محمود درويش: شاعر، قاتل، قارئ

سلمان مصالحة ||

محمود درويش: شاعر، قاتل، قارئ



كان محمود درويش
على علم بكلّ التّفاصيل. نعم، كان يعرف كلّ التّفاصيل لأنّه شاعر. والشّعر ليس من الشّعور، أي العواطف والأحاسيس، كما شاع الفهم لدى جهلة العامّة والـ"خاصّة" من العرب. إنّما هو من الاستشعار، أي الفطنة والحدس. لقد عرف العرب ذلك منذ قديم الزّمان، فقالوا: "وسُمّي الشّاعرُ شاعرًا لفطنته، وهو الفقيه أيضًا، والفقه عندهم الفطنة..."، وقالوا أيضًا: لأنّ الشّاعر "يَظُنّ فيُحَقّق". لقد نسي العرب هذا الكلام من زمان أيضًا، فصاروا، لشدّة ما هم عاطفيّون، يظنّون أنّ الشّعر من الشّعور والعواطف.

ولأنّه كان شاعرًا بمعنى
هذه الفطنة، فقد كان يعرف ماذا سيجري بعد رحيله، فقال: "يُحبّونني ميّتًا ليَقُولوا: لقد كانَ منّا، وكانَ لنا. / سمعتُ الخُطَى ذاتها... تأتي / ولا تفتحُ الباب". هكذا، بفطنته الشّعريّة، وضع درويش تعليماته شعرًا لزمرة المخرجين المسرحيّين الّذي يعملون حثيثًا على إخراج جنازته على خشبة المعاناة الفلسطينيّة، والعربيّة أيضًا، وها هو الشّاعر "يظنّ فيحقّق". فما أن أسدل جفنيه في نوم أبديّ على "سرير غريب" وراء البحار، حتّى سارعت "الخطى ذاتها" تذرف دموع التّماسيح، الّتي أضحت على ما يبدو ماركة عربيّة مسجّلة، على الفقيد.

فقط بالأمس القريب،كانت مقل التّماسيح جافّة، وإن كان في تلك المقل شيء من رطوبة فقد كانت تلك رطوبة سامّة. نعم، بالأمس القريب كانت كلّ تلك التّماسيح تكيل الاتّهامات إلى درويش، مرّة بسبب الغيرة منه ومرّة بسبب الحيرة منه. وبين غيرة وحيرة كان ثمّة أناس ممّن أطلق عليهم اسم "مراهقي العروبة" يصمونه سياسيًّا، حينًا لأنّه يظهر في قراءات مع شعراء إسرائيليّين في أوروبا أو غيرها، ومرّة لأنّه جاء ليقرأ شعره على أهله وربعه في حيفا. هكذا كان بالأمس القريب. لكن، ما أن أغمض عينيه حتّى انهالت دموع هؤلاء مدرارة "هنا" و"هناك"، "هناك" و"هنا"، كما شاعت مفرداته في السّنوات الأخيرة.

وها هو درويش يسمع كلّ هؤلاء الّذين "يحبّونه ميّتًا"، يسمع خطاهم على عتبة بيته. بالأمس القريب، لم تكن الخطى "تفتح الباب". فقط الآن، الآن فقط، بعد أن اشتمّت الخطى أنّ العيون قد أغمضت في رحلة أبديّة، راحت تتدافع على الدّخول. نعم، كانت قبلُ "تأتي ولا تفتح الباب. لكنّها تدخل الآن"، فقد أزفت ساعة الاتّجار، وكلّ واحد يرغب بفتات ضوء من هالة أحاطت به حيًّا، والآن ميتًا.

وها هي الخطى تدهم
الباب دهمًا. وها هي الخطى تتشكّل أمام أعيننا المشدوهة، تتشكّل أمام عينيه المغمضتين: "يخرج منها الثّلاثة: شاعرٌ، قاتلٌ، قارئٌ". ليسوا ثلاثة أيّها الشّاعر، إنّهم أكثر ممّا تستطيع أن تُحصي الآن. إنّهم شعراء، قتلة وقرّاء يصطفّون على عتبة بيتك يذرفون دمعًا شفّافًا، أستطيع أن أرى خلله ما يُضمرون وما يسترون في دواخلهم. فيا لك من شاعر مخرج، ويا لها من مسرحيّة. فما أكثر المندسّين الآن على هذه الخشبة. كلّهم هواة تمثيل أيّها الشّاعر المهاجر، وكلّهم يصرّ إنّه الممثّل الشّرعي الوحيد، أيّها الشّاعر، ولا شرع، ولا شعر ولا ما يحزنون أيّها الشّاعر. وبقدر ما تنفتح أعيننا على مصاريعها اندهاشًا، بقدر ما تتّسع مقل التّماسيح ذرفًا وانتهاشًا.

لم تشأ أنت أن تشاهد
العرض المسرحيّ إلى نهايته لأنّك أنت رسمت نهايته، فأسرعت خارجًا من القاعة. أستطيع أن ألمح تلك الابتسامة الّتي تحاول أن تخفيها في ظلمة القاعة. طلبت منهم أن يكونوا بطيئين: "قلت: سأسألكم أن تكونوا بطيئين، أن / تقتلوني رويدًا رويدًا". غير أنّك، وإن كنت فطنًا شعرًا، لم تكن فطنًا إلى قوانين الغابة العربيّة. فما أن انسللت خارجًا حتّى سارعوا إلى اعتلاء خشبة المسرح، منهم الـ"شّاعر"، ومنهم الـ"قاتل"، ومنهم الـ"قارئ". ولأنّك لم تكن فطنًا على ما يبدو أو ربّما لأنّك، كعادتك، لم تشأ أن تُغضب السّياسيّين لم تضف إلى هؤلاء الثّلاثة واحدًا رابعًا، هو الـ"سياسي"، رجل السّلطة "هنا" و"هناك"، "هناك" و"هنا". ولأنّي كنت صريحًا مع ذاتي، فقد كنت صريحًا معك وكتبت أمورًا أغاظتك كما نما إلى أسماعي من صديقة وفيّة لك ولي. غير أنّ الأمور اطمأنّت في الآونة الأخيرة، ودار الحديث عن لقاء هادئ لجسر البعيد وكسر الجليد. كنت تعلم حقّ العلم، وقبل أن تخرج في رحلتك الأبديّة أنّ ذلك البعيد لم يكن بعدًا بل قربٌ، وأنّ ذلك الجليد لم يكن قرًّا بل حبٌّ، أيّها الشّاعر المهاجر.

أمّا الآن، وبينما
أنت مسجّى الآن أمام أعين جميع هؤلاء المنتمين إلى فصيلة التّماسيح، من صنف أولئك الّذين لا "يظنّون" ولا "يحقّقون"، نقول لك بكلامك: "ما زال في الدّرب دربُ". وأمّا "الكلام الّذي قلته لزوجة قلبك"، فسيبقى لك على الدّهر.
فنم هنيئًا أيّها الفتى العربيّ، فأنتم السّابقون.
***

نشرت المقالة في إيلاف 13/8/2008

****


مشاركات



تعليقات فيسبوك:


تعليقات الموقع: يمكن إضافة تعليق هنا. لا رقابة على التعليقات مهما كانت مخالفة للرأي المطروح، بشرط واحد هو كون التعليقات وصيلة بالموضوع.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!