رسالة في النّقْبَنَة والبَرْقَعَة


سـلمان مصـالحة ||

رسالة في النّقْبَنَة والبَرْقَعَة


يُقال إنّ صورة واحدة تسوى ألف كلمة. أي أنّ ما تراه العين يُلخّص قضيّة كاملة بكافّة جوانبها، وبكلمات أخرى فإنّ الصّورة تفعل في العقل فعل المثل في المقولات الشعبيّة، إذ يركم المثل في جملة مقتضبة تجارب المجتمع دون الحاجة إلى الإطناب في الحديث. وبهذا المعنى فإنّ الصّورة التي يقع عليها النّظر تركم في ذهن المُشاهِد تصوّرات صامتة في مسألة متشعّبة دون الحاجة إلى كلمات صائتة. هكذا تتحوّل الرؤية البصريّة إلى رؤيا ذهنية. ومناسبة الحديث حول هذا الموضوع هو الصورة المرفقة التي التقطتها عدسات وكالة "رويترز" وعمّمتها على وسائل الإعلام.

لقد صوّت البرلمان الفرنسي في الآونة الأخيرة على حظر ارتداء البرقع في الأماكن العامّة، كما هنالك إجراءات مماثلة ما زالت قيد البحث في عدد من الدول الأوروبية الأخرى. لا شكّ أنّ جميع هذه الإجراءات هي نتاج التحوّلات الحاصلة في القارّة الأروربية في العقود الأخيرة، وهي تحوّلات أحدثتها موجات الهجرة المتزايدة من البلدان العربية والإسلامية. لقد ازدادت هذه الصورة حدّة في العقدين الأخيرين جرّاء موجات الإرهاب التي ضربت العالم وطالت دولاً أوروبية عديدة.

من الواضح أنّ إجراءات حظر البرقع في الأماكن العامّة تأتي على هذه الخلفية، وهي شبيهة بالاستفتاء الذي جرى في سويسرا لحظر بناء المآذن في المدن السويسرية. وبكلمات أخرى، كلّ هذه الإجراءات هي محاولات أوروبية حثيثة للتّمسُّك بالحضارة الأوروبية في كلا وجهيها المجتمعي والمعماري. فمثلما أنّ الاعتراض على بناء المآذن يهدف إلى الوقوف في وجه محاولات مَأْذَنَة خطوط الأفق في المدن الأوروبية، كذا هي الحال بشأن حظر النقاب أو البرقع، فهو يهدف إلى وقف محاولات نَقْبَنَة أو بَرْقَعَة الشّارع الأوروبي. كلّ ذلك يمكن أن يُعزى إلى انتكاف شرائح واسعة من جمهور المهاجرين عن الانخراط في المجتمعات الأوروبية على كافّة الأصعدة، ومردّه أيضًا إلى تقوقع المهاجرين، كلّ بحسب بلد المصدر، في ساكنة بشريّة أشبه بمجتمع الأصل على ما يحمله هذا من موروثات وتقاليد بعيدة كلّ البعد عن المجتمعات الجديدة.

من أجل الوصول إلى فهم أعمق للظاهرة، حريّ بنا أن نفتح أوّلاً باب اللّغة العربيّة لكي نتبصّر ما يخفي هذا الباب خلفه من مفاهيم، إذ في وسع هذا الباب لو فتحناه أن يلقي ضوءًا على ما نرمي إليه.

كثيرًا ما تُستخدم اللّغة دون التّفكّر في كيفيّة تطوّر التعابير، التشبيهات والاستعارات التي تعجّ بها. فعلى سبيل المثال، لا شكّ أنّ الجميع يقرأ هنا وهناك وبين فينة وأخرى أو إنّه يستخدم في كلامه أو في كتابته تعابير مثل: "أماط اللّثام عن كذا"، أو "كشف النّقاب عن كذا وكذا". فمن أين جاءت كلّ هذه التّعابير؟

لو رجعنا إلى الوراء منقّبين عن أصل هذه الاستخدامات اللغوية لوصلنا إلى قناعة بأنّها تشي بشيء من الإيروسيّة. فها هو الشاعر طفيل الغنوي يصف بهاء وجه محبوبته المُخبّأ وراء النّقاب فيقول: "عروبٌ كأنّ الشّمْسَ تحْتَ نِقابها - إذا ابْتَسَمَتْ، أوْ سافرًا لَمْ تَـبَسَّمِ." (أنظر: المحب والمحبوب والمشموم والمشروب للسري الرفاء: 25؛ انظر أيضًا: جمهرة اللغة لابن دريد: ج 1، 389). بينما الشاعر توبة بن الحميّر يشعر بشيء من الارتياب حين كشفت ليلاه وجهها على غير عادتها: "وكنتُ إذا ما جئتُ ليلَى تَبَرْقَعَتْ - فَقَدْ رَابَني مِنْها الغَداةَ سُفُورُها." (أنظر: الأغاني للأصفهاني: ج 11، 211؛ أنظر أيضًا: لسان العرب: مادة "برقع").

غير أنّ الرواية الإسلامية قد وضعت برقعًا أيضًا على وجه نبيّ، هو موسى كليم اللّه. فقد روي إنّه وضع البرقع على وجهه بعد أن كلّمه اللّه من العوسجة المحترقة: "كان موسى لم يأت النّساء مذ كلّمه ربّه، وكان قد ألبس على وجهه برقع فكان لا ينظر إليه أحد إلا مات". كما روي أنّ امرأته رغبت في أن ترى وجهه بعد أربعين سنة فرفع البرقع عن وجهه: "قالت امرأة موسى لموسى: إني أيم منك مذ أربعين سنة فأمتعني بنظرة. فرفع البرقع عن وجهه فغشي وجهَه نورٌ التَمَعَ بصرَها فقالت: ادعُ اللهَ أن يجعلني زوجتك في الجنة. قال: على أن لا تَزّوجي بعدي، وأن لا تأكلي إلا من عمل يديك..." (الدر المنثور للسيوطي: ج 3، 537؛ أنظر أيضًا: تفسير الخازن: ج 2، 287؛ تفسير السراج المنير للشربيني: ج 1، 407).

مهما يكن من أمر، فالنقاب والبرقع في العربيّة على العموم يفيدان الشيء ذاته وهو ذلك الرّداء الذي يستر وجه المرأة. غير أنّ هنالك درجات في التّنقُّب: "إذا أدْنَت المرأةُ نقابَها إلى عينيها، فتلك الوَصْوَصَة. فإذا أنزلته دون ذلك إلى المحجر، فهو النّقاب. فإذا كان على طرف الأنف، فهو اللّفام. فإذا كان على طرف الشفة، فهو اللّثام"، كما يروي الثعالبي عن الفرّاء (أنظر: فقه اللغة للثعالبي: 44؛ أنظر أيضًا: لسان العرب: مادّة "نقب"، مادّة "وصص").

نعود إلى الكلام عن الصّورة التي التقطتها عدسات وكالة "رويترز" وعمّمتها على الصحف، وقد نشرتها صحيفة "الشرق الأوسط" على صفحتها الأولى. فماذا نشاهد في هذه الصّورة؟ تتصدّر المشهد صورة امرأة عصريّة الهندام ترتدي قميصًا مزركشًا بالأبيض والأسود فوقه جاكيت أبيض يتدلّى على عنقها وصدرها عقد أبيض ملائم لألوان القميص، بينما نشاهد على عينيها نظّارات من موضة جديدة تشوبها حمرة كما هو اللّون على شفاهها، وفوق كلّ ذلك نراها بقصّة شعرها الأشقر. إنّها تسير متقدّمة مجموعة من النّساء الملتفعات بالأسود الدّاكن، كما لو كنّ مجموعة من الأشباح. والموقع يذكّر بمدرج في مطار ما.

عندما يقع عليها النّظر تتعالى في الذّهن كلّ تلك الأسئلة التي تطرّقنا إليها في بداية المقال. عالمان نقيضان يتعلّقان بصورة المرأة المرتسمة في الأذهان. غير أنّ الصّورة هي صورة مرواغة، إذ أنّ الكلام الذي وُضع تحت الصّورة تعريفًا بها يقلب ما يرتسم في الذهن للوهلة الأولى رأسًا على عقب. فالمرأة العصريّة التي تتصدّر الصّورة ليست أجنبيّة، والنّساء الملتفعات بالسّواد لسن عربيّات. فالمرأة هي وزيرة عربيّة في مطار بلد عربي. إنّها خليدة تومي، وزيرة الثقافة الجزائريّة. هذا ما نفهم ممّا كُتب تحت الصّورة: "وزيرة الثقافة الجزائرية ترافق زوجة الرئيس نجاد (الثالثة من اليسار) وزوجات أعضاء الوفد الإيراني في مطار الجزائر" (عن: الشرق الأوسط).

لاحظوا الفكاهة في تعبير "الثالثة من اليسار" إشارة إلى زوجة أحمدي نجاد وتمييزًا لها عن الأخريات. الثالثة من اليسار؟ ما الحاجة إلى ذلك؟ قد تكون من اليمين أو الوسط أو الخلف، لا فرق. فلقد محا هذا النوع من الألبسة صورة المرأة، الفرد، الإنسان. لقد امّحت صورتها كفرد، عالم قائم بذاته. يبدو ذلك بصورة جليّة مقارنة بصورة الوزيرة الجزائريّة، خليدة تومي.

هذا السّواد القادم من إيران هو جزء من منظومة أيديولوجيّة تتّسم بالمزاودة على المرأة العربيّة وعلى العالم العربيّ من النواحي الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة. إنّها مزاودة إيرانيّة تهدف في نهاية المطاف إلى بَدْوَنَة العالَم العربي المتخبّط منذ عقود طويلة على كافّة الأصعدة. من جهة أخرى، هذه البَدْوَنَة والبرقعة هي ما يحاول العرب والمسلمون تصديرها إلى أوروبا.

حريّ بنا أن نذكّر في نهاية المقالة كيف نظر القدماء إلى برقعة المرأة. فلو عدنا إلى المعاجم العربيّة بحثًا عن دلالات البرقع ستنجلي أمام أعيننا مفاهيم راسخة وتصوّرات لها علاقة بمكانة المرأة: "البُرْقُعُ والبُرْقَعُ والبُرْقُوعُ: معروفٌ، وهو للدوابّ ونساء الأَعْراب... قال الليث:وتَلْبَسُها الدوابّ وتَلْبَسُها نساءُ الأَعراب وفيه خَرْقان للعينين." (لسان العرب: مادّة "برقع"؛ أنظر أيضًا: الصحاح للجوهري؛ تهذيب اللغة ج 1، 412؛ كتاب العين: ج 2، 298). هكذا إذن، إنّه لباس للدّوابّ ولنساء الأعراب. أليس في هذه المقولة ما يشير إلى وضع النّساء في مكانة الدّواب؟ وفي هذا فليتفكّر المتفكّرون.

آمل أن أكون قد وُفّقت في "إماطة اللّثام" أو "كشف النقاب" عن بعض الجوانب الخفيّة في هذه المسألة.
***
نشرت في: "الأوان"، 28 سبتمبر 2010
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مشاركات



تعليقات فيسبوك:


تعليقات الموقع: يمكن إضافة تعليق هنا. لا رقابة على التعليقات مهما كانت مخالفة للرأي المطروح، بشرط واحد هو كون التعليقات وصيلة بالموضوع.

هناك تعليق واحد:

  1. اتمنى ان يقرأ الجميع مقالاتك المعبره عن الاستنارة واعمال الغقل والتدين الاصيل اذا جاز التعبير لكن مقاله اوخطبه جمعه واحدة من شيخ سلفى تجد صدى اوسع بكثير مع الاسف مما يكتب المستنيريين مثلك لكن هذة ليست دعوى للتوقف او التشائم لكنه واقع الحال السيىء الجاثم على القلوب مثل المرض العضال لكن معظم النيران من مستصغر الشرر وثورات العالم العربى الان هى خير دليل على انه لايصح الا الصحيح وان الحياة بدون العدل والحق والجمال لاتعاش اكثر الله من امثالك

    ردحذف

قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!