لغة الملائكة


سلمان مصالحة || 

لغة الملائكة



على غرار سائر الأطفال على وجه البسيطة، أغلب الظنّ أنّي سُئلت مرّة ذلك السؤال الأبديّ: ماذا تطمح أن تصبح عندما تترعرع؟

قد يبدو الأمر غريبًا بعض الشّيء خاصّة في الأوضاع والظّروف الّتي وُلدتُ فيها. ولكن، بخلاف الأطفال الّذين حلموا بأن يصبحوا أطبّاء، محامين، مهندسين، إلى آخر قائمة المهن الحرّة، كان جوابي دائمًا: أرغب في أن أكون شاعرًا، لأنّ الشّعر ارتبط بذهني بالمعنى الجوهري للحريّة.

كلّ أولئك الّذين قد يفكّرون في مصطلحات من مثل "التّحقيق الذّاتي" لطفل صغير، سيكتشفون فورًا أنّهم كانوا على خطأ. فقد اتّضحت لي لاحقًا حقيقة جوهريّة أخرى وهي، أن تكون شاعرًا لا يعني بأيّ حال من الأحوال تحقيقًا للذّات. في نهاية المطاف، يبدو الأمر لي الآن مغايرًا تمامًا وهو، "أن تكون شاعرًا"، يشكّل في الحقيقة نوعًا من العقاب أكثر منه تجربة ممتعة. ولكن، ومع ذلك، فإنّ عالَم الشّعر هو على كلّ حال نوع من عالَم السّجون الّتي يجدر المكوث فيها.

الشّعر هو سجن في فوضى الحروف، العلامات، الكلمات، السّطور وكلّ الإمكانات الّتي توفّرها لنا اللّغة كَرَمًا منها ومعروفًا منها تُسديه علينا. بمعنى آخر، وظيفة الشّاعر هي وظيفة شبيهة بوظيفة المبدع الأوّل الّذي أبدع النّظام في الكون من خلل الفوضى العارمة. الشّعر لا يمتلك حسًّا بالزّمان ولا بالمكان، كما لا يمتلك حسًّا بالقوم والقوميّة. إنّه في جوهره يمتلك كلّ الأزمنة، يسكن كلّ الأماكن، يعيش كلّ الحيوات ويتحدّث إلى كلّ الشّعوب في الوقت ذاته. إنّ لغة الشّعر هي لغة التّجربة البشريّة دون فرق في اللّون، الجنس واللّسان. إنّها لغة فوقيّة تذهب بعيدًا وراء حدود اللّغات الّتي تبلبلت وتفرّقت من بابل إلى أربع جهات الريح.

لغة الشّعر هي المعنى الأوّل للإبداع الإلهي وهي البارقة الأولى للخلود. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الشّعر هو الأداة الأولى الّتي ينافسُ فيها الشّاعر عمل المبدع الأوّل. الشّعر ينافس الخالق لأنّه يحاول أن يُشكّل من جديد كلّ ما لم يتشكّل على ما يُرام في الخليقة الأولى. قد يقول المتفائلون إنّ المبدع الأوّل لم ينهِ عمله لأسباب خافية لها علاقة بكرمه الإلهي علينا، أو بتركه لنا فسحة كي نتذوّق نحن المخلوقات الأرضيّة طعم الحياة. من جهة أخرى، فإنّ المتشائمين، ويشمل هؤلاء الشّعراء وكلّ من يتعامل مع صنوف الفنّ، قد يقولون: إنّه لم يقم بمهمّته كما كان من المفروض أن يفعل.

في البدء كانت كلماتٌ في الفوضى، وخيّم الظّلام على غرفة ذلك السّجن الأوّل. وفي لحظة قدسيّة ظهر الشّاعر من خلل هذا الظّلام وجمع كلّ العلامات والحروف ووضعها على الورق. أخذ بعضًا منها ووضعها في نظام ما: نون واو راء، وفجأة كانَ نورٌ. بواسطة هذا النّور استطاع أن يرى كلّ الكلمات بكلّ اللّغات في كلّ هذه الفوضى. وكان هذا يومًا أوّلَ، كانت هذه القصيدةَ الأولى.

بواسطة هذا النّور يستطيع الشّاعر أن يرى كلّ المعاني القائمة في اللّغات بالقوّة. الشّاعرُ يستطيع أن يشكّل كلمة الحبّ ويترك الآخرين يحبّون على هواهم. يستطيع أن يشكّل رائحة الوجود فيمنح الأمل لكلّ البؤساء الّذين يتكاثرون على وجه البسيطة. يستطيع التّعبير عن الموت، ولكنّه من وراء التّشبيهات والإستعارات إنّما هو يرمي إلى الكشف عن المعنى المختبئ للحياة. بسطوره، وبأبياته القليلة يستطيع الشّعر أن يمنحنا القدرة على الإتّصال مع شعوب وأناس آخرين وأن يكشف لنا ثقافات أخرى. الشّعر يمكّننا من صنع أجنحة بالحروف للتّحويم في عوالم أخرى والهبوط في أماكن أخرى، لأنّ اللّغة هي الوطنُ الموعود الأوحد للشّاعر.

والآن، ومع مرور السّنين والأعوام، ولأنّي لم أعد ساذجًا إلى هذا الحدّ فقد اكتشفت شيئًا آخر: الشّعر هو شبكة فوقيّة داخليّة شائكة، متاهة عليا لا تسمح لك بالوصول إلى نهاية. وداخل هذه المتاهة الخالدة سيمكث الشّاعر حتّى يوم الدين، حتّى اليوم الّذي سيُقدّم فيه بديلَه الإستفزازي أمام القارئ الأوحد الأوّل الّذي نافسه منذ البداية وعلى مرّ الزّمن. إذا كان الكون قد أُبدع وتبيّنت معالمه من نور الشّعر في اليوم الأوّل، فما من شكّ أنّ هذا النّور سيبقى حتّى اليوم الآخر. أمّا أنا الآن، فليس لديّ غير رغبة واحدة. ليتني أحيا في تلك اللّحظة لأشاهد هذا الصّراع، لأشاهد هذا النّور.

وأخيرًا، وعلى الرّغم من الرّواية الإسلاميّة القائلة بأنّ سكّان الجنّة يتكلّمون العربيّة، ورغم الحقيقة بأنّ اللّغة العربيّة هي لغة الملائكة، أستطيع أن أشهد، من تجربتي الذّاتيّة، أنّ العربيّة هي لغة أهل جهنّم أيضًا.

***


للنص بالإنكليزية، اضغط هنا.


مشاركات



تعليقات فيسبوك:


تعليقات الموقع: يمكن إضافة تعليق هنا. لا رقابة على التعليقات مهما كانت مخالفة للرأي المطروح، بشرط واحد هو كون التعليقات وصيلة بالموضوع.

هناك تعليق واحد:

  1. اول لغه مكتوبه اللغه السومرية واول لغة محكيه هي اللغه الساميه وبعدها اللغه الارميه وبعدها اللغه السريانيه واللغة بحد ذاتها تشتق من اللغه التي قبلها . أما اللغه العربيه فهي مشتقه من السومرية كذالك العبريه وهناك تسلسل طويل جداً من اللغات استطيع ذكرها ولاكن يصعب الشرح على المتلقي .

    ردحذف

قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!