‏إظهار الرسائل ذات التسميات النبي الأمي وأهل الكتاب. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات النبي الأمي وأهل الكتاب. إظهار كافة الرسائل

"سبحان الذي أسرى"


سلمان مصالحة ||

"سبحان الذي أسرى"

لا شكّ أنّ حدث الإسراء  
كما ورد ذكره في الآية: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله" والتي تفتتح السورة القرآنية التي سُمّيت به، هو أحد أهمّ الأحداث التي رافقت بدايات نشوء الدّعوة الإسلاميّة. كما أنّه يندرج في صلب التّصوّرات الّتي انبنت عليها هذه الدّعوة منذ البداية في جزيرة العرب. فمثلما كنّا أسلفنا من قبل، في معرض حديثنا عن القبلة والتوجّه بالصّلاة نحو بيت المقدس، والوقوف على أنّ هذا التوجّه نحو بيت المقدس كان بهدف استمالة قلوب اليهود، لأنّ محمّدًا كان يعتقد في قرارة نفسه أنّه هو النبيّ الأمّي - المسيح اليهودي المنتظر - الّذي يؤمن اليهود بأنّه سيعود في آخر الزّمان. يمكننا القول أيضًا، إنّ قصّة الإسراء من مكّة إلى بيت المقدس تندرج ضمن هذه المحاولات التي هدفت إلى التأكيد على هذه الرؤيا الإسلاميّة، وتشير إلى عمليّة البحث الحثيثة عن شرعيّة يهوديّة لدعوته، في الوقت الّذي رفض فيه اليهود القبول به بوصفه هذا "النبيّ الأمّي" التّوراتي، بحسب الرواية الإسلامية.

لقد جاءت رحلة الإسراء إلى بيت المقدس بالذّات، التي هي "قبلة اليهود" كما أشار إليها محمّد نفسه، مثلما فصّلنا الحديث في هذه المسألة من قبل، للتأكيد على شرعيّة هذه الدعوة التي كانت ستضفيها عليها رحلة الإسراء إلى "قبلة اليهود" على وجه التّحديد.لقد نزلت سورة الإسراء بمكّة كما تذكر الروايات، كما أنّ اسمها الأصلي يعكس تلك التوجّهات الأوليّة، إذ يذكر المفسّرون بشأن هذه السّورة أنّ اسمها هو "سورة بني إسرائيل"، كما أنّها تُسمّى بأسماء أخرى: "تسمّى الإسراء وسبحان أيضًا" (روح المعاني للألوسي: ج 14، 238؛ أنظر أيضًا: تفسير القرآن للصنعاني: ج 4، 3؛ تفسير النسفي: ج 2، 277؛ فتح القدير للشوكاني: ج 3، 293؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 5، 181). ليس هذا فحسب، بل وكما تفيد الرّوايات فإنّه حتّى بعد أن خُتمت "سورة بني إسرائيل"، فقد نزلت بضع آيات في المدينة لها علاقة بالموضوع، وألصقت بهذه السّورة لتصبح جزءًا منها، ما يشير إلى عمق هذا التوجّه الإسلامي باستجداء الاعتراف اليهودي بنبوّة محمّد. حيث يذكر الرّواة بشأن الآية 76 من سورة الإسراء {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا}، أنّها نزلت بعد أن قال بعض اليهود للنّبي: "إنّ أرض الأنبياء أرض الشّام وإنّ هذه ليست بأرض الأنبياء"، أو كما ورد في رواية أخرى أنّهم قالوا له: "إن كنت نبيا فالحَقْ بالشام، فإن الشام أرض المحشر وأرض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام". وتضيف الرّواية أنّ هذه الأقوال كانت السّبب من وراء غزوة تبوك لأنّ محمّدًا كان ينوي الوصول إلى الشّام جريًا وراء ما قالت له اليهود من أنّ الشّام هي أرض الأنبياء، فقد ذكرت الرّوايات: "فصدّق رسول الله صلعم ما قالوا، فغزا تبوك لا يريد إلا الشام، فلما بلغ تبوك أنزل الله عليه آيات من سورة بني إسرائيل بعد ما ختمت السورة... فأمره بالرجوع إلى المدينة وقال: فيها محياك وفيها مماتك وفيها تبعث." (الدر المنثور للسيوطي: ج 5، 320؛ أنظر أيضًا: تفسير الثعالبي: ج 2، 354؛ زاد المسير لابن الجوزي: ج 5، 69-70؛ فتح القدير للشوكاني: ج 3، 293).أمّا بشأن سورة بني إسرائيل - الإسراء - فيُروى عن ابن عبّاس أنّه قال: "إن التّوراة كلّها في خمس عشرة آية من بني إسرائيل، ثمّ تلا: ولا تجعلْ مع الله إلهًا آخر." (تفسير الطبري: ج 17، 590؛ أنظر أيضًا: الدر المنثور للسيوطي: ج 5، 287؛ روح المعاني للألوسي: ج 15، 2). وهذه الآية التي تلاها ابن عبّاس بحسب الرّواية، "{ولا تجعلْ مع الله إلهًا آخر}"، ليست سوى ترجمة من اللغة العبريّة لإحدى الوصايا العشر التّوراتية: "لا يَكُنْ لكَ إلهٌ آخرُ سِوَاي!" (سفر الخروج، فصل 20، 3). وعلى ما يبدو، فلم يكن ابن عبّاس ليصرّح بأنّ التّوراة كلّها في سورة الإسراء ثمّ يتلو هذه الآية لولا علمه ويقينه بأنّ هذه الدعوة الجديدة إنّما هي دعوة يهوديّة توراتيّة في الأساس.
 مهما يكن من أمر، فإنّ قصّة الإسراء تشير إلى تلك الرحلة التي اقتاد بها جبريل محمّدًا، بحسب الروايات الإسلاميّة، على ظهر تلك الدابّة الأسطوريّة المُجنّحة، البراق، من مكّة إلى بيت المقدس ومن ثمّ التّعريج به للسموات ولقاء الأنبياء السابقين، وإيحاء الله له بما أوحى له به. حتّى أنّ هذه الدّابّة الأسطوريّة، البراق، كما تفيد الرّواية الإسلاميّة هي دابّة سليمان بن داود: "كان سليمان بن داود، عليه السلام، يغدو عليها مسيرة شهر." (تفسير مقاتل: ج 2، 247)، وذلك من أجل إضفاء شرعيّة يهوديّة نبويّة عليها من خلال ركوبه على دابّة سليمان بن داود الّذي تنظر إليه الرّواية الإسلاميّة بوصفه نبيًّا بخلاف النّظرة اليهوديّة الّتي تراه ملكًا ليس إلاّ. يشار هنا إلى أنّ كون الدّابّة مُجنّحة يندرج أيضًا ضمن الخرافات الإسلاميّة التي تفيد بأنّ سليمان بن داود كانت له خيول مُجنّحة، قيل إصابها وقيل ورثها عن أبيه داود، وقيل أخرجت له من البحر: "عن عوف رضي الله عنه قال : بلغني أن الخيل التي عقر سليمان عليه السلام كانت خيلا ذات أجنحة أخرجت له من البحر لم تكن لأحد قبله ولا بعده." (الدر المنثور: ج 7، 177؛ أنظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 21، 193؛ تفسير البغوي: ج 7، 88؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 11، 386؛ تفسير القرطبي: ج 15، 193؛ تفسير الألوسي: ج 17، 331). 
قصّة الإسراء: يذكر مقاتل في تفسيره بشأن الإسراء: "أنّ النبى صلعم أصبح بمكة ليلة أسرى به من مكة، فقال لأم هانئ ابنة أبى طالب، وزوجها هبيرة بن أبى وهب المخزومى: لقد رأيت الليلة عجبًا، قالت: وما ذلك بأبي أنت وأمي؟ قال: لقد صليت فى مصلاي هذا صلاة العشا، وصلاة الفجر، وصليت فيما بينهما فى بيت المقدس، فقالت: وكيف فعلت؟ قال: أتاني جبريل، عليه السلام، وقد أخذت مضجعى من الفراش قبل أن أنام، وأخذ بيدى وأخرجنى من الباب وميكائيل، عليه السلام، بالباب ومعه دابّة، فوق الحمار ودون البغل، ووجهها كوجه الإنسان، وخدها كخد الفرس، وعرفها كعرف الفرس... لها جناحان، ذنبها كذنب البقر، وحافرها كأظلاف البقر، خطوها عند منتهى بصرها، كان سليمان بن داود، عليه السلام، يغدو عليها مسيرة شهر، فحملاني عليها، ثم أخذا يزفان بي حتّى أتيت بيت المقدس، ومُثّل لي النبيون، فصلّيت بهم، ورأيت ورأيت..." (تفسير مقاتل: ج 2، 247-248؛ أنظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 17، 332-333؛ تفسير البغوي: ج 5، 55-62؛ تفسير القرآن للصنعاني: ج 4، 3؛ تفسير القرطبي: ج 10، 180؛ تفسير ابن كثير: ج 5، 5-7؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 5 ص 182).

وعندما روى محمّد على مسامع قريش عن رحلته هذه حاولت قريش استجوابه حول أمور تتعلّق ببيت المقدس، لم يعرف الإجابة عليها فاغتمّ لذلك كثيرًا، حتّى مثّل اللّه له بيت المقدس أمامه فطفق محمّد يصفه لهم بالتّفصيل: "روى الصحيح عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلعم: لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربتُ كربًا ما كربت مثله قط. قال فرفعه الله لي أنظرُ إليه فما سألوني عن شيء إلا أنبأتهم به." (تفسير القرطبي: ج 10، 180؛ أنظر أيضًا: تفسير البغوي: ج 1، 57). 
وكالعادة، فيما يتعلّق بالأحداث الإسلاميّة، هنالك اختلاف حول حيثيّات الرّحلة كما تظهر في الرّوايات. فمن خلال النّظر في الرّوايات الإسلاميّة لا نستطيع الجزم بتاريخ الإسراء ولا الموقع الّذي انطلقت منه هذه الرّحلة الأسطوريّة ولا أين نزل وحلّ في الطّريق، إلى آخر هذه القضايا التي عادة ما تثير الكثير من الاختلافات.لقد شهدت الرّوايات على كلّ تلك الاختلافات في تاريخ ونقطة انطلاق الإسراء: "وقد اختُلف أيضًا في تاريخ الإسراء فروي أنّ ذلك كان قبل الهجرة إلى المدينة بسنة، وروي أنّ الإسراء كان قبل الهجرة بأعوام." (فتح القدير للشوكاني: ج 3، 295؛ حول اختلاف الروايات بشأن تاريخ الإسراء، انظر تفسير البغوي: ج 1، 57؛ تفسير مقاتل: ج 2، 247؛ تفسير القرطبي: ج 10، 180؛ تفسير الألوسي: ج 10، 356-357). كما أنّ ثمّة روايات تذكر أنّ الإسراء حدث من بيت أمّ هانئ ابنة أبي طالب، وهنالك روايات تقول إنّ الإسراء قد حدث من المسجد الحرام (تفسير الطبري: ج 17، 331-332؛ أنظر أيضًا: الكشاف للزمخشري: ج 1، 673-674؛ تفسير البيضاوي: ج 1، 429). وهنالك خلاف أيضًا حول ما إذا كان الإسراء قد تمّ بالجسد أم بالرّوح، أم بكليهما، وقد وقف القدماء على هذه القضايا الخلافية: "وقد اختلف أهل العلم هل كان الإسراء بجسده صلعم مع روحه أو بروحه فقط؟ فذهب معظم السلف والخلف إلى الأول وذهب إلى الثاني طائفة من أهل العلم منهم عائشة ومعاوية والحسن وابن إسحاق... وذهبت طائفة إلى التفصيل فقالوا: كان الإسراء بجسده يقظة إلى بيت المقدس وإلى السماء بالرّوح." (فتح القدير للشوكاني: ج 3، 295؛ أنظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 17، 348-351؛ تفسير القرطبي:ج 10، 180؛ شرح البخاري لابن بطال: ج 20، 187؛ تفسير الرازي: ج 9، 494).ولا تتوقّف الاختلافات عند هذا الحدّ، بل تتعاظم بحسب الرّوايات حيث نشهد اختلافات فيما إذا كانت الرحلة مباشرة إلى بيت المقدس أمّ أنّه كانت له محطّات نزل فيها في الطّريق. فبينما الروايات القديمة تذكر الإسراء من مكّة إلى بيت المقدس مباشرة، تأتي روايات لاحقة فتذكر محطّات أخرى يهوديّة ومسيحيّة على الطّريق، نزل فيها وصلّى بأمر من جبريل: "فأتاني جبريل عليه السّلام بدابّة... ثم حملني عليها. فانطلقت تهوي بنا... حتى بلغنا أرضا ذات نخل فأنزلني فقال: صلِّ، فصليت. ثم ركبنا فقال: أتدري أين صليت؟ قلت: الله أعلم. قال: صليت بيثرب صليت بطيبة. فانطلقت... ثم بلغنا أرضًا فقال: انزل، فنزلت. ثم قال: صلِّ، فصليت. ثم ركبنا، فقال: أتدري أين صليت؟ قلت: الله أعلم. قال: صليت بمدين، صليت عند شجرة موسى. ثم انطلقت... ثم بلغنا أرضًا، بدت لنا قصور، فقال: انزل. فنزلت، فقال: صلِّ، فصليت. ثم ركبنا فقال: أتدري أين صليت؟ قلت: الله أعلم. قال: صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى المسيح ابن مريم. ثم انطلق بي حتى دخلنا المدينة من بابها اليماني، فأتى قبلة المسجد، فربط فيه دابته ودخلنا المسجد من باب فيه تميل الشمس والقمر، فصليت من المسجد حيث شاء الله." (تفسير ابن كثير: ج 5، 26؛ أنظر أيضًا: الكشف والبيان للثعلبي: ج 7، 452؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 5، 185-186؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 3، 80-81).حتّى مسألة الصّلاة في المسجد لا يوجد إجماع عليها. فبينما تذكر الرّوايات دخول الرسول المسجد الأقصى والصّلاة فيه، إلاّ أنّ ثمّة من يرفض هذه الأقاويل استنادًا إلى القرآن ذاته، كما رُوي عن هزء حذيفة بن اليمان بمن يقول بدخول الرسول المسجد والصلاة فيه: "عن زر بن حبيش، قال: أتيت على حذيفة بن اليمان وهو يحدث، عن ليلة أسري بمحمد صلعم، وهو يقول: فانطلقنا حتى أتينا بيت المقدس. فلم يدخلاه. قال: قلت: بل دخله رسول الله صلعم ليلتئذ وصلّى فيه. قال: ما اسمُكَ يا أصْلَع، فإني أعرفُ وجهك ولا أدري ما اسمُك؟ قال: قلت: أنا زر بن حبيش. قال: فما علْمُك بأنّ رسول الله صلعم صلّى فيه ليلتئذ؟ قال: قلت: القرآنُ يخبرني بذلك. قال: من تكلم بالقرآن أفلح، اقرأ. قال: فقلت: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى}، قال: يا أصلع، هل تجد "صلّى فيه"؟ قلت: لا. قال: والله ما صلّى فيه رسول الله صلعم ليلتئذ. ولو صلّى فيه لكتب عليكم صلاة فيه، كما كتب عليكم صلاة في البيت العتيق. والله ما زايَلا البراقَ حتّى فتحت لهما أبواب السماء، فرأيا الجنة والنار ووعد الآخرة أجمع، ثم عادَا عودهما على بدئهما. قال: ثم ضحك حتى رأيت نواجذه." (تفسير ابن كثير: ج 5، 21؛ أنظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 17، 349).وفي رواية أخرى يهزأ حذيفة أيضًا من الرّواية القائلة بأنّ الرسول ربط الدابّة في الحلقة التي كانت تربط بها الأنبياء. إذ عندما قيل لحذيفة إنّ الرسول ربط البراق بالحلقة التي كانت تربط بها الأنبياء، قال حذيفة: "أوَكانَ يخاف أن تذهب وقد آتاه الله بها؟" (مصنف ابن أبي شيبة: ج 7، 335؛ أنظر أيضًا: مسند أحمد بن حنبل: ج 51، 58؛ مسند الصحابة في الكتب التسعة: ج 35، 1؛ أخبار مكّة للفاكهاني: ج 3، 296؛ الردّ على الجهمية للدارمي: 62؛ المسند الجامع لأبي المعاطي النوري: ج 11، 215؛ الإسراء والمعراج للألباني: ج 1، 63).***
في المقالة القادمة سنتطرق إلى المسجد الأقصى وسنجيب على السؤال، ما هو هذا المسجد؟والعقل ولي التوفيق
***

المقالة في "شفاف الشرق الأوسط"

***

مقالات هذه السلسلة:المقالة الأولى: "هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟"
المقالة الثانية: "لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟"
المقالة الثالثة: "لماذا استقبال قبلة اليهود بالذّات؟"
المقالة الرابعة: "من هو النّبي الأمّي؟"

 المقالة الخامسة: "لماذا حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟"
 المقالة السادسة: "المصير الذي آل إليه يهود جزيرة العرب"
 المقالة السابعة: "إكسودوس بني النضير"
 المقالة الثامنة: "محرقة بني قريظة 1"
 المقالة التاسعة "محرقة بني قريظة 2" 
المقالة العاشرة: "ماذا جرى مع يهود خيبر؟"
 المقالة الحادية عشرة: "إجلاء اليهود من جزيرة العرب"

إجلاء اليهود من جزيرة العرب


سلمان مصالحة


إجلاء اليهود من جزيرة العرب


لقد شهد افتتاح حصون خيبر
قتالاً شديدًا بين محمّد وأتباعه وبين اليهود الذين تصفهم الرّواية الإسلاميّة بالمشركين: "فقاتل رسول الله صلعم المشركين، قاتلوه أشدّ القتال وقتلوا من أصحابه عدة، وقُتل منهم جماعة كثيرة، وفتحها حصنًا حصنًا." (طبقات ابن سعد: ج 2، 106). وكان ابتداء افتتاح حصون خيبر بفتح حصن ناعم من حصون النّطاة: "وبدأ رسول الله صلعم بالأموال يأخذها مالاً مالاً ويفتتحها حصنًا حصنًا، فكان أول حصونهم افتتح حصن ناعم." (تاريخ الطبري: ج 2، 135؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 4، 300؛ سيرة ابن حبان: ج 1، 293؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 278؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 179؛ تاريخ خليفة بن خياط: ج 1، 10). وبعد أن أفتتح محمّد حصن ناعم وقسم الغنائم على أصحابه، جاءه بنو سهم من بني أسلم وطلبوا منه أن يعطيهم شيئًا من تلك الغنائم، فلم يجدوا عنده شيئًا، إذ كان قد وزّعها على أصحابه. فوعدهم بأن تكون غنائم حصن الصعب بن معاذ لهم عند افتتاحه، كما يروي عبد الله بن أبي بكر: "أنّه حدّثَه بعضُ أسلم أنّ بني سهم مِنْ أسلمَ أتوا رسول الله صلعم فقالوا: يا رسول الله، والله لقد جهدنا وما بأيدينا شيء، فلم يجدوا عند رسول الله شيئًا يعطيهم إياه فقال النبي: اللهمّ إنّك قد عرفتَ حالَهم وأنْ ليست بهم قوة، وأنْ ليس بيدي شيء أعطيهم إياه، فافتحْ عليهم أعظمَ حصونها أكثرَها طعامًا وودكًا." (تاريخ الطبري: ج 2، 135؛ أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 267؛ سيرة ابن هشام: ج 4، 302؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 366؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 277). وكان اليهود الذين سلموا من فتح حصن ناعم قد انتقلوا إلى حصن الصّعب بن معاذ، فلاحقهم المسلمون وفتحوا حصن الصّعب قبل مغيب الشمس: "وكان من سلم من يهود حصن ناعم انتقل إلى حصن الصعب من حصون النطاة، ففتح الله حصن الصعب قبل ما غابت الشمس من ذلك اليوم." (عون المعبود: ج 6، 492)، ويُعدّ حصن الصعب هذا من أغنى حصون خيبر، حيث تذكر الرّوايات: "وكان حصن اليهود فيه الطعام والودك والماشية والمتاع." (مغازي الواقدي: ج 1، 267؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 135؛ سيرة ابن هشام: ج 4، 302؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1، 319؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 277؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 366)، وذكرت أنّه: "لم يكن بخيبر حصن أكثر طعامًا وودكًا وماشية ومتاعًا منه." (سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 5، 121؛ أنظر أيضًا: دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 306؛ الخصائص الكبرى للسيوطي: ج 1، 425؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 137).

ثمّ تحوّل من نجا من اليهود إلى حصن قلّة المنيع، وهو: "حصن بقلة جبل... وهو آخر حصون النطاة." (عون المعبود للعظيم آبادي: ج 6، 492). فحاصرهم الرسول ثلاثة أيّام حتّى جاء إليه أحد اليهود ووشى له بمكان مصدر مياههم لكي يقطع الماء عنهم بشرط أن يؤمنّه على حياته وأهله وماله: "فجاء رجل من اليهود يقال له غزال، فقال: يا أبا القاسم، تؤمنني على أن أدلّك على ما تستريح من أهل النطاة وتخرج إلى أهل الشقّ... قال: فأمّنه رسول الله صلعم على أهله وماله، فقال اليهودي: إنّك لو أقمت شهرًا ما بالوا، لهم دبول تحت الأرض يخرجون بالليل فيشربون منها ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمتنعون منك. فإن قطعت مشربهم عليهم أصحروا لك. فسار رسول الله صلعم إلى دبولهم فقطعها، فلما قطع عليهم مشاربهم خرجوا فقاتلوا أشدّ القتال وقتل من المسلمين يومئذ نفر وأصيب من يهود ذلك اليوم عشرة، وافتتحه رسول الله صلعم." (دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 307؛ أنظر أيضًا: زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 283؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 376؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 5، 122-123). وبعد أن افتتحت حصون النّطاة انتقل المسلمون إلى حصار منطقة الشقّ وحصونها: "ثم صار المسلمون إلى حصار حصون الشقّ فكان أول حصن بدأ به من حصني الشق حصن أبي، فقاتل أهله قتالاً شديدًا، وهرب من كان فيه ولحق بحصن يقال له حصن البريء وهو الحصن الثاني من حصني الشقّ. فحصون الشق اثنان حصن أبي وحصن البريء." (عون المعبود للعظيم آبادي: ج 6، 492؛ أنظر أيضًا: دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 308).

صلح خيبر:
بعد افتتاح حصون النطاة والشق التجأ من سلم من اليهود من هذه الحصون إلى حصون الكتيبة، وهي القموص والوطيح والسلالم. فانتقل المسلمون إلى حصارها فافتتحوا القموص وهناك وقعت صفيّة بنت حيي بن أخطب في السبي، كما أسلفنا من قبل. فانتقل من نجا من اليهود إلى الوطيح والسلالم وتحصّنوا هناك أشدّ التحصّن، فأطبق المسلمون الحصار على الوطيح والسّلالم أيّامًا وليالي: "ولمّا افتتح رسول الله صلعم من حصونهم ما افتتح وحاز من الأموال ما حاز انتهوا إلى حصنيهم الوطيح والسلالم." (تاريخ الطبري: ج 2، 135؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 2، 333؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 277؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 211؛ معجم ما استعجم للبكري: ج 1، 149؛ تاريخ خليفة بن خياط: ج 1، 10؛ عون المعبود للعظيم آبادي: ج 6، 492).

وبعد أن أُطبق الحصار على الوطيح والسلالم وأيقن اليهود، بعد أن استمرّ الحصار بضعة عشر يومًا، أنّهم لن يصمدوا أمام حصار المسلمين لهم، أرسل ابن أبي الحُقيق إلى الرسول طالبًا الصّلح: "وحاصر رسول الله صلعم أهل خيبر في حصنيهم الوطيح والسلالم حتّى إذا أيقنوا بالهلكة سألوه أن يسيّرهم ويحقن لهم دماءهم، ففعل." (تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 2، 337؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 309؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 375؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 139؛ الروض المعطار للحميري: ج 1، 490؛ معجم ما استعجم للبكري: ج 1، 149؛ البدء والتاريخ لابن المطهر: ج 1، 253؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 283). لقد تمّ ذلك بعد أن أرسل زعيمهم ابن أبي الحقيق إلى محمّد طالبًا أن يكلّمه: "وأرسل ابن أبي الحقيق إلى رسول الله صلعم: أنزل فأكلمك؟ فقال رسول الله صلعم: نعم. فنزل ابن أبي الحقيق فصالح رسول الله صلعم على حقن دماء من في حصونهم من المقاتلة وترك الذرية لهم ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم." (زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 283؛ أنظر أيضًا: دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 309؛ عون المعبود للعظيم آبادي: ج 6، 492؛ الرحيق المختوم للمباركفوري: ج 1، 342).



وبالإضافة إلى الجلاء
عن أرضهم ومنازلهم فقد أضاف محمّد شرطًا آخر، وهو أن لا يُخفوا شيئًا من أموالهم عنه. إذ أنّه، على ما يبدو، كان يبحث عن شيء ما: "فصالحوه على أن يجلوا منها ولهم ما حملت ركابهم... فاشترط عليهم أن لا يكتموا ولا يغيّبوا شيئًا، فإن فعلوا فلا ذمّة لهم ولا عصمة." (صحيح ابن حبان: ج 11، 562؛ أنظر أيضًا: طبقات ابن سعد: ج 2، 110؛ صحيح أبي داود: ج 2، 583؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 1، 1160؛ سنن البيهقي: ج 2، 62؛ فتح الباري لابن حجر العسقلاني: ج 12، 29؛ الأوسط لابن المنذر: ج 10، 263؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 283؛ عون المعبود للعظيم آبادي: ج 6، 492). لقد كان يبحث، كما يُستشفّ من الرّوايات، عن كنز حيي بن أخطب. وهو كنز يحتوي على الأموال والحلي التي كان حيي حملها معه عندما تمّ إجلاء بني النّضير إلى خيبر: "فغيّبوا مسكًا فيه مال وحلي لحيي بن أخطب كان احتمله معه الى خيبر حين أُجليت النضير."(صحيح ابن حبان: ج 11، 562؛ أنظر أيضًا: صحيح أبي داود: ج 2، 583؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 1، 1160؛ سنن البيهقي: ج 2، 62؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 377؛ فتح الباري لابن حجر: ج 12، 31؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 283؛). لقد حاول محمّد الاستفسار عن كنز حيي: "فقال رسول الله صلعم لعمّ حيي: ما فعل مسْكُ حيي الذي جاء به من النضير؟ فقال: أذهَبَتْه النفقات والحروب، فقال صلعم: العهدُ قريبٌ والمالُ أكثر من ذلك." (صحيح ابن حبان: ج 11، 562-563؛ أنظر أيضًا: جامع الأصول لابن الأثير: ج 1، 1160؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 283؛). أي أنّه يعني أنّ الكنز يحتوي على الكثير من الأموال ولم يمض وقت طويل منذ الجلاء فمن غير المعقول أن يكون المال قد نفد.

تعذيب زوج صفيّة:
كما تذكر الرّوايات كيف تمّ اقتياد كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، زوج صفيّة، إلى محمّد للتّحقيق معه حول الكنز: "قال ابن إسحاق: وأُتي رسول الله صلعم بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وكان عنده كنز بني النّضير، فسأله فجحد أن يكون يعلم مكانه. فأُتي رسول الله صلعم برجل من يهود فقال لرسول الله صلعم: إني قد رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة فقال رسول الله لكنانة: أرأيتَ إنْ وجدناه عندك أأقتلك؟ قال: نعم. فأمر رسول الله صلعم بالخربة فحُفرت فأخرج منها بعض كنزهم، ثم سأله ما بقي، فأبَى أن يؤدّيه." (تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 2، 336؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 12، 220؛ تفسير البغوي: ج 7، 309؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 374؛ الرحيق المختوم للمباركفوري: ج 1، 343). وبعد أن رفض كنانة الإفصاح عن مخبأ سائر الكنز فقد دفع به محمّد إلى الزّبير بن العوام قائلاً له: "عَذّبْهُ حتّى تستأصلَ ما عنده! فكان الزبير يقدحُ بزنده في صدره حتى أشرفَ على نفسه، ثم دفعه رسول الله إلى محمد بن مسلمة فضربَ عنقَه بأخيه محمود بن مسلمة. (تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 2، 336؛ تفسير البغوي: ج 7، 309؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 12، 220؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 374؛ الرحيق المختوم للمباركفوري: ج 1، 343). وبرواية أخرى ذُكر أنّ ابن عمّ كنانة كشف عن مكان الكنز: "فاعترف ابن عمّ كنانة عليهما بالمال حين دفعه رسول الله صلعم إلى الزبير يُعذّبه. فدفع رسول الله صلعم كنانة إلى محمد بن مسلمة فقتله." (زاد المعاد لابن قيم الجوزية:ج 3، 283).

بعد ذلك أراد أن يجلي اليهود عن ديارهم فطلبوا منه أن يبقيهم في أرضهم قائلين له إنّهم أعلمُ وأكثر دربة من أصحابه برعاية الأرض والنّخل: "وقالوا: نحن أعْلَمُ بها منكم، وأعْمَرُ لها." (معجم ما استعجم للبكري: ج 1، 149؛ البلدان لياقوت: ج 2، 195؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 283)، فأقرّهم على أن أن يدفعوا له النّصف من ثمر الأرض، كما ورد في الرّوايات: "وأراد ان يجليهم منها، فقالوا: يا محمد دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها، ولم يكن لرسول الله صلعم ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها فكانوا لا يتفرغون أن يقوموا. فأعطاهم خيبر على أنّ لهم الشطر من كل زرع ونخل وشيء ما بدا لرسول الله صلعم." (صحيح ابن حبان: ج 11، 563؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 4، 329؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 1، 1160؛ سنن البيهقي: ج 6، 114؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 124؛ نيل الأوطار للشوكاني: ج 8، 132؛ الأوسط لابن المنذر: ج 10، 263؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 213؛ تاريخ خليفة بن خياط: ج 1، 10)، فوافق محمّد على الاقتراح وأقرّهم على ذلك.

***
يهود فدك
في ذات الوقت الذي خرج فيه محمّد وأتباعه إلى غزو خيبر، قام أيضًا بإرسال محيصة بن مسعود إلى أهل فدك لدعوتهم إلى الإسلام، مهدّدًا إيّاهم، أنّهم سيكونون هم أيضًا عرضة للغزو مثل أهل خيبر إذا لم يستجيبوا لدعوته: "لما أقبل رسول الله صلعم إلى خيبر فدنا منها، بعث محيصة بن مسعود إلى فدك يدعوهم إلى الإسلام ويخوفهم أن يغزوهم كما غزا أهل خيبر ويحلّ بساحتهم." (مغازي الواقدي: ج 1، 706؛ أنظر أيضًا: سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 5، 138). لقد حاولوا في البداية رفض ما يُعرض عليهم ظنًّا منهم أنّهم يستطيعون الصمود أمام هذا الغزو: "قال محيصة جئتهم فأقمتُ عندهم يومين وجعلوا يتربّصون ويقولون: بالنّطاة عامر وياسر وأسير والحارث وسيد اليهود مرحب، ما نرى محمّدًا يقرب حرّاهم، إنّ بها عشرة آلاف مقاتل." (مغازي الواقدي: ج 1، 706).


غير أنّ الأخبار التي وصلت بشأن القتل والسبي وما جرى في حصون خيبر، كما تذكر الروايات، قد فتّت من عزائمهم: "حتى جاءهم قتلُ أهل حصن ناعم وأهل النّجدة منهم، ففَتّ ذلك أعضادهم." (مغازي الواقدي: ج 1، 706؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 5، 138). وعلى أثر أخبار الغزو والقتل هذه قرّروا أن يرسلوا مع محيصة رجالاً منهم يطلبون الصّلح: " قال محيصة: وقدم معي رجل من رؤسائهم يقال له نون بن يوشع، في نفر من اليهود... ويقال عرضوا على النبي صلعم أن يخرجوا من بلادهم ولا يكون للنبي صلعم عليهم من الأموال شيء، وإذا كان جذاذها جاءوا فجذّوها. فأبى النبي صلعم أن يقبل ذلك." (مغازي الواقدي: ج 1، 706). وقد استقرّ الصلح في نهاية المطاف على مثل صلح خيبر: "وقع الصلح بينهم أنّ لهم نصف الأرض بتربتها لهم، ولرسول الله صلعم نصفها. فقبل رسول الله صلعم ذلك... فأقرّهم رسولُ الله صلعم على ذلك ولم يبلّغهم." (مغازي الواقدي: ج 1، 706؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 140؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 213؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 375؛ تاريخ خليفة بن خياط: ج 1، 10؛ معجم ما استعجم للبكري: ج 1، 149).

***
يهود وادي القرى
بعد الانتهاء من خيبر تحوّل محمّد وأتباعه إلى وادي القرى، حيث حلّوا على مقربة من منازل لليهود فاستقبلهم اليهود برمي السّهام من حصونهم، حسبما روى أبو هريرة، قال: "خرجنا مع رسول الله صلعم من خيبر إلى وادي القرى.... فلما نزلوا بوادي القرى انتهينا إلى اليهود وقد ضَوَى إليها أناسٌ من العرب... وقد استقبلتنا اليهود بالرمي حيث نزلنا، ولم يكن على تعبية، وهم يصيحون في آطامهم." (مغازي الواقدي: ج 1، 289؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ البدء والتاريخ لابن المطهر: ج 1، 254). فأسرع محمّد إلى إجراء الاستعدادات لقتال اليهود ودعوتهم إلى الإسلام لأجل حقن دمائهم: "فعبّى رسول الله أصحابه للقتال وصفّهم،... ثم دعاهم إلى الإسلام وأخبرهم إنْ أسلموا أحرزوا أموالهم وحقنوا دماءهم وحسابهم على الله. قال: فبرز رجل منهم، فبرز إليه الزبير بن العوام فقتله، ثم برز آخر فبرز إليه علي فقتله، حتى قتل منهم أحد عشر رجلاً، كلّما قتل منهم رجلاً دُعي من بقي منهم إلى الإسلام... وقاتلهم حتى أمسى، وغدا عليهم فلم ترتفع الشمس قيد رمح حتّى أعطوا بأيديهم، وفتحها عنوةً وغنّمهم الله أموالَهم وأصابوا أثاثًا ومتاعًا كثيرًا. وأقام رسول الله صلعم بوادي القرى أربعة أيام، فقسم ما أصاب على أصحابه، وترك الأرض والنخيل في أيدي اليهود وعاملهم عليها." (سيرة ابن كثير: ج 3، 412-413؛ أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 710-711؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 313؛ سبل الهدى وارشاد للصالحي الشامي: ج 5، 149).


وعندما علم يهود تيماء بما جرى مع سائر اليهود فقد أيقنوا أن لا سبيل أمامهم وقرّروا طلب الصّلح من الرّسول على الجزية: "فلما بلغ يهود تيماء ما وطئ به رسول الله صلعم خيبر وفدك ووادي القرى، صالحوا رسول الله صلعم على الجزية، وأقاموا بأيديهم أموالهم." (مغازي الواقدي: ج 1، 711؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 366؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 413؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3 313)، وقد ذكرت الرّواية أنّ محمّدًا كتب لهم كتابًا بذلك: "هذا كتاب محمد رسول الله لبني عاديا، أنّ لهم الذمة، وعليهم الجزية، ولا عداء ولا جلاء." (الرحيق المختوم للمباركفوري: ج 1، 351؛ طبقات ابن سعد: ج 1، 279).

***
تسميم محمّد:
وبعد أن انتهى محمّد وأتباعه من إخضاع اليهود في خيبر وفي سائر أماكن تواجدهم في فدك ووادي القرى وتيماء والاستيلاء على أموال المواقع التي كان افتتاحها حربًا وتوزيعها على المسلمين وإقرار بعضها على النصف صلحًا وإبقاء بعضهم يعملون في الأرض، عاد إلى المدينة: "ثم انصرف رسول الله صلعم راجعًا إلى المدينة بعد أن فرغ من خيبر ووادي القرى وغنّمه الله عزوجل." (سيرة ابن كثير: ج 3، 413؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 366؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 5، 149).

وكان من بين اليهود من أسلم، ومنهم من بقي في أرضه، يعمل في الأرض ويدفع للمسلمين نصف ثمر الأرض. ومن بين السبايا اللّواتي أسلمن، على ما ذكرت الرّوايات، زينب بنت الحارث اليهوديّة، ابنة أخي مرحب وامرأة سلام بن مشكم. وبعد أن اطمأنّ الرّسول إلى إخضاع اليهود، جاءت إليه زينب هذه وقدّمت له شاةً مسمومة: "عن جابر وأبي هريرة وغيرهما أن رسول الله صلعم لمّا افتتح خيبر واطمأنّ جعلت زينب بنت الحارث وهي بنت أخي مرحب وامرأة سلام بن مشكم سمًّا قاتلاً في عنز لها، ذَبحَتْها وصَلَتْها وأكثرت السمّ في الذراعين والكتف. فلمّا صلّى النبي صلعم المغرب انصرفَ وهي جالسة عند رحله، فقالت: يا أبا القاسم هدية أهديتها لك، فأمر بها النبي صلعم. فأُخذت منها، ثم وُضعت بين يديه وأصحابه حضور، منهم بشر بن البراء بن معرور، وتناول رسول الله فانتهشَ من الذراع وتناول بشر عظمًا آخر فانتهش منه، وأكل القوم منها. فلما أكل رسول الله صلعم لقمةً قال: ارفعوا أيديكم، فإنّ هذه الذّراع تخبرني أنها مسمومة". وتذكر الرّوايات أنّ بشر بن البراء قد مات من تلك الأكلة الّتي أكلها من الشاة المسمومة الّتي أهدتها زينب: "فلم يقم بشر حتّى تغيّر لونُه وماطله وَجَعُهُ سنةً ومات. وقال بعضهم: لم يرمْ بشر من مكانه حتّى توفي." (تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 143؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ تفسير البغوي: ج 7، 310؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 394؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 213؛ أسد الغابة لابن الأثير: ج 1، 13؛ البدء والتاريخ لابن المطهر: ج 1، 253؛ تاريخ ابن خلدون: ج 2، 39).

سبب التّسميم:
ولمعرفة ملابسات التّسميم، تذكر الرّوايات أنّ محمّدًا طلب أن يتمّ إحضار اليهود أمامه وسؤالهم عن ذلك: "فقال رسول الله صلعم: اجمعوا لي من كان ها هنا من يهود. فجمعوا له، فقال النبي صلعم: ... هل أنتم صادقي عن شيء إذا سألتكم عنه؟ قالوا: نعم ... فقال رسول الله صلعم: مَنْ أهلُ النار؟ فقالوا: نكون فيها يسيرًا ثم تخلفونا فيها، فقال لهم رسول الله صلعم: والله لا نخلفكم فيها أبدًا. ثم قال لهم:... هل جعلتم في هذه الشاة سمًّا؟ فقالوا: نعم. قال: ما حملكم على ذلك؟ قالوا: أردنا، إنْ كنتَ كاذبًا أن نستريح منك، وإنْ كنتَ نبيًّا لم يَضُرّك." (سيرة ابن كثير: ج 3، 394؛ أنظر أيضًا: صحيح البخاري: ج 11، 291؛ شرح السنّة للبغوي: ج 7، 40-41؛ مصنّف ابن أبي شيبة: ج 5، 435؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 354؛ مشكاة المصابيح للتبريزي: ج 3، 290؛ الخصائص الكبرى للسيوطي: ج 1، 430).

كما تذكر الرّوايات إنّه دعا زينب بنت الحارث، المرأة اليهودية ذاتها، الّتي وضعت السمّ في الشّاة واستجوبها حول الموضوع: "فدعاها فقال: ما حملك؟ قالت: نلتَ من قومي وقتلتَ أبي وعمّي وزوجي، فقلت: إنْ كان نبيًّا فستخبره الذراع وإن كان ملكًا أسترحنا منه." (تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 143؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ تفسير البغوي: ج 7، 310؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 12، 221؛ تفسير ابن كثير: ج 7، 211). أمّا بخصوص مصير زينب هذه فهنالك اختلاف بما آل إليه مصيرها: "واختلفت الروايات في التجاوز عن المرأة وقتلها، وجمعوا بأنه تجاوز عنها أوّلا، فلما مات بشر قتلها قصاصا." (الرحيق المختوم للمباركفوري: ج 1، 347؛ شرح سنن ابن ماجة للسيوطي: ج 1، 254؛ سبل الهدى والرشاد للصاحلي الشامي: ج 5، 155). أو أنّه "لم يقتلها لإسلامها حينئذ، على ما قيل." (تاريخ ابن خلدون: ج 2، 39؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 12، 221؛ تاريخ الطبري: ج 2، 303؛ )، غير أنّ هنالك روايات تؤكّد على أنّه أمر أولياء بشر بقتلها: "فدفعها إلى أولياء بشر يقتلونها. وهو الثبت." (تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 143؛ طبقات ابن سعد: ج 2، 107؛ عون المعبود للعظيم آبادي: ج 10، 32؛ سمط النجوم للعصامي: ج 1، 328؛ شرح سنن ابن ماجة للسيوطي: ج 1، 254؛ سبل الهدى والرشاد للصاحلي الشامي: ج 5، 155).

محمّد يشير إلى مفعول السمّ:
ويروى أنّ الرّسول ذكر ذلك السمّ، الّذي وضعته له زينب بنت الحارث، في مرضه الّذي توفّي فيه مشيرًا إلى سريان مفعوله فيه: "عن محمد بن إسحاق عن مروان بن عثمان بن أبي سعيد بن المعلى قال، وقد كان رسول الله صلعم قال في مرضه الذي توفي فيه، ودخلت عليه أم بشر بن البراء تعوده: يا أم بشر، إن هذا الأوان وجدتُ انقطاعَ أبهري من الأكلة التي أكلتُ مع ابنك بخيبر." (تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ أنظر أيضًا: الكشف والبيان للثعلبي: ج 12، 221؛ تفسير البغوي: ج 7، 312). ويروى أيضًا عن عائشة أنّها قالت: "كان النبي صلعم يقول في مرضه الذي مات فيه: يا عائشة، ما أزال أجد ألَم الطعام الذي أكلتُ بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السمّ." (تفسير البغوي: ج 7، 310؛ أنظر أيضًا: شرح سنن ابن ماجة للسيوطي: ج 1، 254؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 213)، وبرواية أخرى فيها إقرار بمفعول السمّ: "ما زالت أكلة خيبر يعاودني ألَمُ سمّها." (تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 143؛ أنظر أيضًا: تفسير النيسابوري: ج 1، 265؛ تفسير الرازي: ج 2، 212؛ جامع الأحاديث للسيوطي: ج 19، 27؛ فيض القدير للمناوي: ج 5، 572).

إجلاء اليهود من جزيرة العرب:
بعد أن توفّي الرسول ووقع الاختيار على أبي بكر أن يكون خليفة للمسلمين بعد محمّد واصل أبو بكر التّعامل مع اليهود الباقين في جزيرة العرب بحسب المبادئ التي كان أقرّها الرسول عليهم في اتّفاقيّات الصّلح التي عقدوها معه: "فلما توفّى الله نبيه صلعم أقرّها أبو بكر رض بعد رسول الله صلعم بأيديهم على المعاملة التي عاملهم عليها رسول الله صلعم حتى توفي." (سيرة ابن هشام: ج 4، 329؛ تاريخ الطبري: ج 2، 307؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 415). وبعد أن توفّي أبو بكر وخلفه عمر بن الخطّاب استمرّ عمر على ذات النّهج فترة من الزّمن حتّى وصل إلى مسامعه قولٌ منسوب إلى الرّسول في مرضه الّذي قُبض فيه: لا يجتمعنّ بجزيرة العرب دينان: "ففحص عمر عن ذلك حتّى بلغه الثبت. فأرسل إلى يهود، أنّ الله قد أذن في اجلائكم، فقد بلغني أن رسول الله صلعم قال: لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان، فمن كان عنده عهد من رسول الله فليأتني به أنفذه له، ومن لم يكن عنده عهد من رسول الله من اليهود فليتجهز للجلاء." (تاريخ الطبري: ج 2، 307؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 2، 356؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 415).

غير أنّه، وعلى ما يبدو، فإنّ ثمّة أسبابًا أخرى لإجلاء اليهود. فمثلما أشرنا من قبل فقد أُبقي اليهود في البداية لمعرفتهم وعلمهم في تدبير وعمارة الأرض، ولم يكن المسلمون آنئذ على دراية بهذه الأمور. فلمّا كثرت الأموال في أيدي المسلمين، وتعلّموا أمور الزّراعة والاعتناء بالأرض والنّخيل قرّروا الاستيلاء على أراضي اليهود. كذا يُستشفّ من الرّواية التالية بهذا الشأن: "حتّى كان عمر، فكثر المال في أيدي المسلمين، وقووا على عمل الأرض، فأجلى عمر اليهود إلى الشام وقسم الأموال بين المسلمين إلى اليوم." (الأموال للهروي: ج 1، 144؛ البلدان لياقوت: ج 2، 410). وعلى كلّ حال، لقد أجلى عمر يهود خيبر وفدك، ولم يخرج يهود تيماء ووادي القرى لأنّ مناطق تيماء ووادي القرى تعتبر من بلاد الشام وليست داخلة في جزيرة العرب، على ما روي: "فلما كان زمن عمر بن الخطاب رض أخرج يهود خيبر وفدك ولم يخرج أهل تيماء ووادي القرى لأنهما داخلتان في أرض الشام، ويرى أن ما دون وادي القرى إلى المدينة حجاز وأن ما وراء ذلك من الشام" (زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 313؛ أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 706؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 366؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 213).

وعلى ما يبدو فقد بقي هناك من أسلم من اليهود في جزيرة العرب وفي المدينة، وظلّوا يعملون في الأرض ويهتمّون بالنّخيل: "بيت الخيبري - نسبة إلى خيبر بلدة قديمة مشهورة. وإليها ينسب كثير بالمدينة المنورة. وحرفتهم حفر الآبار وضرب اللبن. ويقال: إن أصلهم من يهود خيبر الذين أجلاهم النبي صلعم من المدينة. وقيل: إنهم مواليد لعبيد عنزة، لأن خيبر أملاك لهم إلى اليوم. ويحضرون فيها أيام الصيف مقدار عشرين يومًا ويجذّونها قبل استواء ثمارها. وهذا دأبهم في كل عام." (تحفة المدنيين لابن الفقيه: ج 1، 52).

كما أنّ ثمّة من اليهود الّذين أجلاهم عمر إلى الشّام قد ظلّوا يحنّون إلى ديارهم في جزيرة العرب، وفي أقوالهم تُسمع أصداء ما جرى لليهود في الحجاز:"عن عمرو بن أبي عمرو، قال: نزلت بأريحا زمن سليمان بن عبد الملك فإذا حيّ من اليهود، وإذا رجل يهدج من الكبر. فقال: ممن أنتم؟ فقلنا: من الحجاز، فقال اليهودي: واشوقاه إلى الحجاز! أنا ابن الحارث اليهودي فارس خيابر. قتله يوم خيبر رجل من أصحاب محمد يقال له أبو دجانة، يوم نزل محمد خيبر. وكنا ممّن أجلى عمر بن الخطاب إلى الشام. فقلت: ألا تسلم؟ قال: أما إنّه خيرٌ لي لو فعلت، ولكن أُعيّر. تعيرني اليهود، تقول: أبوك ابنُ سيّد اليهود، لم يترك اليهودية، قُتل عليها أبوك وتخالفه؟" (مغازي الواقدي: ج 1، 265).

***



في المقالة القادمة سنتطرق إلى قصّة الإسراء والمسجد الأقصى.

والعقل وليّ التوفيق.



***
المقالة في "شفاف الشرق الأوسط"
***

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقالات هذه السلسلة:
المقالة الأولى: "هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟"
المقالة الثانية: "لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟"
المقالة الثالثة: "لماذا استقبال قبلة اليهود بالذّات؟"
المقالة الرابعة: "من هو النّبي الأمّي؟"
المقالة الخامسة: "لماذا حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟"
المقالة السادسة: "المصير الذي آل إليه يهود جزيرة العرب"
المقالة السابعة: "إكسودوس بني النضير"
المقالة الثامنة: "محرقة بني قريظة 1"
المقالة التاسعة "محرقة بني قريظة 2"
المقالة العاشرة: "ماذا جرى مع يهود خيبر؟"
المقالة الحادية عشرة: "إجلاء اليهود من جزيرة العرب"

ماذا جرى مع يهود خيبر؟

 

ليس هذا فحسب، بل وبحسب رواية ابن عباس، فإنّ محمّدًا نفسه قد أرسل كتابًا إلى يهود خيبر يستجديهم ويناشدهم فيه أن يبايعوه بوصفه النبيّ الذي يجدونه في التّوراة...
حصن القموص - خيبر

سلمان مصالحة

ماذا جرى مع يهود خيبر؟

محرقة بني قريظة 2

سلمان مصالحة

محرقة بني قريظة (2)


بعد أن سمع سعد بن معاذ
الأصوات التي رغبت في استيهاب بني قريظة، خطب فيهم فقال: "لا آلوكم جهدًا. فقالوا، ما يعني بقوله هذا؟ ثم قال: عليكُم عهد الله وميثاقه أنّ الحكمَ فيهم ما حكمتُ؟ قالوا: نعم. فقال سعد للناحية الأخرى التي فيها رسول الله صلعم...: وعلى مَنْ ها هنا مثل ذلك؟ فقال رسول الله صلعم ومن معه: نعم. قال سعد: فإني أحكُمُ فيهم أنْ يُقْتلَ مَنْ جَرَتْ عليه المُوسَى، وتُسْبَى النّساءُ والذرية، وتُقسم الأموالُ." (مغازي الواقدي: ج 1،203. أنظر أيضًا: طبقات ابن سعد: ج 2، 75؛ المختصر في أخبار البشر لأبي الفدا: ج 1، 90؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 203-204؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1، 306-307؛ مسند سعد بن أبي وقاص: ج 1، 20؛ الأسماء والصفات للبيهقي: ج 2، 321؛ سنن البيهقي: ج 2، 126؛ شرح السنّة للبغوي: ج 7، 31؛ مسند البزار: ج 3، 325؛ مكارم الأخلاق للخرائطي: ج 2، 34؛ إثبات صفة العلو لابن قدامة: ج 1، 69؛ حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني: ج 3، 171؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشّامي: ج 5، 11). وبعد سماع هذا الحكم بالذّبح الّذي أصدره سعد بن معاذ على بني قريظة، والّذي كان حذّرهم منه أبو لبابة من قبل، صادق محمّد على هذا الحُكم قائلاً له: "لقد حَكَمْتَ بحُكْم الله عزّ وجلّ من فوق سبعة أرقعة." (مغازي الواقدي: ج 1،203. أنظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 20، 247؛ تفسير البيضاوي: ج 1، 371؛ سيرة ابن هشام: ج 2، 240؛ مسند سعد بن أبي وقاص: ج 1، 20؛ الروض الأنف للسهيلي: ج 3، 443؛ تفسير الثعالبي: ج 3، 226؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 3، 343؛ الكشاف للزمخشري: ج 1، 994؛ الأسماء والصفات للبيهقي: ج 2، 321؛ سنن البيهقي: ج 2، 126؛ المختصر في أخبار البشر لأبي الفدا: ج 1، 90؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 203-204؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1، 306-307؛ سير إعلام النبلاء للذهبي: ج 1، 288؛ مسند البزار: ج 3، 325؛ إثبات صفة العلو لابن قدامة: ج 1، 69). وبرواية أخرى، قال محمّد بعد أن أصدر سعد بن معاذ حكمه: "لقد حكمَ - حُكْمَ - الله عز وجل، ولقد رضي الله على عرشه بحكم سعد." (تفسير مقاتل: ج 3، 80).

بل وأكثر من ذلك، فقد رُوي عن محمّد قولُه في هذا الحكم، وعلى مسمع من الجميع: "بذلك طَرَقَني المَلَكُ سَحَرًا." (الدر المنثور للسيوطي: ج 4، 49؛ أنظر أيضًا: تفسير القرطبي: ج 7، 395؛ الرّوض الأنف للسهيلي: ج 3، 442؛ عمدة القاري للعيني: ج 22، 120؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشّامي: ج 5، 11)، أي أنّ الملاك قد نزل عليه وأوعز له بهذا الحكم، بالذّات في سَحَر تلك اللّيلة التي كان سمع فيها، على ما يبدو، دعاء سعد بن معاذ الله أنْ لا يميتَه حتّى تقرّ عينه من بني قريظة. كما ذُكر في رواية أخرى أنّ محمّدًا قام باستشارة سعد بن معاذ بشأنهم بعد استسلامهم، فأشار عليه سعد بذبحهم، فوافقَهُ محمّد على ذلك قائلاً بأنّ ذلك هو ما أمره الله به. لقد توجّه محمّد إلى سعد سائلاً إيّاه أن يشير عليه فيهم، فأجابه سعد: "لو وُلّيتُ أمْرَهم قتلتُ مقاتلتَهم وسبيتُ ذراريهم وقسمتُ أموالَهم. فقال رسول الله صلعم: والذي نفسي بيده، لقد أشَرْتَ علَيّ فيهم بالذي أمَرَني الله به." كما يورد ابن سعد (طبقات ابن سعد: ج 3، 425؛ أنظر أيضًا: تاريخ الإسلام للذهبي: ج 2، 322؛ سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 1، 288؛ تفسير ابن عبد السلام: ج 5، 33؛ النكت والعيون للماوردي: ج 3، 370).

وها هي أصداء ذلك الحكم بقتل الرّجال دون الأولاد، تُسمع لاحقًا كما يرويها أحد بني قريظة، وكان من هؤلاء الأولاد الذين نجوا من تلك المجزرة لأنّه كان صغير السنّ ولم تكن عانَتُه أنبتت الشّعر بعد: "عن عبد الملك بن عمير قال، سمعت عطية القرظي يقول: عُرِضْنَا على النبيّ صلعم، يوم قريظة، فكانَ مَنْ أنْبَتَ قُتِلَ، ومَنْ لم يُنْبِتْ خُلِّيَ سَبيلُهُ، فكُنتُ فيمن لم يُنْبتْ، فخُلّي سَبيلي. وفي رواية: كنتُ، يوم حكم سعد بن معاذ في بني قريظة، غلامًا. فنَظَرُوا إلى مُؤتَزَري، فلم يجدُوني أنْبَتُّ، فها أنا ذا بين أظْهُركم."، وبرواية أخرى: "كنتُ يوم حكم سعد بن معاذ في بني قريظة غلامًا. فشَكّوا فيّ، فنَظَرُوا إليّ فلم يجدُوا المَواسي جَرَتْ عَلَيّ، فَاستُبْقيتُ." (المسند الجامع لأبي المعاطي النّوري: ج 29، 370-372؛ أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 205؛ مسند الصحابة في الكتب التسعة: ج 48، 207-210؛ مسند أحمد: ج 42، 237-239؛ سنن النسائي: ج 11، 190؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 3، 343؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 17، 164؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 1، 6175؛ المعجم الأوسط للطبراني: ج 6، 209؛ المستدرك للحاكم: ج 3، 37).

محرقة بني قريظة:
وهكذا، وبعد أن صدر حكم سعد بن معاذ على بني قريظة، أمر محمّد بتكتيف الأسرى وفصل الرّجال عن النّساء والأطفال: "فأمرَ بهم رسولُ الله صلعم محمّدَ بن مسلمة فكُتفوا ونُحّوا ناحية وأخرج النّساء والذرية فكانوا ناحية." (طبقات ابن سعد: ج 2، 75؛ أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 510؛ تاريخ الطبري: ج 2، 250؛ سيرة ابن هشام: ج 2، 240؛ تفسير البغوي: ج 6، 341؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 11، 116؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 238؛ زاد المسير لابن الجوزي: ج 6، 374؛ تفسير حقي: ج 11، 32). فأمّا الرّجال فاقتيدوا إلى دار أسامة بن زيد، وأمّا النّساء والأطفال فقد اقتيدوا إلى دار بنت الحارث. ثمّ أمر محمّد بجمع كلّ ما تحتوي عليه حصونهم: "وجمع أمتعتهم وما وجد في حصونهم من الحلقة والأثاث والثياب، فوجد فيها ألفًا وخمسمائة سيف وثلاثمائة درع وألفي رمح وخمسمائة ترس وحجفة، وخمرًا وجرار سكر، فأُهْريقَ ذلك كلّه." (عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 55؛ أنظر أيضًا: طبقات ابن سعد: ج 2، 75)، وبعدئذ أمر بنقل كلّ ما انتُهبَ منهم: "وأمرَ رسول الله صلعم بالسلاح والأثاث والمتاع والثياب، فحُمل إلى دار بنت الحارث، وأمرَ بالإبل والغنم، فتُركتْ هناك ترعى في الشجر." (مغازي الواقدي: ج 1، 203؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 5، 12). ثمّ بدأ محمّد بإجراء التّحضيرات لتنفيذ الحكم على بني قريظة، فقد رُوي أنّه: "رجع رسول الله صلعم إلى المدينة، وحَبَسَ بني قريظة في بعض دور الأنصار." (تاريخ أبي الفدا: ج 1، 204؛ أنظر أيضًا: المختصر في أخبار البشر لأبي الفدا: ج 1، 90). بعدئذ "أمر رسول الله صلعم بأحمال التّمْر فنُثرتْ عليهم، فباتوا يكدمونها كدمَ الحُمُر، وجعلوا ليلتَهم يَدْرُسون التوراة، وأمرَ بعضُهم بعضًا بالثّبات على دينه ولُزُوم التّوراة." (مغازي الواقدي: ج 1، 203؛ أنظر أيضًا: سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 5، 12؛ السير الكبير للشيباني: ج 3، 1029).

وفي صبيحة اليوم التالي قاد محمّد نفسه وأصحابه عمليّة الإعدام، حيث خرج مبكرًا إلى السوق وأمرَ بحفر قبر جماعيّ لهم: "قالوا: ثم غدا رسول الله صلعم إلى السوق، فأمر بخُدود فخُدّت في السّوق، ما بين موضع دار أبي جهم العدوي إلى أحجار الزيت بالسّوق، فكان أصحابُه يحفرون هناك. وجلس رسول الله صلعم ومعه علية أصحابه، ودعا برجال بني قريظة، فكانوا يخرجون رسلاً رسلاً، تُضْرَب أعناقُهم." (مغازي الواقدي: ج 1، 203؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 4، 200؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 238؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 103؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 204؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 249؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 120). وفي هذه الأثناء، بينما كانت عمليّة قتل الأسرى المكبّلين تجري على قدم وساق، لم يكن هؤلاء الأسرى من بني قريظة يعرفون ما يجري مع الّذين يُقتادون إلى موتهم: "فقالوا لكعب بن أسد: ما ترى محمّدًا يصنعُ بنا؟ قال: مايسوؤكم وما ينوؤكم. ويلكم، على كل حال لا تعقلون. ألا ترون أنّ الدّاعي لا يَنزعُ، وأنّه من ذهبَ منكُم لا يرجعُ؟ هو والله السّيف. قد دعوتكم إلى غير هذا فأبيتم! قالوا: ليس هذا بحين عتاب... قال حيي: اتْركُوا ما تَرون من التّلاوُم، فإنّه لا يَرُدُّ عنكم شيئًا، واصبروا للسّيف. فلم يزالوا يُقْتَلون بين يدي رسول الله صلعم، وكان الذين يَلُون قَتْلَهم علي والزّبير." (مغازي الواقدي: ج 1، 203؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 101؛ سيرة ابن هشام: ج 2، 240؛ تفسير البغوي: ج 6، 341؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 11، 116؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 71؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 239؛ المختصر في أخبار البشر لأبي الفدا: ج 1، 90؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 203-204؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1، 306-307).

وقد شارك محمّد بنفسه في قتل الأسرى،
كما يروي أحد أحفاد سعد بن معاذ: "عن الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، قال: لما قَتلَ رسولُ الله صلعم حيي بن أخطب، ونباش بن قيس، وغزال بن سموأل، وكعب بن أسد وقام، قال لسعد بن معاذ: عليكَ بمَنْ بَقِي. فكان سعد يُخرجهم رسلاً رسلاً يقتلهم." (مغازي الواقدي: ج 1، 205؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 4، 200؛ تاريخ الطبري: ج 2، 4؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 238؛ بحر العلوم للسمرقندي: ج 3، 404؛ نهاية الأرب للنويري: ج 4، 456). أمّا حيي بن أخطب، وهو زعيم بني النّضير الّذي كان التجأ إلى بني قريظة من قبل بعد إجلاء بني النّضير من أوطانهم، فقد اقتيدَ مكتوفًا، وكانَ قد شَقّ حلّة كان يلبسها، وأُحضر إلى محمّد: "ثم أُتي بحيي بن أخطب مجموعة يداه إلى عنقه، عليه حلّة شقحية قد لبسها للقتل، ثم عمدَ إليها فَشَقّها أُنْملةً لئلا يسلبه إياها أحد، وقد قال له رسول الله صلعم حين طلع: ألمْ يُمكّن اللهُ منكَ، يا عدو الله؟ قال: بلى، والله ما لُمْتُ نفسي في عداوتك، ولقد التَمَسْتُ العزّ في مكانه... ثم أقبلَ على الناس فقال: يا أيّها الناس، لابأسَ بأمر الله! قَدَرٌ وكتابٌ، ملحمةٌ كُتبت على بني إسرائيل. ثم أمرَ به فضربَ عُنقَه." (مغازي الواقدي: ج 1، 203؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 4، 201؛ تاريخ الطبري: ج 2، 4؛ تفسير الطبري: ج 20، 247؛ تفسير البغوي: ج 6، 341؛ تفسير القرطبي: ج 14، 140-141؛ سنن البيهقي: ج 6، 323؛ الفائق للزمخشري: ج 2، 257؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 5، 241؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 103).

غير أنّ ذلك الشّقّ الّذي عمله حيي بن أخطب في الحلّة الّتي ارتداها قدر أنملة لم يكن، بحسب ما تذكره الرّواية "لئلا يسلبه إياها أحد"، بل هي علامة من علامات الحزن والحداد في اليهوديّة لدى موت الأقرباء، وهذا التّقليد لا زال قائمًا لدى اليهود المتديّنين حتّى اليوم. إنّ مصدر هذا التّقليد قديم، وهو يستند إلى تلك الإشارة التي وردت في التّوراة عن يعقوب، إذ شقّ يعقوب ثوبه لسماع خبر موت يوسف: "فَشَقَّ يَعْقُوبُ ثِيَابَهُ وَطَرَحَ مُسوحًا عَلَى حَقَوَيْهِ دِثارًا وَحَدَّ عَلَى ابْنِهِ أَيَّامًا كُثارًا." (سفر التكوين: فصل 37، 34، الترجمة من الأصل العبري هي لي)، وبحسب التّقليد يُشقّ الثّوب قدر أنملة في قَبّته لدى مقدم العنق. وهذا هو بلا شكّ سبب الشقّ في حلّة حيي بن أخطب، وليس ما ورد من تفسير له في الرّواية الإسلاميّة بهدف إضافة نُعوت لتقذيع اليهود والحطّ من قيمتهم.

وها هي عائشة أيضًا تؤكّد على أوامر محمّد بقتل رجال بني قريظة، كما تروي أيضًا قصّة مقتل امرأة يهوديّة واحدة منهم في تلك المجزرة: "قالوا: وكانت امرأةٌ من بني النضير يقال لها نباتة، وكانت تحت رجلٍ من بني قريظة فكان يحبّها وتحبّه، فلما اشتدّ عليهم الحصار بكت إليه وقالت: إنّك لمفارقي. فقال: هو والتوارة ما ترين، وأنت امرأةٌ فدلّي عليهم هذه الرّحى، فإنّا لم نقتل منهم أحداً بعد، وأنت امرأةٌ، وإن يظهر محمدٌ علينا لا يقتل النساء. وإنما كان يكرهُ أن تُسبَى، فأحبّ أن تُقتل بجرمها. وكانت في حصن الزبير بن باطا، فدلّت رحًى فوق الحصن، وكان المسلمون ربما جلسوا تحت الحصن يستظلون في فيئه، فأطلعت الرّحى، فلما رآها القوم انفضّوا، وتدرك خلاد بن سويد فتشدخ رأسه، فحذر المسلمون أصل الحصن. فلما كان اليوم الذي أمرَ رسولُ الله صلعم أن يُقْتلوا، دخلَتْ على عائشة فجعلت تضحك ظهراً لبطنٍ وهي تقول: سراةُ بني قريظة يقتلون، إذ سمعتْ صوت قائل يقول: يا نباتة! قالت: أنا والله التي أُدْعَى. قالت عائشة: ولم؟ قالت: قتلني زوجي - وكانت جاريةً حلوة الكلام. فقالت عائشة: وكيف قتلك زوجك؟ قالت: كنت في حصن الزبير بن باطا، فأمرني فدلّيت رحًى على أصحاب محمد فشَدَختُ رأس رجلٍ منهم فمات، وأنا أُقتل به. فأمر رسول الله صلعم بها فقُتلت بخلاد بن سويد. قالت عائشة: لا أنسى طيبَ نفس نباتة وكثرةَ ضحكها، وقد عرفت أنها تقتل." (مغازي الواقدي: ج 1، 205؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 2، 241؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 102؛ مسند أحمد: ج 57، 228؛ صحيح أبي داود: ج 2، 507؛ سنن أبي داود: ج 8، 151؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 1، 6176؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 55؛ تفسير الألوسي: ج 16، 85؛ المسند الجامع لأبي المعاطي النّوري: ج 51، 234). ورغم ما تذكر عائشة من طيب نفس تلك المرأة اليهودية وبشاشتها، إلاّ أنّها لم تحاول إنقاذها من القتل.

أمّا قصّة العجوز اليهودي،
الزبير بن باطا، وما جرى من حديث بينه وبين ثابت بن قيس آنئذ، فإنّها تحمل في طيّاتها عمق تلك المأساة الّتي حلّت بيهود بني قريظة:
"كان الزبير بن باطا مَنَّ على ثابت بن قيس يوم بعاث، فأتى ثابتٌ الزبيرَ فقال: يا أبا عبد الرحمن هل تعرفني؟
قال: وهل يجهل مثلي مثلك؟
قال ثابت: إنّ لك عندي يدًا، وقد أردتُ أن أجزيك بها.
قال الزبير: إنّ الكريم يجزي الكريم، وأحوج ما كنت إليه اليوم.
فأتى ثابت رسولَ الله صلعم فقال: يا رسولَ الله، إنّه كان للزبير عندي يدٌ، جزّ ناصيتي يوم بعاث فقال: اذْكُرْ هذه النعمةَ عندَك. وقد أحببتُ أن أجزيه بها، فهبه لي.
فقال رسول الله صلعم: فهو لك.
فأتاه فقال: إن رسول الله قد وهبك لي.
قال الزبير: شيخ كبير لا أهل ولا ولد ولا مال بيثرب، ما يصنع بالحياة؟
فأتى ثابت رسولَ الله صلعم فقال: يا رسول الله، أعطني ولده.
فأعطاه ولده فقال: يا رسول الله أعطني مالَه وأهلَه. فأعطاه رسول الله صلعم ماله وولده وأهله.
فرجع إلى الزبير فقال: إن رسول الله قد أعطاني ولدَكَ وأهلَكَ ومالَكَ.
فقال الزبير: يا ثابت، أمّا أنت فقد كافأتني وقضيتَ بالذي عليك. يا ثابت، ما فعلَ الذي كأنّ وجهه مرآة صينية تتراءى عذارى الحي في وجهه - كعب بن أسد؟
قال: قتل.
قال: فما فعلَ سيّد الحاضر والبادي، سيّد الحيين كليهما، يحملهم في الحرب ويطعمهم في المحل - حيي بن أخطب؟
قال: قتل.
قال: فما فعلَ أوّلُ غادية اليهود إذا حملوا، وحاميتهم إذا ولوا - غزال بن سموأل؟
قال: قتل.
قال: فما فعل الحول القلب الذي لا يؤمّ جماعة إلا فضّها ولا عقدة إلا حلّها - نباش بن قيس؟
قال: قتل.
قال: فما فعل لواء اليهود في الزحف - وهب بن زيد؟
قال: قتل.
قال: فما فعلَ والي رفادة اليهود وأبو الأيتام والأرامل من اليهود - عقبة بن زيد؟
قال: قتل.
قال: فما فعل العمران اللذان كانا يلتقيان بدراسة التوراة؟
قال: قتلا.
قال: يا ثابت، فما خير في العيش بعد هؤلاء؟ أأرجع إلى دار كانوا فيها حلولا فأخلد فيها بعدهم؟ لا حاجة لي في ذلك، فإني أسألك بيدي عندك إلا قدمتني إلى هذا القَتّال الذي يَقتل سراةَ بني قريظة ثم يقدّمني إلى مصارع قومي، وخذْ سيفي، فإنه صارمٌ. فاضربني به ضربةَ وأجهزْ، وارفعْ يدَكَ عن الطّعام وألصقْ بالرّأس واخْفضْ عن الدّماغ، فإنّه أحسنُ للجسد أن يبقى فيه العنق. يا ثابت، لا أصبر إفراغَ دلو من نَضَحٍ حتّى ألقى الأحبّة.
قال أبو بكر، وهو يسمع قوله: ويحك يا ابن باطا، إنّه ليسَ إفراغَ دلو ولكنّه عذابٌ أبدي.
قال: يا ثابت، قدمني فاقتلني.
قال ثابت: ما كنتُ لأقتلنك.
قال الزبير: ما كنت أُبالي من قتلني. ولكنْ يا ثابت، انظُرْ إلى امرأتي وولدي فإنّهم جزعوا من الموت، فاطلبْ إلى صاحبك أن يطلقَهُم وأنْ يردّ إليهم أموالَهم.
وأدناهُ إلى الزبير بن العوام، فقدّمهُ فضربَ عنقَهُ. وطلب ثابت إلى رسول الله صلعم في أهله وماله وولده، فردّ رسولُ الله صلعم كل ما كان من ذلك على ولده، وتركَ امرأتَه من السبا، ورد عليهم الأموال من النخل والإبل والرثّة إلا الحلقة فإنّه لم يردها عليهم. فكانوا مع آل ثابت بن قيس بن شماس." (مغازي الواقدي: ج 1، 519؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 251؛ سيرة ابن هشام: ج 2، 242؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 11، 117-118؛ تفسير البغوي: ج 6، 343؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 55-57؛ بحر العلوم للسمرقندي: ج 3، 404؛ تفسير الألوسي: ج 16، 84؛ الأموال لابن زنجويه: ج 1، 382؛ الإيناس بعلم الأنساب للوزير المغربي: ج 1، 20). فكان هذا، على ما يبدو، هو "ردّ الجميل" الذي قدّمه ثابت بن قيس لهذا العجوز اليهودي من بني قريظة، والّذي كان عفا عنه وأطلقَ سراحَه من قبل حين كان ثابت هذا قد وقعَ في أسره يوم بعاث. (أمّا عن تعذيب الأسرى قبل إعدامهم فهذا ما نقرأه من رواية عن نباش بن قيس الّذي سأل عنه الزبير بن باطا من قبل، وعن أنّ الرّسول وبّخَ معذّبه على ما فعل قائلاً له إنّ في ضرب عنقه بالسّيف ما يكفي: "ثمّ أُتي بنباش بن قيس وقد جابذ الذي جاء به حتّى قاتَلَه، فَدَقَّ - أو: فَقَدَّ - الذي جاء به أنْفَه فأرْعَفَه. فقال رسول الله صلعم للّذي جاء به: لم صنعت به هذا؟ أما كانَ في السيف كفاية؟ فقال: يا رسول الله جابذني لأنْ يهرب، فقال: كذب، والتوراة يا أبا قاسم. ولو خلاني، ما تأخّرتُ عن مَوْطن قُتلَ فيه قَوْمي حتّى أكونَ كأحدهم." - مغازي الواقدي: ج 1، 505؛ أنظر أيضًا: سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 5، 12-13).

وبخلاف صنيع ثابت هذا
الّذي لم يشفع للزّبير بن باطا الّذي مَنَّ عليه يوم بعاث، فقد كان هناك من نجا من بالقتل، كما يروى عن رفاعة بن سموأل القرظي الّذي استوهبته سليمى بنت قيس من محمّد: "قالوا: وكان رسول الله صلعم قد أمر بقتل من أُسر منهم، فسألته سليمى بنت قيس... وكانت إحدى خالات رسول الله صلعم... رفاعةَ بن سموأل القرظي وكان رجلاً قد بلغ، فلاذ بها وكان يعرفها قبل ذلك. فقالت: يا نبي الله بأبي أنت وأمي، هَبْ لي رفاعةَ بن سموأل، فإنّه زعم أنّه سيصلّي ويأكل لحم الجمل، فوهبه لها، فاسْتَحْيَتْهُ." (الكشف والبيان للثعلبي: ج 11، 119؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 2، 243؛ الرحيق المختوم للمباركفوري: ج 1، 280). كما كان هناك من نجا بحياته وماله من تلك المجزرة، فقط بعد أن أعلن إسلامه: "وذكر الطبري أنّ ابن إسحاق قال في ثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد بن عبيد: هم من بني هدل ليسوا من بني قريظة ولا النضير، فنسبُهم فوق ذلك، هم بَنو عَمّ القوم، أسلموا تلك الليلة التي نزلت فيها قريظة على حكم سعد بن معاذ." (أسد الغابة لابن الأثير: ج 1، 43، 152؛ أنظر أيضًا: تفسر الطبري: ج 20، 246؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 11، 114؛ لاستيعاب لابن عبد البر: ج 1، 63؛ أسد الغابة لابن الأثير: ج 1، 43).

وحسبما يُروى، لقد كان ذلك اليوم الّذي نُفّذت فيه المجزرة يومًا قائظًا شديد الحرارة فشكا الأسرى المكتوفون من العطش. ولذلك أشار الرّسول على مُنفّذي الإعدام بأن يُتركُوا ليقيلوا في الظلّ ويُسْقوا حتّى يبردوا قليلاً، ثمّ مواصلة الإعدام بعد أن يبرد الطّقس قليلاً: "ثمّ قال رسول الله صلعم: أحْسِنوا إسارَهم وقَيِّلُوهم وأسْقُوهم حتّى يَبْردوا فتَقْتُلوا مَنْ بَقِي، لا تَجْمَعوا عليهم حرَّ الشّمس وحرَّ السّلاح - وكان يومًا صائفًا. فقَيّلُوهم وأسْقُوهم وأطْعَمُوهم. فلمّا أبردوا، راحَ رسولُ الله صلعم يَقْتلُ مَنْ بَقِي." (مغازي الواقدي: ج 1، 505؛ أنظر أيضًا: عمدة القاري للعيني: ج 23؛ 113؛ السير الكبير للشيباني: ج 3، 1029؛ بحر العلوم للسمرقندي: ج 3، 404؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 5، 13؛ بدائع الصنائع للكاساني: ج 6، 92؛ فيض القدير للمناوي: ج 4، 406؛ الموسوعة الفقهية الكويتية: ج 13، 256). لقد استمرّ القتل طوال ذلك النّهار، ولأنّهم لم يفرغوا من قتل جميع الأسرى في النّهار فقد استمرّت العمليّة في اللّيل أيضًا، حتّى إنّهم احتاجوا إلى إشعال سُعف النّخيل لكي يُضيئوا ساحة الإعدام ليلاً، كما روت عائشة: "فكانت عائشة تقول: قُتلت بنو قريظة يومَهم حتّى قُتلوا بالليل على شُعل السّعف. حدثني إبراهيم بن ثمامة، عن المسور بن رفاعة عن محمد بن كعب القرظي، قال: قُتلوا إلى أن غابَ الشّفق، ثم رُدّ عليهم التّراب في الخندق. وكان من شُكَّ فيه منهم أنْ يكونَ بَلَغَ، نُظرَ إلى مُؤتَزَره؛ إنْ كانَ أنْبتَ قُتل، وإنْ كانَ لم يُنبتْ طُرحَ في السّبْي." (مغازي الواقدي: ج 1، 205؛ أنظر أيضًا: سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 5، 113).

أمّا بشأن السّبايا من النّساء والأطفال،
فقد باع محمّد مجموعة منهم لاستعبادهم في نجد مقابل خيل وسلاح، حسبما يُروى: "ثم بعث رسول الله صلعم سعد بن زيد الأنصاري، أخا بني عبد الأشهل، بسبايا من سبايا بني قريظة إلى نجد، فابتاعَ لهُ بهم خيلاً وسلاحًا." (تاريخ الطبري: ج 2، 6؛ انظر كذلك: الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1، 307؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 249). كما كان قسم السّبايا على أتباعه: "ثم قسمَ رسولُ الله صلعم سبايا بني قريظة... واصْطَفَى لنفسه ريحانة بنت عمرو، فكانت في مُلْكه حتّى ماتت..." (المختصر في أخبار البشر لأبي الفدا: ج 1، 90؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 203-204؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1، 306-307). وكان محمّد قد عرض على ريحانة هذه أن تُسلم وأن يتزوّجها ويعتقها، غير أنّها رفضت قبول الإسلام وأصرّت على بقائها على يهوديّتها: "وقد كان رسول الله صلعم عرضَ عليها أن يتزوّجها، ويضرب عليها الحجاب، فقالت: يا رسول الله، بل تَتْرُكني في مُلْكك، فهو أخَفّ علَيّ وعليك، فتركَها. وقد كانت حين سباها رسولُ الله صلعم قد تَعَصّتْ بالإسلام، وأبَتْ إلا اليهودية." (تاريخ الطبري: ج 2، 6؛ انظر كذلك: تفسير البغوي: ج 6، 343-344؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1، 307؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 249). وتذكر الروايات إنّ محمّدًا قد عزلها لهذا السّبب واكتئب بسببها: "فعَزَلَها رسولُ الله صلعم ووَجَدَ في نفسه لذلك من أَمْرِها." (تاريخ الطبري: ج 2، 6؛ انظر كذلك: تفسير البغوي: ج 6، 344؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 11، 119؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1، 307؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 249). ثم تذكر الروايات أنّها أسلمتْ لاحقًا، فَسَرَّه ذلك.

وفيما يتعلّق بعدد الذين قُتلوا في تلك المجزرة وأُلقوا في تلك القبور الجماعيّة فقد اختلفوا فيه. فهنالك من يقول إنّه تراوح ما بين الستمائة إلى التسعمائة: "ثم بعث إليهم فضربَ أعناقَهم في تلك الخنادق...وهم ستمائة أو سبعمائة، والمُكثر يقول كانوا ما بين الثمانمائة والتسعمائة." (عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 54-55؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 101؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 203-204؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1، 306-307؛ المختصر في أخبار البشر لأبي الفدا: ج 1، 90)، غير أنّ هنالك من يذكر عددًا أكبر من ذلك بكثير: "وقيل كانوا ستمائة مقاتل وسبعمائة أسير." (تفسير النّسفي: ج 3، 303؛ الكشاف للزمخشري: ج 1، 994؛ تفسير النيسابوري: ج 6، 251؛ البحر المحيط لأبي حيّان: ج 9، 144).

وهكذا طُويت صفحة بني قريظة بهذه المجزرة.



في المقالة القادمة، سنتطرق إلى ما جرى مع يهود خيبر.



والعقل وليّ التّوفيق.



***

المقالة في "شفاف الشرق الأوسط"

***
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقالات هذه السلسلة:المقالة الأولى: "هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟"
المقالة الثانية: "لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟"
المقالة الثالثة: "لماذا استقبال قبلة اليهود بالذّات؟"
المقالة الرابعة: "من هو النّبي الأمّي؟"
المقالة الخامسة: "لماذا حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟"المقالة السادسة: "المصير الذي آل إليه يهود جزيرة العرب"المقالة السابعة: "إكسودوس بني النضير"المقالة الثامنة: "محرقة بني قريظة 1"المقالة التاسعة "محرقة بني قريظة 2"المقالة العاشرة: "ماذا جرى مع يهود خيبر؟"المقالة الحادية عشرة: "إجلاء اليهود من جزيرة العرب"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ




محرقة بني قريظة 1


سلمان مصالحة

محرقة بني قريظة (1)

بعد إجلاء بني النّضير،
واصل محمّد حملاته ضدّ اليهود، فقد قام في السنة الخامسة بعد الهجرة، وعقب يوم الخندق والأحزاب، بمحاصرة بني قريظة طوال خمس وعشرين ليلة. وحتّى بعد هذا الحصار الطويل الّذي فرضه محمّد عليهم، ومحاولة البعض منهم البحث عن مخرج من هذا الحصار، فقد أصرّ هؤلاء على رفض قبول الإسلام ورفضوا التّنازُل عن عقيدتهم اليهوديّة. لقد كانوا متمسّكين بتعاليم دينهم لدرجة قصوى، حتّى إنّهم رفضوا خرق حرمة السّبت لمهاجمة محمّد ليلاً على حين غرّة بينما كان يحاصرهم. فقد ذكرت الرّوايات أنّ حيي بن أخطب، وهو من بني النّضير الّذين كانوا أُجلوا من قبل، قد دخل على بني قريظة وتحدّث إليهم وإلى زعيمهم كعب بن أسد، وقال لهم بأنّ محمّدًا لن يفكّ عنهم الحصار حتّى يقبلوا بنبوّته.

وبعد أن أنصت بنو قريظة إلى هذا الكلام، قام كعب بن أسد، وهو سيّدهم، وعرض عليهم: إمّا قبول الإسلام، وإمّا تبييت محمّد ومهاجمته على حين غرّة ليلة السّبت، وإمّا قتل النّساء والأولاد ثمّ الخروج للحرب حتّى الاستماتة. فكما تذكر الرّوايات لقد قام كعب بن أسد فيهم خطيبًا وقال: "يا معشر يهود، إنّه قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإنّي عارضٌ عليكم خلالاً ثلاثًا، فخُذوا أيّها. قالوا: وما هُنّ؟ قال: نُبايعُ هذا الرجلَ ونُصدّقُهُ... فتَأمَنوا على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم، قالوا: لا نُفارقُ حُكْمَ التوراة أبدًا، ولا نَسْتبدلُ به غيرَه. قال: فإذا أبَيْتُم هذه عليّ، فَهَلُمّ فلنَقْتُلْ أبناءَنا ونساءَنا، ثمّ نخرجُ إلى محمّد وأصحابه رجالاً مصلتين بالسّيوف، ولم نترك وراءَنا ثقْلاً يهمّنا، حتّى يحكمَ اللهُ بيننا وبين محمّد. فإنْ نَهْلكْ، نَهْلكْ ولم نتركْ وراءَنا شيئًا نخشى عليه، وإنْ نَظْهَرْ فلَعَمْري لَنَتّخذَنّ النّساء والأبناء. قالوا: نقتلُ هؤلاء المساكين، فما خيرُ العيش بعدَهم؟ قال: فإذا أبَيْتُم هذه علَيّ، فإنّ الليلةَ ليلة السبت، وإنّه عَسَى أنْ يكونَ محمّد وأصحابُه قد أَمِنُوا، فانزلوا لَعَلّنا أنْ نُصيبَ من محمّد وأصحابِه غرّةً، قالوا: نُفْسِدُ سَبْتَنا ونُحْدِثُ فيه ما لم يَكُنْ أَحْدثَ فيه مَنْ كانَ قَبْلَنا؟" (تفسير الطبري: ج 20، 245-246. أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 2-3؛ سيرة ابن هشام: ج 2، 235؛ السيرة النبوية لابن كثير: ج 3، 230؛ الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1، 164؛ مغازي الواقدي: ج 1، 503؛ الروض الأنف للسهيلي: ج 3، 439-440؛ تفسير البغوي: ج1، ص 338؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 66؛ الخصائص الكبرى للسيوطي: ج 1، 393؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 114-117؛ تاريخ ابن خلدون: ج 2، 31؛ حياة الصحابة للكاندهلوي: ج 3، 213).
وبعد التّشاوُر في الأمر
الّذي وجدوا أنفسهم فيه، قرّروا أخيرًا، بحسب الرّوايات، الطّلب من محمّد أن يرسل إليهم أبا لبابة بن عبد المنذر، لاستشارته في الموضوع، كما رُوي: "ثمّ إنّهم بعثوا إلى رسول الله صلعم، أن ابعَثْ إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر، أخا بني عمرو بن عوف - وكانوا من حُلفاء الأوس - نستشيره في أمرنا." (تفسير الطبري: ج 20، 245-246؛ تاريخ الطبري: ج 2، 2-3؛ تفسير البغوي: ج1، ص 338؛ السيرة لابن كثير: ج 3، 231؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 66؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 11، 113). وأبو لبابة هذا، وهو من حُلفاء الأوس، قد عُرف عنه أنّه لا يرتدع من محمّد كما تذكر رواية الواقدي: "عن ابن المسيب، قال: كان أوّل شيء عتب فيه رسول الله صلعم على أبي لبابة بن عبد المنذر، أنّه خاصم يتيمًا له في عذق. فقضى رسول الله صلعم بالعذق لأبي لبابة فصيّحَ اليتيمُ واشتكى إلى رسول الله صلعم فقال رسول الله صلعم لأبي لبابة: هبْ لي العذق يا أبا لبابة - لكي يردّه رسول الله صلعم إلى اليتيم - فأبى أبو لبابة أن يهبَه لرسول الله صلعم، فقال: يا أبا لبابة، أعطه اليتيم ولك مثله في الجنّة، فأبى أبو لبابة أن يعطيه." (مغازي الواقدي: ج 1، 505؛ أنظر أيضًا: أنساب الأشراف للبلاذري: ج 1، 146؛ ثمّ يروى أنّ شخصًا آخر، ثابت بن الدحداحة، رغب أن يفوز بمثله في الجنّة فابتاع العذق من أبي لبابة، ثم أعاده لليتيم).

وبعد أن سمع محمّد طلب بني قريظة قال لأبي لبابة: "اذهبْ فقُلْ لحلفائك ومواليك يَنْزِلُوا على حكم الله تعالى ورسوله." (بحر العلوم للسمرقندي: ج 3، 402؛ أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 506). فانطلق أبو لبابة على الفور إلى بني قريظة ودخلَ عليهم في حصنهم: "فلمّا رأوه قام إليه الرّجال، وجهشَ إليه النّساءُ والصّبيان يبكون في وجهه، فَرَقَّ لهم." (تفسير الطبري: ج 20، 245-246؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 2، 236؛ السيرة لابن كثير: ج 3، 231؛ تفسير البغوي: ج1، 338؛ تاريخ الطبري: ج 2، 2-3؛ مغازي الواقدي: ج 1، 201؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 66؛ التمهيد لابن عبد البر: ج 20، 84؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 51؛ أسد الغابة لابن الأثير: ج 1، 369)، ثمّ أخبرهم أبو لبابة بأنّ أصحاب محمّد سيقومون بذبحهم، قائلاً لهم: "انزلوا على حكم الله ورسوله. فقالوا: يا أبا لبابة نَصَرْناك يوم بعاث، ويوم الحدائق والمواطن كلّها التي كانت بين الأوس والخزرج ونحنُ مواليك وحلفاؤك، فانْصَحْ لنا ماذا ترى؟ فأشارَ إليهم ووَضَعَ يَدَهُ على حَلْقِهِ، يعني: الذّبْح." (بحر العلوم للسمرقندي: ج 3، 402؛ أنظر أيضًا: طبقات ابن سعد: ج 3، 422؛ مغازي الواقدي: ج 1، 506؛ السيرة لابن حبان: ج 1، 255؛ تفسير الطبري: ج 20، 245-246؛ تفسير البغوي: ج1، ص 338؛ تاريخ الطبري: ج 2، 2-3؛ فتح الباري لابن حجر العسقلاني: ج 11، 455؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 114-117).
وكالعادة يواكب القرآن الأحداث الجارية
فقد ذكر المفسّرون أنّ الآية "لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم" (المائدة، 41) قد نزلت في أبي لبابة لهذا السّبب، كما ذكر مقاتل: "نزلت فى أبي لبابة، اسمه مروان بن عبد المنذر الأنصارى، من بني عمرو بن عوف، وذلك أنّه أشار إلى أهل قريظة إلى حَلْقِه أنّ محمّدًا جاء يحكم فيكم بالموت، فلا تنزلوا على حُكْم سعد بن معاذ، وكان حليفًا لهم." (تفسير مقاتل: ج 1، 398؛ أنظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 10، 301؛ المحرر الوجيز للمحاربي: ج 2، 288). بينما يقول آخرون إنّ الآية التي نزلت في أبي لبابة هي "لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء" (المائدة، 51): "وقال عكرمة: نزل فى أبي لبابة بن عبد المنذر لما بعثه النبي صلعم إلى بني قريظة حين حاصرهم، فاستشاروه... فجعل إصبعه فى حلقه، أشار إلى أنه الذبح، وأنّه يقتلكم فأنزل الله." (تفسير الخازن: ج 2، 296؛ أنظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 10، 398؛ أنظر أيضًا: تفسير البغوي: ج 3، 67-68؛ المحرر الوجيز للمحاربي: ج 2، 303؛ تفسير اللباب لابن عادل: ج 6، 112؛ تفسير ابن عبد السلام: ج 1، 484). وهنالك من يقول إنّ الآية التي نزلت فيه لهذا السّبب هي: "ياأيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم" (الأنفال، 27)، يعنى أبا لبابة، وفيه نزلت هذه الآية... واسمه مروان بن عبد المنذر الأنصارى، من بنى عمرو بن عوف، وذلك أن النبى صلعم حاصر يهود قريظة إحدى وعشرين ليلة، فسألوا الصلح على مثل صلح أهل النصير، على أن يسيروا إلى إخوانهم إلى أذرعات وأريحا فى أرض الشام، وأبى النبى صلعم أن ينزلوا إلا على الحكم، فأبوا. وقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة، وكان مُناصحهم، وهو حليف لهم، فبعثه النبى صلعم إليهم، فلما أتاهم، قالوا: يا أبا لبابة، أننزل على حكم محمد؟ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه إنه الذبح، فلا تنزلوا على الحكم، فأطاعوه، وكان أبو لبابة وولده معهم." (تفسير مقاتل: ج 2، 32؛ أنظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 13، 481؛ تفسير ابن كثير: ج 4، 40؛ الكشاف للزمخشري: ج 2، 355؛ تفسير الرازي: ج 7، 392؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 6، 36؛ تفسير البغوي: ج 3، 347؛ بحر العلوم للسمرقندي: ج 2، 191؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 4، 48).

وهكذا رفض بنو قريظة العرض وأصرّوا على موقفهم: "فقالوا: لا نَفْعَلُ، يعني: لا نَنْزلُ." (بحر العلوم للسمرقندي: ج 3، 402). ولمّا لم يتمّ التوصّل إلى حلّ فقد استمرّ الحصار، بل واشتدّ عليهم وأجهدَهم وبلغ منهم كلّ مبلغٍ لم يستطيعوا تحمّله بعدُ، فاضطرّوا في نهاية المطاف إلى الاستسلام: "فلما طال عليهم الحال، نزلوا على حكم سعد بن معاذ - سيّد الأوس - لأنهم كانوا حلفاءهم في الجاهلية، واعتقدوا أنّه يُحسن إليهم في ذلك، كما فعل عبد الله بن أبي بن سلول في مواليه بني قينقاع، حين استطلقهم من رسول الله." (تفسير ابن كثير: ج 6، 397).
أمّا سعد بن معاذ هذا،
فقد كان من رجال محمّد. وقد كان محمّد، حين أجلى بني قينقاع من قبل وفرّق الغنائم الّتي استولى عليها منهم، قد "أعطى سعد بن معاذ درعًا من دروعهم المذكورة، وأعطى محمد بن مسلمة درعًا أخرى." (أنساب الأشراف للبلاذري: ج 1، 134. أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 66). وعلى ما يبدو، فقد كان محمّد على علاقة وثيقة بسعد بن معاذ، إذ يروى عن عبد الله بن الزبير أنّه قال: "أفطر رسول الله صلعم عند سعد بن معاذ، فقال: أفطرَ عندكم الصّائمون وأكلَ طعامَكم الأبرارُ وصلّتْ عليكم الملائكةُ." (سنن ابن ماجة: ج 1، 556. أنظر أيضًا: صحيح ابن حبان: ج 12، 96؛ معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني: ج 11، 466؛ موضح أوهام الجمع والتفريق للخطيب البغدادي: ج 2، 129؛ العلل للدارقطني: ج 4، 310؛ المسند الجامع لأبي المعاطي النّوري: ج 18، 285). كما يروى عن سعد هذا، الذي كان قد أُصيب من قبل في الخندق بسهم كاد يموت منه، أنّ محمّدًا نفسه قام بمعالجته وتطبيب جرحه. لقد كانت صلة محمّد بسعد بن معاذ وثيقة جدًّا لدرجة أنّه روي عنه أنّه قال بعد موته لاحقًا: "اهتزّ عرش الله عز وجل لموت سعد بن معاذ." (سنن ابن ماجة: ج 1، 193؛ أنظر أيضًا: صحيح البخاري: ج 13، 108؛ سنن الترمذي: ج 13، 490؛ الكنى والأسماء للدولابي: ج 5، 440؛ نسب معد واليمن الكبير لابن الكلبي: ج 1، 87؛ جمهرة أنساب العرب لابن حزم: ج 1، 140-141؛ معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني: ج 8، 444).

غير أنّ بني قريظة لم يكونوا على علم بعمق هذه العلاقة الوثيقة بينهما، ولم يكونوا على علم بما كان سعد بن معاذ يكنّه لهم من ضغائن على أثر إصابته تلك بسهم في تلك الغزوة. فقد روت عائشة عن سعد بن معاذ أنّه وبعد أن أصيب بسهم في الخندق، وهي غزوة الأحزاب التي حالف فيه يهود بنو قريظة والنّضير وآخرون قريشًا (التنبيه والإشراف للمسعودي: ج 1، 92؛ أنظر أيضًا: تاريخ ابن خلدون: ج 2، 293)، ولأنّه كان خائفًا أن يموت من جرحه هذا فقد دعا ربّه قائلاً: "اللهمّ لا تُمتني حتّى تشفيني من قريظة." (طبقات ابن سعد: ج 3، 422؛ أنظر أيضًا: صفة الصفوة لابن الجوزي: ج 1، 80؛ سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 1، 289؛ الأنساب للصحاري: ج 1، 182؛ وبراوية أخرى: "حتّى تقرّ عيني من بني قريظة."، تفسير ابن كثير: ج 6، 397؛ أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 203؛ صحيح ابن حبان: ج 15، 484؛ مسند أحمد بن حنبل: ج 6، 142؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 6، 198؛ دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني: ج 2، 17؛ معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني: ج 8، 444؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 6، 592؛ الأنساب للصحاري: ج 1، 182؛ فتح القدير للشوكاني: ج 4، 390).
ليس هذا فحسب،
بل إنّ محمّدًا قد ضرب له خيمة في مسجده، ليكون قريبًا منه، وكان يزوره ليطمئنّ عليه، كما تروي عائشة: "قالت: أصيب سعد يوم الخندق... فضرب عليه رسول الله صلعم خيمة في المسجد ليعوده من قريب." (الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 3، 425؛ أنظر أيضًا: صحيح البخاري: ج 14، 6؛ صحيح أبي داود: ج 2، 599؛ مسند الصحابة في الكتب التسعة: ج 8، 454؛ سنن أبي داود: ج 9، 257؛ سنن البيهقي: ج 2، 185؛ سنن النسائي: ج 1، 261؛ مصنف ابن أبي شيبة: ج 8، 499؛ مستخرج أبي عوانة: ج 7، 445؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 1، 6170؛ أسد الغابة لابن الأثير: ج 1، 442؛ الخصائص الكبرى للسيوطي: ج 1، 394؛ نيل الأوطار للشوكاني: ج 4، 47؛ المسند الجامع لأبي المعاطي النّوري: ج 51، 228). وعلى ما يبدو فقد سمع محمّد دعاء سعد بن معاذ في تلك اللّيلة الّتي سبقت استسلام بني قريظة: "وكان سعد بن معاذ، الليلة التي في صبيحتها نزلت بنو قريظة على حكم رسول الله صلعم، قد دعا فقال: اللهمّ ان كنت أبقيت من حرب قريش شيئًا فأبْقِني لها، فإنّه لا قومَ أحبّ إلي أن أقاتلهم من قوم كذّبوا رسولَك آذوه... ولا تُمتني حتّى تقرّ عيني من بني قريظة." (سبل الهدى والرشاد للصالحي الشّامي: ج 5، 11؛ أنظر أيضًا: تفسير القرطبي: ج 7، 395؛ الرّوض الأنف للسهيلي: ج 3، 442؛ عمدة القاري للعيني: ج 22، 120؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 4، 49). وها هو ابن كثير يؤكّد على ما نرمي إليه، إذ يُصرّح بأنّ بني قريظة: "لم يعلموا أنّ سعدًا، رض، كان قد أصابه سهم في أكحله أيام الخندق، فكَوَاهُ رسولُ الله صلعم في أكحله، وأنزله في قبة في المسجد ليعوده من قريب، وقال سعد فيما دعا به: اللهمّ ... لا تُمتني حتّى تقرّ عيني من بني قريظة." (تفسير ابن كثير: ج 6، 397؛ أنظر أيضًا: طبقات ابن سعد: ج 2، 77؛ في ظلال القرآن لسيد قطب: ج 6، 68).
ومعنى هذا الكلام
الّذي يرد في الرّوايات هو أنّ محمّدًا كان يعلم، على ما يبدو، بهذه الضّغينة التي يكنّها سعد بن معاذ لبني قريظة على أثر إصابته، وبأنّه يريد أن يشفي غليله منهم. لهذا السّبب، على ما يبدو أيضًا، وبعد أن سمع محمّد مطالب رجال الأوس بقولهم له: "تَهبُهُم لنا كما وهبتَ بنى قينقاع للخزرج." (تاريخ ابن خلدون: ج 2، 293، أنظر أيضًا: طبقات ابن سعد: ج 2، 75؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 114)، قال لهم محمّد: "ألا تَرْضُون أن يحكُمَ فيهم سعد بن معاذ؟ وهو سيد الأوس. فقالوا: بلى، ظنًّا منهم أنْ يحكمَ بإطلاقهم. فأمر بإحضار سعد ... ثم أقبلوا به إلى رسول الله صلعم وهم يقولون لسعد: يا أبا عمرو، أحسِنْ إلى مواليك، فقال رسول الله صلعم: قُوموا إلى سيّدكم ... فقاموا إليه وقالوا: يا أبا عمرو، إنّ رسولَ الله قد حَكّمَك في مواليك." (المختصر في أخبار البشر لأبي الفدا: ج 1، 90؛ أنظر أيضًا: تاريخ أبي الفدا: ج 1، 203-204؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1، 306-307؛ مسند سعد بن أبي وقاص: ج 1، 20؛ الأسماء والصفات للبيهقي: ج 2، 321؛ سنن البيهقي: ج 2، 126؛ مسند البزار: ج 3، 325؛ إثبات صفة العلو لابن قدامة: ج 1، 69).
وبعد سماع هذه الأصوات وقف سعد بن معاذ خطيبًا فيهم وأصدر حكمه.

في المقالة القادمة، سنتطرق حكم سعد بن معاذ ومحرقة بني قريظة.

والعقل وليّ التّوفيق.

***
المقالة في "شفاف الشرق الأوسط"
***

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقالات هذه السلسلة:
المقالة الأولى: "هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟"
المقالة الثانية: "لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟"
المقالة الثالثة: "لماذا استقبال قبلة اليهود بالذّات؟"
المقالة الرابعة: "من هو النّبي الأمّي؟"
المقالة الخامسة: "لماذا حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟"
المقالة السادسة: "المصير الذي آل إليه يهود جزيرة العرب"
المقالة السابعة: "إكسودوس بني النضير"
المقالة الثامنة: "محرقة بني قريظة 1"
المقالة التاسعة "محرقة بني قريظة 2"
المقالة العاشرة: "ماذا جرى مع يهود خيبر؟"
المقالة الحادية عشرة: "إجلاء اليهود من جزيرة العرب"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إكسودوس بني النضير

سلمان مصالحة

إكسودوس بني النضير


بعد مرور عدّة أشهر من وقعة أحد،
أرسل محمّد رجاله لدعوة أهل نجد إلى الإسلام، فكانت وقعة بئر معونة التي قُتل فيها غالبيةُ رجاله، بينما وقع أحدهم، وهو عمرو بن أميّة الضمري، في أسر عامر بن الطفيل. غير أنّ عامر بن الطفيل عفا عنه وأطلق سراحه. فانطلق عمرو بن أميّة هذا في طريقه حتّى وصل إلى موقع القرقرة في منطقة قناة، فجلس هناك يستظلّ تحت شجرة. وكان أن وصل إلى المكان رجلان من بني عامر وبعد أن سألهما من هما وتأكّد من هويّتهما، انتظر حتّى يناما فهجمَ عليهما وقتلهما غدرًا، كما تذكر الرواية: "حتّى إذا كان بالقرقرة من صدر قناة، أقبل رجلان من بنى عامر حتّى نزلا في ظلّ هو فيه، وكان مع العامريين عهد من رسول الله صلعم وجوار، لم يعلمه عمرو بن أمية، وقد سألهما حين نزلا: ممّن أنتما؟ قالا: من بني عامر. فأمهلهما حتّى إذا ناما، عَدَا عليهما وقتلهما... فلما قدم عمرو بن أمية على رسول الله صلعم أخبره بالخبر، فقال رسول الله صلعم: لقد قتلت قتيلين لأَدِيَنّهُما... قد كنتُ لهذا كارهًا متخوّفًا." (سيرة ابن هشام: ج 4، 139-140؛ السيرة النبوية لابن كثير: ج 3، 141-143؛ السيرة لابن حبان: ج 1، 234؛ مغازي الواقدي: ج 1، 364؛ تاريخ الطبري: ج 2، 81؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1، 301-302؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 17؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 4، 84؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 224).

بعد أن سمع عامر بن الطفيل بهذا الغدر من طرف عمرو بن أميّة الضمري، أرسل كتابًا إلى محمّد مطالبًا إيّاه بدفع دية هذين الرجلين من بني عامر: "وقيل إنّ عامر بن الطفيل كتب إلى رسول الله صلعم: إنّكَ قتلتَ رجلين، لهما منك جوار وعهد، فابعثْ بديتهما." (تاريخ الطبري: ج 2، 223؛ مغازي الواقدي: ج 1، 141؛ السيرة لابن حبان: ج 1، 234؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 8، 6058). وكما تفيد الرّوايات، فقد كان ثمّ حلف بين بني عامر، وهم قوم هؤلاء المغدورين، وبين بني النّضير: "وكان بين بني النضير وبين بنى عامر حلف وعقد." (مغازي الواقدي: ج 1، 141؛ تاريخ الطبري: ج 2، 224؛ سيرة ابن هشام: ج 2، 189؛ السيرة النبوية لابن كثير: ج 3، 146؛ عمدة القاري للعيني: ج 17، 125). ثمّ تذكر الرّوايات أنّ الرّسول توجّه، عقب هذه الحادثة، إلى بني النّضير طالبًا منهم أن يدفعوا دية هذين الرّجلين المغدورين من بني عامر: "ثم أتى بني النضير فكلّمهم أن يعينوه في دية الكلابيين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري." (الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 2، 57. أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 223؛ مغازي الواقدي: ج 1، 141؛ سيرة ابن هشام: ج 2، 189؛ دلائل النبوّة للبيهقي" ج 3، 48؛ تفسير الثعالبي: ج 1، 450؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 13، 183؛ الشفا للقاضي عياض: ج 1، 352؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 3، 36؛ نيل الأوطار للشوكاني: ج 11، 40).

والسؤال الّذي يطرح نفسه من تسلسل هذه الأخبار هو، لماذا يُضطرّ بنو النضير إلى دفع الدية على قتل العامريين، في الوقت الّذي يوجد فيه لبني النّضير حلف وعقد مع بني عامر، وذلك علمًا أنّ القاتل الغادر بهما هو من رجال محمّد أصلاً، ولا علاقة لبني النّضير به بأيّ حال من الأحوال؟

ربّما تكون هذه هي الخلفيّة
من وراء ما تذكره الرّوايات من محاولة بني النّضير التخلُّص من محمّد، كي "يرتاحوا منه"، بحسب لغة الروايات. وذلك إضافةً إلى ما كانوا يعلمون من فعله من قبل بإجلاء يهود بني قينقاع، كما أسلفت في المقالة السّابقة. وهكذا تذكر الروايات أنّه، وبعد أن توجّه محمّد إلى بني النّضير يطلب منهم أن يدفعوا دية الرجلين المغدورين من بني عامر، قالوا له: "نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت. ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنّكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، ورسول الله صلعم إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد. فَمَنْ رجلٌ يعلو على هذا البيت فيُلقي عليه صخرةً ويُريحُنا منه؟" (السيرة النبوية لابن كثير: ج 3، 146؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 224-223؛ الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 2، 57؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 3، 428؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 115؛ سمط النجوم للعصامي: ج 1، 301).

لقد حدث جدل بين يهود بني النّضير، كما تذكر الرّوايات، حول كيفيّة التّصرُّف إزاء كلّ هذه الضّغوط من طرف محمّد وجماعته، فبعضهم دفع إلى القيام بعمليّة التخلّص من محمّد بواسطة إلقاء الصخرة عليه من فوق أحد السّطوح، والبعض الآخر حذّر من مغبّة ذلك الفعل، حيث "نهاهم عن ذلك سلام بن مشكم وخوّفهم الحرب." (تاريخ الطبري: ج 2، 224. للمزيد من أخبار الجدل يمكن العودة إلى: مغازي الواقدي: ج 1، 364-372؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 4، 320-321). غير أنّهم لم يأخذوا برأيه.

وعندما تقرّر في نهاية المطاف المضيّ قدمًا بالعمليّة انتدب أحدهم، عمرو بن جحاش بن كعب، نفسه للقيام بذلك. وتضيف الرّواية أنّ محمّدًا عرف بالخطّة من السّماء، فعاد إلى المدينة: "فانتدبَ لذلك عمرو بن جحاش بن كعب، فقال: أنا لذلك. فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال، ورسول الله صلعم في نفر من أصحابه، فيهم أبو بكر وعمر وعلي، فأتى رسولَ الله الخبرُ من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعًا إلى المدينة." (السيرة النبوية لابن كثير: ج 3، 146؛ تاريخ الطبري: ج 2، 224-223؛ سيرة ابن هشام: ج 2، 189؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 3، 428؛ عمدة القاري: ج 17، 125؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 115).

بعد أن علم محمّد بالخطّة،
دعا إليه محمّد بن مسلمة، وهو من بني حارثة بن الأوس، وحمّله رسالة إلى بني النّضير يقول فيها: "اذهب إلى يهود فقل لهم: اخرجُوا من بلادي فلا تساكنوني وقد هممتم بما هممتم به من الغدر". أمّا ردّ بني النّضير فقد كان استهجانًا لهذه الرّسالة الّتي يحملها إليهم رجل من الأوس، علمًا بما كان للأوس من حلف وعهد مع بني النّضير: "قال، فجاءهم محمد بن مسلمة فقال لهم: إنّ رسول الله صلعم يأمركم أن تظعنوا من بلاده. فقالوا: يا محمّد! ما كنا نظنّ أن يجيئنا بهذا رجل من الأوس، فقال محمّد: تغيّرت القلوبُ ومحا الاسلامُ العُهودَ." (تاريخ الطبري: ج 2، 224؛ أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 365؛ السيرة النبوية لابن كثير: ج 3، 146؛ السيرة لابن حبان: ج 1، 234؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 4، 320؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 115؛ نهاية الأرب للنويري: ج 4، 434).

في هذه الأثناء وصلت أيضًا رسائل من قبل عبد الله بن أبيّ بن سلول، الذي كان أنقذ بني قينقاع من الموت الّذي أراد محمّد إنزاله بهم من قبل، يحثّهم فيها على البقاء واعدًا ايّاهم بتقديم العون لهم: "فأرسل إليهم عبد الله بن أبيّ يقول: لا تخرجوا، فإنّ معي من العرب ومن انضوى إليّ من قومي ألفين، فاقيموا فهم يدخلون معكم، وقريظة تدخل معكم". غير أنّ هذه الرّسائل أثارت لدى القوم شكوكًا بجدواها نظرًا للأحلاف التي كانت قائمة: "فبلغ كعب بن أسد، صاحب عهد بنى قريظة، فقال: لا ينقض العهدَ رجلٌ من بنى قريظة وأنا حيّ. فقال سلام بن مشكم لحيى بن أخطب: يا حيى، اقبلْ هذا الذي قال محمّد، فانّما شُرّفنا على قومنا بأموالنا، قبلَ أن تقبلَ ما هو شرٌّ منه. قال: وما هو شرٌّ منه؟ قال: أخْذُ الأموال وسَبْيُ الذّرية وقَتْلُ المقاتلة. فأبى حيي، فأرسل جدي بن أخطب إلى رسول الله صلعم: إنّا لا نريم دارَنا، فاصْنَعْ ما بدَا لكَ." (تاريخ الطبري: ج 2، 224-225؛ انظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 365؛ السيرة النبوية لابن كثير: ج 3، 146؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 115).

وهكذا، وبعد أن رفض هؤلاء الرّضوخ لإملاءاته، أمر محمّد أتباعه بالاستعداد لمحاربة بني النّضير وحصارهم من أجل إخضاعهم: "فعند ذلك أمر الناس بالخروج إليهم." (السيرة النبوية لابن كثير: ج 3، 146). فتحصّن هؤلاء في مواقعهم، فما كان من محمّد إلاّ أن أمر بتقطيع النّخيل وإشعال الحرائق في مزارعهم: "فتحصّنوا منه في الحصون، فأمر رسول الله صلعم بقطع النخل والتّحريق فيها، فنادوه: يا محمّد، قد كنتَ تنْهَى عن الفساد وتعيبه على من صنعه، فما بالُ قطع النخيل وتحريقها؟" (تاريخ الطبري: ج 2، 224؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 4، 144؛ السيرة النبوية لابن كثير: ج 3، 147؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 24).

واشتدّ الحصار المطبق على بني النّضير: "... عن ابن عباس قال: حاصرهم رسول الله صلعم، يعنى بنى النضير، خمسة عشر يوما حتّى بلغَ منهم كلّ مبلغ." (تاريخ الطبري: ج 2، 225؛ أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 372؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 147)، كما أنّ الإمدادات التي كان وعدهم بها الحلفاء لم تصلهم: "قاموا على حُصونهم معهم النبل والحجارة، واعتزلتهم قريظة فلم تُعِنْهم، وخذلهم ابنُ أُبيّ وحلفاؤهم من غطفان، فأيسوا من نصرهم." (الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 2، 58؛ أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 367؛ تفسير السعدي: ج 1، 848؛ الرحيق المختوم للمباركفوري: ج 1، 269؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 25؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 115).

في نهاية المطاف، لم يستطيعوا الصمود وقرّروا الاستسلام بشروط تضمن حقن دمائهم وخروجهم من أرضهم مع ما تحمله الإبل فقط، دون السّلاح: "فَصالَحَهم على أن يحقن لهم دماءهم وأن يخرجهم من أرضهم وأوطانهم... على أنّ لهم ما حَمَلت الإبلُ من أموالهم، إلا الحَلَقَة، ففعل." (تاريخ الطبري: ج 2، 225-226). وهكذا خرجوا من بلادهم إلى خيبر والبعض منهم خرج إلى الشّام: "فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشأم، فكان أشرافُهم، ممن سار منهم إلى خيبر، سلام بن أبى الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب، فلما نزلوها دان لهم أهلها." (تاريخ الطبري: ج 2،226؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 4، 145).

مشاهد إكسودوس بني النّضير:
ها هي الروايات الإسلامية تصف لنا هذه المشاهد من إكسودوس بني النّضير، بينما النّاس مصطفّون على جانبي الطريق يشاهدون قوافل المهجّرين تمرّ أمامهم: "فجعلوا يحملون الخشب ونجف الأبواب... وحملوا النساء والصبيان فخرجوا على بلحارث بن الخزرج، ثم على الجبلية ثم على الجسر حتى مروا بالمصلّى، ثم شقّوا سوقَ المدينة، والنساءُ في الهوادج عليهنّ الحرير والديباج وقطف الخزّ الخُضْر والحُمْر. وقد صُفّ لهم الناسُ، فجعلوا يمرّون قطارًا في أثر قطار، فحملوا على ستمائة بعير..." (مغازي الواقدي: ج 1،372).

ومن بين النّساء اللّواتي شوهدن خارجات من المدينة في ركاب بني النّضير، تذكر الرّوايات صاحبة عمرو بن الورد: "قالوا: ومرّت في الظعن يومئذ سلمى، صاحبة عروة بن الورد العبسي." (مغازي الواقدي: ج 1،372؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 1، 490؛ سيرة ابن هشام: ج 4، 145؛ الروض الأنف للسهيلي: ج 1، 326). وعلى ما يبدو فإنّ صاحبة عروة هذه، والتي كان سباها في إحدى غزواته وكان يؤثرها ويحبّها كثيرًا وولدت له أولادًا، هي يهوديّة أصلاً، إذ يُروى: "أنّ قومها افتدوها منه، وكان يظنّ أنّها لا تختار عليه أحدًا ولا تفارقه، فاختارت قَوْمَها." (الروض الأنف للسهيلي: ج 1،327؛ مغازي الواقدي: ج 1،372). وتزوّجت بعد ذلك رجلاً آخر من بني النّضير: "ثمّ تزوّجها بعدَهُ رجلٌ من بني النضير." (الروض الأنف للسهيلي: ج 1،327. وسبب اختيارها لقومها، على ما تذكره الرّوايات، هو ما كان من تعيير الأولاد بكون امّهم من السّبايا: "فكانت ذات جمال فولدت له أولادًا ونزلت منه منزلاً. فقالت له، وجعل ولده يُعَيّرون بأمهم: يا بني الأخيذة، فقالت: ألا ترى ولدك يُعَيّرون؟ قال: فماذا ترين؟ قالت: تردّني إلى قومي حتى يكونوا هم الذين يزوجونك، قال: نعم. فأرسلت إلى قومها أن: القوه بالخمر، ثم اتركوه حتّى يشرب ويثمل. فإنّه إذا ثمل لم يُسأل شيئًا إلا أعطاه. فلقوه، ونزل في بني النضير فسقوه الخمرَ، فلما سكر سألوه سلمى فردّها عليهم، ثم أنكحوه بعد..." (مغازي الواقدي: ج 1،372)، أو أنّ بنات عمّه كنّ يعيّرنها، كما كان أولادهما يُعيّرون، ولذلك قالت له: "وما كنت لأوثر عنكَ أهلي لولا أنّي كنت أسمع بنات عمّك يقلن: فعلتْ أمَةُ عروة وقالت أمَةُ عروة، فأجدُ من ذلك الموت. والله لا يجامعُ وجهي وجهَ غطفانية أبدًا، فاستوصِ ببنيك خيرًا." (الروض الأنف للسهيلي: ج 1،327).

وها هو عبد الله بن أبي بكر يروي لنا ما رأت عيناه من مشاهد: "استقلّوا بالنّساء والأبناء والأموال، معهم الدّفوف والمزامير، والقيان يعزفن خلفهم... بزهاء وفخر ما رُئيَ مثلُه من حَيٍّ من الناس في زمانهم." (تاريخ الطبري: ج 2، 226؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 2، 191؛ الروض الأنف للسهيلي: ج 1، 326؛ السيرة النبوية لابن كثير: ج 3، 148). أو كما في هذا الوصف من رواية يوردها الواقدي: "ومرّوا يضربون بالدّفوف ويزمرون بالمزامير، وعلى النّساء المُعصفراتُ وحُليّ الذهب، مُظهرين ذلك تَجلُّدًا. قال، يقول جبار بن صخر: ما رأيتُ زَهاءَهم لقومٍ زالوا من دار إلى دار ... عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه عن جدّه قال: لقد مرّ يومئذ نساءٌ من نسائهم في تلك الهوادج قد سَفَرنَ عن الوجوه، لَعَلّي لم أرَ مثلَ جمالهنّ لنساءٍ قط. لقد رأيت الشّقراء بنت كنانة يومئذ كأنّها لؤلؤة غوّاص، والرّواع بنت عمير مثل الشمس البازغة، في أيديهنّ أسورةُ الذهب والدرّ في رقابهن." (مغازي الواقدي: ج 1، 372).

لا شكّ أنّ أوصاف هذا الخروج الذي يرافقه غناء ورقص وضرب بالدّفوف وزمر بالمزامير يذكّرنا بصورة خروج بني إسرائيل من مصر بينما كان جيش فرعون في أعقابهم، تلك الصّورة الّتي على ما يبدو كانت قائمة في أذهان يهود بني النّضير. فها هي الصورة كما وردت في سفر الخروج: "إذْ وَلَجَتْ خَيْلُ فِرْعَونَ بِمَرْكَبَاتِهِ وَفُرْسَانِهِ البَحْرَ، وَرَدَّ اللّهُ عَلَيْهِمْ مَاءَ الْبَحْرِ، وَمَشَى بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى اليَابِسَةِ فِي وَسَطِ البَحْرِ. فَأَخَذَتْ مِريَمُ النّبيّةُ أُخْتُ أَهَارُونَ الدّفَّ بِيَدِهَا وَخَرَجَتْ كُلُّ النّساءِ وَراءَهَا بِالدُّفُوفِ وَالرّقْص. وَرَجَّعَتْ لَهُمْ مِريَمُ: رَنّمُوا لِلقَيُّومِ عَزَّ وَجَلَّ، الخَيْلَ وَرَاكِبَهَا قَدْ رَمَى في البَحْرِ." (سفر الخروج: فصل 15، 19-20. التّرجمة من الأصل العبري هي لي).

وهكذا خرج بنو النّضير
وتركوا أرضهم وأملاكهم: "وخلّوا الأموال لرسول الله صلعم. فكانت لرسول الله صلعم خاصةً، يضعها حيث يشاء. فقسمها رسول الله صلعم على المهاجرين الأولين دون الأنصار، إلاّ أن سهل بن حنيف وأبا دجانة سماك ابن خرشة ذكَرَا فقرًا، فأعطاهما رسول الله صلعم." (تاريخ الطبري: ج 2، 226؛ سيرة ابن هشام: ج 2، 191). كما استولى محمّد على أسلحتهم وأرضهم: "وقبض السلاح واستولى على أرضهم وديارهم وأموالهم، فوجد من السلاح خمسين درعًا، وخمسين بيضة وثلاثمائة وأربعين سيفًا." (زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 115). فقط اثنان من اليهود، وابتغاء الحفاظ على أموالهما، فضّلا البقاء في المدينة والرّضوخ باعتناق الإسلام: "ولم يُسلم من بنى النضير إلا رجلان، يامين بن عمير بن كعب، بن عم عمرو بن جحاش، وأبو سعد ابن وهب، أسْلَمَا على أموالهما فأحرزاها " (تاريخ الطبري: ج 2، 226؛ سيرة ابن هشام: ج 2، 191).

مشاعر الحزن الإنسانية على فراق بني النّضير:
لقد أثارت مشاهد خروج بني النّضير من ديارهم مشاعر الحزن والأسى لدى بعض أولئك الّذين اصطفّوا يشاهدون خروجهم من ديارهم على هذه الحال. وقد عبّروا عن مشاعرهم هذه تجاه هؤلاء القوم المنكوبين من يهود بني النّضير، معدّدين خصالهم الحميدة التي كانت دائمًا من مفاخر العرب: "وقال حسان بن ثابت وهو يراهم، وسراةُ الرّجال على الرِّحال: أما والله، إن لقد كان عندكم لَنائلٌ للمُجْتدي، وقِرًى حاضرٌ للضّيف، وسقيا للمُدام، وحِلْمٌ على من سَفهَ عليكم، ونَجْدَةٌ إذا استُنْجِدْتُم. فقال الضحاك بن خليفة: واصباحاه، نفسي فداؤكم، ماذا تحمّلتم به من السّؤدد والبهاء والنجدة والسخاء؟ قال، يقول نعيم بن مسعود الأشجعي: فدًى لهذه الوُجوه التي كأنّها المصابيح، ظاعنين من يثرب. مَنْ للمُجتدي الملهوف؟ ومن للطارق السَّغْبان؟ ومَنْ يسقي العقار؟ ومَنْ يُطعمُ الشّحمَ فوقَ اللحم؟ ما لنا بيثرب بعدكم مقام. يقول أبو عبس بن جبر وهو يسمع كلامه: نعم، فالحقهم حتّى تدخل معهم النار. قال نعيم: ما هذا جزاؤهم منكم، لقد استنصرتموهم فنصروكم على الخزرج، ولقد استنصرتم سائر العرب فأبوا ذلك عليكم. قال أبو عبس: قَطَعَ الإسلامُ العُهود... ولقي المنافقون عليهم يوم خرجوا حزنًا شديدًا. لقد لقيت زيد بن رفاعة بن التابوت وهو مع عبد الله بن أبيّ، وهو يناجيه في بني غنم وهو يقول: تَوحّشْتُ بيثرب لفقد بني النضير، ولكنّهم يخرجون إلى عزّ وثروةٍ من حلفائهم، وإلى حصون منيعة شامخة في رؤوس الجبال ليست كما هاهنا." (مغازي الواقدي: ج 1، 372).

وكالعادة، فإنّ القرآن يتابع الأحداث، حتّى إنّ سورة كاملة، هي سورة الحشر، قد أنزلت فيما جرى لبني النّضير، وكما يُروى فإنّ ابن عبّاس كان يسمّيها سورة بني النّضير: "غزوة بنى النضير وهى التى أنزل الله تعالى فيها سورة الحشر، في صحيح البخاري عن ابن عباس أنه كان يسميها سورة بنى النضير... قال ابن إسحاق: فأنزل الله فيهم سورة الحشر بكمالها، يذكر فيها ما أصابهم به من نقمته وما سلّط عليهم به رسوله وما عمل به فيهم." (السيرة النبوية لابن كثير: ج 3، 146، 148؛ سيرة ابن هشام: ج 2، 193؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 115).

لقد تردّدت أصداء هذا الخراب
وهذا الذلّ اللّذين حلاّ ببني النّضير في أنحاء جزيرة العرب، ووصلت أخبارهم إلى بني قريظة: "لمّا خرجت بنو النضير أقبل عمرو بن سعدى فأطافَ بمنازلهم فرأى خرابَها. وفكّر، ثم رجع إلى قريظة فيجدهم في الكنيسة فينفخ في بوقهم، فاجتمعوا... قال: رأيتُ اليومَ عِبرًا قد عَبرْنا بها، رأيتُ منازلَ إخواننا خاليةً، بعد ذلك العزّ والجلد والشّرف الفاضل والعقل البارع. قد تركوا أموالَهم ومَلَكَها غيرُهم، وخَرجُوا خُروجَ ذُلّ." (تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 226؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 155).

وهكذا طُويت صفحة بني النّضير في المدينة.

والعقل وليّ التوفيق.

***

في المقالة القادمة سنتطرق إلى محرقة بني قريظة.

المقالة في "شفاف الشرق الأوسط"
***
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقالات هذه السلسلة:
 المقالة الأولى: "هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟"
المقالة الثانية: "لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟"
المقالة الثالثة: "لماذا استقبال قبلة اليهود بالذّات؟"
المقالة الرابعة: "من هو النّبي الأمّي؟"

 المقالة الخامسة: "لماذا حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟"
 المقالة السادسة: "المصير الذي آل إليه يهود جزيرة العرب"
 المقالة السابعة: "إكسودوس بني النضير" 
المقالة الثامنة: "محرقة بني قريظة 1" 
المقالة التاسعة "محرقة بني قريظة 2" 
المقالة العاشرة: "ماذا جرى مع يهود خيبر؟"
 المقالة الحادية عشرة: "إجلاء اليهود من جزيرة العرب"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!