لقد جلت في القاهرة وزرت الاقصر وأسوان وغير مكان في أرض الكنانة، ولا زلت للآن أتذكّر طيبة قلب المصريّين رغم شظف العيش ورغم الحياة الصعبة والرّكض وراء لقمة العيش.

وبهذا الصدد، ما من شكّ في أنّ المصريّين يعرفون أنّ نسبة عالية من الاقتصاد الوطني المصري تعود إلى السياحة العالمية في هذا البلد الغنيّ بالآثار والحضارة الفرعونية القديمة، القبطية ثمّ الإسلامية وصولاً إلى يومنا هذا. فالسياحة هي مرفق هام في تأمين لقمة العيش.

ولمّا كانت هذه هي الحال المصريّة، فإنّ سيطرة الإخوان المسلمين على مقاليد السلطة ستشكّل خطرًا داهمًا على هذا المرفق المركزي في الاقتصاد المصري. إذ يعلم الجميع أنّ السياحة تزدهر في الدول المستقرّة، وفي الدول المستقرّة والمنفتحة على العالم الواسع، والتي تحافظ على حريّات الأفراد في المعتقد، وفي الملبس والمشرب وكلّ ما تحمله الحريّة الفرديّة ضمن القوانين المدنية من المعاني النبيلة.

إنّ استحواذ الإخوان المسلمين على مصر سيعيدون مصر قرونًا للوراء. ستتقلّص المعونات الخارجية وستُغلق أبواب السياحة العالمية في هذا البلد العريق، وسيزيدون مصر فقرًا على فقر.

بل وأبعد من ذلك،
إنّ السؤال الذي يعلو في ذهني في هذا الأوان هو: هل ستشهد مصر حالة طالبانية؟ وبكلمات أخرى، هل سنشهد في المستقبل المنظور، فيما لو استحوذ هؤلاء الإسلاميّون على مقاليد السلطة، بروز تيّارات سلفيّة طالبانيّة تبدأ بتفجير ”أبي الهول“، أو المعابد الفرعونيّة والآثار بما تشتمل عليه من تماثيل، على غرار ما فعلته حركة الطالبان مع تمثال بوذا في باميان؟ فتماثيل الآلهة المصرية القديمة لا تختلف بنظر هؤلاء السلفيّين عن تمثال بوذا، فكلّ هذه التماثيل - الأصنام - في الكراهية السلفيّة، وليس في الهوى، سوا.

هذا هو مفترق الطرق الذي تقف فيه حائرة مصر الآن. أليس كذلك؟
*
نشر في: إيلاف، 9 يونيو 2012
---

رحلة البحث عن البعبع

مهما يكن من أمر، وبعد أن تقدّمت بي السنّ لم أعد أقبل سماع كلام عربيّ دون أن أفهم معناه ومغزاه. هكذا أُصرّ على من يتكلّم إليّ باللّسان العربيّ أن يكون دقيقًا في استخدام المفردات والتعابير...

سلمان مصالحة ||

رحلة البحث عن البعبع


من أين أبدأ الكلام في هذه الرسالة؟
ألاحظ في الكثير من الأحايين شيوع ظاهرة فريدة في الكتابات العربية لها علاقة بتعامل أهل الكتابة مع هذه اللغة التي نحاول جاهدين في هذا الخضمّ العولمي الحفاظ عليها من الذوبان والاندثار. كأنّما فقدت ألفاظ هذه اللغة المعاني الكامنة فيها وأضحت صورًا مجرّدة من الدلالات يتمّ التلاعب بها كما لو كانت قطعًا من فسيفساء يتمّ جمعها وترتيبها دونما نسق ودونما غاية. لقد تحوّلت الكتابة إلى نوع من الترف العربي وإلى نوع من التسالي الغاية منها إضاعة الوقت، ليس إلاّ.

وفي الكثير من الأحيان، نلاحظ أيضًا أنّ الكثير من أهل الكتابة العربية يستخدمون تعابير وكلمات لا يفهمون معانيها. ما إن يقع بصرهم على مفردة، وما إن يعثروا على كلمة ملقية على قارعة الطريق، يُسرعون إلى تلقّفها لينقلوها على عواهنها وكيفما اتّفق، دون أن يكلّفوا أنفسهم محاولة تقصّي الدلالة العميقة للمصطلح أو المفردة. كذا هي الحال في اللغة الشعبية، وكذا هي الحال في اللغة الفصحى على ألفاظها الطريفة والمُتلدة.

في بلاد الشام
شاعت في الماضي، ولا زالت شائعة إلى يومنا هذا، أغنية شعبية بعنوان ”عَ الروزنا“، وفي الكثير من الأحيان كنتُ أسال من يُغنّي هذه الأغنية: ماذا تعني بالروزنا؟ فينظر إليّ مُستغربًا، غير أنّه لا يحيرُ جوابًا في نهاية المطاف. كان الأمر يستثيرني فأفكّر بيني وبين نفسي: كيف ذا يغنّي العربيّ ويطرب لغناء لا يعرف معاني كلماته؟ كيف ذا لا يُكلّف نفسه في البحث عن معاني ما يقول وما يغنّي؟ أليس من المفروض أن يفهم العربي ما ينشد أو ما يُغنّى؟ إنّها حال عربية غريبة عجيبة.

وكما ذكرت، فهذه الظاهرة لا تقتصر على اللغة الشعبية بل تتعدّاها إلى اللغة العربية المعيارية المعاصرة. تأخذ هذه الظاهرة في التفاقم لعدم وجود قواميس ضابطة للمفردات وللمعاني المستحدثة، وخاصة لتسارع المعارف والمستجدّات على جميع الأصعدة. وهكذا يُضحي تعامل الأفراد مع ما يُنشر باللغة العربية ضربًا من التخمين، وتصبح العودة إلى اللغات الأجنبية التي يُترجَم منها للعربية فرضًا لمعرفة ما يرمي إليه النصّ المنشور بالعربية. لقد كنت أشرت في الماضي إلى هذه الظاهرة، وأعطيت مثالاً على ذلك باستخدام التعبير العربي ”مقاربة“ الشائع في الكتابة العربية المعاصرة. إذ قد أضحى كلّ شيء عند العرب مقاربة، فإنّك تكاد تعثر عليه أنّى رحلت وحيثما حللت. لقد كنت قد سألت قبل سنوات قليلة بعض طلبة الجامعات العرب عن هذه الـ”مقاربة“، فلم يحيروا جوابًا. غير أنّهم حينما يكتبون رسالة فإنّهم يستخدمون هذه الكلمة التي لا يفهمون معناها أصلاً. أليست هذه حالًا غريبة عجيبة؟

وعلى كلّ حال، تندرج هذه الظاهرة، على ما يبدو، في خانة النّقل التي تترعرع عليها الأجيال العربية دون فحص ومحص ما ينقلون كابرًا عن كابر. وهكذا نصل بعونها تعالت إلى الكلام عن البعبع العربي.

فأيّ شيء أنت، أيّها البعبع؟
عندما كنّا أطفالاً صغارًا، كانت الأمّهات يجنحن إلى إخافتنا لثنينا عن عمل أو سلوك ما، بمقولات مثل: ”بيجيلك البعبع“، أو ”بيوكلك البعبع“، وما إلى ذلك من كلام. لم نكن نفهم ما يُقال سوى أنّ هنالك شيئًا ما اسمه ”بعبع“ وهو ربّما كان حيوانًا مخيفًا أو شيطانًا مرعبًا وما إلى ذلك من دلالات غايتها أن نخاف وأن نرتدع عن القيام بسلوك أو تصرّف ما.

مهما يكن من أمر، وبعد أن تقدّمت بي السنّ لم أعد أقبل سماع كلام عربيّ دون أن أفهم معناه ومغزاه. هكذا أُصرّ على من يتكلّم إليّ باللّسان العربيّ أن يكون دقيقًا في استخدام المفردات والتعابير لأنّها الحاوية للمعاني والمدركات التي يُراد فهمها، حفظها والتعامل معها. بل وأكثر من ذلك، لأنّ المعاني إذا ما أريد لها أن تصل إلى الآخر فيجب أن تكون واضحة ودقيقة ولا يدخلها الالتباس بأيّ حال.

وهكذا تحوّل ذلك الـ“بعبع“ الّذي اختفى وتلاشى مع تلاشي أيّام الطفولة إلى غير رجعة إلاّ في بُره الذكريات، فأضحى الآن بعبعًا جديدًا يقضّ عليّ مضجعي. وهكذا وجدت نفسي أتعقّب أثر هذا المصطلح قائفًا خطى من سبقني من السلف إلى الذعر منه.
والآن أستطيع أن أركن إلى بعض الطمأنينة، إذ أنّي وبعد سهر الليالي الطوال وذلك البعبع لم يبرح البال، فقد وجدت أنّ المسألة قد أقضّت مضاجع آخرين من قبل، وها أنذا أسير على خطاهم بعد قرن من الزّمان باحثًا عن سرّ ذلك الـ”بعبع“.

فها هو العام 1911، أي قبل قرن بالتمام والكمال، وها أنذا أقتبس لكم ممّا أقرأ:

”إذا هبطت ديار الشام، وبالخصوص إذا نزلت لبنان وتجوّلت في ربوعه وزرت بيوت أهاليه، ثمّ تنصّتَّ لما تقوله الأمهات لأولادهن عند إسكاتهنّ لهم أو تخويفهنّ إيّاهم تسمعهن يقلن: بعبع، بعبع، اسكت جاء البعبع (بضمّ الباء وإسكان العين). فإذا سمع الوليد هذا الصوت خاف وسكت. وإذا سألتَ الأم ما معنى البُعبع. وماذا تريدين بهذا اللّفظ؟ تلجلجت وما استطاعت أن تفيدك شيئًا يروي غليلك. على أنّي سألت كثيرين من الأدباء أن يُطلعوني على معنى هذا الحرف، فقال قوم منهم: هذه كلمة تخويف ليس إلاّ. وقال فريق: يُراد بذلك حيوان مجهول الأوصاف، إلاّ أنّه من الوحوش الضّارية. وقالت جماعة: بل البُعبع كلمة لا يُراد بها سوى إسماع الطفل لفظًا غريبًا على الآذان ليخاف ويسكت.

ثم إنّي ما زلت أبحث عن هذه اللّفظة لأعرف أصلها ومأتاها فلم أقف على ما فيها من غامض السرّ إلاّ في هذه الأيّام. وهذا أيضًا من باب التخرّص لا من باب التأكيد. أمّا الواسطة التي اتّخذتها للبلوغ إلى غايتي فكانت مقابلة ألفاظ أهل البلاد بعضها ببعض وبما ينظقون في مثل هذه الأحوال.

فإنّ أهل الموصل يقولون: ”جت الدامي“، أي جاءت الدامي، ومرادهم بالدامي أو الدامية السعلاة أو شبهها، وطعامها دم ابن آدم، تعضّه من موطن من جسده ثمّ تشرب دمه... أهل العراق يعرفون أيضًا الدامي ويعنون بها أنثى الغول.... والمسلمون في بغداد يقولون لولدانهم: ”جاك الواوي“،أي جاءك ابن آوى... ”جاك السبعطلان“، أي جاءك السبتلان (وهو عامل السلال من نصارى النساطرة، يأتي إلى بغداد من كردستان في أيّام الشتاء ليكسب دريهمات من عمل السلال ويرجع بها إلى وطنه في أواخر الربيع....

وأمّا قبل أربعين سنة فكنتُ أسمع الوالدات يقلن لأولادهن: بَعبع، بَعبع (بفتح الباء وإسكان العين) جاء البَعْبع. ومنهن كنّ يقلن: وعوع، وعوع، جاء الوعوع، أو وعواع، وعواع، جاء الوعواع، هو ابن الواوي.... فمن هذا ترى أنّ البعبع الشامي (أو اللبناني، ويقال بضمّ الباء وإسكان العين) ما هو إلاّ وعوع العراق أو وعواعه لا غير (ويقال بفتح الواو والباء وإسكان العين).... وأمّا ضمّ المفتوح عند أهل الشام ولبنان فهذا غالب في أهل القرى. وربّما ضمّوا المكسور أيضًا فيقولون مثلاً المشمش (بضمّ الميمين) وهما مكسوران على الحقيقة...“ (عن: مجلة ”لغة العرب“، ج 5، بغداد 1911، ص 170-173)

ليس هذا فحسب، بل وبعد
شهور طويلة على نشر هذا التقصّي في مجلة ”لغة العرب“ تصل رسالة إلى هيئة التحرير من إغناز غولدزيهر، أحد شيوخ المستشرقين في تلك الأيّام، محاولاً هو الآخر الإدلاء بدلوه الاستشراقي في هذه المسألة.

وهكذا نقرأ في العام 1912 من ذات المجلّة: ”كتب إلينا العلامة الأستاذ إغناز غولدزيهر في بودابشت كتابًا دلّ على طيب عنصره وكرم أخلاقه ومن جملة ما ذكره تعقيبٌ له على مقالة البعبع. قال حرسه الله بحرفه العربيّ ونصّه البدويّ: ”أستأذن حضرتكم في أن أستخرج من حافظتي لأُعقّب على ما في مجلّتكم في الصفحة 170 وما يليها بصدد كلامكم عن البعبع وعمّا يستعمله العوامّ من ألفاظ زجر الصبيان وتخويف الأولاد الصغار، فأقول: في الزمان الذي كنت فيه مصر (سنة 1874) سمعت من بعض العوام عبارات يُخوّفون بها أولادهم بقولهم ”اسكت لحسن“ (= الأحسن بمعنى لئلاّ) أحط لك في عينك (يعني الششمة)، ”اسكت لحسن أحط لك في بقك الفلفل، اسكت لحسن أجيب لك شي الحارة، اسكت لحسن السماوي (من السمّ) ييجي ياخذك“. ثمّ إنّ التخويف بالبعبع مذكور أيضًا في كتاب ”هزّ القحوف في شرح قصيدة أبي شادوف (طبع حجر الاسكندرية 1289) ص 147، وهاكم عبارته: “وإذا أرادت أمّه تخوّفه وتسكته عن الصياح تقول له: اسكت لا ياكلك البعبع بكسر الموحّدتين ورفعهما وجزم العينين المهملتين. والبعبع مشتقّ من البعبعة وهي صوت الجمل“. (عن: مجلة ”لغة العرب“، ج 11، 1912، ص 439-440).

وهكذا، وبعد مرور الشهور والأيّام،
أستطيع أن أركن إلى طمأنينة. فها أنذا تعقّبت أثر البعبع الذي التقيت به صغيرًا وحيّرني كبيرًا. فما بين البعبع والوعوع وما شابههما قادتني طريق المساءلة إلى أناس آلوا على أنفسهم ألاّ يركنوا إلى حال النّقل، بل طفقوا يبحثون عن الأصل وما يشوبه من ملابسات. مهما يكن من أمر، أكان الـ”بعبع“ كالمشمش - مضموم الميم أم مفتوحها - فإنّه يضمّ كربًا ويفتح جراحًا لم تندمل بعد. فلا زالت البعابع والوعاوع تسرح وتمرح في ديارنا.

ولكن، ورغم ذلك، قد يفتح هذا الكلام الطريق أمام القارئ إلى أن يلقي حبل الاستطلاع على غاربه فينحو منحى التقصّي والبحث عن الحقيقة المستترة فيما يحمل من كلام. إذ أنّ الكلام في نهاية المطاف هو الإنسان في كلّ عصر وزمان.
*


نشرت في: ”إيلاف“ - 5 يونيو 2012

----

عبد القادر الجـنابي || أدونيس يرقع لبشار الأسد


عبد القادر الجـنابي
|| أدونيس يرقع لبشار الأسد

لا أريد أن ابدو وكأني طائفي، فأنا معروف بكرهي الشديد لأي تحزب مذهبي، وكثيرا ما صرحتُ: طز بكل الهُويات الطائفية وأولها هُوية طائفتي. لكن لا أستطيع أن أرى أدونيس انسانا حرا قادرا على التكلم خارج انتمائه الطائفي. فبدلا من أن يدين نظام بشار الأسد على ارتكابه مذبحة الحولة، ها هو يفتح فمه فتخرج منه كل العبارات، البهلوانية والسامة، لتبرير موالاته لنظام الأسد مذهبيا وايديولوجيا.. فمن الملاحظ انه كلما يشتد الضغط الدولي على نظام بشار الأسد، يطلع علينا ادونيس بتخريجة مبطنة!!

يقول ادونيس في العدد الذي صدر اليوم من مجلة "أسيا افريقيا": "من يراقب السياسة الحالية لفرنسا ازاء العالم العربي يلاحظ انها تخون مبادىء الثورة الفرنسية.... بدلا من العمل على دعم التيارات المدنية والديموقراطية والمتعددة القادرة على ارساء اسس ثورة شاملة من شأنها اخراج المجتمعات العربية من تخلف القرون الوسطى الى الحداثة، فان فرنسا وعلى العكس من ذلك تدعم كل الحركات الاصولية الرجعية وتتعاون باسم حقوق الانسان مع الانظمة الاصولية الرجعية... اذا كان الدافع لذلك هو الدفاع عن حقوق الانسان فان الفرص لاثبات ذلك ليست قليلة خصوصا في فلسطين والسودان والعربية السعودية ومجمل دول الخليج، التي لا يوجد حتى دستور لدى بعضها.... لا احد يستطيع الدفاع عن اي نظام عربي كان. لكن لا ينبغي ايضا اصلاح الشر الذي تمثله هذه الانظمة بشر اخر.... هذا تماما ما تفعله فرنسا واوروبا اليوم". كلام تتلثم به طبيعة أدونيس الطائفية... إنه ترداد ببغائي لما جاء في خطب بشار الأسد! كان يمكن ان اتفق معه لو كان مرفقا بنقد لا لف فيه ولا دوران، لنظام بشار الأسد... ومع هذا: لنفترض أن اوروبا دافعت، او تدافع كما يقول ادونيس، عن انظمة شريرة، فليس معنى هذا ان يسكت ادونيس عن جرائم نظام شرير كنظام بشر الاسد.

السؤال هو: منذ متى كان ادونيس يدافع عن الحريات المدنية والعَلمانية وحقوق الإنسان؟ فتاريخه سجل أسود من المواقف الانتهازية يندى لها الجبين، حد البكاء أمام السلفيين المصريين والادلاء بالشهادتين، مع انه لا يؤمن بهما:

- ألم يكتب تقريضا لثورة الخميني يعد فيها الغرب بالموت المؤكد؟

- ألم يكتب مقدمة لمختارات اعدتها زوجته خالدة سعيد لكتابات محمد بن عبدالوهاب، يدافع فيها عن موقف الشيخ الوهابي المضاد للمرأة

- ألم يأخذ جائزة عدو القصيدة الحديثة، أي القصيدة المدنية العلمانية، جائزة باشراحيل المخجلة!

- ألم يكتب في أول التسعينات بأن الخليج هو مركز الثقافة العربية اليوم....

- ألم تكن أول المنتفعين من كرم دولة الإمارات هذه التي تقول عنها إنها "لا يوجد حتى دستور لديها"...

وألم وألم والم وألم.....

كان الأجدر بادونيس أن يعمل، كما يعمل بعض العلويين الاحرار، على تحسين سمعة الطائفة العلوية، بإدانة، على نحو واضح وعلني جرائم نظام عائلة الأسد العلوية... كان الأجدر به أن يكشف عن شعور إنساني صغير، يمتلكة أصغر شاعر، إزاء اربيعين طفلا قتلتهم شبيحة النظام...

إن ما تفعله فرنسا وأوروبا هو ليس أكثر من باب التضامن الإنساني مع بشر بسطاء يقتلون بأبشع الطرق... فلا فرنسا ولا اوروبا في نيتها "اصلاح الشر الذي تمثله هذه الانظمة العربية بشر آخر".. وهل هناك شر أفظع من شر نظام عائلة الأسد العلوية التي ينتمي اليها روحيا وسياسيا وأخلاقيا هذا الشاعر العجوز ادونيس!

لم يعد لنظام الأسد الطائفي شبيحة تعمل على الأرض فقط، بل أيضا اصبح له شبيحة اخطر هي شبيحة الشعراء الذين لم يعد لهم لا ضمير، ولا أخلاق ولا يحزنون!
*
عن: أيلاف
---
إقرأ أيضًا: سلمان مصالحة | تفكيك أدونيس ومن هم على شاكلته
قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!