‏إظهار الرسائل ذات التسميات مختارات صحفية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات مختارات صحفية. إظهار كافة الرسائل

بيروت ودمشق قبل قرن من الزمان

 

سلمان مصالحة ||

بيروت ودمشق قبل قرن من الزمان


هوغو برغمان (1883-1975) فيلسوف إسرائيلي، من مواليد براغ. درس الفلسفة في جامعة براغ وفي برلين وفي العام 1920 هاجر إلى فلسطين، حيث عُيّن مديرًا للمكتبة الوطنية. لاحقًا أشغل منصب رئيس الجامعة العبرية في القدس.

قبل قرن من الزمان بالضبط، في شهر آب 1925، قام برحلة إلى لبنان ودمشق بغية التعرّف على أحوال هذه المنطقة. لقد نشر هذه الرسالة التي تكشف لنا أجواء المناطق التي زارها، كما يعرض مقارنة بأحوال بيروت والشام من جهة وبين أحوال فلسطين في ذلك الأوان.

يتّضح من كلامه أنّه كان منبهرًا ممّا شاهده في لبنان إذ يُصرّح بأنّ لبنان في ذلك الأوان كان متقدّمًا على أرض-إسرائيل - فلسطين بقرن من الزمان.

وها نحن الآن بعد مضيّ قرن على رحلته تلك، ولا يسعنا سوى القول بأنّ الآية قد انقلبت الآن إذا ما أجرينا مقارنة بين حال إسرائيل وحال لبنان والشام.

نقدّم هذه الرسالة-الرحلة للقارئ العربي لما تتضمّنه من اهتمامات شخصيات صهيونية بالمنطقة وما تكشفه من أجواء زمان مضى وانقضى.
 





هوغو برغمان | إلى دمشق

(رسالة رحلة)


”إنّه لأمر غريب، كم هي ضئيلة معارفنا بالبلدان المجاورة لأرض إسرائيل. فمصر رأتها غالبيّتنا فقط بطريق الصدفة. سورية مجهولة لنا تقريبًا، لكن من الجدير أن نراها. لست خبيرًا بقضايا الاقتصاد والسوق لكي أصدر حكمًا إن كان بإمكان أرض إسرائيل أن تكون في يوم من الأيام كما هي حال لبنان في هذا الأوان. فهذان البلدان، على ما يبدو، لا يختلفان عن بعضهما البعض، وعلى الرغم من ذلك هما كذلك. إذ يبدو وكأنّ لبنان قد سبقنا بقرن من الزمان.

حين تسافر إلى هنا عبر حيفا تسحرك بيروت: طوال ساعة يسير الموبيل بين غابات التوت، ترى لبنان قرية بجانب أخرى. كلّ القرى مبنية بالقرميد بطراز أوروبي، سطوح بيضاء، وحمراء وثمة انطباع وكأنّك موجود في سويسرا وليس في الشرق. كم هي نظيفة هذه القرى، مستجمّات صيفية هي حقًّا. في الكثير منها توجد كهرباء. حين تسافر بعد الظهر بالموبيل أو بقطار الجبال إلى إحدى تلك القرى وتشاهد غروب الشمس على ميناء بيروت، تشاهد أيضًا سلسلة طويلة من أنوار الموبيلات التي تتقاطر خلف بعضها البعض من بيروت. 
 

انصبّ جلّ اهتمامي على جامعتي بيروت. الأولى پروتستانتية أنشأها أميركيون سنة 1866، والثانية كاثوليكية فرنسية أنشأها اليسوعيّون. لم أجدهما في أوان عملهما، إذ كان ذلك في نهاية آب، وهو أوان العطلة. على الرغم من ذلك، كان بالإمكان مشاهدة شيء ما: المساحة الواسعة للجامعة الأميركية بمبانيها الصغيرة والكثيرة والتي تتحلّق حول بيت المحاضرات. الطلّاب يأكلون ويعيشون هنا. في الأسفل مقابل الشاطئ - ملعب كبير للتنس محاط كلّه بالحدائق الجميلة. المكتبة على ما فيها من 20 ألف كتاب ليست مهمّة جدًّا؛ فمكتبتنا في أورشليم تبزّها بما لا يقاس، غير أنّها مرتّبة وغنية وفيها قاعة جميلة للمطالعة. 
 


ولكن الجامعة اليسوعية تُظهر تلك التقاليد العريقة لحكماء أوروبا التي أُحضرت إلى هذه البقعة البعيدة على أيدي اليسوعيين. المكتبة ليست كبيرة من ناحية كمية الكتب، ولكنها مكتبة مثالية. فبوسعك العثور هنا على كلّ دور النشر الكبرى للكتب الكلاسيكية بجميع المجالات العلمية، وهي التي تنقصنا في أورشليم لقلّة الموارد لاقتنائها، السلاسل الكاملة للدوريات العلمية، الموسوعات الكبرى والباهظة الثمن؛ والقسم الفلسطيني غنيّ جدًّا.

هنالك غرفة خاصة تحتوي على كلّ الكتب التي طُبعت في المطبعة العربية التابعة للجامعة. هنا أيضًا تصدر مجلتان تابعتان للجامعة: “المشرق” بالعربية و “Mélanges” بالفرنسية.

المجلة الفرنسية تشكّل أنبوبًا يمرّ عبره كلّ ما يظهر من جديد في مجال الاستشراق، إذ إنّ كلّ ما يُنشر من جديد بهذا المجال يجد طريقه إلى هذه المجلة. عميد المكتبة، العلّامة العربي الكبير، لويس شيخو، يستعرض أمامي كلّ كنوزها. توجد هنا مئات المخطوطات العربية التي اقتناها شيخو خلال خمسين سنة من جميع أنحاء العالم العربي. يعمل الآن على نشر قائمة بالمخطوطات بمجلته الفرنسية.

النشاط الذي يقوم به اليسوعيون هنا في بيروت ليس مجرّد سياسة تبشيرية، وإنّما هو نشاط ثقافي عربي كبير.

لقد وصل إلى أسماعهم هنا أمر اقتنائنا لمكتبة چولدتسيهر لصالح مكتبتنا المقدسية، وعمّا قريب سيأتي إلينا أحد الپروفيسوريين من هناك للعمل لدينا هنا.

الرحلة بقطار الجبال في ربوع لبنان والبقاع هي رحلة ساحرة. فالحجرات نظيفة وصغيرة في هذا القطار بخلاف “القاعات” في القطار الفلسطيني التي يُزجُّ فيها بالمسافرين قُطعانًا قُطعانًا. وفي منتصف الطريق بين بيروت ودمشق تقع رياق. وهناك أنشأ الفرنسيون معسكر الطيّارين، قاعدة رياق الجويّة.

في الثامن عشر من آب وصلنا إلى دمشق. الأوضاع في المدينة مستقرّة. فقط كثرة الجنود الفرنسيين، وللعلم فإنّ غالبيّتهم من ”فيلق المجنّدين الأجانب“، يُذكّرون بالحرب. الفنادق ممتلئة بالزائرين والسوّاح الصائفين من مصر. كم تبدو المدينة جميلة بإشرافك عليها من مقبرة الصالحية، إنّه جمال لا يُصَدّق؛ خضرة، خضرة تكسو كلّ شيء، واحة في الصحراء بكلّ معنى الكلمة.

جئنا نحن من القدس، هناك الفقر والفاقة وبالكاد تحصل على مياه الشرب، وهنا الماء يتدفّق في كل زاوية. لقد قام الألمان ببحث القيمة الفنية للمدينة في فترة الحرب بصورة جذرية. نذكر بهذا الصدد الكتاب: “دمشق المدينة الإسلامية” من تأليف كارل وولتسينغر وكارل واتسينغر، الذي أصدرته الجمعية الألمانية التركية للحفاظ على التراث (برلين، والتر غرويتر، 1924). إنّ التعرّف على هذا الكتاب في غاية الأهمية وهو زاد لكلّ مسافر.

القادم من فلسطين لا تثير اهتمامه تقاليد مداولات البيع والشراء الشرقية في أسواق المدينة، مع أنّها أكبر وأوسع حجمًا. 


 
المسجد الأموي يثير الانتباه أوّلا وقبل كل شيء لردهاته الكبرى ولكونها لا تستخدم فقط للصلوات، وإنّما لكونها تقوم بوظائف اجتماعية. ففي زاوية يقع نظرنا على خمسة مواقع وبها مجموعات من المصلين، ولكن نرى هنا وهناك مجموعات أخرى واقفة أو مستلقية على السجاجيد وغارقة في محادثة بينها.

العمارة الفريدة بنوعها في دمشق تنعكس بالأبنية المُقَبّبة التي لا صلة لها بالدين وبالمباني المتعدّدة الشقق. كما تشدّ أنظارك مشاهد المخازن الكبيرة التي تعجّ بالسلع، والخان بقبابه المتعددة، شاهد على السلطان والعظمة، وإضافة إلى ذلك هنالك المباني الوظيفية التي أنشئت لتقوم بوظيفتها العملية وتفي بغرض ما. إنّها تذكّرنا بالمتاجر الأوروبية، غير أنّها ينقصها الناس. إنّها تحتوي على السلع فقط: توابل، معادن، سجاجيد - مكدّسة في تلك المخازن الكبيرة، أو يمكن القول “المساجد”  لكثرة قبابها… الخانات تتجه دائمًا نحو الداخل، ومن الخارج يمكن بصعوبة رؤيتها، كذلك من الصعب العثور عليها.

هذا الميل بالتوجّه نحو الداخل هو أيضًا ما يميّز البيوت الخاصّة. فالبيت يفخر بساحته الرحبة وبحوض الماء. هذا الحوض يُطلق عليه العرب اسم “بحر”، كما هي الحال في اسم الحوض بهيكل سليمان. وعلى أطراف الساحة - ثلاثة أروقة مسقوفة درءًا لأشعة الشمس في موسم الصيف. وبهذه الأروقة تتصل كافة الغرف، لكلّ منها أدراج تنقسم إلى أقسام داخلية مرصوفة تكسوها السجاجيد. الجدران مغطاة بخشب ورسومات جميلة، نُقشت فيها أمثال عربية، أو عبرية - في بيوت اليهود من علية القوم - تملأ فضاء الغرفة. أمّا أجمل البيوت في دمشق فقد اقتنته الحكومة الفرنسية وحوّلته إلى متحف أثريّ.

ننتقل إلى حارة اليهود. يقوم فتى بإرشادنا. إنّه يتكلّم عبريّة مُكَسَّرة وفرنسية بليغة. إنّ وضع اليهود مُزرٍ، فهم يعيشون بين طرفين متصارعين، المسيحيين والمسلمين.

لا يوجد هنا من يأخذ على عاتقه تنظيم الشبيبة. كثيرون منهم يهاجرون إلى أميركا، والبعض منهم إلى أرض إسرائيل. حينما كانت هنا المدرسة الكبيرة التي أنشأها الصهيونيون كان الوضع أفضل بكثير، ولأنّهم تعلّموا العبرية فكانت أرض إسرائيل أقرب إليهم. في هذا الأوان لم تعد هذه المدرسة قائمة.

المدرسة العبرية التي أسستها لجنة التربية أُغلقت قبل مدّة نظرًا لقلّة الموارد. فقط حينما تمكث هنا فإنّك ترى بأمّ عينيك قصر النظر بهذه الخطوة. هؤلاء الشبّان الذين يترعرعون في بيئة عربية، هم أفراد من أهل البيت في الشرق، وكان بوسعهم تثقيف جمهرة من الناشطين الصهيونيين، وكانوا سيبنون جسرًا إلى اليهود الشرقيين والعرب. لقد فضّلت الإدارة الصهيونية أن تُخلي المكان للـ"أليانس". من السهل تقدير ما هي الروح التي تقوم فيها الأليانس بتربية أجيال شبيبتنا في هذا البلد الذي يحتلّه الفرنسيون.“

18 سبتمبر 1925


أحمد بيضون || ”دكتور أخمد أنا أيضًا شيوعي“

 مختارات -


أحمد بيضون

توجّهنا إلى بيتِ أختي زينب في البلدةِ لأنّ بيت أهلي كان مهدومًا جزئيًا من جرّاءِ القصفِ في 1977- 1978 ثمً من جرّاءِ النسفِ الذي أودى بمبنَيينِ كبيرينِ مجاورَينِ لهُ في أيّامِ الاحتلالِ الأولى. وكانَ ما تبقَى من الطابقِ السُفْلِيِّ فيه محتاجًا إلى إصلاحٍ ليعودَ صالحًا للسّكَن.

بيار عقل || مظفّر النوّاب والجوازات العربيّة

مختارات
 
 

 
لأن مظفّر كان صديقي، فقد وجدت أن من الضروري تصحيح رواية “فرار مظفّر من السجن” التي يتم تداولها الآن على صفحات التواصل الإجتماعي.

سمير عطا الله || احتفالات البعث

مختارات صحفية -




غاب ميشيل عفلق أميناً عاماً للحزب في بغداد، وفي جنازة رسمية، فيما كان محكوماً بالإعدام في سوريا، وممنوعاً من العودة إلى منزله في حي أبو رمانة. وغاب نائبه صلاح البيطار برصاصة صامتة في فرنسا، من أجل عدم الإزعاج...

حازم صاغية || الصاروخ ضد الرغيف

مختارات صحفية -

إنّ الكرامة هنا هي الاسم المستعار لحكم طغمة مستبدّة تدوس السكّان وتُفقرهم باسم عدوّ خارجيّ غالبًا ما يُراد لعداوته أن تكون أبديّة لا علاج لها

حازم صاغية || إلى الطوائف والعشائر، در!

مختارات صحفية -

حازم صاغية ||

إلى الطوائف والعشائر، در!

في 2015، حين انفجرت مشكلة النفايات في لبنان، داهمتنا حالة غريبة: كلّ اللبنانيّين، بلا أيّ استثناءٍ طائفيٍّ أو مناطقيٍّ، يعانون المشكلة. في الوقت نفسه راحت قرى وبلدات كثيرة تصرخ: لا تطمروا نفايات «الغرباء» عندنا. «الغرباء» لم يكونوا سوى أبناء قرى وبلدات ملاصقة للقرى والبلدات المُحتجّة.

اليوم، مع الانهيار الكبير، تُسمع صرخة مشابهة في محطّات البنزين: «غرباء» يملأون سيّاراتهم في محطّاتـ«نا» ومن وقود«نا».

انبعاث الولاءات الصغرى، بعد اكتمال الانحطاط الذي ضرب الدولة والسياسة وجفّف الاقتصاد، صار أوسع وأشمل وأعلى صوتاً ممّا كان في 2015. قبل شهر مثلاً، وفيما كانت تحلّ الذكرى السنويّة الأولى لتفجير مرفأ بيروت، اندلعت اشتباكات ذات خلفيّة ثأريّة بين «حزب الله» و«العشائر العربيّة» في خلدة، جنوب العاصمة. الاشتباكات سقط فيها قتلى وجرحى.

يومذاك قيل أنّ الطائفيّة كشفت وجهها المسلّح، لأنّ الطرفين المتقاتلين شيعيّ وسنّيّ. لكنّ الأيّام الأخيرة أظهرت أنّ الأمر يتعدّى الطائفيّة إلى ما بين الطائفة نفسها. في عكّار، في شمال لبنان، استُخدمت الأسلحة المتوسّطة والثقيلة بين بلدتي فنيدق وعكّار العتيقة السنّيّتين، فسقط قتيل من كلّ منهما. الاشتباكات حصلت على خلفيّة قطع حطب في منطقة متنازع عليها بين البلدتين.

حال مدينة طرابلس وصفتْه جريدة «النهار» على النحو التالي: «دخلت المدينة اليوم شوطاً من الفلتان الأمنيّ المتدحرج في سائر مناطقها، لا سيّما في متفرّعاتها الشعبيّة، حيث تخرق سماءها ليلاً قنابل يدويّة، خصوصاً في محيط نهر أبو علي، فتتحوّل أحياؤها إلى ساحات للتصفيات بالسّلاح».

الزميل يوسف بزّي كتب عن «حرب تعبئة البنزين» التي قد تغدو، في أيّة لحظة، مواجهة مسلّحة بين الكلّ والكلّ. لقد وصفها بالتالي: «الزعران سيأتون ويحاولون اختراق الطابور. فتيان الدراجات الناريّة سيقتحمون المحطّة بالتأكيد. أصحاب النفوذ بسيّاراتهم الضخمة وزجاجها الداكن، هم أيضاً سيستولون على دَورنا بحقارة علنيّة ووقاحة استعراضيّة. دوريّات الأمن التي ستنظّم وتضبط، هي أيضاً ستصحب معها سيّارات المحظيّين وتمنحهم الأولويّة، عدا الغالونات التي سيملأونها قبل سيّاراتنا...».

هذا التذرّر الاجتماعيّ ليس جديداً، وإن بلغت درجة انفجاره الحاليّ مستوى غير مسبوق. الأشياء التي كانت ترعى التذرّر وتُديمه كثيرة: سياسة تقوم على توزيع الحصص، واقتصاد خدميّ لا يدمج السكّان ولا يخفّف من تنافرهم، وقانون انتخابيّ يردّ المقترعين إلى مسقط الرأس... العلاجات الرسميّة كانت بدورها تافهة: حتّى الشهابيّة، التي حقّقت إنجازات جدّيّة، توهّمت حلّ المشكلة الطائفيّة عند المسلمين بتسليم السياسة الخارجيّة لجمال عبد الناصر ففاقمت المشكلة الطائفيّة عند المسيحيّين، خصوصاً بعدما أسقطت في الانتخابات النيابيّة بعض أبرز رموزهم. توهّمت أيضاً حلّ المشكلة العشائريّة بانتزاع العشائر من الأجهزة الأمنيّة السوريّة وربطها بالأجهزة اللبنانيّة.

على العموم، وكائنة ما كانت العلاجات، ظلّت قدرة الحرب على التهديم أكبر من قدرة الدولة على البناء. الأحقاد والمخاوف من جهة، وفرز المناطق طائفيّاً من جهة أخرى، صلّبت حالة الصفاء وأبلسة الآخر. في وقت لاحق، عزّز سلاحُ «حزب الله» إحساس أكثريّة اللبنانيّين بضرورة الحماية الذاتيّة.

لكنّ فضيحة الأفكار لم تكن أقلّ من فضيحة الدولة. فاللبنانيّون عرفوا صحوة لبنانويّة قالت لهم: كونوا لبنانيّين وتوحّدوا كأسنان المشط في لبنانيّتكم. ثمّ عرفوا صحوة عروبيّة قالت لهم: قفوا صفّاً واحداً لتحرير فلسطين، أو أقلّه لمقاتلة إسرائيل. وأخيراً، عرفوا صحوة إسلاميّة رعاها «حزب الله» قالت لهم: اتّحدوا وراء السلاح الذي يحميكم. وعلى الهامش، كانت هناك دوماً صحوة طبقيّة تقول لهم: اتّحدوا تبعاً لمصالحكم في مواجهة أعداء طبقيّين.

أصحاب هذه الصحوات، المبشّرون بوحدةٍ ما تنهي البعثرة والتشتّت، راهنوا كلّهم على قضيّة جامعة تُغري بالتوحيد: اللبنانويّون رأوا القضيّة في بناء بلد تصاغ إنجازاته فولكلوريّاً. العروبيّون والإسلاميّون رأوها في إسرائيل. اليساريّون، في البورجوازيّة الكومبرادوريّة أو الطغمة الماليّة معطوفتين على إسرائيل. لكنّهم كلّهم كانوا يطالبون قطاعاً عريضاً، إن لم يكن أكثريّاً، بنسيان أشياء عزيزة عليهم، إمّا دينيّة أو مذهبيّة أو ثقافيّة. هذه المطالبة بالنسيان بلغت ذروتها مع «حزب الله» الذي طالب السنّة والمسيحيّين والدروز أن يكفّوا عن كونهم سنّة ومسيحيّين ودروزاً وأن ينخرطوا في مشروع شيعيّ.

الصحوة الوحيدة التي كانت صريحة وواضحة هي صحوة الطوائف والعشائر حين لا يرافقها تزويق آيديولوجيّ: كانت، ولا تزال، تقول: تذكّروا أنّنا متكارهون، ولا تنسوا أنّ ما من قضيّة تجمع بيننا.

وحين تنحطّ الدولة، كما هو الحال الآن، يغدو التذكّر الطائفيّ والعشائريّ هو التذكّر الوحيد لشيء ملموس والإحراز الوحيد لعوائد ملموسة. الدولة، في المقابل، هي الجحيم، وأصحاب الصحوات المشوبة بالآيديولوجيا هم الجنّة المُتوهَّمَة.
*
الشرق الأوسط


بسام البدارين || ضد «الهوية الجامعة» - الأردن نموذجا

مختارات صحفية -

مقالة يمكن أن تُكتب عن كلّ مجتمع عربي في كلّ الأقطار العربية. هذه هي أحوال العربان. كذا كان وكذا يكون إلى يوم يُبعثون.

فاروق يوسف || حين تُستعمل إسرائيل وسيلة للتضليل

مختارات صحفية:

الحل يكمن في عودة العراقيين إلى عراقيتهم والسوريين إلى سوريتهم والليبيين إلى ليبيتهم واللبنانيين إلى لبنانيتهم واليمنيين إلى يمنيتهم...

رائف زريق || حديث في الغضب والسياسة

مختارات -  

حول سن قانون القومية

صحيح أن الخيال السياسي الذي يقود العمل البرلماني الحالي قد جف منذ فترة، وأصبح يعيد نفسه دون أن يكون قادرا على توسيع رقعة التناقضات والتوترات داخل المشروع الصهيوني والكنيست الإسرائيلي...

حازم صاغية || حين زارنا الهنغار الشيوعيّون

مختارات -

الكلام عن الشيوعيّين الهنغار غزا بيوت القرية واستوطن مقاهيها مثيرًا من البلبلة ما لا يُستهان به. لقد بدا الأمر أشبه باكتشاف لم يتوقّعه أحد: شيوعيّون شعورهم شقر وعيونهم زرق!

راشد حسين || حين يجوع التاريخ

مختارات - (1959):

راشد حسين ||

حين يجوع التاريخ


التاريخ كالذئبة يأكل إذا جاع أبناءه.وتاريخ الحزب الشيوعي يتمطى اليوم غولًا ليأكل هذا الحزب،فهو يأكله في كل بلد عربي،وهو يأكله أيضًا في إسرائيل.والتاريخ لا يخطئ.والتاريخ لا يجرم،وإنما يخطئ أحيانًا صانعوه ويجرمون في حق أنفسهم. لا لوم إذن على التاريخ إن هو تمطى اليوم ليأكل الحزب الشيوعي لحمًا ودمًا وعظامًا. ولا لوم على المرء أي كان إن هو حمل قلما ليسجل هذا التاريخ. واسمعوا القصة كلها!

صبحي حديدي || هل يخشى الشعرُ الموسيقى؟



مختارات:



صبحي حديدي ||

هل يخشى الشعرُ الموسيقى؟


البريطاني والتر هوريشيو بايتر (1839 ـ 1894)، الناقد ومؤرّخ الأدب وأحد كبار صنّاع الأسلوب في عصره، خلّف لنا عبارة مفعمة بالجاذبية والغموض واستثارة الحيرة، حول وئام أو اصطراع، وتكامل أو تنافر، أنماط التعبير الفني المختلفة: «كلّ الفنون تطمح إلى بلوغ شرط الموسيقى». وكان الرجل يدرك أنّ الموسيقى لم تصعد أو تهبط في سلّم الفنون الشقيقة، فحسب، بل مضى زمن أُقصيت فيه خارج مضمار الفنّ، نهائياً، و»تيتّمت»، كما عبّر الموسيقيّ الألماني روبرت شومان، بل لم يكن لها أب أو أمّ أو نسل، كما أكملت ليديا غوير أستاذة الفلسفة في جامعة كولومبيا الأمريكية.

وفي فصل ضمن كتاب بالغ الأهمية، صدر مؤخرًا بالإنكليزية تحت عنوان «إلحاح الفنون: الفلسفة وعلم الجمال بعد مطلع الحداثة»، تساجل غوير بأنّ الموسيقى تنازلت للشعر وللرسم عن احتكار المعنى والتمثيل والإشارة، أو تخلت عن الانخراط في «حروب العلامة» و»حروب القول» و»حروب الصورة»، لصالح التجريد الأقصى، عبر الصوت بصفة عامة، والوقع والإيقاع بصفة محددة. لكنّ هذه الخلاصة تحيلنا إلى ملفّ العلاقة بين الموسيقى والمطلق، ثمّ الأثر السحري الذي تمارسه الموسيقى على الروح، وبالتالي على الشعر بوصفه أحد أبرز الفنون التي تخاطب الروح.

هنا نموذج من محمود درويش في «فانتازيا الناي»، حيث تتكثف معادلات اللعب بين الإشارات الصوتية والدلالية، واشتباك المعنى بالإيقاع: «النايُ أصواتٌ وراء الباب. أصواتٌ تخافُ من القمرْ/ قمرِ القرى. يا هل ترى وصلَ الخبرْ/ خبرُ انكساري قربَ داري قبل أن يصلَ المطرْ/ مطرُ البعيدِ ولا أُريدُ من السنةْ/ سنةِ الوفاةِ سوى التفاتي نحو وجهي في حجرْ/ حجرٍ رآني خارجًا من كُمِّ أمّي مازجًا قدمي بدمعتها/ فوقعتُ من سنةٍ على سَنَةِ/ ما نفع أُغنيتي؟».

وكان الإغريق قد فسّروا هذه العلاقة على نحو مثير بالفعل، حين اعتبر الفلاسفة والرياضيون الفيثاغوريون أنّ «العماء السديمي» غير المحدود كان يخيّم على الكون بأسره، حتى ولدت هرمونية الموسيقى، فانتصر النظام على العشوائية، والخير على الشر، والمحدود على اللامحدود. ولأنّ الموسيقى تجلّت أولًا في أصوات الطبيعة من خرير وحفيف وتغريد، ثم لأنّ البشر صنعوا موسيقى خاصة بهم حين نجحوا في محاكاة موسيقى الطبيعة، فإنّ النقلة «التقنية» الكبرى التالية كانت ابتكار مختلف إيقاعات الشعر وأوزانه.

مثير أيضًا ذلك التباين في تفسير الثقافات لمدى ما يكمن في الموسيقى من خير أو شرّ، طبقًا لفيزيائية تكوّن الصوت أو انطلاقه، أو تشكيل النغمة وتأثيرها، الأمر الذي أفضى، أيضاً، إلى إسناد مقدار من «المعنى» لهذا الشكل أو ذاك من إيقاعات الشعر. ففي الشرق كانت النفخة متنفس الروح ومبتدأ الخلق، واحتلت آلات النفخ مكانتها كأسلحة في أيدي الشخوص الأسطورية الخيّرة، أما في اليونان فإنّ آلات النفخ كانت أداة إغواء الروح، واقتيادها إلى عوالم الشرّ السفلية. وليس التباين في التأثيرات الصوتية/ الدلالية لأوزان الشعر، بين ثقافة غربية وأخرى شرقية مثلاً، إلا انعكاس ذلك التضارب في استقبال النفخة روحياً، ثمّ جماليًا بعدئذ بالطبع.

من هذا كله تتضح علاقة وثيقة بين الموسيقى والروح، ثم بين الروح والشعر باعتباره رديف الموسيقى وتوأمها الفنّي منذ أقدم الحضارات الإنسانية. وحين نتحدث عن العلاقة بين الموسيقى والشعر فإننا غالبًا نقصد الأغنية، والمزاج الغنائي، والإنشاد، والترنيم، وما إلى هذا كله. ويجدر التذكير بأنّ العرب كانت تجزم بأنّ «مِقْوَد الشعر الغناء»، وحسّان بن ثابت صاحب بيت شهير يقول: «تغنّ في كل شعر أنت قائلُه/ إنّ الغناءَ لهذا الشعر مضمارُ». ولعلّ أبسط، وربما أدقّ، تعريفات الأغنية هو ذاك الذي يصفها بأنها «قَوْل لفظي يعتمد على الموسيقى للتعبير عن المشاعر»، أي التعريف الذي يقرنها بالشعر على وجه التحديد، ويجعلها مزيجًا موفقًا من تأثير الشعر وتأثير الموسيقى.

وهكذا، في مسعى تبديد الخشية (الافتراضية، بالطبع) بين الشعر والموسيقى، هنالك تصنيفان أساسيان: الأوّل شكلي يدور حول الأوزان الشعرية، والإيقاعات، وتقسيم القصيدة إلى مقاطع قصيرة أو طويلة، واستخدام القافية، وما إلى ذلك، والثاني دلالي يتعلّق بالموضوع، واللغة المستخدمة، والعاطفة السائدة في القصيدة، وسواها. ويصعب في الواقع فصل هذه الاعتبارات إلا في أغراض التحليل النقدي، لأنها جميعًا بمثابة عوامل متكاملة تتوحّد لتحقيق درجة كافية من الاندماج بين الكلمة والنغمة، أو تتفكك فلا تُحقّق الموسيقى، ولا تُبقي الشعر على حاله الأصلية. والتقاء الموسيقى بالشعر يُعدّ الاتصال الأكمل بين قدرة الموسيقى على التعبير الإيحائي عن طريق الأنغام الدالّة المجرّدة، وبين قدرة الشعر على التعبير الإيحائي عن طريق الكلمات الدالّة المحسوسة المعنى.

وقد لا يملّ المرء، هنا، من استعادة تعبير «هيئة الصوت»، الذي أطلقه الشاعر الإنكليزي ديلان توماس ذات يوم، وأعطانا في شرحه هذا النصّ البديع: «لقد رغبتُ في كتابة الشعر لأنني، بادئ ذي بدء، وقعت في غرام الكلمات (…) لقد شدّني صوت الكلمات، ولم أكن أعبأ بما تقوله بقدر حرصي على هيئات الصوت الذي يسمّي، والكلمات التي تصف الأفعال في أذني، والألوان التي ترشق الكلمات على عينيّ».
لماذا، إذن، يُخشـــى على الشــعر من الموسيقى، أو العكس؟
*
القدس العربي، 12 فبراير 2018



أحمد حسن الزيات || معارك الزعامات الشعرية


مختارات صحفية:

كلّهم زعماء، كلّهم أمراء، كلّهم سلاطين وكلّهم شعراء هجرتهم الشياطين.
كذا كان وكذا يكون إلى يوم يبعثون.
نختار لكم هذه المقالة الظريفة لصاحب مجلة الرسالة، أحمد حسن الزيات، والتي نشرها في العدد الأول من المجلة التي صدرت في سنة 1933.

إما التعايش وإما «داعش»


مختارات صحفية:

قبل اتخاذ قرار التعايش مع الآخر المختلف خارج الخريطة لا بد من اتخاذ قرار التعايش مع الآخر المختلف داخلها.

 

غسان شربل ||

إما التعايش وإما «داعش»


ولد تنظيم داعش من انهيار تجارب تعايش. مزق خرائط واخترق أخرى. والخرائط كالمباني تحتاج صيانة دائمة. الإهمال يسرع شيخوختها. تتشقق جدرانها. وتتخلع أبوابها. وتتآكل نوافذها. والسياسات الفئوية تزعزع أسسها. وتغتال طمأنينتها. وتوفر للرياح السوداء فرصة التسلل إليها. لا تكفي الأناشيد لحماية الخرائط. ولا تكفي الجيوش. وتقول التجارب إن الخرائط تغتال من الداخل قبل أن يستبيحها الخارج. ثقوب الداخل هي التي تستدرج العواصف المقتربة.

تحتفل دول المنطقة اليوم بالضربات المتتالية التي توجه إلى تنظيم داعش. ومن حقّها أن تحتفل. «داعش» عاصفة من الوحل والدم. فصل ثقيل من الظلم والظلام. روايات من عانوا السبي أو اليتم تحت راياته تكسر القلب وتثير الرعب. لكن الأهم من الاحتفال هو استخلاص العبر. لم يسقط هذا التنظيم الرهيب على مجتمعاتنا بالمظلات. أطل من شقوق الداخل ثم رفده المقاتلون الجوالون بخبراتهم وأحقادهم. لا يستطيع «داعش» استباحة خريطة ما لم تكن مريضة. لا يستطيع الإقامة فيها ما لم تكن إرادتها الوطنية ممزقة.

تبدو الحرب العسكرية على «داعش» صعبة. انتحاريون وأنفاق وعبوات ناسفة وشبان غسلت أدمغتهم فتحولوا مجرد عبوات تائهة تبحث عن فرصة للانفجار. لكن هذه الحرب، على رغم ضرورتها وأهميتها، يفترض أن تكون جزءًا من الحرب الشاملة. الانتصار الحاسم هو الانتصار على فكرة «داعش»، أي إلغاء الظروف التي سهلت ولادة التنظيم وانتشاره وتسلله إلى هذه الدولة أو تلك.

من دون المواجهة الشاملة في الشارع والنادي والكتب المدرسية والإعلام وفي جوار المسجد، تبقى المواجهة ناقصة والنتائج مهددة. يستطيع عناصر «داعش» الفرار والتواري والعيش كـ«ذئاب منفردة» تكمن بانتظار الانفجار هنا أو هناك.

أهم ما في المواجهة الشاملة هو اتخاذ قرار جوهري وصعب وربما مؤلم بالتعايش. لا نقصد العودة إلى التعايش التلفزيوني السطحي والشكلي الذي كان سائدًا وانهار أمام أول امتحان. المقصود هو الذهاب في اتجاه التعايش الحقيقي داخل الدول وفيما بينها. ولا بد من الاعتراف أنه ما كان للبغدادي أن يطل من الموصل ويفتح الباب لهذه المأساة الباهظة لو كانت العلاقات بين المكونات العراقية صحيّة وطبيعية. وما كان لـ«داعش» أن يخترق الأراضي السورية ويستولي على الانتفاضة الشعبية ويدميها ويجهضها لو كانت العلاقات بين المكونات السورية طبيعية في ظل دولة طبيعية.

لا بدّ من اتخاذ قرار التعايش مع العالم. مع القوى المختلفة والمتنوعة المشارب والانتماءات والألوان ومن دون أن نعتبر أننا مكلفون فرض لوننا على العالم وأن علينا الانفجار به، إذا تعذر علينا أن نفرض عليه ثياب أجدادنا وأساليب عيشهم. الاعتقاد أن علينا إخضاع العالم ليشبهنا هو أقرب الطرق لنتحول عبوة في جسده وعبوة في جسدنا معاً. العجز عن التسليم بحق الآخر في الاختلاف يدخلنا في اشتباك مدمر يفوق طاقتنا على احتمال نتائجه.

اعتبار كل من لا يماثلنا عدوًا أو ضالًا ينذر بترسيخ خطوط التماس التي تعوق تعاونًا نحتاج إليه للحصول على ثمار التقدم الذي تحقق في بلدان خاضت تجاربها المكلفة، وخرجت منها بالاعتقاد بأن الاختلاف حق ويمكن تحويله إلى مصدر ثراء. الاعتقاد أن من واجبنا إنقاذ البشرية استنادًا إلى تصور واحد لا يمكن الاجتهاد فيه أو العثور على أشكال أخرى له يضعنا أمام الحائط ويدفعنا في اتجاه الكارثة.

قبل اتخاذ قرار التعايش مع الآخر المختلف خارج الخريطة لا بد من اتخاذ قرار التعايش مع الآخر المختلف داخلها. اعتبار كل اختلاف تهديدًا وجريمة يشكل الخطوة الأولى نحو الحروب الأهلية والمجازر ومحاولات الشطب وإلغاء الهويات. لا بد من التسليم بحق الآخر في المبنى أو القرية أو المدينة بأن يكون مختلفًا وبحقه في أن يكون مساويًا ومطمئنًا في دولة تقوم على المواطنة لا على الغلبة وبغض النظر عن النسب السكانية وتغيراتها.
لا خروج من هذا الجحيم الذي أنجب مئات آلاف القتلى وملايين اللاجئين إلا باتخاذ قرار التعايش. من دون هذا القرار يبقى كل انتصار مهددًا بالتحول مجرد جولة في حرب تكمن ثم تعاود الاشتعال. من دون قرار التعايش الحقيقي ستتيح المجتمعات الممزقة الفرصة لإطلالة جديدة لـ«داعش» أو أشباهه أو أخواته. الانتصار النهائي على «داعش» وأشباهه متعذر من دون مهمة بناء الدولة الحقيقية والعصرية. دولة الحقوق والواجبات. دولة المواطنة واحترام حق الاختلاف. دولة الفرص والتنمية الشاملة والمناهج الدراسية الرحبة والإعلام المنفتح والمسؤول.
لا خروج من هذا الجحيم إذا استمرت سياسات التدخل والانقلابات الفئوية ومعها سياسات الكراهية والإقصاء والسعي إلى تصفية حسابات تاريخية. جرّبنا طويلًا هذه السياسات الثأرية العقيمة التي أخرجتنا من السباق نحو المستقبل وسمّمت خرائطنا وعواصمنا وجامعاتنا. لا نستطيع مواصلة السباحة في هذه المياه المفخخة. الإصرار لا يعني أكثر من أننا نتولى بأنفسنا تحويل أولادنا وأحفادنا وقودًا للحروب المقبلة وتحويل بلداننا بركًا من الدم تنوء تحت أعباء الفقر والبطالة والتخلف.

مشكلتنا لم تبدأ مع «داعش» لتنتهي بانتصار عسكري عليه. مشكلتنا الحقيقية هي رسوبنا في امتحان اللحاق بالعصر وركب التقدم. مشكلتنا أننا لا نريد دفع ثمن بطاقة الصعود إلى القطار المتجه نحو المستقبل.
*

إمّا الوحدات القائمة أو الدم


مختارات صحفية




حازم صاغية ||

إمّا الوحدات القائمة أو الدم


بصراحة، وكائنة ما كانت الأسباب التي يمكن للخوض فيها أن يستمرّ دهورًا. هذه الكيانات غير قابلة للعيش في شكلها الراهن.

دم بريء في كفريّا والفوعة بعد الدم البريء في خان شيخون بعد الدم البريء في الكنيستين القبطيّتين، وسط شلاّلات دم في العراق وليبيا واليمن...

أمام هذا الهول المتعاظم والمتمدّد استُنفدت الحجج جميعها. صحيح أنّ استبعاد السياسة يبقى السبب الأوّل في هذا العنف، لكنّ الصحيح أيضًا أنّ العنف الذي استطال وتجذّر جعل استبعاد السياسة مطلبًا. الآن، كلّ طرح لحلّ سياسيّ ما هو إلاّ طرح جماعة أهليّة بعينها، كبرت أم صغرت، ضدّ جماعة أهليّة أخرى. في المقابل، بات كلّ اتّهام بارتكاب إرهابيّ ما اتّهامًا أهليًّا ينقل ما تفكّر به جماعة محدّدة وما تتخيّله. الشفقة والرحمة والتعاطف باتت قيمًا «مُطيّفة» بالكامل، أي اضمحلت كقيم. المهمّ، عند الفاعلين، ما يصلح من هذا الدم ليكون برهانًا على أنّ الطرف الآخر مجرم.

كلّ شيء تعفّن ويتعفّن. بالتدريج يختفي البعد السياسيّ من الصراعات الدمويّة، ويتّضح كم بات مستحيلًا تسييسها. تغيير الأنظمة بذاته هو ما بات يُشكّ كثيرًا في أن يكون كافيًا حتّى لو تمّ التخلّي عن بعض الرؤوس والرموز. لقد صار التغيير وراءنا، ليس لأنّنا حقّقناه، بل لأنّه لن يتحقّق. إنّه لم يعد مطلبًا وطنيًّا ينهي الحروب، في ظلّ التصدّع الواسع للمجتمعات. إنّه المطلب الذي يعاد اليوم تدويره في مطالب الأهالي المتضاربة وفي سعيهم إلى التغلّب. لهذا يغدو مستحيلًا كما يغدو سببًا لمزيد من القتل.

الرهان على الحلول من الخارج يتضاءل أيضًا. ليس فقط لأنّ سياسات الغزو الإيرانيّة – الروسيّة تُعدم الحلول، بل أيضًا لأنّ التحوّلات الأميركيّة الجديدة، ذات الطبيعة العسكريّة البحتة، تضعنا أمام مزيد من الغموض والمجاهيل. إعادة التكيّف مع هذه التحوّلات ستستدعي، بدورها، دمًا أكثر. احتمال حرب في كوريا يُستبعد أن يمهّد لسلم وتسويات في الشرق الأوسط.

فلننظر إلى ثنائيّ السياسة والعنف في بلد كلبنان، حيث العنف ضامر أو مُستوعَب أو مؤجّل. هنا يقيم هذا العنف في السياسة المتاحة على نحو لا يعوزه الشرح: مثلًا. إذا كان هدف الانتخابات، من حيث المبدأ، تفادي العنف وضبط نزاعات الشارع في المؤسّسات، فإنّ الخلاف حول القانون الانتخابيّ يشي بإرادة أخرى: الطوائف لا تريد من القانون الانتخابيّ إلاّ تمكين نفسها في مواجهة طوائف أخرى... أي، تحسين شروط غلبتها أو تحسين شرطها العسكريّ. بمعنى ما، يتصرّف اللبنانيّون وكأنّهم يحسدون «الأشقّاء العرب» على انخراطهم في العنف المباشر!

بصراحة، وكائنة ما كانت الأسباب التي يمكن للخوض فيها أن يستمرّ دهورًا. هذه الكيانات غير قابلة للعيش في شكلها الراهن. إنّها مصانع لتوليد الحروب ولإعدام التغيير. كلّ حفاظ عليها وعلى صيغة اجتماعها الوطنيّ هو تأبيد للدم والخراب (اللذين يتّهم كلّ طرف أهليّ الطرف الأهليّ الآخر بهما!). كلّ تسريع في طرح هذه المسألة، وكلّ تخفّف من حمولة الوطنيّات القاتلة، يقلّلان الدم.

المخيّلة السقيمة والكسولة (لا للتقسيم، تستفيد إسرائيل، مؤامرة المستشرقين، نحن إخوان...) آن لها أن تستريح وتريح. إنّها مسؤولة، إلى جانب المسؤولين الآخرين، عن الأرواح التي تُزهق. هذا لا يعني وجود بدائل سهلة وجاهزة. إنّه يعني أنّ الواقع القائم ينبغي أن يتغيّر فحسب، لا بوصفه أنظمة فحسب، بل بوصفه اجتماعًا أساسًا. الفصل بين المتحاربين هو الخطوة الأولى لوقف الحرب، و»الإخوة» متحاربون فحسب.

إنّ بعض الطلاقات مكلف وصعب، لكنّ إتاحة الطلاق باتت شرط إبعاد القاتل من القتيل. وها نحن لا نزال نفكّر في أمور كثيرة والمطلوب واحد... واحدٌ لا يزال، على رغم كلّ شيء، محرّمًا.
*
الحياة، 18 أبريل 2017



غسان شربل || لقد فشلنا

مختارات صحفية


وأخيرًا…
صحّ النوم ! هذا ما كنت أشرت إليه منذ عقود طويلة...

حازم صاغية || حروب أهلية مفتوحة

مختارت صحفية:






انحطاط مغلّف بالبذاءة، خصوصاً ضدّ المرأة -

وغنيّ عن القول إنّ ما من فكرة مشتركة وجامعة بين أنماط الفكر السياسيّ العربيّ (الإسلاميّ، القوميّ، اليساريّ، اليمينيّ...) كفكرة «الرجولة» التي تتفرّع بطولة ونضالاً وجهاداً واستشهاداً، فيما يُشعرها قصور ذات اليد في زمننا الراهن بمزيد من الاحتقان والتوتّر الدافعين إلى مزيد من التقديس...

أنطون شماس || الكتابة في‮ ‬الصندوق


مختارات


كيف استعار إميل حبيبي حكاية من تولستوي ونسبها إلى ألف ليلة وليلة؟


أنطون شماس || 

الكتابة في‮ ‬الصندوق



في‮ ‬أواخر نيسان 1991، ‬وكنتُ‮ ‬غارقًا‮ ‬يومها من جديد في‮ ‬قراءة‮ كتاب ألف ليلة وليلة‮‬،‮ ‬تذكرتُ‮ ‬سؤالاً‮ ‬كنت أودّ‮ ‬أن أطرحه على إميل حبيبي‮ ‬قبل ذلك بعشرة أعوام،‮ ‬يوم كنت‮ ‬غارقًا في‮ ‬ترجمة‮ "‬المتشائل" ‬إلى العبرية‮. ‬وأنا لم أطرح عليه السؤال في‮ ‬حينه لأني‮ ‬لم أكن على‮ ‬يقين من صدق ظنوني؛ ولم تكن‮ ‬يومها وقاحة المترجمين،‮ ‬بعدُ،‮ ‬قد راودتني‮ ‬عن نفسي‮.‬

والسؤال‮ ‬يتعلَّق بمقطع من‮ »‬المتشائل‮«‬،‮ ‬ورد في‮ ‬الباب الثاني،‮ ‬في‮ ‬بداية الفصل الحادي‮ ‬عشر،‮ ‬ضمن‮ »‬بحث عجيب في‮ ‬الخيال الشرقي‮ ‬وفوائده الجمّــة‮«‬،‮ ‬ألمح المؤلف في‮ ‬ديباجته إلى أنه مأخوذ من‮ »‬كتاب ألف ليلة وليلة‮«: »‬ما قولك بالفلاح المسكين،‮ ‬الذي‮ ‬خاف على عروسه من كلام الناس،‮ ‬فوضعها في‮ ‬صندوق حمله فوق ظهره وقام‮ ‬يحرث أرضه وهي‮ ‬فوق ظهره‮ ‬يومًا‮ ‬يومًا‮. ‬فلما التقاه الأمير بدر الزمان،‮ ‬فسأله عن سبب هذا الصندوق محمولاً‮ ‬فوق ظهره،‮ ‬فأخبره،‮ ‬فأراد الأمير أن‮ ‬يرى بعينيه،‮ ‬فأنزله وفتحه،‮ ‬فإذا بعروسه مضطجعة،‮ ‬في‮ ‬الصندوق فوق ظهر زوجها،‮ ‬مع الشاب علاء الدين‮«.‬

نبشتُ‮ ‬يومها أجزاء الكتاب السحريّ‮ ‬جميعًا،‮ ‬طولاً‮ ‬وعرضًا،‮ ‬ولكني‮ ‬أخفقت في‮ ‬العثور على مصدر المقطع‮. ‬ثم شغلتني‮ ‬بعد ذلك صناديق أُخرى عن أمر ذلك الصندوق،‮ ‬إلى أن وجدتني،‮ ‬في‮ ‬أواخر نيسان 1991،‮ ‬
ولأمرٍ‮ ‬ما،‮ ‬مشغولاً‮ ‬من جديد بموتيڤ‮ »‬المرأة في‮ ‬الصندوق‮«‬،‮ ‬كما‮ ‬يقول الفولكلوريون،‮ ‬فإذا بذلك الفلاح‮ ‬يأخذ بتلابيبي‮ ‬من جديد‮.‬

وموتيڤ‮ »‬المرأة في‮ ‬الصندوق‮« ‬يظهر أول ما‮ ‬يظهر في‮ ‬الحكاية الإطارية لــ‮ »‬كتاب ألف ليلة وليلة‮«‬،‮ ‬ثم‮ ‬يعود في‮ ‬الليلة الثانية بعد الستمائة بحسب بولاق،‮ »‬أكثر الليالي‮ ‬سحرًا‮«‬،‮ ‬كما‮ ‬يقول خورخي‮ ‬لويس بورخيس في‮ ‬مقالة قصيرة له عن‮ »‬دون كيخوته‮«. ‬في‮ ‬تلك الليلة تُلقي‮ ‬شهرزاد على مسامع شهريار حكاية شبيهة بحكايته التي‮ ‬وردت في‮ ‬مطلع الكتاب،‮ ‬حين خرج بصحبة أخيه،‮ ‬بعد خيانة زوجتيهما،‮ ‬يبحثان عن رجل مصيبته شرّ‮ ‬من مصيبتهما،‮ ‬فيلتقيان بالجنيّ‮ ‬الصاعد من البحر حاملاً‮ ‬صندوقًا في‮ ‬داخله صبيّة‮. ‬وبعد أن‮ ‬يستغرق الجنيّ‮ ‬بالنوم،‮ ‬تجبرهما الصبيّة على النزول من الشجرة حيث‮ ‬يختبئان،‮ ‬وتهددهما بإيقاظ الجنيّ‮ ‬إذا لم‮ ‬يلبيا رغبتها‮. ‬فيفعلان‮.‬

وفي‮ ‬الخامس والعشرين من نيسان 1991، ‬في‮ ‬لحظة من التهوّر والتغمُّــر والتحرُّر من دالّــة المؤلف،‮ ‬وفي‮ ‬أعقاب محاولة‮ ‬يائسة جديدة للعثور على الأصل في‮ ‬طبعات مختلفة من الكتاب السحريّ،‮ ‬تملّــكتني‮ ‬شجاعة مفاجئة لا أدري‮ ‬مصدرها،‮ ‬فبعثت بفاكس ليليّ‮ ‬إلى إميل حبيبي‮ ‬بما معناه‮: »‬ أين بحقّ‮ ‬الشيطان،‮ ‬عثرتَ‮ ‬على قصة الفلاح والصندوق والأمير بدر الزمان في‮ »‬كتاب ألف ليلة وليلة«؟‮!‬

وما لبث الفاكس أن حمل إليّ،‮ ‬بعد ساعة من الزمان،‮ ‬ردّ‮ ‬المؤلف،‮ ‬وهذا نصه‮:‬
‮»‬كان عليّ‮ ‬أن أنتظر أن تكون أنت،‮ ‬دون خلق الله أجمعين،‮ ‬من‮ »‬سيمسكني‮« ‬في‮ ‬القضية الأدبية التاريخية المذكورة‮. ‬فإنني‮ ‬لم أجد قصة الصندوق على ظهر الفلاح إلاّ‮ ‬لدى ليو تولستوي‮ ‬في‮ ‬إحدى قصصه القصيرة‮. ‬وتحدّث عن فلاح عربي‮ ‬أو شرقي‮. ‬فارتأيت أن أحيلها على‮ »‬ألف ليلة وليلة‮« ‬موقنًا بأن تولستوي‮ ‬قد وجدها في‮ ‬إحدى النسخ‮ (....) ‬وبما أن الأجداد أضافوا على ألف ليلة قصصًا جديدة على مرّ‮ ‬العصور،‮ ‬فقد‮ »‬قرّرت‮« ‬أن أُضيف قصة الصندوق المأخوذة عن ليو تولستوي‮. ‬ولا أعتبر الأمر‮ »‬سرقة أدبيّة«؛ حاشا وكلاّ‮. ‬إنما هي‮ »‬إضافة أدبيّة‮« ‬ملائمة‮. ‬وأنا متأسِّف على أنني‮ ‬نسيت المصدر التولستويي‮ ‬الذي‮ ‬أخذت عنه الرواية وأحلتها على ألف ليلة‮. ‬وما عليك الآن إلاّ‮ ‬الإنتقال من البحث في‮ »‬ألف ليلة‮« ‬إلى البحث في‮ ‬مؤلفات ليو تولستوي‮. ‬وإذا شئت أن تنشر اعترافي‮ ‬هذا فأنت حر التصرُّف به لأني‮ ‬لا أجد فيه أيّة‮ ‬غضاضة‮. ‬وقد‮ ‬يكون ليو تولستوي‮ ‬هو الذي‮ ‬حفّــزني‮ ‬على هذه‮ »‬الإضافة‮« ‬ولكنني‮ ‬غير متأكد‮. ‬وتأكد أنني‮ ‬رهبت جانبك في‮ ‬الماضي‮ ‬أيضًا،‮ ‬فكيف الآن؟‮«.‬

يقول بورخيس في‮ ‬سياق آخر،‮ ‬في‮ ‬حديثه عن كافكا،‮ ‬بأنه خلافًا للإعتقاد السائد فإن الكتّــاب‮ ‬يخلقون من سبقهم ويغيّــرون من تصوّرنا للماضي‮. ‬فــ‮ »‬ألف ليلة وليلة‮« ‬من جهة،‮ ‬والمصادر الكلاسيكية للأدب العربي‮ ‬من جهة أُخرى،‮ ‬لم تعد ما كانت عليه بعد قراءة النص الحبيبي؛ ولعل في‮ ‬ذلك تكمن عظمته الأساسية‮.‬

في‮ ‬زاويته الأُسبوعية التي‮ ‬نشرها على مدى أعوام طويلة في‮ »‬الاتحاد‮«‬،‮ ‬ممهورة بتوقيع‮ »‬جهينة‮«‬،‮ ‬وهي‮ ‬زاوية سياسية هجائية،‮ ‬قام حبيبي‮ ‬بابتداع أُسلوب فذّ‮ ‬في‮ ‬اللغة العربية الحديثة،‮ ‬طوّعه فيما بعد للكتابة الأدبية‮. ‬ذلك الأُسلوب الذي‮ ‬كان ليقضّ‮ ‬مضجعي‮ ‬ومضاجع‮ ‬غيري‮ ‬من المترجمين‮. ‬والجملة الحبيبية،‮ ‬متعدِّدة الطبقات،‮ ‬تنساب كالبهلوان السائر على حبل مشدود بين إبن المقفع والجاحظ من طرف،‮ ‬مرورًا بالمقامة والرسالة،‮ ‬ثم بلغة الشدياق وغيره من ثوار عصر النهضة،‮ ‬ثم بلغة التوراة بترجمتيها الپروتستانتية والكاثوليكية،‮ ‬وبين لغة الصحافة العربية الحديثة من الطرف الآخر‮ (‬والتي‮ ‬أسهم هو على أي‮ ‬حال في‮ ‬تربيعها وتدويرها‮). ‬وفي‮ ‬هذا السياق‮ ‬يمكن إعتبار إميل حبيبي‮ »‬عميلاً‮« ‬عبقريًا في‮ ‬علاقته مع التراث‮: ‬فهو الإبن المخلص البار والثعلب المحتال المتمرِّد في‮ ‬آنٍ‮ ‬معًا‮.‬

الرواية،‮ ‬بمفهومها الغربي،‮ ‬لم تكن لتثير اهتمامه؛ لحسن حظّه،‮ ‬ولحسن حظّنا على وجه الخصوص‮. ‬فهو،‮ ‬إذا استثنينا قراءته الإبداعية للنص الكلاسيكي‮ ‬العربي،‮ ‬وخلافًا للإشاعات التي‮ ‬أسهم هو في‮ ‬ترويجها عن نفسه،‮ ‬لم‮ ‬يقرأ إلا النزر اليسير من الأدب العالمي،‮ ‬وأقل من ذلك من الأدب العربي‮ ‬الحديث‮. ‬وهكذا أفلح،‮ ‬كما لم‮ ‬يفلح أحد من أبناء جيله،‮ ‬في‮ ‬الحفاظ على الحكواتي‮ ‬الذي‮ ‬بداخله دون أن تنال منه شائبة‮. ‬وتلك عظمته الأُخرى‮.‬

في‮ ‬الأعوام الأخيرة أكثر حبيبي‮ ‬من البكاء والتشكي‮ ‬بأنه،‮ ‬وخلافًا للنهج الذي‮ ‬اختاره في‮ ‬حياته،‮ ‬لم‮ ‬يعد في‮ ‬إمكانه حمل بطيختين بيد واحدة،‮ ‬بطيخة السياسة وبطيخة الأدب‮. ‬فعقدان من الزمن في‮ ‬البرلمان الإسرائيلي،‮ ‬والتزام كامل بقضايا‮ »‬الجماهير الفلسطينية في‮ ‬إسرائيل‮« ‬منذ نكبة ‮٨٤‬،‮ ‬وكتابة صحافية كثيرة المطالب‮ - ‬كلها أشياء أبعدته عن طاولة الكتابة الإبداعية‮. ‬وقد كنتُ‮ ‬أنا أيضًا أعتقد مع المعتقدين،‮ ‬طوال الأعوام التي‮ ‬رافقتُ‮ ‬فيها أعماله،‮ ‬بين قارىء ومترجم،‮ ‬بأن السنين الطويلة التي‮ ‬أهدرها هذا الرجل الحكيم في‮ ‬العمل السياسي‮ ‬قد ذهبت هباءً،‮ ‬ناهيك عن العقدين اللذين أمضاهما في‮ ‬الأرض اليباب التي‮ ‬تدعى‮ »‬الكنيست‮«. ‬غير أني‮ ‬لم أعد مقتنعًا بذلك؛ فالكاتب الذي‮ ‬روى علينا خُرَّافية‮ »‬سرايا‮« ‬هو،‮ ‬في‮ ‬نهاية الأمر،‮ ‬حصيلة ماضيه المُــثلى،‮ ‬والقارىء الأناني‮ ‬الذي‮ ‬بداخلي‮ ‬يرفض أن‮ ‬يرى كاتبًا آخر،‮ ‬ذا ماضٍ‮ ‬مختلف،‮ ‬يقوم مقامه‮.‬

وهأنذا أراه الآن،‮ ‬كما لم‮ ‬يخطر في‮ ‬بالي‮ ‬من قبل،‮ ‬كذلك الفلاح الذي‮ ‬أمضى سحابة حياته في‮ ‬حراث العمل السياسي،‮ ‬حاملاً‮ ‬صندوقًا على ظهره،‮ ‬معللاً‮ ‬نفسه بأن أيامًا ستأتي‮ ‬فيتفرَّغ‮ ‬لسراياه‮ - ‬كتابته حبيسة الصندوق‮. ‬وتأتي‮ ‬الأيام،‮ ‬لكنها قصيرة‮. ‬وهأنذا أراه الآن،‮ ‬كما لم‮ ‬يخطر في‮ ‬بالي‮ ‬من قبل،‮ ‬حاملاً‮ ‬الوطن على ظهره،‮ ‬معللاً‮ ‬نفسه بأن أيامًا ستأتي‮.. ‬فهل ستأتي‮ ‬الأيام ويأتي‮ ‬بدر الزمان بالدولة؟

ستأتي‮ ‬المراثي‮. ‬لأن إميل حبيبي،‮ ‬أولاً‮ ‬وقبل كل شيء،‮ ‬كان‮ ‬يكتب المراثي‮. ‬فمنذ قصص الخمسينات وحتى‮ »‬سرايا‮« ‬التسعينات كتب مرثية طويلة،‮ ‬مُــسلطنة،‮ ‬شجينة،‮ ‬مُــرعشة،‮ ‬مقشعرة،‮ ‬تأخذ بتلابيب القارىء فتهزّه وتلطمه أحيانًا وتواسيه أحيانًا؛ مرثية لحيفا الضائعة،‮ ‬مسقط رأسه،‮ ‬والتي‮ ‬بقي‮ ‬فيها،‮ ‬كشهادة شاهد قبره؛ مرثيةً‮ ‬للوطن الضائع،‮ ‬بجداوله وشطآنه وأسماكه وصخوره وحجارته وترابه وأشجاره وأعشابه،‮ ‬بمبانيه وبيوته وشوارعه ودروبه ومناظره الظاهرة والمخفيّــة،‮ ‬بمدنه وقراه الخربة والمبنيّة،‮ ‬وخاصة بأسمائه الممحيّة‮. ‬ولكن كتابته،‮ ‬في‮ ‬نهاية الأمر،‮ ‬منحت الفلسطينيين‮ »‬بيتًا قوميًا‮« ‬أفخم وأجمل بكثير من جميع البيوت التي‮ ‬وُعدوا بها منذ عام بلفور‮.‬

بيتان من الشعر العربي‮ ‬الكلاسيكي‮ ‬رافقاه طوال حياته الكتابية،‮ ‬كشعار وجداني‮ ‬وأيديولوجي‮:‬
عسى الكرب الذي‮ ‬أمسيت فيه - ‮ ‬يكـون وراءه فرج قريبُ
فيأمن خائف ويفك عانٍ - ويأتي‮ ‬أهله النائي‮ ‬الغريبُ

في‮ ‬نيسانه الأخير كتب في‮ ‬إفتتاحية هذه المجلة‮ (مشارف) ‬عن أكلَــة لحوم البشر بحسب إنجيل س‮. ‬يزهار؛ في‮ ‬نيسانه الأخير شاهد مذبحة قانا ورأى كيف‮ ‬يتحوَّل الدم هذه المرَّة إلى ماء؛ في‮ ‬نيسانه الأخير رأى حصار التجويع الذي‮ ‬فُــرض على المناطق المحتلة وكيف أن أرض الوطن لم تنبت أية بارقة بشأن الدولة الفلسطينية‮.‬

أما الكرب الذي‮ ‬لفّه فقد استُــبدل بتراب الكرمل الذي‮ ‬عرفه حبّةً‮ ‬حبّة‮.‬
أما النائي‮ ‬الغريب الذي‮ ‬أحبّه فقد أتى أهله لأيام معدودة‮.‬
أما الفرج‮ - ‬فنحن هنا في‮ ‬انتظاره،‮ ‬ولسنا على عجلة من أمرنا على أي‮ ‬حال‮.‬
*
نشر: مجلة "مشارف"، عدد 9، يونيو 1996، ص 36-39

رجاء بن سلامة || الغنوشي وابن رشد




 هل مؤسّسة ابن رشد قطريّة وإخوانيّة الهوى؟

رجاء بن سلامة تتساءل: أتسندون جائزة ابن رشد لمن يفضّل النّقل على العقل؟

رجاء بن سلامة || الغنوشي وابن رشد

كمال اليازجي || ثلاثة أسئلة إلى الانتحاريين

 أما بالنسبة للحوريات، او حتى بالنسبة للآخرة، فهذا موضوع شائك، ولا أضمن لكم شيئًا.

كمال اليازجي || ثلاثة أسئلة إلى الانتحاريين

1- صحيح أن الحياة في الجنة - أو في أي مكان في العالم - اكثر متعةً من الحياة في بلاد العرب، لكن لمَ الإستعجال؟ ألا ترغبون في تمديد إقامتكم في هذه الدنيا الفانية لبعض الوقت، من باب الفضول على الأقل، لمعرفة ما يُمكن أن يحدث في المستقبل القريب؟ 
قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!