"بلدٌ من كَلام"



سلمان مصالحة ||

"بلد من كلام"


هل الكلام عن الوطن، مديحًا كانَ أو هجاءً، هو "مهنة مثل باقي المهن"، كما صرّح محمود درويش في "حالة حصار"؟ وماذا يعني مصطلح الوطن هذا الّذي تكثر الإشارة إليه في الكتابات الفلسطينيّة؟ وما هو المعنى الواقعي والمُتخيَّل لهذا المصطلح كما ينعكس في بعض هذه النّصوص؟

المصطلح بلد كما يعرّفه ابن منظور في لسان العرب هو "كلّ موضع أو قطعة مستحيزة عامرة كانت أو غير عامرة، وهو ما كان مأوى الحيوان وإن لم يكن فيه بناء. والبلد جنس المكان كالعراق والشّام، والبلدة الجزء المخصّص منه كالبصرة ودمشق"(1). نجد دلالات شبيهة بهذه الدّلالات أيضًا في معرض تعريف ابن منظور لمصطلح وطن، حيث يقول، هو: "المنزل تُقيمُ به، وهو موطنُ الإنسان ومَحلُّه". ولذلك يُضيف: "أوطان الغنم والبقر: مَرابضُها وأماكنُها الّتي تأوي إليها"(2). أي مثلما المصطلح بلد، كذلك هي الحال مع المصطلح وطن فهو يسري على الحيوان كما يسري على الإنسان، وبكلمات أخرى، البلد والوطن سيّان، رغم أنّ التّعريف القديم للبلد، كما يظهر من كلام ابن منظور، هو أعمّ وأشمل من تعريف الوطن. في الحقيقة نستطيع القول إنّ لغتنا العصريّة قد قلبت هذه المعادلة القديمة لمعنى البلد والوطن فجعلت البلد وطنًا والوطنُ بلدًا.

في البداية نقول إنّ مسألة الوطن بالنّسبة للإنسان العربي على العموم هي مسألة معقّدة ولها أبعاد ثقافيّة حضاريّة، اجتماعيّة وسياسيّة، ومنذ القدم، لا يوجد تحديد لمعالم هذا المصطلح، ولن يتّسع المجال هنا للإحاطة بجميع جوانبه. أمّا بالنّسبة للفلسطيني فتتعقّد هذه القضيّة أكثر فأكثر منذ نشوء الحركة الصّهيونيّة وقيام دولة إسرائيل في هذه البقعة من الأرض الّتي يراها كلّ طرف من الطرفين المتصارعين وطنًا له دون الآخر.

إذن فما هو معنى هذا الوطن الفلسطيني؟
قبل وقوع النّكبة الفلسطينيّة كان هُنالك من حاول التّطرُّق إلى قضيّة الوطن وإلى ما يحمله هذا الوطن في ثناياه من معانٍ. فالشّاعر إبراهيم طوقان يشاهد ما يجري على الأرض من صراع مع الحركة الصّهيونيّة قبل قيام دولة إسرائيل، فيحاول التّنبيه إلى النّتائج الوخيمة الّتي ستنتج عن بيع الأراضي الّذي يقوم به بعض الفلسطينيّين للشّركات الصّهيونيّة، فيقول في إحدى قصائده:

"باعُوا البلادَ إلى أَعْدائِهم طَمَعًا - بالمالِ لكنَّما أوطانَهم باعُوا
تلك البلادُ إذا قلتَ اسْمُها وَطَنٌ - لا يَفْهمونَ، ودونَ الفهمِ أَطْماعُ"(3).

أيّ أنّ هذه الأرض، البلاد، الّتي يرى فيها هؤلاء التّجّار مجرّدَ أملاك منقولة، هي أكبر من مجرّد مفردة، فلها دلالات أخرى يمكن أن تُختزَل في هذه الكلمة، الاسم؛ البلاد الّتي "اسْمُها وَطَنٌ". والوطن، كما يراه، هو هذا الشّيء الّذي لا يَفهم معناه هؤلاء التّجّار، بل ويتظاهرون بعدم الفهم بسبب أطماعهم التّجاريّة. إلاّ أنّ إشارة طوقان هذه هي إشارة عابرة إلى المصطلح فقط، دون أن يفسّر لنا هذا المصطلح وما يعنيه له. فهو يريد أن يقول إنّه يعني الكثير، فيكتفي بهذا التّصريح ولا يُفصّل هذا الكثير. إنّه يتركه للقارئ أو للسّامع، ليفصّل كلّ فرد على قدر ما يحسّ وعلى قدر ما يفهم من هذا المصطلح لذاته. إنّه يدعو فقط إلى التّفكير بمكان، رقعة صغيرة، ليومه الأخير:

"فَكّرْ بموتكَ في أرضٍ نشأتَ بها - واترُكْ لقبركَ أرضًا طولُها باعُ"(4).

وهكذا وبعد مرور أعوام ليست كثيرة على التّحذيرات الّتي تطرّق إليها إبراهيم طوقان، حدثت النّكبة في فلسطين، فقامت إسرائيل على جزء من الوطن، وهُجّر آلاف الفلسطينيّين من وطنهم. فقط أقليّة قليلة من الفلسطينيّين بقيت في الجزء من الوطن الّذي صار اسمه إسرائيل في العام 1948. هذه الأقليّة حاولت أن تتشبّث بما بقي لها من تراب في الوطن منتظرةً الفرجَ: "وظلّت هنا في بلادي بقيّةْ / بقيّة شعب / تغرس أقدامها في التّراب / لترسخَ فيه جذورًا قويّةْ / وأجفانُها عُلّقت بالسّحاب / تلمح خيط ضياء / يشقّ غيوم العذاب"(5).

محاولة لفهم ما يعنيه مصطلح الوطن يعود للظّهور من جديد لدى هذه الأقليّة الّتي بقيت في أرض الوطن الّذي صار إسرائيل. مدينة القدس، قبل حرب حزيران 1967، كانت مشطورة شطرين. قسمها الغربي كان يقع تحت السّيطرة الإسرائيليّة والقسم الشّرقي تحت سيطرة المملكة الأردنيّة. في مواسم الأعياد المسيحيّة كانت السّلطات تسمح للفلسطينيّين المسيحيّين الّذين بقوا في دولة إسرائيل بالإنتقال إلى القدس وبيت لحم لزيارة المواقع المقدّسة المسيحيّة في المملكة الأردنيّة آنذاك. كان الحجّاج يعبرون إلى الشّطر الشّرقي من مدينة القدس عبر بوابة اسمها بوّابة مندلباوم، وهي البوّابة الّتي شكّلت نقطة العبور بين شطري المدينة للحجّاج المسيحيّين وللدپلوماسيّين ولقوات الأمم المتّحدة.

الكاتب إميل حبيبي، يتطرّق إلى مسألة الوطن من خلال قصّة قصيرة بعنوان "بوّابة مَنْدِلْباوْم"، نُشرت في بداية سنوات الخمسينات من القرن الماضي، أي بعد أعوام قليلة من وقوع النّكبة، وهي قصّة تتمحور حول نقطة العبور هذه بين شطري مدينة القدس. في مشهد وداع الوالدة التي ستنتقل عبر بوابة مندلباوم إلى الطرف الأردني، يكتب إميل حبيبي في قصّته عن شخصيّة الوالدة: "لقد بلغتْ الخامسة والسبعين من عمرها ولمّا تجرّبْ ذلك الشّعور الّذي يقبض على حبّة الكبد فيفتّتَها، ذلك الشّعور الّذي يُخلّفُ فراغًا روحيًّا وانقباضًا في الصّدر، كتأنيب الضّمير، شُعور الحنين إلى الوطن. ولو سُئلتْ عن معنى هذه الكلمة "الوطن" لاختلطَ الأمرُ عليها كما اختلطتْ أَحرفُ هذه الكلمة عليها حينما التقتْها في كتاب الصّلاة. أَهُوَ البيتُ، إناءُ الغسيل وجرنُ الكُبّة الّذي وَرِثَتْه عن أمّها؟... أو هو نداءُ بائعة اللّبن في الصّباح على لبنها، أو رنين ُجرس بائع الكاز، أو سُعالُ الزّوج المصدور وليالي زفاف أولادها الّذين خرجوا من هذه العتبة إلي بيت الزّوجيّة واحدًا واحدًا وتركوها لوحدها؟....ولو قيلَ لها إنّ هذا كُلَّه هو "الوطن" لما زِيدَتْ فَهْمًا"(6).

في هذه الفقرة هنالك محاولة من جانب الكاتب لتفكيك معنى هذا المصطلح. إنّها محاولة للولوج عميقًا في دهاليز هذا المصطلح المشحون، واستجلاء ما يخبّئ في طيّاته. هذه التّساؤلات الّتي يطرحها إميل حبيبي بنوع من التّفصيل هي في الحقيقة الإجابة على السؤال نفسه. إلى كلّ هذه التّفصيلات يستطيع القارئ أن يضيف من عنده أمورًا أخرى فتصبح هي هي المعنى الحقيقي لكلمة الوطن.

لكن، ليس الوطن ككلّ أوكمصطلح عام ومجرّد هو شيء ملتبس فحسب، بل كلّ نقطة عينيّة فيه. كلّ موقع ومهما كان محدّدًا يلتبسُ على النّاس، فهنالك تباين من ناحية التّوجّه إليه ومن ناحية الأسماء الّتي يُطلقها الإنسان على هذا الموقع. الأسماء الّتي تُعطى للأماكن هي قضيّة مهمّة للغاية ولها دلالات وأبعاد كثيرة لأنّها تكشف عن علاقة حميميّة بين الإنسان والمكان. هذا التّباين في أسماء المكان يظهر جليًّا في نقطة عبور أخرى، هي جسر على نهر الأردن يعبر عليه النّاس بين ضفّتي الأردن. هذا هو مريد البرغوثي الشّاعر الفلسطيني الّذي يعيش خارج الوطن يتحدّث عن هذا الجسر بعد أن عاد لزيارة الوطن بعد عقود من الزّمن: »فيروز تسمّيه جسر العودة. الأردنيّون يسمّونه جسر الملك حسين، السّلطة الفلسطينيّة تسمّيه معبر الكرامة. عامّة النّاس وسائقو الباصات والتّكسي يسمّونه جسر أللنبي. أمّي وقبلها جدّتي وأبي وامرأة عمّي أم طلال يسمّونه ببساطة: الجسر. الآن أجتازه للمرّة الأولى منذ ثلاثين صيفًا، صيف 1966 وبعده مباشرة ودون إبطاء صيف 1969"(7) .

لعلّ في هذا التّباين ما يشير إلى الأزمة الجماعيّة الوطنيّة المتعلّقة بالمكان الفلسطيني، وفي هذه التّسميات الكثيرة لموقع واحد ما يدلّ على التّحوّلات الّتي طرأت على هذا المكان على مرّ السّنين، فكلّ تسمية تُشيرُ إلى قضيّة سياسيّة، كما تكشفُ عمّا في نفوس من يُطلق هذه التّسميات. ففيروز تُعبّرُ عن حلم العودة لدى اللاّجئين، بينما تسمية الجسر باسم الملك حسين تُشير إلى السّلطة الفعليّة في المكان. أمّا مصطلح الكرامة فهو مأخوذ من اسم المعركة بين القوات االفلسطينيّة والإسرائيليّة الّتي توغّلت عبر النّهر والّتي تكبّدت خسائر كبيرة. بينما اسم أللنبي، الجنرال البريطاني، فهو يشير إلى فترة الإنتداب في فلسطين. هكذا من خلال اسم موقع واحد يمكن الحصول على تاريخ البلاد، وعلى إشكاليّة هذا التّاريخ.

الغربة عن الوطن والغربة في الوطن

أوّلاً: الغربة في الوطن
مع أنّ الكتابات الفلسطينيّة الّتي تتطرّق للوطن تعكس على العموم حالة نفسيّة من الإغتراب تجاه مصطلح الوطن، إلاّ أنّ ثمّة فروقًا بين توجّهات من بقي في وطنه يعيش فيه ويعايشه وبين من يمكثُ بعيدًا عنه. فالوطن، في نظر من بقي في أرضه في الجزء الّذي قامت عليه إسرائيل، قد تغيّرت معالمه وتغيّرت علاقته بالإنسان الفلسطيني الّذي يصل إلى هذه القناعة لأنّه يشاهده بأمّ عينه ويرى ما يستجدّ عليه يوميًّا. كلّ شيء فيه قد تغيّر: الطّيرُ، والأرضُ بنباتها وشجرها وينابيعها. والوطن يتغيّر ليس فقط من ناحية المعالِم الجغرافيّة، بل تتغيّر علاقة هذا الوطن بالإنسان صاحب هذا الوطن. فهذا هو سميح القاسم الشّاعر الّذي بقي في وطنه يعبّر عن هذه الحالة في قصيدة له بعنوان "وطن"، فيقول: "وماذا؟ / حينَ في وطني / يموتُ بجوعه الدّوريُّ / منفيًّا، بلا كفنِ ... / وماذا؟ / والحقول الصّفر / لا تُعطي لصاحبها / سوى ذكرى متاعبها... / وماذا؟ / والينابيع القديمةُ / ردّها الإسمنتْ / وأنساها مجاريها / فإن نادى مناديها / تصيحُ بوجهه: من أنت؟"(8).

إذن، الطّيور والحقول والينابيع تغيّرت جميعها وتبدّلت أحوالها، وها هي الآن لا تتعرّف على مناديها، صاحبها، فتصرخ في وجهه: »من أنت«؟ هذه الطّيور وهذه الحقول لم تعد تابعة للفلسطيني بل تمّ اقتطاعها ومصادرتها منه ومن هويّته، وهذه العصافير والحقول هي هي ذاتها الّتي أُسقطت من هويّة الفلسطينين ومن جواز سفره: "لم يعرفوني في الظّلال الّتي / تمتصّ لوني في جواز السّفر. .../ كُلّ العصافير التي لاحقت / كفّي على باب المطار البعيد / كُلّ حُقول القَمْح،/ كُلّ السجون، / كُلّ القُبور البيض / كل الحدود / كُلّ المناديل التي لوّحت / كُلّ العيون السود / كُلّ العيون / كانت معي، لكنّهم / أسقطوها من جواز السفر"(9).

وهكذا تمرّ الأعوام وتمّحي معالم الأرض الّتي كانت تدلّ على من سكنها قبل النّكبة، فتصبح هذه الأرض في نظر من بقي في الوطن، بمثابة حبيبة خائنة، بل وأبعد من ذلك فهي تتحوّل إلى مومس تمنح جسدها في الموانئ لكلّ عابر ووافد، وتتنكّر لصاحبها. هكذا يصفها شاعر آخر، هو طه محمد علي في قصيدة له بعنوان، "عنبر":
"آثارُنا دارسة / رُسُومُنا جُرِفت .../ وما من مَعْلمٍ واحد / يوحي بشيء / يدلّ على شيء / أو يومئ إلى أيّ شيء / لقد تقادمَ العهدُ... / الأرضُ خائنةٌ / الأرضُ لا تحفظُ الودّ / والأرضُ لا تؤتمن / الأرضُ مومسٌ / أخذت بيدها السّنين / تُدير مَرقصًا / على رصيف ميناء / تضحك بكلّ اللّغات / وتُلقم خَصْرها لكلّ وافد / الأرضُ تتنكّر لنا / تخوننا وتخدعنا.../ أرضُنا تُغازل البحّارة / وتتجرّد أمام الوافدين ....ولا يبدو عليها ما يربطها بنا."(10)

الشّاعر الّذي يعيش في وطنه يشعر بأنّ الأمور فيه قد انقلبت رأسًا على عقب،بل ويصل إلى الوعي بفقدان هذا الوطن: "غير العشّاق، الآن، همُ العشّاقُ، / غير القتلة فيك هم القتلة"، / يا وطناً يغرق في الرمز الصّوفيّ، وفي الدم،/ يا مفقوداً،... / يا وطن الأشياء المفقودة"، ولذلك فهو يتحوّل إلى مجرّد رمز فحسب: "الموتُ بلا موتٍ، / والصوت بلا صوتٍ،/ والوطن بلا وطنٍ."(11)

بعد كلّ هذه التّحوّلات، والإحباطات الّتي أصابت الإنسان الباقي في وطنه إزاء الّذي جرى له، لم يتبقّ لديه سبيل للخلاص سوى الإبتهال إلى مُخلّصٍ ينقذه من هذه الورطة. هذا المخلّص قد يُستحضر من رموز التّاريخ العربيّ، أي من الماضي، كما فعل كثير من الشّعراء، وعلى سبيل المثال فقط، نقتبس هذه السّطور من قصيدة طه محمد علي: "صفورية / ماذا تفعلين هنا / في هذا اللّيل المجوسي.../ ماذا صنعت بسيف صلاح الدّين؟ / وأين وفود الظّاهر؟ / أين الجميع؟"(12). وهذا المخلّص، وبخلاف التّفاصيل المجسّدة للوطن المتغيّر، قد يأتي أيضًا من عالم المجاز، من عالم الإستعارة. إنّه يأتي من عالم الطّبيعة وبنبرة اتّكاليّة: كما يقول سميح القاسم: "تعالي يا رياحَ الشّرقِ / إنّ جذورنا حيّة."(13)

كلّ هذا الّذي جرى يدفع الإنسان إلى الإنزواء والعزلة، بل أكثر من ذلك إلى حالة نفسيّة تتّسم بالكآبة والإحساس بالغربة في هذا الوطن، فيشعر بالرُّعب ممّا جرى له. لهذا يشرح سميح القاسم وضعه المأساوي في قصيدة له من مجموعة أخرى، ويضع لها عنوان "الرّعب"، فيقول: "حين تغيب الشّمس، قالوا: أغيب / في حجرة من وطن / أُحرم، قالوا، من عناق الهموم / بيني وبين القمر/ يرعبهم، أعلم، بثّ الضّجر / بيني وبين النّجوم .../ وفي مغيب الشّمس، قالوا، أغيب / في حجرتي يا وطن / قالوا أكون الغريب / وأنت ملءُ البدن / فمن تُرَى يحملُ عبر الزّمن / في قلبه، وجهَكَ هذا الحبيب / ومن مغنّيكَ، من،/ غيري أنا... يا وطن؟"(14)

هكذا تتقّلص حدود الوطن إلى حجرة، إلى غرفة في هذا الوطن بها يتسامر مع همومه، لأنّه صار يُنظَر إليه بصفته غريبًا، فيضيق عالمه، وطنه، ويضيق هو بالعالَم والحياة. وحين يكون الكاتب قابعًا في زنزانة في السّجن فقد يتحوّل الوطن من مكان في الأرض إلى رمز للحريّة: "والشّرطي الّذي اجتذبته موجة الهجرة الأخيرة، يُعلنُ خَطوَه الثّقيل في باحة السّجن، يتوقّف أمام الزّنازين، يُراقِب من الكُوَى االضّيّقة رجالاً يرسفون في قيودهم... يزحف اللّيلُ بطيئًا، والشّرطي ينوءُ تحت وطأة الوظيفة وعبء الإنتصار والعيون الّتي تخترق الكُوى بَحثًا عن وطن."(15)

ثانيًا: الغربة عن الوطن
البعد عن الوطن يخلق وطنًا مُتخيَّلاً بعيدًا عن الواقع الحقيقي. في المنفى ينبني الوطن على أسس من الذّكريات، أو على أسس من الخيال. في المنفى يُبنى الوطن في الخيال كمكان مثاليّ كما لو كان جنّة اللّه على الأرض: "بعيدًا عن الوطن الممكن المستحيل / قريبًا من السّاعة المُفزعة / فتى ساهمٌ: / يا بلاد الحنان قسوتِ عليّ.../ وحين تمرّ البناتُ أذوبُ هوًى / ويُثقلني جبلٌ أرتقيه إليكِ / وتُثقلني قطرةٌ من ندى .../ تفتنني نبتةٌ / وتمتدّ حولَ عيوني البساتينُ خُضرًا..."(16)

هذه الصّورة المثاليّة للوطن، الجنّة، لم تُبنَ في الشّعر فحسب، بل في الحديث اليومي مع النّاس: "كنت أقول لزملائي وزميلاتي المصريين في الجامعة أنّ فلسطين مغطّاة بالأشجار والأعشاب والزهور البريّة."(17)

الحنين إلى الوطن لدى من خرج منه ولم يعد، إمّا بمحض الصّدفة وإمّا لاجئًا، يتحوّل إلى شيء آخر، ويحمل دلالة جديدة، فدلالة هذا الحنين تتّسع لتأخذ بعدًا جديدًا ومعنى جديدًا هو الشّهوة. تظهر هذه الشّهوة في قصيدة "الشّهوات"(18 مايو، 1992): "وأنا لم أعد أشتهي أيّ شيء / فأنا أشتهي كلّ شيء.... / شهوة لبلادٍ / نجوع ونشبع فيها ... / وفيها من الوقتِ وقتٌ نُخصّصُه / للخطايا الحميمة والغلط الآدميّ البسيط"(18). إنّها شهوة إلى فسحة في الزّمان، شهوة إلى بعض الوقت في المكان، البلاد، الّتي يمكن للإنسان أن يحيا فيها بأشيائه الصّغيرة، كأن يجوع وكأن يشبع. إنّها الشهوة إلى مكان يمارس فيه بعض الخطايا الصّغيرة، وبعض الهفوات الإنسانيّة البسيطة، فكلّ هذه الأمور، على بساطتها، تُصبح في المنافي ذات دلالات كبيرة. إنّ هذا الابتعاد عن فلسطين خلق أجيالاً من الفلسطينيّين لا تعرف عن فلسطين شيئًا، أجيالاً من "الفلسطينيّين الغرباء عن فلسطين" ولدتْ في المنفى ولا تعرف من وطنها ولا قصّته وأخباره، أجيالاً بوسعها أن تعرف كلّ زقاق من أزقّة المنافي البعيدة وتجهل بلادَها، أجيالاً لم تزرعْ ولم تصنعْ، ولم ترتكبْ أخطاءها الآدميّة البسيطة في بلادها..."(19)

فقط بعد سنين يحاول مريد البرغوثي أن يراجع حساباته الشّخصيّة مع الوطن، أن يراجع رؤيته لهذه الصّورة المتخيّلة عن الوطن. إنّه يفعل ذلك بعد عودته لزيارة هذا الوطن في العام 1996: "ما هذه التّلال، جيريّة، كالحة وجرداء؟ هل كنت أكذب على النّاس آنذاك؟... هل قدّمتُ صورة مثاليّة عن فلسطين بسبب ضياعها؟ قلت لنفسي عندما يأتي تميم إلى هنا سيظنّ أنني وصفتُ له بلادًا أخرى."(20)

ويستمرّ مريد البرغوثي في عرض ملاحظاته بنوع من الصّراحة والشّجاعة الأدبيّة فيعترف بأنّه كان يكذب على الآخرين ويكذب على نفسه: "الطريق إلى دير غسانة نسيتُ ملامحَهُ تمامًا. لم أعدْ أتذكّر أسماء القرى على جانبي الكيلومترات السّبعة والعشرين الّتي تفصلها عن رام اللّه. الخجل وحده علّمني الكذب. كلّما سألني حسام عن بيت أو علامة أو طريق أو واقعة سارعت بالقول إنّني "أعرف". أنا في الحقيقة لم أكن أعرف. لم أعد أعرف. كيف غنّيت لبلادي وأنا لا أعرفُها؟ هل أستحقّ الشّكر أم اللّوم على أغانيّ؟ هل كنت أكذب قليلاً؟ كثيرًا؟ على نفسي؟ على الآخرين؟ أيّ حبّ ونحن لا نعرف المحبوب؟"(21)

التّشبُّث بالوطن هذا مردُّه إلى الرّفض من قبل الآخر، ليس الإسرائيلي اليهودي فحسب، بل هنالك أيضًا رفض من طرف الآخر العربي، للفلسطيني الّذي وفد أو لجأ إليه. فبعد أن ترك محمود درويش الوطن طوعًا، وجاب العالم العربي واستقرّ في بيروت، وكتب عنها في شعره، لم يرق ذلك للّبنانيّين الّذين قالوا له: "هذه المدينة ليست لك، قالوا لي: إنّني غريب، فشعرت بأنّني مؤقّت هناك"(22). هذا الرّفض من ذوي القربى هو الّذي يدفع إلى البحث في الذّات عن مكان هذه الذّات في الزّمان والمكان. التّرحال الّذي صار حالة نفسيّة لدى درويش يدفعه إلى سؤال نفسه سؤالاً أزليًّا: من أنا، وأين أنا وإلى أين أنا، فيشعر بالضّياع: "وما زال في الدّرب دربٌ لنمشي ونمشي. إلى أين تأخذني الأسئلة؟ / أنا من هنا، وأنا من هناك، ولستُ هناك ولستُ هنا"(23). من خلال هذا الضّياع يأخذ بالبحث مرّة أخرى عن وطن، عن معنى هذا الوطن، فيستنجد بالذّكريات، لأنّها الشّيء الوحيد الّذي تبقّى لديه من "هناك"، من وطنه: "أنا من هناك. ولي ذكرياتٌ. وُلدتُ كما يولدُ النّاسُ. لي والدةْ / وبيتٌ كثير النّوافذ، لي أخوة أصدقاء، وسجنٌ بنافذةٍ باردةْ. ... / تعلّمتُ كلّ الكلام وفكّكْتُه كي أُرَكّبَ مفردةً واحدةْ / هي الوطن"(24). غير أنّه حينما عاد إلى الوطن، إلى غزّة على وجه التّحديد، بعد اتّفاقات أوسلو، فإنّه يكتشفُ شيئًا جديدًا في هذا الوطن: "زرتُ وطني. شعرتُ غريبًا جدًّا في غزّة"(25). أين هو هذا الوطن في نظر درويش؟ إنّه يجيب على هذا السؤال بنفسه: "سأرمي كثيرًا من الوردِ قبلَ الوصولِ إلى وردةٍ في الجليل"(26). فوطن درويش في نهاية المطاف هو إذن مكان صغير، وليس فلسطين الجغرافيّة بحدودها التّاريخيّة. إنّه وطن صغير يتمثّل في قرية في الجليل، مسقط رأسه، هي عنوان الرّوح الّتي يحبّ السّفر إليها من منفاه: "عناوين للرّوح خارج هذا المكان. أحب السّفر / إلى قريةٍ لم تُعلّق مسائي الأخيرَ، على سروها. وأحبّ الشّجر / على سطح بيتٍ رآنا نعذّبُ عصفورتين."(27)

خاتمة
إذن، الكتابة الفلسطينيّة، ومنذ بداية الهجرة والإستيطان الصّهيوني في فلسطين، مشغولة جدًّا بهاجس الوطن، وبما يعنيه هذا المصطلح. على مرّ السّنين يتبيّن من هذه الكتابات أنّ ثمّة فارقًا في التّوجّه إلى هذا الوطن. فالّذي يعيش في الغربة يبني له وطنًا في الخيال الّذي يرضع من الذّكريات، وكلّما اتّسعت المسافة الزّمانية والجغرافيّة بين المُتَخَيِّل والوطن كلّما اتّسمَ هذا بهالة جماليّة فيها نوع من الفنطازيا. أمّا من بقي في وطنه فهو يرى كلّ ما يجري من تحوّلات عليه، ويراه على حقيقته ويرى هذا التنكُّر النّاتج من المكان له. والفارق في علاقة كليهما بالوطن يمكن أن يُلخّص بهذه المعادلة: الّذي يعيش في المنفى يُفاجأ حين يعود للوطن بأنّه لا يعرف هذا الوطن، بينما الّذي بقي في وطنه، فإنّ الوطن هو الّذي لا يعرفُه ويتنكّر له. الّذي يعيش في المنفى تتحوّل فلسطين لديه مجرّد خيالات، مجرّد فكرة: "الإحتلال الطّويل استطاع أن يحوّلنا من أبناء فلسطين إلى أبناء فكرة فلسطين"(28). بينما الّذي يعيش في الوطن الّذي يتنكّر إليه فيحاول البحث عن الوطن في أشياء أخرى، يحاول الخلاص من هذه الورطة أحيانًا عبر البيولوجيا، وهذا ما حدا بالشّاعر سميح القاسم أن يختار لابنه البكر اسم: "وطن". وفي كلتا الحالين سيبقى الحديث عن الوطن مستمرًّا وسيكتب الشّعراء والكتّاب الكثير من الكلام عنه، فسَفَر الفلسطيني هو سَفَر عاديّ لكنّه سفر في طريق باتّجاه واحد لا عودة منه، فيتحوّل الوطن المتخيَّل إلى مجرّد كلام، كلام فحسب: "نُسافرُ كالنّاسِ، لكنّنا لا نعودُ إلى أيّ شيء.../ لنا بلدٌ من كلامٍ ... / لنا بلدٌ من كلامٍ. تكلّمْ تكلّمْ لنعرفَ حدًّا لهذا السّفرْ"(29). غير أنّ الحديث عن الوطن لن ينتهي، لأنّ أمورًا كثيرة قد تتشابك فيه ممّا يجعل للنّظرة الذّاتيّة تجاهه موقعًا ووقعًا كبيرًا في النّفس. وقد ألمحَ إلى هذه الإشكاليّة شاعرٌ عربيّ قديم، إذ ربط معنى الوطن بالأشياء اليوميّة وبأسباب العيش الّتي قد تتخطّى حدودًا جغرافيّة بعينها لتتحوّل إلى نظرة كوسموپوليتيّة، قد يُطلق عليها الـمُحْدَثون مصطلح عولمة.

قال الشّاعر:

"الفَقْرُ في أوطاننا غُرْبَةٌ - وَالمالُ في الغُرْبَةِ أَوْطانُ
والأرضُ شَيْءٌ كُلُّها واحدٌ - والنّاسُ إخْوانٌ وَجِيرانُ."(30)

_____


(1) ابن منظور، لسان العرب، دار صادر،ج 3، ص 94.
(2) لهذا ورد في لغة العرب: "حَنَّتِ الإبِلُ، أي نزعتْ إلى أوطانِها أو أولادها"، إبن منظور، لسان العرب، ج 13، ص 129. وقد ذكر الشّعراء العرب القدماء حنين الإنسان والحيوان إلى الأوطان كثيرًا: "كما حنّت إلى أوطانها النّيبُ".
(3) إبراهيم طوقان، ديوان، ص 54.
(4) إبراهيم طوقان، ديوان ص 54-55)
(5) حنا أبو حنا، نداء الجراح، ط 3، منشورات الطلائع، يافة الناصرة 1999، ص 34
(6) إميل حبيبي، "بوابة مندلباوم"، سداسيّة الأيّام السّتة، ص 208-213.
(7) مريد البرغوثي، رأيت رام اللّه، ص 15.
(8) سميح القاسم، دمي على كفّي، ديوان، عربسك، ص 522-523.
(9) محمود درويش، حبيبتي تنهض من نومها، 1977، ص 37-39.
(10) طه محمد علي، ضحك على ذقون القتلة، حيفا 1989، ص 115-122. هذه النّظرة إلى الوطن ليست جديدة بل كانت تكرّرت عند شعراء آخرين من قبل: "وطني... / يا امرأة تفتح / فخذيها للرّيح الغربيّة"، سميح القاسم، سقوط الأقنعة، ديوان ص 126.
(11) من قصيدة: جدليّة الوطن لعلي الخليلي، من مختارات: سلمى الخضراء الجيوسي، موسوعة الأدب الفلسطيني المعاصر، الجزء الأول: الشعر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1997.
(12) طه محمد علي، ضحك على ذقون القتلة، ص 19-23.
(13) سميح القاسم، دمي على كفّي، ديوان، ص 522-525.
(14) سميح القاسم، في انتـظار طائر الرّعد، ديوان سميح القاسم، منشورات عربسك، مطبعة السروجي، عكا 1979.
(15) محمود شقير، طقوس للمرأة الشّقيّة، دار القدس للنّشر، القدس 1994، ص 58.
(16) مريد البرغوثي، قصائد مختارة، ص 28-29.
(17) مريد البرغوثي، رأيت رام اللّه،المركز الثقافي العربي، بيروت 1998، ص 35.
(18) مريد البرغوثي، قصائد مختارة، ص 86-90.
(19) مريد البرغوثي، رأيت رام اللّه، ص 74.
(20) (مريد البرغوثي، رأيت رام اللّه، ص 35.
(21) مريد البرغوثي، رأيت رام اللّه،، ص 73.
(22) حداريم 21، ص 178.
(23) محمود درويش، ورد أقلّ، ص 7.
(24) درويش، ورد أقلّ، ص 13.
(25) حداريم 21، ص 172.
(26) محمود درويش، ورد أقلّ، ص 7.
(27) محمود درويش، ورد أقلّ، ص 15.
(28) مريد البرغوثي، رأيت رام اللّه، ص 75.
(29) محمود درويش، ورد أقلّ، ص 21.
(30) اليافعي، مرآة الجنان وعبرة اليقظان، ص 316.

ــــــــــــــــــ

* هذه المحاضرة قُدّمت في غرناطة في ربيع سنة 2002 بدعوة من الصندوق الإسپاني العربي الّذي يستضيف كتّابًا وشعراء من العالم العربي بهدف التّواصل الحضاري بين إسپانيا والعالم العربي.

** نُشرت في مجلة "مشارف"، عدد 18، خريف 2002
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ














مشاركات



تعليقات فيسبوك:


تعليقات الموقع: يمكن إضافة تعليق هنا. لا رقابة على التعليقات مهما كانت مخالفة للرأي المطروح، بشرط واحد هو كون التعليقات وصيلة بالموضوع.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!