ما علاقة الله بعبد الله ونصر الله؟



سـلمان مصـالحة

ما علاقة الله بعبد الله ونصر الله؟


لقد ورد في المأثور الحديث النّبوي التّالي: "عن أبي هريرة رض قال، قال النبي صلعم: كلّ مولود يولد على الفطرة فأبواه يُهوّدانه أو يُنصّرانه أو يُمجّسانه كمثل البهيمة تنتج البهيمة هل ترى فيها جدعاء؟" (عن: صحيح البخاري. كذلك ورد الحديث باختلافات لفظيّة طفيفة في صحيح مسلم، ومسند أحمد، والتّرمذي وكثير غيرهم).

لن نتطرّق هنا في هذه العجالة إلى ما اختلف فيه السّلف من تفسيرات لهذا الحديث وسياقاته وأحكامه. ونكتفي بإيراد ما يلي باختصار لما يقتضيه مقصد المقالة. فقد ذكر ابن القيّم في هذا سياق الكلام عن معنى الفطرة: "سبب اختلاف العلماء في معنى الفطرة في هذا الحديث أن القدرية كانوا يحتجّون به على أن الكفر والمعصية ليسا بقضاء الله، بل ممّا ابتدأ الناس إحداثه. فحاول جماعة من العلماء مخالفتهم بتأويل الفطرة على غير معنى الإسلام. ولا حاجة لذلك، لأنّ الآثار المنقولة عن السلف تدل على أنهم لم يفهموا من لفظ الفطرة إلا الإسلام." (عن فتح الباري بشرح صحيح البخاري).

ويذهب ابن القيّم إلى هذا القول بالنّظر إلى قوله تعالى فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم والّذي يعقب الحديث. من هنا يستخلص ابن القيّم: "أنّ المراد بها فطرة الإسلام ولأن تشبيه المولود في ولادته عليها بالبهيمة الجمعاء، وهي الكاملة الخلق، ثم تشبيهه إذا خرج عنها بالبهيمة التي جدعها أهلها فقطعوا أذنها، دليلٌ على أنّ الفطرة هي الفطرة المستقيمة السليمة، وما يطرأ على المولود من التّهويد والتّنصير بمنزلة الجدع والتغيير في ولد البهيمة. ولأنّ الفطرة، حيث جاءت، مطلقة معرفة باللام، لا يُراد بها إلا فطرة التّوحيد والإسلام وهي الفطرة الممدوحة... وحيث جاءت الفطرة في كلام رسول الله صلعم فالمراد بها فطرة الإسلام لا غير." (عن: إبن القيّم، عون المعبود، شرح سنن أبي داود).

أمّا الحافظ العراقي فيقول أنّ معنى القول في الحديث "استُدلّ به على أنّ الولد الصغير يتبعُ أبويه في الإسلام والكفر... وقد أجمع المسلمون على ذلك. إنّما اختلفوا فيما إذا أسلمَ أحدُ أبويه فقال الشّافعي وأبو حنيفة وأحمد، والجمهور: يتبعُ أيّهما أسلم سواء كان هو الأب أو الأم، وقال مالك: يتبعُ أباه خاصّة دون أمّه، حتّى لو أسلمتْ أمّه وأبوه كافر استُمرَّ على الحكم له بالكفر." (عن: طرح التّثريب في شرح التّقريب)

ثمّ يأتي ابن تيميّة فيذهب في قوله إلى أبعد من ذلك بكثير، مضيفًا إلى ما سبق قولاً جديدًا: "وكلّ مولود يولد على الفطرة، وهي الحنيفية التي خلقهم عليها. ولكنّ أبَواهُ يُفْسدان ذلك فيُهوّدانه ويُنصّرانه ويُمجّسانه ويُشرّكانه، كذلك يُجهّمانه فيجعلانه منكرًا لما في قلبه من معرفة الرب ومحبته وتوحيده." (عن مجموع فتاوى ابن تيميّة). أي أنّ ابن تيميّة يضيف فرقة الجهميّة إلى ما ذكر السّالفون.

وإذا قبلنا بهذا المنطق الّذي ينطوي عليه الحديث، فحريّ به أن يكون منطقًا أمميًّا لكي تتمّ النّعمة على بني البشر. وبكلمات أخرى، حريّ بنا إضافة المسلم والعربيّ على العموم إلى جانب اليهودي والنصراني والمجوسي وغيرهم من البشر إلى هذا المنطق ذاته، لأنّه بغير ذلك تنتفي عن المقولة أمميّتها. بل نقول إنّه حريّ بنا أن نذهب إلى أبعد من ذلك فنقول: ما من مولود إلاّ وُلدَ إنسانًا بغير غيبيّات، محبًّا لأخيه الإنسان، فأبواه يُغيّبانه، أي يجعلانه مؤمنًا بالغيبيّات، ويُعصّبانه يُقبّلانه، أي يجعلانه مؤمنًا بالعصبيّة القبليّة، ويُوحّدانه ويُعنصرانه، أي يفسدانه فيجعلانه مؤمنًا بديانات سماويّة توحيديّة عنصريّة تكره ما سواها من البشر ومعتقداتهم.

ومن هذا المنطلق أيضًا، لا يسعنا إلاّ أن نذهب إلى القول أيضًا إنّه، ما من مولود إلاّ وُلدَ بغير اسم، فأبواه يعبّدانه، أي يسميّانه عبد الله، وأبواه ينصّرانه، أي يسمّيانه نصر الله، وأبواه أيضًا يُقذّفانه، أي يسمّيانه قذّاف الدّم، كما تنتج اليابانيّات يابانيّين والكوريّات كوريّين والصّينيّات صينيّين، فهل تجدون في هؤلاء النّاس أسماء عبد الله ونصر الله وقذّاف الدّم؟. والحقيقة أنّي لم أشأ هنا في هذا السّياق استخدام كلمة بهيمة، كما وردت في الأصول العربيّة، لكي لا أُتّهم بعنصريّة بغيضة تجاه اليابانيين والكوريّين والصينيين وغيرهم من شعوب الأرض. وذلك لأنّ البشر والشّجر والوبر والحجر أجمعين من خلقه تعالى، كما يُقال في غير مقال من مقالات الجهلة من المؤمنين.

قديمًا قيل: من شبّ على شيءشاب عليه. كلّنا نعرف هذه المقولة لأنّنا شببنا عليها، وها قد شبنا ولم يطوها بعد النّسيان. والحقيقة أنّ في هذه المقولة شيء من الصحّة إذ أنّ علماء التّربية كثيرًا ما ينبّهون إلى الاهتمام بالطّفولة والسّنوات الأولى من حياة النّشء الجديد لما فيها من خطورة على مستقبل المجتمع بعامّة، لأنّ ما يرسخ في ذهن النّشء في هذه الأعوام يشكّل دخيرة لهم أو حملاً ثقيلاً على كواهلهم في مسيرة حياتهم.

ومن هذا المنطلق أيضًا، فإنّي أعتقد أنّ للأسماء تأثيرات بالغة الخطورة على حامليها. وأكاد أجزم أنّه لولا ذلك الاسم الّذي أطلقه عليه أبواه، لما كان صدّام مثلاً لينشأ مع هذه الذهنيّة العنيفة الّتي رافقته طوال حياته. لقد كتب الاسم صدّام مصير هذا الرّجل منذ الصّغر. وهكذا يمكننا أن نتساءل، هل يمكن أن يأتي الخير من رجل باسم قذّاف الدّم؟ وما الّذي فكّر به الأبوان عند منحه اسمًا كهذا؟ وأخيرًا أما يفكّر هذا بتغيير اسمه؟ أمّ أنّ قذف الدّم سيرافقه طوال حياته؟ هذه الحقيقة تعرفها حضارة قبائل اليوروبا الأفريقيّة، ففي تلك الحضارة يقيمون طقسًا يتمّ فيه منح الاسم للوليد في اليوم الثّامن لميلاده. إنّهم ينظرون ببالغ الأهميّة للاسم لأنّهم يعتقدون أنّ الاسم سيؤثّر على مصير وسلوك الشّخص مستقبلاً. إنّهم يعتقدون، على سبيل المثال، لو أطلق على الطّفل اسمُ لصّ مشهور فسيُصبح لصًّا عندما يكبر بلا أدنى شكّ، وهكذا.

ومن هذا المنطلق أيضًا،يمكننا القول إنّ ما ينفع للأشخاص ينفع في السّياسة أيضًا. فإنّ للأسماء مدلولات خطيرة يجدر الانتباه إليها. فعندما يتسمّى حزب بأسماء مثل الوطني أو القومي، فهو إنّما يُصادر صفة الوطنيّة والقوميّة من سائر النّاس وهي حيلة يستخدمها هؤلاء الّذين يدّعون الوطنيّة والقوميّة. وكذا هي الحال عندما يتسمّى حزب بأنّه الحزب المسيحي الدّيمقراطي مثلاً فهو إنّما يصادر هذه الصّفات وينزعها عن الآخرين، كما لو أنّ سائر المسيحيّين ليسوا مسيحيّين وليسوا ديمقراطيّين، وهي كذبة لا تنطلي على أحد. والحال ذاتها عندما يتسمّى حزب باسم الله، فهو إنّما يصادر الله لصالحه، جاعلاً منه شخصيّة سياسيّة لها حزب ينافح عنها، كما لو أنّ سائر الخلق ليسوا من الله ولا يمتّون إليه بصلة. وهي أيضًا حيلة مكشوفة لا تنطلي على أحد.

لهذا، فإنّ المجتمعات الّتي تنشد الخير يجب أن تصل إلى قناعة واحدة مفادها إنّه يجب حظر كلّ هذا النّوع من التّسميات وخاصّة فيما يتعلّق بالحياة العامّة في الدّولة المعاصرة. في هذه الدّولة العصريّة الّتي يطمح إليها بنو البشر على سائر مللهم ونحلهم، لا مكان لهذا النّوع من أسماء الأحزاب، ويجب حظرها دستوريًّا على جميع المذاهب والطّوائف.

وأخيرًا، لا مناص من الإقرار أنّ الطّريق الأقوم للمجتمعات المعاصرة هي طريق فصل الدّين عن الدّولة دستوريًّا. هذا هو الإجماع الوطني لكافّة الطّوائف والمعتقدات وهذا هو السّقف الوحيد الّذي يستطيع النّاس أن يحيوا تحته بطمأنينة في مجتمع المدنيّة. وأمّا ما دون ذلك فبئس المصير. أليس كذلك؟
***
نشر في: “شفاف الشرق الأوسط”، 3 يونيو 2008
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
مشاركات



تعليقات فيسبوك:


تعليقات الموقع: يمكن إضافة تعليق هنا. لا رقابة على التعليقات مهما كانت مخالفة للرأي المطروح، بشرط واحد هو كون التعليقات وصيلة بالموضوع.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!